يحكى أن شكاية وصلت لملك من الملوك، ضمّنها صاحبُها ما آل إليه من بؤس الواقع وقلة الحيلة، فما كان من الملك التعاطف مع الشاكي الفقير والأمر بمعونة تبلغ 100 ألف دينار مع ضمان عمل دائم يكفيه وأسرته الحاجة وشظف العيش، تتابع وصول أمر الملك للرجل الفقير عبر بطانته فأعلنوا هذا التعاطف والتجاوب في عموم المملكة دلالة على رحمة الملك وعطفه على رعيته، أما ما وصل لهذا الفقير حقا فلم يكن سوى مائة دينار سُرَّ بها الرجل الفقير ليكثر من الدعاء للملك العادل ورأفته بحال أبناء شعبه، وإذ نتساءل جميعا عما بقي من مبلغ المعونة فلم يعد سرا أن أيدي الوسطاء المأمورين بتنفيذ أمر الملك قد تناهبته، وأما العمل فقد استأثر به أحدُهم لقريبٍ له مقابل مصلحةٍ متبادلة؛ بطانة الملك استكثرت على الفقير هذه المعونة الضخمة فقرروا بينهم حمايته من نفسه والشيطان واستبقوا مغبة الكثرة لأنفسهم وليس بهم خصاصة ولا إيثار، بلغ شكر ودعاء الفقير للملك فاطمأن بأن فرّج عن أحد مواطني مملكته كربة تؤرقه فأمن لبطانته المخلصة وقرر تعزيز أمانتهم بزيادة مخصصاتهم المستحقة إذ إنهم جسر الناس للوصول إليه، تابع الفقير بؤس واقعه اليومي محتفظا للملك بالامتنان ولنفسه بما بقي من عزة النفس التي تمنعه من الطلب ثانية مهما قست الظروف؛ إذ إن ماء وجهه أغلى من إراقته في توسل مائة دينار أخرى تقتضي مقام الشكر ومقامات التوسل.

في هذه الحكاية لا يمكن التشكيك في صدق الشكوى أو في ضعف الشاكي، كما لا يمكن التجني على تعاطف الملك واستجابته حال معرفته بالأمر، لكن اليقين غير القابل للشك هو خيانة الوسطاء وخذلان الجسور؛ جسور التنفيذ والمتابعة. موضوع هذه المقالة هو دراسة احتمال خيانة الوسطاء وفساد الوسائل مع ما نشهد مؤخرا من تعاطف شعبي واجب تجاه ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة وغيرها من مناطق مستهدفة من قبل العدوان الإسرائيلي الممنهج للإبادة والتهجير، وهذا الاحتمال لم يأتِ من فراغ فقد سبق توثيق وتجريم مؤسسات معنية بحقوق الإنسان ودعم المنكوبين جراء الحروب والكوارث الطبيعية في جمع التبرعات ثم تحويلها لحسابات خاصة دون أدنى تفكير في حال المستهدفين من مستحقيها، وقد شهد العالم كثيرا من هذه الفضائح التي تُكتشف عادةً بعد سنوات وربما عقود من تنفيذها. الحديث هنا ليس عن ضمير هؤلاء، أفرادا كانوا أو جماعات مدنية حقوقية أو إنسانية أو حتى حكومية في استشعار المسؤولية تجاه الضحايا المستحقين لهذه التبرعات وهذه المعونات إذ لا يعول هنا على الضمائر ولا على الالتزام بالتعهدات، فلو وجدت ما كانت سعت بهم نواياهم لجريرة كهذه، ولكن المعوَّل على أدوات المتابعة ووسائل المراقبة والتقصي والعقاب والتشهير، لا سيما مع كل ممكنات العصر الحالي تقدما ومعرفة. لكن هذه الممكنات للمعرفة هي ذاتها ممكنات تضليل أحيانا حين يستخدمها أولئك اللصوص لاستغلال مآسي الناس ونكباتهم الفردية والجماعية في ترويج قصص لاستعطاف الجماهير المأخوذة بصدق القصة لبذل أقل الممكن من دعم مادي يتراكم بالكثرة ونستشعر به ومعه مشاركة مسؤوليتنا الإنسانية الاجتماعية، دون كبير عناية بمصدر ترويج القصة ( التي لا شك في صدقها) ليضاعف هذا اللص (سواء كان فردا أو جماعة أو مؤسسة مدنية أو حكومية مضللة ) ثرواته على حساب تعاطف الجماهير واستغلال ظروف المنكوبين، وبعد أن يغنى المروّج اللص من استغلاله النكبة يلقي بعض فتاته على المستحقين لتوثيق وتسويق وهمِ وصولِ الأمانة مستحقيها.

