ما أكثر الزوايا الحادة.. هل نتحايل على الحياة؟
تاريخ النشر: 4th, February 2024 GMT
نتكلم عن الحياة «الدنيا» كثيرا، فهي مشروعنا الممتد على قدر الزمن المستقطع لنا منها، فإذا نظر إلى الحياة على أنها زمن نقطته الصفر هي لحظة الميلاد، وخاتمته لحظة الوفاة؛ فإن المعنى يذهب كما قال أبو العلاء المعري: «إن حزنا في ساعة الموت؛ أضعاف سرور في ساعة الميلاد» فالمسافة الفاصلة بين البداية والنهاية هي حالة ممتزجة بين سرور وحزن، ولأن الحزن مؤلم، وثقيل على النفس فإنه يمسح كل المسرات من حياتنا، فالواقع ينبئ أن مساحة السرور التي نعيشها أكثر بكثير من مساحات الأحزان التي تقض المضاجع، وتؤرق النفوس، فعن سَلَمَة بْن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»- أو كما قال صلى الله عليه وسلم - والحديث يشير هنا إلى ثلاثة عناصر رئيسية لتعزيز الحياة عند كل فرد على حدة: الأمن، الصحة، العمل، ويضاف إليها أيضا: العائلة، الأصدقاء، وهي ما تسمى في علم النفس بـ «الكرات الخمس» وهناك من يضيف إليها الروح «المعنوية» ومن وجهة نظر شخصية فإن الروح المعنوية هي خلاصة تحقق مجمل هذه الكرات في حياة الفرد، أو جزء كبير منها، كما شبهت هذه الكرات عند من قيمها على أنها كرات من الزجاج، ما عدا كرة العمل، فقد شبهت بالكرة المطاطية - بمعنى أنها قابلة للتراجع في ظروف معينة، وللتقدم في ظروف أخرى، أما الكرات الأخرى الزجاجية فقد تصبح إما «معطوبة، أو مجروحة، أو مشروخة، أوحتى متناثرة» -وفق المصدر.
                
      
				
المقاربة الموضوعية هنا بين الزوايا الحادة، وهي الزوايا المحصورة بين الرقم (صفر) درجة، إلى الرقم (90) درجة، هي ذات الصورة المحصورة بين قلة الرزق «الفقر» وبين العمل، وبين المرض والصحة، وبين الوحدة والعائلة بمن فيهم الأصدقاء، وبين الخوف والأمن، فهذه النقائض؛ في حقيقتها تتخللها الزوايا الحادة، وحدتها مؤلمة وقاسية على النفس، وتحتاج إلى كثير من الحكمة والتبصر للخروج من مأزق حدتها، فقد يجد أحدنا عملا طيبا ورائعا ما كان يحلم به، ولكن بعد فترة من نسيان النعمة يصبح العمل مجرد روتين لا يثير فينا الاهتمام من جهة الاجتهاد فيه وتطويره، والإخلاص فيه، وإعطائه حقه، وهذا معنى يشير إلى أن «الفضيلة بين طرفين؛ كلاهما رذيلة» ومن لم يجد هذا العمل أو ذاك؛ فالمصيبة أكبر، وقس هذا التصور على بقية المعززات الأخرى، فكم يتوق جميعنا إلى أن تكون له حاضنة أسرية، سواء تلك المتسلسلة عبر الزمن، بدءا من الجد الأول؛ وصولا إلى الأب الذي نحن أبناؤه، أو تلك الأسرة التي ننشئها للتو، ولنقارن بين أهمية أن تكون لنا هذه الأسرة في بعديها الزمني: الماضي «الأسرة الأم» أو الحاضر «أسرتنا التي أنشأناها» وبين أن نفرط في الكثير من استحقاقات تلك الأسرتين، والمطلوب منا تحقيقها لتبقى هذه الحاضنة سليمة المبنى والمعنى على حد سواء؟ ألا يمثل هذا التفريط حدا مؤلما؛ قد نتجرع ألمه طوال سني حياتنا؟ وفي الجانب الآخر؛ ماذا لو لم تتحقق لأحد منا أسرة من الأساس؟ الإجابة أتركها لكم.
