لجريدة عمان:
2024-11-26@21:09:28 GMT

ما أكثر الزوايا الحادة.. هل نتحايل على الحياة؟

تاريخ النشر: 4th, February 2024 GMT

نتكلم عن الحياة «الدنيا» كثيرا، فهي مشروعنا الممتد على قدر الزمن المستقطع لنا منها، فإذا نظر إلى الحياة على أنها زمن نقطته الصفر هي لحظة الميلاد، وخاتمته لحظة الوفاة؛ فإن المعنى يذهب كما قال أبو العلاء المعري: «إن حزنا في ساعة الموت؛ أضعاف سرور في ساعة الميلاد» فالمسافة الفاصلة بين البداية والنهاية هي حالة ممتزجة بين سرور وحزن، ولأن الحزن مؤلم، وثقيل على النفس فإنه يمسح كل المسرات من حياتنا، فالواقع ينبئ أن مساحة السرور التي نعيشها أكثر بكثير من مساحات الأحزان التي تقض المضاجع، وتؤرق النفوس، فعن سَلَمَة بْن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»- أو كما قال صلى الله عليه وسلم - والحديث يشير هنا إلى ثلاثة عناصر رئيسية لتعزيز الحياة عند كل فرد على حدة: الأمن، الصحة، العمل، ويضاف إليها أيضا: العائلة، الأصدقاء، وهي ما تسمى في علم النفس بـ «الكرات الخمس» وهناك من يضيف إليها الروح «المعنوية» ومن وجهة نظر شخصية فإن الروح المعنوية هي خلاصة تحقق مجمل هذه الكرات في حياة الفرد، أو جزء كبير منها، كما شبهت هذه الكرات عند من قيمها على أنها كرات من الزجاج، ما عدا كرة العمل، فقد شبهت بالكرة المطاطية - بمعنى أنها قابلة للتراجع في ظروف معينة، وللتقدم في ظروف أخرى، أما الكرات الأخرى الزجاجية فقد تصبح إما «معطوبة، أو مجروحة، أو مشروخة، أوحتى متناثرة» -وفق المصدر.

بمعنى آخر، لو أصاب أحدها خدش ما، فإن إصابتها تعمر طويلا، وقد لا تلتئم، وكما قيل أيضا: «إن القلوب إذا تناثر ودها؛ مثل الزجاجة كسرها لا يجبر» فمجموعات الجروح والشروخ التي تصاحب هذه الخمس من خلال علاقاتنا غير السوية معها؛ تبقى مؤلمة إلى حد كبير، ويعمر ألمها لمدة زمنية غير قصيرة.

المقاربة الموضوعية هنا بين الزوايا الحادة، وهي الزوايا المحصورة بين الرقم (صفر) درجة، إلى الرقم (90) درجة، هي ذات الصورة المحصورة بين قلة الرزق «الفقر» وبين العمل، وبين المرض والصحة، وبين الوحدة والعائلة بمن فيهم الأصدقاء، وبين الخوف والأمن، فهذه النقائض؛ في حقيقتها تتخللها الزوايا الحادة، وحدتها مؤلمة وقاسية على النفس، وتحتاج إلى كثير من الحكمة والتبصر للخروج من مأزق حدتها، فقد يجد أحدنا عملا طيبا ورائعا ما كان يحلم به، ولكن بعد فترة من نسيان النعمة يصبح العمل مجرد روتين لا يثير فينا الاهتمام من جهة الاجتهاد فيه وتطويره، والإخلاص فيه، وإعطائه حقه، وهذا معنى يشير إلى أن «الفضيلة بين طرفين؛ كلاهما رذيلة» ومن لم يجد هذا العمل أو ذاك؛ فالمصيبة أكبر، وقس هذا التصور على بقية المعززات الأخرى، فكم يتوق جميعنا إلى أن تكون له حاضنة أسرية، سواء تلك المتسلسلة عبر الزمن، بدءا من الجد الأول؛ وصولا إلى الأب الذي نحن أبناؤه، أو تلك الأسرة التي ننشئها للتو، ولنقارن بين أهمية أن تكون لنا هذه الأسرة في بعديها الزمني: الماضي «الأسرة الأم» أو الحاضر «أسرتنا التي أنشأناها» وبين أن نفرط في الكثير من استحقاقات تلك الأسرتين، والمطلوب منا تحقيقها لتبقى هذه الحاضنة سليمة المبنى والمعنى على حد سواء؟ ألا يمثل هذا التفريط حدا مؤلما؛ قد نتجرع ألمه طوال سني حياتنا؟ وفي الجانب الآخر؛ ماذا لو لم تتحقق لأحد منا أسرة من الأساس؟ الإجابة أتركها لكم.