بكل أسى وحزن نناقش ذلك ونحن نتابع كثيرا من أخبار منع المساعدات العينية من الوصول، أو استغلال بعض الجهات ما يصلها من معونات هائلة ببيعها لا منحها لمستحقيها، أو تخزينها بمنعها حتى وإن فسدت استدرارا لمزيد من تعاطف الجماهير الذي هو أداتهم لإكمال استنزاف صناديق المعونات، وتفريغها في جيوبهم متاجرين بإنسانيتهم وقيمهم وأخلاقهم ودماء وأرزاق كثير من ضحايا النكبة آملين دوامها لضمان تحقق مصالحهم منها، نناقش ذلك مع تكشف بعض الحالات من استغلال أطفال أو نساء من المنكوبين في التصوير والترويج لجذب المتعاطفين بأموالهم ثم التخلي عن الضحايا مادة الاستغلال بعد مهمة التصوير المنتهكة خصوصياتهم ودماءهم ودموعهم. نناقش ذلك ونحن نرى قمصان كورونا البيضاء كبيرة الحجم الفائضة عن الحاجة بعد انتهاء الأزمة على أطفال غزة متسائلين عن مصير كل المساعدات الأممية منذ بداية أزمة جديدة هي نكبة الإبادة الجماعية في أكتوبر الماضي، نناقش ذلك مع أخبار المبالغ الهائلة المفروضة على كل راغب في الخروج من نطاق الأزمة إلى فضاءات آمنة، نناقشها ونحن نتابع تلويح الدول العظمى المسيسة بإيقاف مساعداتها التي لا تصل أصلا إلى المنكوبين في قطاع غزة، وقبلها في قطاعات أخرى عانت من فساد الأدوات وخيانة الوسطاء في العراق والمغرب والصومال والسودان وغيرها من أراضينا العربية المنكوبة دوما لا بالكوارث وحدها، بل بضمائر تجار الحروب والمتسلقين المُحْتَفين بالكوارث والنكبات .

ختاما؛ لا ينبغي أن يفهم من هذه المقالة عموم الشر وبيع الضمائر في الجميع وإلا لما وجد هؤلاء الفاسدون مادة تغذي جشعهم وتعملق حساباتهم من استغلال الخير في قلوب الناس والتعاطف مع الضعيف والتكامل الاجتماعي بين الناس عموما، كما لا ينبغي الاعتقاد بوجوب إيقاف الدعم عن أي ضحايا مستضعفين مستحقين للمعونات ماديا ومعنويا، لكن المرام هو التثبت والتحقق قبل أن نؤخذ جميعا بانفعال لحظة التعاطف التي لا تصل بمادة التعاطف إلى هدف أبعد من جيب لص أو حسابات مُتَنَفعين باعوا ضمائرهم تماما كما باعوا أوطانهم، ما زالت غزة تستحق منا الكثير مما نريد له ضمان الوصول دون التعلق بأستار الخونة من تجّار النكبات والحروب.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

شاهد.. إغلاق المخابز يفاقم الأزمة الإنسانية في غزة

غزة- بعد أن علم بإغلاق مخابز قطاع غزة أبوابها، سارع المُسن زكريا شاهين إلى المخبز الأوتوماتيكي القريب من منزله علّه يتمكن من شراء القليل من الأرغفة لإطعام أسرته المكونة من 18 فردا. لكن سعيه باء بالفشل.

