أنساغ: لا أدركُ منكِ إلا ما سيأتي
تاريخ النشر: 4th, February 2024 GMT
(1)
يذهب الليل إلى المجرفة، تعود الشَّاحنات بالعذابات، يرجع الشَّاعر بالنجوم (النُّجوم معضلة السُّجناء والشُّعراء، فقط).
(2)
منذ غروب الشَّمس وأنا أحدس أن هذه الليلة ستكون بلا فرشاة، ولا كأس، ولا مواء، ولا موت.
ولذلك اتَّخذتني القِطَّة، وأخذتني.
(3)
في كل خطوة أذهب إلى البحر، ولا أذهب إلى البحر في كل يوم.
(4)
تصير الطَّلقة تعويذة، ويغدو الكلام ديدانا، وكتب التاريخ جاهزة لإطلاق الإشاعات.
(5)
في نهاية كل كتاب (الكتاب الذي أقرأه الآن، تحديدا) سأعود لما كنت أعرفه جيَّدا قبل واجب معزفة أبجديَّة هذا الكتاب.
(6)
تفقس الطُّيور في الليل، وتموت الطُّيور في كل الأوقات، وليس لديَّ أيُّ يقين في ما يخص الزَّمن والبَشَر (قد أستثني «طيور» هيتشكوك، أحيانا).
(7)
القائد ينتصر، والنَّشيد الوطني يُردِّد الأرامل، والثَّكالى، والمعوقين، والألحان الحماسيَّة، والأيتام، والجرحى، إلخ.
استطرادا: يحتاج الوطن إلى حرب أخرى.
(8)
أيها الأحمق: لماذا عدتَ إلى الزُّلال والزَّبد؟
(«ذَهَب الذين أحبُّهم/ وبقيتُ مثل السَّيف فردا»، عمرو بن معد يكرب).
(9)
حظُّه في الحياة وافرٌ وفير: أبٌ، وأمٌّ، وإخوة، وأخوات، ودرَّاجة هوائيَّة، وإذلالات منبر صلاة يوم الجمعة، وتَمْر، وقصائد، وطريقٌ مخيف بين مزارع النَّخيل، ومشروع انتحار يُؤجِّل قتل الجميع.
(10)
لا ينتابكنَّ اليقين، ولا يعصفنَّ بك الرَّغيف:
«وحيدٌ ليس لي أمٌّ ولا ولد
صلَّوا معي
لكنهم في ركعة النيران لا أحد» («أوراق الجاحظ الصَّغيرة»، قاسم حدَّاد).
(11)
لا توقظوه. لا تهدروه. لا تزرعوه. لا تحصدوه. لا تكنزوه. لا تطردوه. إنَّما القول قد اكتمل.
(12)
لا يضيرني الطُّوفان: فعلتُ العواصف، وتهجَّوتُ البرق، وسامرتُ ابن نوح عند أمل دنقل، وكتبتُ القمر.
أستطيع تمييز قصائدك أيها العاشق الثَّمل (أنا عند أمواج الصَّباح في كل ليل).
(13)
يتنزَّهون في هدايا المَلِك، وتشفق عليهم عطايا الغُبار.
(14)
لم تعد النُّصوص توجع أحدا، ولم يعد البخور يضني النِّصال.
(15)
سنلتقي مرَّة أخرى (ذلك الجبل يتسلَّق الليل والسُّرَّة).
(16)
يصير المرء أسيرا لذكريات لم يعد في وسعها أن تكون حُرَّة في الماء القديم.
(17)
ليسوا من أصحاب سوء النيَّة، وليسوا ممن يضرعون في الحليب (لقد وضعوا السُّم في الحديث، ثم انصرفوا إلى الوثائق).