وكل هذه التقييمات تبقى تقييمات نسبية، حيث تتفاوت بين فرد وآخر، وذلك بناء على القوة البنيوية الذاتية عند كل فرد، فهناك أفراد لهم قدرات عجيبة على امتصاص ردات الفعل القاسية التي يبديها الناس في مواقف الصدام التي تحدث، سواء صدام لفظي، أو صدام مادي مباشر، فـ «ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد الذي يمسك نفسه عند الغضب» - كما جاء في حديث أبو هريرة؛ رضي الله عنه - ذلك لأنه من الصعوبة بمكان أن تتحقق عند فرد ما فقط، كل هذه المعززات لتدفع بحياته نحو التألق والتميز، حيث لا بد؛ وهذه من سنن الحياة؛ أن تتنغص حياتنا بفقدان شيء من هذه المعززات، ولو واحدة، أو جزء منها، وذلك لكي تتاح لنا فرصة تقييم أهميتها في حياتنا، فاكتمال النعم؛ كما هو معروف؛ ينسي الإنسان قدرها وقيمتها في الحياة، «لا تألف فتجحد» وبمعنى آخر أنه كلما فقدنا شيئا من هذه المعززات الخمس في حياتنا، فبلا شك يمثل هذا الفقد زاوية حادة تربك حياتنا اليومية، ويؤلمنا فقدانها، ويحفزنا إلى العودة سريعا حيث المربع الأول لتقصي الحقائق، فمن لا يؤلمه فقدان الصحة؛ على سبيل المثال؛ حتى ولو كان ذلك في أحد من أفراد عائلته أو أصدقائه، فما يكون الأمر لو كان على المستوى الشخصي؟ من لا يؤلمه الفقر والحاجة، وقلة ما في اليد؟ من لا يؤلمه الخوف وكثرة الترقب مما لم يحسب له حسابه؟ من لا تؤلمه الوحدة عندما يفقد عائلته فقدا معنويا أو ماديا، عندما يحيطونه من كل مكان، ولا يشعر بوجودهم؛ حيث تغيبهم مشاغل الحياة عن السؤال عن القريب والبعيد؟ من لا يؤلمه غياب الصديق؛ الذي تعارك معه سنوات من العشرة والالتحام في الصغيرة والكبيرة؟ وفي حالة فقدان كل هذه أو بعضها، كيف تدار دفة السفينة للوصول إلى النهايات «الغايات» في ذات الحياة، والسؤال الاستدراكي هنا أيضا: هل هذا الفقد هو ما يتكئ إليه المنتحرون؛ حيث فقدوا بوصلة توجيه حياتهم اليومية؟ فحاصرتهم الزوايا الحادة من كل مكان، ولم يروا غايات للنهايات، وإنما تقطعت بهم سبل النجاة؟ نتحايل على الحياة؛ بأساليب كثيرة؛ وأغلبها هروب من المسؤولية، هذا أمر لا شك فيه؛ يحدث ذلك عندما نبرر لأخطائنا، وعندما نسوف في تقصير التزاماتنا، وعندما نغالط أنفسنا في مواقفنا من الآخر من حولنا، وعندما نتجاوز أعمارنا الافتراضية في الزج بأنفسنا في متون الحياة اليومية وفق استحقاقاتها الحاضرة، تكون المسافة بين ما هو مطلوب، وبين ما هو واقع مسافة ليست هينة، وتكلفة تجييرها ثقيلة وصعبة، وتغرقنا أكثر في مستنقع الندرة، فتحاصرنا أكثر، ونحس بألم الوخز، ونتألم، ونقاسي، والناصح لنفسه منا من يعيد في كل مرة ترتيبات أوراقه المتناثرة، سواء مع نفسه، أو على مستوى علاقاته بالآخرين من حوله، فهذه المراجعة ضرورية جدا لتلافي الكثير من الأخطاء التي قد يتكرر حدوثها نتيجة لتغاضي الطرف عنها، وعدم إعطائها الاهتمام الأوسع، والسؤال الاستدراكي الآخر: لماذا نوقع أنفسنا في مستنقع الزجاج المتشظي؛ ألا نخاف على أنفسنا من أن تجرح؛ فاندمال الجروح ليس يسيرا؟ وهل باستطاعة أحدنا أن يسأل نفسه عن الوقوع في ذلك دون أن يدفع تكلفة باهظة ما؟ هنا؛ مهما كانت التكلفة ثقيلة يجب أن ننسحب بهدوء.