وبعد أن سأل بعض عمال المخبز عن موعد استئناف العمل، أجابوه أن الأمر مرتبط بفتح الاحتلال الإسرائيلي للمعابر المغلقة منذ نحو شهر.

وعلى بوابة المخبز، قال شاهين للجزيرة نت إنه لم يتوقع هذا القرار المفاجئ، والذي سينعكس سلبا على حياة أسرته، مضيفا "لا نعرف ماذا سنأكل؟". وذكر أنهم كانوا يعتمدون على شراء الخبز من المخابز، لكن بعد إغلاقها لم يعد لديهم أي مصدر للحصول عليه.

وأضاف بحسرة "لا نملك المال لشراء الدقيق، ولا نعرف كيف سنوفر لقمة العيش لأطفالنا.. نناشد أصحاب القلوب الرحيمة في كل العالم أن ينظروا إلى شعبنا الفلسطيني بعين الرأفة".

زكريا شاهين: أسرتي مكونة من 18 شخصا ولا نعرف كيف سنتدبر أمورنا بعد إغلاق المخابز (الجزيرة) مجاعة وشيكة

وحذر رئيس "رابطة مخابز قطاع غزة" عبد الناصر العجرمي، من كارثة إنسانية تهدد سكان القطاع بعد قرار إغلاق المخابز نتيجة لاستمرار إغلاق المعابر، ما أدى إلى توقف إمدادات الغذاء والوقود بشكل تام.

إعلان

وقال العجرمي، في تصريح خاص للجزيرة نت، إن جميع المخابز العاملة في غزة أغلقت أبوابها بسبب نفاد كافة مستلزمات الإنتاج.

وأوضح أن برنامج الأغذية العالمي، الذي كان يموّل 23 مخبزا بالطحين والوقود والخميرة والملح والسكر، اضطر إلى تعليق عمله بسبب نفاد مخزونه وعدم القدرة على إدخال الإمدادات.

وأضاف "البرنامج كان يُدخل مواد الإنتاج عبر المعابر، لأن الاحتلال يمنع التجار والمخابز من الاستيراد المباشر، ومع استمرار إغلاق المعابر، لم يعد هناك أي أفق للحل".

المخابز أغلقت أبوابها بعد نفاد مخزون الدقيق والوقود (الجزيرة)

ويحتاج قطاع غزة يوميا، وفق العجرمي، إلى نحو 450 طنا من الدقيق، محذرا من أن المخزون المتبقي داخل القطاع لن يكفي سوى لأيام قليلة.

وختم حديثه بالقول إن "استمرار الوضع الحالي سيقود غزة نحو مجاعة محققة".

وأغلقت إسرائيل معابر قطاع غزة، بداية فبراير/شباط الماضي بعد أن تنصلت من تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه مع حركة المقاومة الإسلامية "حماس" نهاية يناير/كانون الثاني الماضي.

بائع خبز الصاج نسيم الصوص: أعداد كبيرة من الناس تقبل علينا بعد إغلاق المخابز (الجزيرة) بدائل شحيحة

وبعد انتشار نبأ إغلاق المخابز، سارع الكثير من السكان لمحاولة شراء بدائل الخبز، كأرغفة الطابون أو المعجنات، والتي لا تعد بديلا عمليا نظرا لارتفاع أسعارها.

ويقول نسيم الصوص، وهو بائع خبز "فراشيح" (خبز الصاج)، إن الطلب ارتفع بشكل كبير على الشراء من محله، ما اضطره إلى إغلاقه عند منتصف الليلة الماضية بسبب الضغط الشديد.

وأضاف للجزيرة نت "رغم ذلك، فإن هذا الخبز لا يعد بديلا حقيقيا للخبز العادي، لأنه أغلى سعرا ولا يستطيع الجميع شراءه".

وأشار الصوص إلى أن الخبز أصبح يباع في السوق السوداء بأسعار باهظة، وسط حالة من العجز التام عن إيجاد حلول.