(18)
يا بوذا المسكين الصَّغير الذي لا يعرفني: لا تحتضن أمَّك ولا تعانق أباك. لا تعد إلى المجرى التُّرابي الصَّغير الذي نحتته الأرض بين الماء والماء. لا تشاهد الأفلام إلا كمن يتهرَّب من تراث العائلة. لا تصافح أختك ولا تصفح عن أخيك، ولا تقرأ ولا تكتب الأناجيل في قراءات «البرزنجي» حين يقدِّمون لك ضرع آخر الشِّياه. لا تبتسم لهم وهم يصلبونك، ولا تُصَعِّر خدَّك حين يدفنونك. أعطِهم المسامير من غير ابتسام، ولا ضغينة، ولا عطف، ولا شفقة عليك أو عليهم. لكن احتفظ بالمطرقة، ولا عليك من التَّشفي، والشَّماتة، وبؤس الحال وسوء المآل. لا تنظر إلى عيونهم إلا حين يستديرون فتراها وقد حدجت محدِّقةً خلف آذانهم، ثم انحدرت. لا تبصق في وجوههم، وذاكرتهم، والأطباق التي تشاركتم في مَرَقِها الفقير، ولا تُعرِّض بأسمائهم وأعراضهم. لا تتمنَّ لهم الخير، ولا الشَّر، ولا الانتظار لحيازة محبَّة القبور.
(19)
كلما ابتعدتَ عن الشاطئ، وأوغلتَ في البحر، انكسرت حدَّة الأمواج (تذكَّر: درسُ السِّباحة هذا لا يحدث في البحر فحسب، بل في اليابسة أيضا).
(20)
كارثة: هَرْوَلَ الذين كانوا هنا، ولم يجدوا شيئا هناك، ولم يعودوا يستطيعون العودة إلى هنا.
(21)
الحبُّ من احتياطات الموت.
(22)
الأذى واجب (مثل الحق بالضَّبط، وكما الحيرة في غنائم النَّدم).
(23)
ردَّة الفعل ليست مقياسا للفعل (بل للنَّوايا الخبيئة في الحالتين).
(24)
لا يزالون يحبونك، ولا تزال تحتقرهم (السِّتارة زرقاء، والشَّمس قويَّة، والأب يزرع الليمون، والأم تسقي الألم).
(25)
إلى أين سيذهب بي هذا الليل؟ ببساطة واختصار:
«أيها الماضي
ما الذي فعلت بحياتي»؟ (سركون بولص).
(26)
لا يستطيع أن يحيا، ولا يتمكن من الموت (فلماذا تتوقعون منه أن يُفلح في هذا)؟
(27)
يقولون إني ولدهم جميعا (صرت أدرك ذلك جيدا في التَّقاليد الجديدة لنُصُب العار ونَصْب المقصلة).
(28)
للأسف، لم نعد نستطيع في الأوسمة، والهالات، والنَّياشين تمييز الأماجد.
(29)
لم يعد يماطل الحياة (ولم تعد تُسَوِّفه الكُتب).
(30)
لا أحد سينقذك (البحر في المَحَّارة، والمَحَّارة ليست هنا).
(31)
بعد هذا اليوم سيكون هناك يوم آخر (إيِّاك أن تصدِّق ذلك).
(32)
أصبح من اللازم الافتخار والاعتزاز بالقَتَلَة في طابع البريد القادم.
(33)
الظُّنون والأوهام مثل التُّفَّاحة (هنا، على الأرض)، أو كما المخدَّة (هناك، في الفردوس).
(34)
أخشاكِ في الملاذ.
(35)
النَّهار عارٌ، والليل خجلٌ، واللغة لَدِنَة مثل رغيف على نزيف الشَّهيد.
(36)
ينتابني الغضب أمام الأموات (وحين تسأم القبور من الغضب، لا أنصرف).
(37)
كيف يستطيعون أن يدفنوا العطايا، والمَزارع، وهذيانات الذِّكريات المُنْحَطَّة، والهِبات لمجرد أن الوالي مات؟
(38)
أنساكِ (حين لا يكون ذلك ممكنا)، وأتذكَّرك في فقر الموهبة، والشَّمس، وصدى خطوات رَجُلٍ عاشَ ومات قبل ألف عام.
(39)
يسابقه الصَّدى، تنتظره الفضيحة.
(40)
الآخرون ليسوا أنت (في هذا الهزيع من العمر عليك أن تتخلص بأقصى وأقسى وحشيَّة ممكنة من كل ما هو ليس أنت).
(40)
في «الطَّامورة»، يشتدُّ بهم النِّقاش الحاد عن «الحداثة» و«ما بعد الحداثة».
(41)
هذا موعدٌ رمليٌّ في الحلقوم.