إذن؛ فما أكثر الزوايا الحادة التي تحيط بنا، وفي المقابل ما أكثر مراوغاتنا في التحايل على تموضعات حيواتنا اليومية، وفي لحظات من الصفاء النفسي، ومن المودة، ومن الانعتاق من الخاص الخاص، ننظر بكثير من الاهتمام إلى الكرات الخمس؛ (الأمن، الصحة، العمل، العائلة، الأصدقاء) وهو اهتمام مشروع وواجب، ولكن الخوف في ذلك أن يكون هذا الاهتمام بعد فوات الأوان، حيث ينتابنا القلق أكثر، ويداهمنا المرض أكثر، ونفتقد القدرة على العمل أكثر، وتتشتت العائلة أكثر، ويبتعد الأصدقاء أكثر، عندها تتقارب الزوايا الحادة أكثر، حيث يعلن الألم سطوته الكبرى على أجسامنا المنهكة من فعل السنين؛ حيث مآلات الضعف والشيبة والفتور، واختزال هيلمان الحياة بكل ما فيها إلى درجة الاكتفاء بالحاجة، ولا يتعدى الطموح إلى الرغبة، فقد تتوارى الرغبة إلى حيث النهايات المطلقة؛ حيث اللاعودة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
المدينة من أجل الشعب: ضمان توجيه ثمار التنمية إلى تفاصيل الحياة اليومية
ليانغ سوو لي **
مع اختتام الجلسة الكاملة الرابعة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني، حظيت "مقترحات صياغة الخطة الخمسية الخامسة عشرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية" باهتمام واسع داخليًا ودوليًا. فهذه الوثيقة لا ترسم فقط المسار الاستراتيجي لتنمية الصين في المستقبل، بل تجسد أيضًا جوهر الحوكمة في العصر الجديد، وهو الالتزام الدائم بمفهوم التنمية المتمحورة حول الشعب، بحيث تكون التنمية من أجل الشعب وبمشاركته ولمنفعته. وفي هذا المنعطف التاريخي، تدخل مسيرة التحديث الصينية مرحلة جديدة من التنمية عالية الجودة، حيث تُمنح قضايا معيشة الشعب مكانة أكثر مركزية، ما يجعلها نافذة مهمة لفهم اتجاهات التنمية في الصين بالنسبة للمجتمع الدولي.
وعند النظر إلى مسيرة السنوات العشر الماضية، نجد أن الصين، من الإنجاز التاريخي المتمثل في بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل، إلى الدفع المستمر لنهضة الريف، ومن تحسين منظومة الخدمات العامة إلى الارتقاء المستمر بمستوى المعيشة، جعلت دائمًا "تحسين حياة الشعب" نقطة البداية والهدف النهائي لكل السياسات. وقد نصّت مقترحات الخطة الخمسية الخامسة عشرة على ترتيبات متكاملة تشمل التعليم والتوظيف والصحة ورعاية كبار السن والإسكان. فتعزيز إتاحة التعليم الجيد، وتطبيق سياسة أولوية التوظيف، وتحسين قدرات الخدمات الصحية، وتطوير نظام رعاية كبار السن، وتحسين نظام الإسكان المأمون، كلها تعكس انتقال الصين من تلبية الاحتياجات الأساسية إلى الارتقاء بجودة الحياة، ومن حل مشكلة "الوجود" إلى تحقيق "العيش الأفضل".