وكل هذه التقييمات تبقى تقييمات نسبية، حيث تتفاوت بين فرد وآخر، وذلك بناء على القوة البنيوية الذاتية عند كل فرد، فهناك أفراد لهم قدرات عجيبة على امتصاص ردات الفعل القاسية التي يبديها الناس في مواقف الصدام التي تحدث، سواء صدام لفظي، أو صدام مادي مباشر، فـ «ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد الذي يمسك نفسه عند الغضب» - كما جاء في حديث أبو هريرة؛ رضي الله عنه - ذلك لأنه من الصعوبة بمكان أن تتحقق عند فرد ما فقط، كل هذه المعززات لتدفع بحياته نحو التألق والتميز، حيث لا بد؛ وهذه من سنن الحياة؛ أن تتنغص حياتنا بفقدان شيء من هذه المعززات، ولو واحدة، أو جزء منها، وذلك لكي تتاح لنا فرصة تقييم أهميتها في حياتنا، فاكتمال النعم؛ كما هو معروف؛ ينسي الإنسان قدرها وقيمتها في الحياة، «لا تألف فتجحد» وبمعنى آخر أنه كلما فقدنا شيئا من هذه المعززات الخمس في حياتنا، فبلا شك يمثل هذا الفقد زاوية حادة تربك حياتنا اليومية، ويؤلمنا فقدانها، ويحفزنا إلى العودة سريعا حيث المربع الأول لتقصي الحقائق، فمن لا يؤلمه فقدان الصحة؛ على سبيل المثال؛ حتى ولو كان ذلك في أحد من أفراد عائلته أو أصدقائه، فما يكون الأمر لو كان على المستوى الشخصي؟ من لا يؤلمه الفقر والحاجة، وقلة ما في اليد؟ من لا يؤلمه الخوف وكثرة الترقب مما لم يحسب له حسابه؟ من لا تؤلمه الوحدة عندما يفقد عائلته فقدا معنويا أو ماديا، عندما يحيطونه من كل مكان، ولا يشعر بوجودهم؛ حيث تغيبهم مشاغل الحياة عن السؤال عن القريب والبعيد؟ من لا يؤلمه غياب الصديق؛ الذي تعارك معه سنوات من العشرة والالتحام في الصغيرة والكبيرة؟ وفي حالة فقدان كل هذه أو بعضها، كيف تدار دفة السفينة للوصول إلى النهايات «الغايات» في ذات الحياة، والسؤال الاستدراكي هنا أيضا: هل هذا الفقد هو ما يتكئ إليه المنتحرون؛ حيث فقدوا بوصلة توجيه حياتهم اليومية؟ فحاصرتهم الزوايا الحادة من كل مكان، ولم يروا غايات للنهايات، وإنما تقطعت بهم سبل النجاة؟ نتحايل على الحياة؛ بأساليب كثيرة؛ وأغلبها هروب من المسؤولية، هذا أمر لا شك فيه؛ يحدث ذلك عندما نبرر لأخطائنا، وعندما نسوف في تقصير التزاماتنا، وعندما نغالط أنفسنا في مواقفنا من الآخر من حولنا، وعندما نتجاوز أعمارنا الافتراضية في الزج بأنفسنا في متون الحياة اليومية وفق استحقاقاتها الحاضرة، تكون المسافة بين ما هو مطلوب، وبين ما هو واقع مسافة ليست هينة، وتكلفة تجييرها ثقيلة وصعبة، وتغرقنا أكثر في مستنقع الندرة، فتحاصرنا أكثر، ونحس بألم الوخز، ونتألم، ونقاسي، والناصح لنفسه منا من يعيد في كل مرة ترتيبات أوراقه المتناثرة، سواء مع نفسه، أو على مستوى علاقاته بالآخرين من حوله، فهذه المراجعة ضرورية جدا لتلافي الكثير من الأخطاء التي قد يتكرر حدوثها نتيجة لتغاضي الطرف عنها، وعدم إعطائها الاهتمام الأوسع، والسؤال الاستدراكي الآخر: لماذا نوقع أنفسنا في مستنقع الزجاج المتشظي؛ ألا نخاف على أنفسنا من أن تجرح؛ فاندمال الجروح ليس يسيرا؟ وهل باستطاعة أحدنا أن يسأل نفسه عن الوقوع في ذلك دون أن يدفع تكلفة باهظة ما؟ هنا؛ مهما كانت التكلفة ثقيلة يجب أن ننسحب بهدوء.