(42)
في الخراب الذي حاق بي، لا أدركُ منكِ إلا ما سيأتي.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
قالن.. الفيلسوف والموسيقار الذي قدم استشارات مهمة لهيئة تحرير الشام
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أطلقت قوات المعارضة السورية عملية عسكرية ضد نظام بشار الأسد، وتطورت بشكل سريع أربك العالم بأسره، لتتمكن خلال 11 يوما من الوصول إلى مركز دمشق.
سقط نظام عائلة الأسد الذي استمر 53 عاما في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 وأصبح جزءا من التاريخ.
وبينما ارتبكت الدول الكبرى في تحديد موقفها إزاء هذا التطور السريع والاستثنائي، أدلى زعيم حركة هيئة تحرير الشام أحمد الشرع بتصريحات مفاجئة وبدت مدهشة للكثير من الساسة والمراقبين.
وخلال 4 أيام فقط، عادت الحياة في المدن إلى طبيعتها. لم تكن هناك فوضى، ولا مجازر، ولا أعمال انتقام، وتكيّف الشعب مع الوضع الجديد بسرعة لافتة.
التصريحات الدبلوماسية لأحمد الشرع وخطاباته المطمئنة لفتت انتباه الساسة ووسائل الإعلام.
وما إن استوعب الناس التغيرات المتسارعة، حتى بدؤوا يتساءلون عما إذا كانت هيئة تحرير الشام تلقت استشارات من رجل دولة يملك خبرة كبيرة في التخطيط والتنظيم.
وفي الحقيقة، فإن هيئة تحرير الشام والمجموعات المنضوية تحت لوائها شهدت تغييرات فكرية وتحديثات سياسية عميقة في السنوات الأخيرة.
قالن ظهر بشكل مفاجئ في الجامع الأموي بدمشق (مواقع التواصل الاجتماعي) الصورة تسرد الحكايةوبينما كانت الدول تفكر في كيفية بناء علاقاتها أو تحديد مواقفها تجاه الإدارة الجديدة في سوريا، بدأت وسائل الإعلام في تداول خبر مفاجئ مفاده أن رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن، قد وصل بالفعل إلى دمشق.
إعلانجرت محاولات مكثفة للتحقق من الخبر عبر المصادر المتاحة، لكن تعذر الحصول على إجابة واضحة.
ولاحقا، تداول مواطنون سوريون مقطع فيديو التُقط في شوارع دمشق. أظهر الفيديو قالن وقائد سوريا الجديد أحمد الشرع، جالسين في مقدمة سيارة. كان الشرع هو الذي يقود السيارة، بينما كان قالن جالسا بجانبه.
مع ذلك، لم تكن اللقطات واضحة تماما، وبدأ الجميع يسعى للتحقق من صحة هذا المشهد المذهل.
لكن ما أنهى النقاشات حقا هو صورة نُشرت في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2024 تُظهر رجل العوالم الخفية داخل الجامع الأموي في دمشق.
وهكذا تأكد للجميع وجود رئيس الاستخبارات التركي في دمشق، وأنه أجرى سلسلة من اللقاءات والزيارات.
منذ تلك اللحظة، بدأت الأوساط السياسية تتحدث عن تأثير تركيا في الثورة السورية.
وبإرسال رئيس استخباراتها إلى دمشق، كانت تركيا -عمليا- توجه رسالة واضحة إلى العالم: "وجودنا لا يقتصر على إدلب وإعزاز وجرابلس بل نحن في قلب دمشق ونقف إلى جانب الثوار السوريين".
❗️ Jolani is driving Turkey’s National Intelligence Organization chief, İbrahim Kalın, around Damascus. pic.twitter.com/mW1Jxg0NXO
— War Observation (@WarObservation) December 12, 2024
من إبراهيم قالن؟الشخص الذي ظهر يبتسم في الجامع الأموي وفي شوارع دمشق لم يكن شخصا مجهولا، لقد كان أحد الوجوه التي تظهر بانتظام في وسائل الإعلام العالمية أثناء توليه منصب المتحدث باسم الرئيس رجب طيب أردوغان، وكانت تصريحاته تتصدر الأخبار في مختلف وسائل الإعلام، كما أن أعماله الفكرية تُقرأ في الأوساط الأكاديمية بأميركا وبريطانيا.
