لجريدة عمان:
2024-09-30@12:46:01 GMT

نوافذ: الأوضاع الصحية وقسوة العيش

تاريخ النشر: 4th, February 2024 GMT

«الأطرافُ ذابلة جعدة وأحيانا عاجزة عن النمو عجزا لا شفاء منه، وعيون الأطفال مُلتصقة بالرمد، وهناك الكثير من العجزة الذين يُقادون في الطرق، فهم عمي تماما، ولا يمكن للمرء إلا أن يرتجف خوفا وهو يرى معتوها أو ربما سفيها مُقيدا بسلاسل تصدر أصواتا قوية». ورد هذا الوصف في كتاب «عُمان في عيون الرحالة» لهلال الحجري، ليُرينا الواقع الصحي في أربعينات القرن الماضي، فلقد أغفلت المصادر التاريخية العُمانية تسجيل كل ما يتعلق بالنواحي الصحية آنذاك، ولم تسعفنا سوى المصادر الأجنبية وتقارير الإرسالية الأمريكية لمعرفة ما يتعلق بتلك الأوضاع.

قرأتُ مؤخرا كتاب «الأوضاع الصحية في عُمان «1888-1975»، للدكتورة أمل بنت سيف الخنصورية، فكشف لي جوانب غير منظورة من تردي أحوال العُمانيين الصحية مطلع القرن العشرين.

ولم يتناول الكتاب الوضع الصحي منعزلا عن سوء الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في وقت انتشرت فيه الأمية والجهل والفقر باستثناء من انتشلته مكانته الاجتماعية من وضاعة الحال، فعرج على تدهور الوضع مع الحرب العالمية الأولى 1914 جوار حالة القحط التي أصابت عُمان عام 1917، والأزمة الاقتصادية التي ألمت بالعالم 1929، وكيف بدأ هاجس الهجرة يلح بالظهور. إلا أنّ الهجرة كانت مشروطة بجوازات السفر والتصاريح ولم يكن من اليسير الحصول عليها أيام السلطان سعيد بن تيمور، وقد اقتصرت تصاريح السفر على الهند وباكستان والبحرين، خوفا من أفكار سياسية ثورية!

ثمّ ألقت الحرب العالمية الثانية بظلالها أيضا، فارتفعت الأسعار وأصاب الناس فقر شديد وقد وصفهم إدوارد هندرسون، الذي قدم إلى الشرق الأوسط 1941 ووثق رحلته إلى سهل الباطنة ووادي الجزي والظاهرة، قائلا: «كانوا يجهلون وسائط النقل ولا يعلمون عن المذياع شيئا ولا يعرفون ماهية الطعام المُعلب ولم يسبق لهم العلاج وفق الطب الحديث». كما ربط الكتاب بين تدهور الصحة وانعدام شبكات الطرق وانعدام قنوات الصرف الصحي، التي أدت إلى ما وصفه أيان سكيت قائلا: «مدينة مطرح في ستينات القرن العشرين مدينة ملوثة، بها الكثير من المستنقعات والبرك المليئة بالقاذورات، الروائح نتنة ومسببة للغثيان».

ضيق سبل العيش وشح الموارد دفعت العُمانيين لاستغلال موارد الطبيعة، فاستخلصوا الأدوية من النباتات وعرفوا «الكي» بالنار وإخراج الدم الفاسد بالحجامة باستخدام قرون الماعز. ذكر برترام توماس في كتابه البلاد السعيدة: «الكي بالنار كان يحتل الصدارة في العلاج لدى سكان ظفار»، وقد عالجوا الكسور بالجبيرة، فتمكن المعالج القديم من إعادة العظام إلى مكانها، كل هذا إلى جوار التمائم والحروز التي تُغلف بجلد الماعز أو توضع في صندوق من الفضة.. رُقى عن اللدغ أو لتقوية الحفظ أو لرد عين السوء، كما لم يكن يفوتهم التبرك بالنذور.

لكنهم كانوا يقعون فريسة الأمراض المُعدية، الكوليرا والملاريا والجدري والجذام، وتتحول الثياب لطول استخدامها -في تلك الحقبة الزمنية- إلى خرق بالية فوق هزال الأجساد، فتسبب إصابتهم بالأمراض الجلدية، ولأنّهم يعتمدون على شرب مياه الأفلاج والآبار فقد تعرضوا لأمراض في الهضم، فلم تكن آبارهم وأفلاجهم تخضع للفحص.

ذاع صيت عائلة بني هاشم في القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، وقد تعدت سمعتهم عُمان إلى بلاد الرافدين وفارس. فمثلا راشد بن عميرة ترك رسالة في «الكي» وقصيدة في «العين» وتشريحها. يورد الكتاب قصّة الرجل الذي كان يأتي من الباطنة مُحملا برسائل مستفهمة عن أمراض وعلاجاتها إلى الشيخ أبي زيد الريامي في إزكي، ويتقاضى قرشا عن كل رسالة، ومن الطرائف أيضا أنّ رجلا ظن أنّه مُصاب بالجذام فقدم مع زوجته إلى الشيخ منصور الفارسي. فقال له: ليس لديك جذام، مشكلتك من أكل الطعام الجاف واليابس، ثمّ طلب من زوجته علاجه بالعسل والسمن والحليب والبر فقالت: إنّه بخيل. فقال: نُعطيكِ وكالة بيع فبيعي من ماله وعالجيه، فعادت له عافيته.