إذن؛ فما أكثر الزوايا الحادة التي تحيط بنا، وفي المقابل ما أكثر مراوغاتنا في التحايل على تموضعات حيواتنا اليومية، وفي لحظات من الصفاء النفسي، ومن المودة، ومن الانعتاق من الخاص الخاص، ننظر بكثير من الاهتمام إلى الكرات الخمس؛ (الأمن، الصحة، العمل، العائلة، الأصدقاء) وهو اهتمام مشروع وواجب، ولكن الخوف في ذلك أن يكون هذا الاهتمام بعد فوات الأوان، حيث ينتابنا القلق أكثر، ويداهمنا المرض أكثر، ونفتقد القدرة على العمل أكثر، وتتشتت العائلة أكثر، ويبتعد الأصدقاء أكثر، عندها تتقارب الزوايا الحادة أكثر، حيث يعلن الألم سطوته الكبرى على أجسامنا المنهكة من فعل السنين؛ حيث مآلات الضعف والشيبة والفتور، واختزال هيلمان الحياة بكل ما فيها إلى درجة الاكتفاء بالحاجة، ولا يتعدى الطموح إلى الرغبة، فقد تتوارى الرغبة إلى حيث النهايات المطلقة؛ حيث اللاعودة.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

حكم جديد بسجن أم اللول لست سنوات ومحاميها ينتظر أنبوب الحياة الاوكسجيني

حكم جديد بسجن أم اللول لست سنوات ومحاميها ينتظر أنبوب الحياة الاوكسجيني

مقالات مشابهة

  • “قهوة المحطة” يستعد للتصوير في أكثر من 20 موقعًا بين القاهرة والصعيد
  • كن مرناً تكسب أكثر
  • وطن الحياة
  • حكم جديد بسجن أم اللول لست سنوات ومحاميها ينتظر أنبوب الحياة الاوكسجيني
  • كامل الوزير: نعمل على حل المشكلات التي تواجه الصناعات المتعثرة
  • عابدة سلطان.. الأميرة الهندية المسلمة التي تحدت التقاليد وواجهت الحياة بشجاعة
  • شاهد بالفيديو.. قصة الأغنية السودانية التي حققت أكثر من 2 مليون زيارة على يوتيوب والجمهور يسأل أين هذه المبدعة؟
  • أنوشكا لـ الفجر الفني: "كتابات عمرو محمود ياسين تتميز بالرقي وحبي لـ ياسمين أكثر ما جذبني للمشاركة في "وتقابل حبيب"
  • "قهوة المحطة" في أكثر من 20 موقع تصوير بين القاهرة ومحافظات الصعيد
  • غزة: أكثر الأماكن التي تضررت بها خيام النازحين في القطاع نتيجة الأمطار