لكنه أصبح شخصا غير مرئي منذ أن دخل عالم الاستخبارات في منتصف عام 2023.
ولإبراهيم قالن ملف شخصي يزداد تعقيدا كلما تم الكشف عن جوانب مجهولة من شخصيته، مما يزيد من دهشة المراقبين.
إعلان"في الواقع، لم يكن لدي أي خطة للعمل في السياسة أو المناصب الحكومية. منذ صغري، كنت أرى نفسي باحثا أكاديميا. وكان حلمي دائما أن أكون كذلك في المستقبل. والحمد لله، تحقق جزء من هذا الحلم، أي أن لدي حياة أكاديمية أيضا".
ففي مقابلة مع وسائل الإعلام، وصف إبراهيم قالن مسيرته المهنية التي خطط لها بنفسه بهذا الشكل. ولكن الحياة ربما أخذته إلى مكان لم يكن يفكر فيه أبدا.
عائلته من مدينة أرضروم الواقعة في أقصى شرق تركيا والمشهورة بشتائها البارد وجبالها الشاهقة وأغانيها الشعبية.
أما هو فقد وُلد في إسطنبول عام 1971، ودرس في معاهد مختلفة في مدن متنوعة. ثم عاد إلى مدينته الأم للدراسة الجامعية، حيث درس التاريخ في جامعة إسطنبول. وخلال دراسته، كان يتابع التطورات السياسية عن كثب، وقرر أن يتبع مسارا أكاديميا في ذلك الوقت.
في شبابه، كان يعرف بتصرفاته الودية والأخوية مع محيطه، حيث كان يُظهر طابعا حانيا ومساعدا مثل الأخ الأكبر.
وفي عام 1992، بعد تخرجه في الجامعة، سافر إلى ماليزيا للحصول على درجة الماجستير، حيث قام بأبحاث في مجالي الفلسفة والفكر الإسلامي.
أكمل الماجستير حول فلسفة "ملا صدرا" في عام 1994. ثم عاد إلى تركيا، وبعد عام واحد سافر إلى الولايات المتحدة.
هناك، درس أولا في جامعة "هولي كروس" ثم في جامعة جورج تاون في مجال العلوم الإنسانية المقارنة والفلسفة، حيث حصل على درجة الدكتوراه في موضوع "نظرية المعرفة للملا صدرا وإمكانية الإبستمولوجيا غير الذاتية".
مفترق طرق
وفي عام 2002، حصل على درجة الدكتوراه من هذه الجامعة. وفي تلك الفترة، شعر أنه أمام مفترق طرق في مسيرته.
في العام الذي حصل فيه قالن على درجة الدكتوراه من جامعة جورج تاون، كانت تركيا تشهد تحولا سياسيا كبيرا. فقد حقق رجب طيب أردوغان فوزا كبيرا في الانتخابات.
إعلانوبعد النجاح السياسي الذي حققه التيار الإسلامي، بدأ التحول الكبير في تركيا.
بدأ أردوغان إحاطة نفسه بمثقفين من التيار المحافظ وبالتكنوقراط والشباب الموهوبين. وكان إبراهيم قالن واحدا من هؤلاء الذين لفتوا الأنظار في الأوساط الفكرية بفضل مسيرته وخبراته.
عرض المسؤولون في حزب العدالة والتنمية على الدكتور إبراهيم قالن العودة إلى تركيا لتأسيس مؤسسة فكرية دولية والعمل على تقديم أفكار لتركيا.
ظل لفترة مترددا بين الاستمرار في مسيرته الأكاديمية في جامعة جورج تاون أو العودة إلى تركيا والدخول في غمار الحياة السياسية.
في النهاية، قبِل العرض وعاد إلى تركيا في عام 2005، وهو في الـ34 من عمره، حيث أسس مؤسسة "سيتا" (SETA) (مؤسسة دراسات السياسة والاقتصاد والمجتمع).
ومنذ ذلك الحين بدأ العمل عن كثب مع أردوغان الذي كان حينها رئيسا للوزراء، وأصبح لاحقا رئيسا للبلاد.
البيروقراطية والأكاديميةاستمر إبراهيم قالن في عملية القراءة والكتابة المنظمة التي بدأها خلال سنوات دراسته الجامعية، وكانت هذه العملية أكثر سهولة في فترة رئاسته لمؤسسة "سيتا".