غير أن تعميق إحساس الشعب بالكسب والسعادة والأمن لا يتحقق فقط عبر التخطيط الاستراتيجي الشامل، بل يحتاج أيضًا إلى حلول دقيقة تراعي التفاصيل اليومية. ويُعد مشروع تجديد الأحياء السكنية القديمة في شانغهاي مثالًا واضحًا على ذلك. فقبل سنوات، كان بعض السكان في الأحياء القديمة يعانون من مشاكل عدم وجود مراحيض داخل المنازل، مما سبب صعوبات معيشية للسكان. ورغم أن هذا التحدي يبدو صغيرًا من منظور التخطيط الكلي، إلا أنه كان يرتبط مباشرة بكرامة الناس ونوعية حياتهم. وقد اختارت شانغهاي عدم اللجوء إلى قرارات إدارية سريعة أو حلول جاهزة، بل اتبعت نهج المشاورة المجتمعية، والتخطيط الدقيق، والمواءمة مع ظروف كل حي، مع احترام عادات السكان وارتباطهم ببيئتهم. وبهذا عولجت مشكلة استمرت لسنوات طويلة، مما يعكس فعليًا مفهوم "المدينة من أجل الشعب".
ويكشف هذا المثال عن تحول عميق في فلسفة الحوكمة الحضرية في الصين. فالمدينة ليست مجرد إطار مادي للتحديث، بل هي فضاء عيش ومأوى للناس. والغاية العليا لحوكمة المدن هي أن يتمتع الناس بحياة كريمة ومريحة وسعيدة. وكما أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ: "المدينة من أجل الشعب، ويشارك الشعب في بنائها، ويدير شؤونها، ويستفيد من خيراتها." وقد أصبح هذا المفهوم اليوم مرشدًا أساسيًا لتطوير المدن في الصين. وتوضح تجربة شانغهاي أن تطبيق هذا المفهوم يبدأ من معالجة أكثر القضايا إلحاحًا في حياة السكان، وتحويل نتائج التنمية إلى تحسين ملموس في حياتهم.
وفي المرحلة الجديدة، بات مفهوم "المدينة من أجل الشعب" ركيزة رئيسية في ممارسات التحديث الحضري. فمع تعزيز التحضر الجديد، تركز الصين على عدالة الخدمات العامة، وانفتاح وتشاركية الفضاء الحضري، وكفاءة نظم الحوكمة، بما يدفع التحول من "السكن المتاح" إلى "السكن الملائم للعيش". سواء عبر تطوير خدمات رعاية كبار السن، أو تحسين شبكات النقل العام، أو إنشاء الحدائق المجتمعية الصغيرة، أو بناء "دائرة الحياة في 15 دقيقة"، يظل الهدف واحدًا: جعل المدينة تستجيب لتطلعات الشعب إلى حياة أفضل.
وتقدم التجربة الصينية إلهامًا مهمًا للعالم: فالتحديث ليس مجرد مؤشرات اقتصادية، بل هو تطوير الإنسان ذاته؛ والمدينة ليست فضاءً لتمدد رأس المال، بل حاضنة لقيم الحضارة والتقدم. ومع التحديات المشتركة التي تواجهها المدن عالميًا، من الشيخوخة إلى الإسكان والحوكمة الاجتماعية، يبرز النموذج الصيني بوصفه مسارًا حوكميًا يضع حاجات الناس وتحقيق رفاهيتهم في المركز.
إن قيمة المدينة لا تُقاس بارتفاع أبراجها الشاهقة، بل بدفء خدماتها وكرامة عيش سكانها. ومع التنفيذ الفعلي لمقترحات الخطة الخمسية الخامسة عشرة، سيترسخ مفهوم "المدينة من أجل الشعب" أكثر فأكثر، وسيصبح إحساس الشعب بالكسب والسعادة والأمان أكثر واقعية واستدامة. وفي مسيرة التحديث الصينية، ستغدو مدننا أكثر ملاءمة للعيش، وأكثر مرونة وحيوية، وستصبح حياة شعبنا أكثر جمالًا وازدهارًا.
** إعلامية صينية