أفران الطين تشكو من قلة الحطب وغلاء أسعاره (الجزيرة)

وأمام محل لبيع خبز الطابون، كانت أنديرا قنديل تنتظر دورها لشراء القليل منه لإطعام أسرتها المكونة من 9 أفراد. وقالت للجزيرة نت إنها تحتاج يوميا إلى 40 رغيفا (من الخبز العادي صغير الحجم) وبعد إغلاق المخابز تضطر للوقوف لفترات طويلة في طوابير للحصول على خبز الطابون كبديل.

وتتابع "منذ بداية الحرب ونحن نكافح للحصول على الخبز، والآن عدنا إلى نقطة الصفر بعد إغلاق المخابز. لم يعد لدينا دقيق، وسعره (الكيس بوزن 25 كيلوغراما) ارتفع من 50 إلى 300 شيكل (الدولار: 3.7 شواكل)، بينما لا يوجد لدينا نقود أصلا".

إعلان

وتضيف بحسرة "كل شيء أصبح أغلى 10 أضعاف.. لا خضروات، لا طعام، لا خبز.. ولا نعرف ماذا سنفعل غدا".

أفران الطين تواجه أيضا مشكلة قلة توفر الدقيق في المنازل (الجزيرة) عودة لأفران الطين

ومع استمرار إغلاق المخابز الأوتوماتيكية في قطاع غزة، لجأ المواطنون إلى أفران الطابون الطينية بحثا عن بديل للخبز، ما أدى إلى ازدحام شديد وطوابير طويلة أمام هذه الأفران.

يقول هشام الزيتونية، مالك أحد أفران الطابون، للجزيرة نت، إن الإقبال على الأفران زاد بشكل كبير، حيث يحاول الجميع خبز العجين يدويا بعد انعدام توفر الخبز في الأسواق. لكن الزيتونية أوضح أن الأفران الطينية تعاني أيضا من نقص الحطب اللازم لتشغيلها، مما يعيق استمرار العمل.

وأضاف "فرن الطابون يحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد، والناس تعاني في انتظار دورها وسط زحام شديد".

ألفت أبو شنب: إغلاق المخابز يأتي في توقيت سيئ جدا ويزيد من معاناة أهل غزة (الجزيرة) "لا خبز ولا مال"

وتقول أُلفت أبو شنب، وهي أم لـ5 أطفال، إن إغلاق المخابز ترك العائلات في مواجهة أزمة خانقة، حيث لم يعد بإمكانهم توفير الخبز، بينما ارتفع سعر كيس الدقيق بشكل كبير.

وأضافت بينما كانت تنتظر دورها لطهي خبزها في فرن الطين "الناس تعاني، لديها أطفال صغار، ولا تستطيع شراء الدقيق لأنه ببساطة لا يوجد مال ولا عمل. الله يكون في عون الجميع".

وختمت قائلة "وضع الناس سيئ، إغلاق المخابز في هذا الوقت سيئ جدا، الله يكون في عون الناس".

مقالات مشابهة

  • شاهد.. إغلاق المخابز يفاقم الأزمة الإنسانية في غزة
  • أبناء بلا رحمة.. مأساة أم الشهداء التي تخلى عنها أقرب الناس وماتت وحيدة
  • في 5 دول.. مركز الملك سلمان للإغاثة يواصل توزيع المساعدات الغذائية
  • ياسين السقا يرد على انتقادات الجمهور لـ دوره في مسلسل سيد الناس
  • الري: متابعة موقف مناسيب وتصرفات المياه وحالة الجسور بالترع والمصارف
  • ميانمار تتسلم الدفعة الأولى من المساعدات الإنسانية المقدمة من الصين
  • محلية مروي تدشن السلال الغذائية لمركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية
  • نزع الإنسانية عن أهالي غزة
  • خاص| نجاح أم إخفاق؟.. "إش إش" و"سيد الناس" تحت مجهر الجمهور والنقاد
  • بالإسقاط الجوي.. زمزم يستقبل دفعة من المساعدات الإنسانية