ومع ذلك، عرض عليه مهمة جديدة ليقربه إليه أكثر. عندما أصبح أحمد داود أوغلو وزيرا للخارجية، تولى إبراهيم قالن مكانه ودخل فجأة في العمل السريع والمكثف في رئاسة الوزراء.
ومع ذلك، أصر على عدم ترك أعماله الأكاديمية، فنشر العديد من الكتب، وفي عام 2020 حصل على لقب بروفيسور.
يقول عن هذه اللحظة "لقد أصبحت بروفيسورا، لكنني لا أستخدم هذه الألقاب كثيرا. الألقاب هي إضافات تابعة للإنسان. الأهم هو الجوهر، أي الإنسان نفسه. الألقاب مهمة من حيث التقدير، لكن هذه الألقاب ذات طبيعة مهنية. أن تكون بروفيسورا ليس مهمة أكاديمية، بل إدارية. أما الألقاب، فبصراحة، هي أشياء تحجب هوية الإنسان الحقيقية ومعرفته".
بعد أن أصبح أردوغان رئيسا للجمهورية، صعد إبراهيم قالن مرة أخرى في مسيرته السياسية حيث حمل صفة سفير وتولى منصب المتحدث باسم الرئيس.
إعلانومنذ ذلك الحين، انخرط في عمل مكثف في مجالات الإعلام والسياسة والأكاديمية والدبلوماسية.
ومع ذلك، لم يهمل تأليف الكتب الفلسفية والفكرية، فقد نُشرت له كتب في الولايات المتحدة وبريطانيا وتُرجمت إلى العديد من اللغات.
"لدينا جدول زمني مكثف بسبب أعمالنا، ولكننا نحاول إدارة الوقت بشكل جيد. أرى فائدة الانضباط في القراءة والكتابة الذي اكتسبته من كوني أكاديميا. في عملنا، لا توجد مفاهيم مثل عطلة نهاية الأسبوع أو الليل والنهار. نحن مستعدون في أي لحظة حسب المهمة. وبالتالي، تم كتابة العديد من صفحات هذا الكتاب في الطائرات، وفي فنادق البلدان التي زرناها، صباحا باكرا يوم الأحد، أو بالبقاء حتى ساعات متأخرة من الليل. بعد أن بدأت العمل فعليا مع رئيس جمهوريتنا، حاولت تعلم بعض الأمور من قدرته على استخدام الوقت بشكل منظم لأنه شخص يستخدم وقته بشكل فعال للغاية".
ذلك مقتطف من كتاب أصدره قالن حديثا تحت عنوان "الإسلام، التنوير والمستقبل".
الموسيقار والمؤلف ورئيس المخابرات
في سنوات الدراسة الثانوية، بدأ قالن الاهتمام بالموسيقى التركية، وتعلم العزف على آلة الساز في تلك الفترة. كان معلمه في الموسيقى الأستاذ ميحات في مدينة ألانيا هو من علمه العزف على الساز وحبّب إليه الموسيقى.
لم يكتف قالن بتعلم العزف على آلة الساز بيده، بل قام أيضا بغناء الأغاني التركية.
في أميركا، أسس مع أصدقائه مجموعة موسيقية صغيرة، وأقاموا حفلات موسيقية. لم يقتصر الأمر على العزف على الساز فقط، بل عزف أيضا على آلة الناي، كما لحن أغاني تركية في تركيا، غناها فنانون مشهورون.
تأثر بكُتب الفيلسوف الشهير الفارابي حول نظرية الموسيقى. وشرح علاقته بالموسيقى قائلا: "علاقتي بالموسيقى والفن ليست مجرد هواية أو شيء أفعله لقضاء وقت فراغي. أنا أراها جزءا من تحقيق نفسي، ومن سعيي لفهم الوجود. لأنها أمور تغني روحي وتعطي المعنى لعملي. هي أمور أحاول القيام بها لأنها ذات قيمة وأهمية في حد ذاتها".
إعلانليس من المعتاد أن يصبح أستاذ الفلسفة رئيسا لجهاز الاستخبارات، ولكن مر العقدان الأخيران من حياة إبراهيم قالن في العمل المكثف في السياسة والدبلوماسية والأمن قرب الرئيس أردوغان.
لقد أصبح على دراية تامة بجميع الملفات الأمنية والدبلوماسية التي كانت تركيا طرفا فيها.
بعد أن أصبح رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان وزيرا للخارجية، تم تعيين إبراهيم قالن خلفا له في يونيو/حزيران 2023.
يقال إن هذا التعيين كان نتيجة لتأثير مسيرته البيروقراطية وكذلك الثقة الكبيرة التي نشأت بينه وبين أردوغان.
بعد أن أصبح إبراهيم قالن رئيسا لجهاز الاستخبارات، بدأ التعامل مع ملفات خطيرة. خاض معركة ضد حركات تصفها تركيا بالإرهابية مثل حزب العمال الكردستاني، وتنظيمي الدولة والقاعدة، إلى جانب منظمة "فيتو" التي يقال إنها تتبع لجماعة فتح الله غولن.
وكان له دور نشط في مساعي وقف إطلاق النار خلال الحرب الإسرائيلية الوحشية المستمرة في قطاع غزة.
في تلك الفترة، تمكن من تفكيك شبكة كبيرة من العملاء التابعين للموساد في تركيا.
في الأول من أغسطس/آب 2024، نظّم في أنقرة ما يقال إنها أكبر عملية تبادل رهائن في التاريخ الحديث، حيث تم إجراء عملية تبادل سجناء بين 7 دول، بينها الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا.
بدأ إبراهيم قالن دمج جانبه الأكاديمي في آلية عمل جهاز الاستخبارات. كانت أولى خطواته هي تأسيس أكاديمية الاستخبارات، حيث تم إطلاق برامج دراسات أمنية واستخباراتية وجيوسياسية على مستوى الماجستير والدكتوراه، كما بدأت الأكاديمية نشر تقارير منتظمة حول قضايا الأزمات العالمية.
بهذه الطريقة، جمع قالن بين تكوينه الأكاديمي وعمله في الاستخبارات. ومع كل هذه الانشغالات، ألّف كتابا بعنوان "الإسلام، التنوير والمستقبل"، وهو أمر مفاجئ بالنظر إلى كثافة العمل الاستخباراتي.
إعلان
إشكالية الموازنة بين الأمن والحرية
تُعد قضية التوازن بين الأمن والحرية من أقدم المناقشات السياسية، وهي موضوع بالغ الأهمية لكل دولة.
وتركيا هي واحدة من الدول التي عانت من تجارب مريرة في هذين المجالين. فالدولة محاطة بالأزمات والإرهاب والهجرة، والحروب الأهلية تعصف بجيرانها.
وغالبا ما تؤدي هذه البيئة إلى تدفق كثيف للمهاجرين، وأعمال إرهابية، بل حتى لانقلابات العسكرية.
وفي ظل هذه التحديات، تزايدت حساسية تركيا تجاه الأمن وأصبحت مركزا لمناقشات حول تقييد الحريات.
وفي كتبه ومقالاته ومقابلاته، كان إبراهيم قالن دائما يبرز جانبه الديمقراطي، مشددا على التعايش المشترك، والعيش بسلام مع جميع الهياكل العرقية والدينية، والتأكيد على الديمقراطية.
والآن، أصبح وهو في رأس أهم مؤسسة في البيروقراطية الأمنية، الفاعل الرئيسي في هذه المناقشات.
ظهر قالن، رئيس جهاز المخابرات الوطني، مرة واحدة أمام الجمهور وألقى خطابا.
في الحفل الذي أقيم بمناسبة الذكرى السنوية لتأسيس جهاز المخابرات وإطلاق أكاديمية المخابرات، أعلن سياسته "بتوفير الأمن دون التنازل عن الحريات". وملخص هذا الموقف جاء في قوله: "الأمن من أجل الحرية".
ومن الصعب التنبؤ بمدى صعوبة تطبيق هذا الموقف في جغرافيا الشرق الأوسط التي أصبحت حلقة نارية، ولكن بدأنا نرى بعض التأثيرات في سوريا.
ومن المحتمل أن يظل إبراهيم قالن الفيلسوف والموسيقار والأكاديمي ورجل المخابرات محط اهتمام في المستقبل.