في الفترة من 1888-1969 حصلت عُمان على مساعدات من قبل الإرسالية الأمريكية وشركة الهند الشرقية البريطانية لإنشاء عدد من المستشفيات، إلا أنّها لم تكن تخلو من نوايا تبشيرية للدين المسيحي، ولم تستطع تقديم الخدمات الطبية لعدد السكان الذي بلغ مليون نسمة آنذاك. الأمر الذي أثر في متوسط عمر الفرد، إذ كان لا يتجاوز السبعين عاما إلا فيما ندر، ولم تنضم عُمان لمنظمة الصحة العالمية حتى عام 1971.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

أبو حيان التوحيدي رفيقي وصديقي!

(1)

ما يقرب من ربع القرن وأنا أحظى بصداقته ورفقة كلامه وآنس بكتبه ومؤلفاته! نعم أحببت أعاظم كتاب النثر العربي وقرأت كتبهم ومؤلفاتهم وتتبعتهم من عبد الله بن المقفع وعبد الحميد الكاتب وحتى ابن خلدون في القرن الثامن الهجري، ومن بعده كتاب التاريخ والحوليات والسير والتراجم وصولا إلى الجبرتي!

لكن يظل أبو حيان التوحيدي عندي هو بحق "فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ولكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، فهو شيخ في الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء" كما وصفه ببراعة واقتدار وحنكة ياقوت الحموي في «معجم البلدان». ولأنني أعاود هذه الأيام قراءة بعض من مؤلفاته وكتبه التي لا نظير لها في التراث العربي، وأتوقف عند بعضها وقفاتٍ طوالا متأنيا ومتأملا ومجتليا العديد من "الدلالات" و"التأويلات" فيما يخص هذا المثقف المهمش المغترب، ويراه آخرون أنه كان المثقف "المحاصر المأزوم" بنكهة وجودية، فقد جادت علي الذاكرة بفيضها وأعادتني إلى اللحظات التي انعقدت فيها أواصر المحبة والصداقة بيني وبين "التوحيدي" في تسعينيات القرن الماضي.. مدين أنا لجمال الغيطاني حقيقة، ومدين أنا كذلك لأستاذي الراحل الجليل جابر عصفور، عليه رحمة الله.

(2)

في عام 1995 أقام المجلس الأعلى للثقافة في مصر احتفالية ضخمة بمناسبة مرور ألف عام على وفاة الكاتب الأديب والمتصوف المتفلسف والحائر المغترب أبو حيان التوحيدي (ت 414هـ)؛ صاحب المصنفات والكتب الشاهدة بقدر علمه ووافر اطلاعه وغزير ثقافته وتشعب معارفه، وصاحب الأسلوب الذي يكاد يكون ذروة ما وصل إليه النثر العربي الفني في القرن الرابع الهجري.

قبل هذا الاحتفال الثقافي الكبير، لم أكن أعرف عن أبي حيان التوحيدي سوى أنه مؤلف كتاب «الإمتاع والمؤانسة» أحد أشهر كتب التراث العربي؛ في الأدب واللغة والفلسفة والمنطق والتاريخ، وبالجملة فيما كان رائجًا من علوم عصره "النقلية"، و"العقلية" التي كانت سائدة آنذاك في القرن الرابع الهجري.

أذكر جيدًا أن اهتمامًا غير مسبوق بالتوحيدي خلال هذه السنة (1995)، والسنوات التالية أثمر عن نشاط واسع في الكتابة عنه، وإعادة نشر أعماله، وإصدار طبعات جديدة ومتعددة منها؛ وأصبحتُ إزاء مشهد غاية في التنوع حول "التوحيدي"؛ فمن كتب عنه من جهة نثره وبيانه، ومن كتب عنه من جهة حيرته واغترابه، وألمه ومراره، وبؤسه وشقائه، ومن كتب عن تصوفه ومواجده و"إشاراته"، ومن تصدى لإثبات زندقته وإلحاده!

وهناك من كتب عنه باعتباره نموذجًا مثاليًّا لحالة المثقف العربي "المتمرد" في القرن الرابع الهجري...

وهناك من استوقفه حاله وسيرته وتتبع مسار حياته ووفاته.. ووثق أعماله ورسائله ومخطوطاته.. إلخ.

ولعل هذا النشاط المحمود كله، كان سببًا رئيسيا في الإقبال على قراءة أعمال التوحيدي، وقراءة الكثير والكثير مما كتب عنه؛ باعتباره حلقة محورية من حلقات اتصال تراثنا الفكري والثقافي في القرون الخمسة الأولى من الهجرة.

(3)

وكان من أجلّ ثمار هذا النشاط المحموم المحمود؛ كتاب عظيم رائع اسمه «خلاصة التوحيدي»، عبارة عن مختارات من نثر التوحيدي (سأعرض نماذج منها سريعًا)، جمعها بذائقته الممتازة الرفيعة واختياراته البديعة المثقف الراحل الكبير جمال الغيطاني (وكان من كبار قراء التراث والمطلعين على دقائقه وكنوزه والعارفين بحدوده وتفاصيله). اسمع بقلبك واقرأ بعينيك هذه السطور:

- "يا هذا: الحديث ذو شجون، والقلب طافح بسوء الظنون". (الإشارات الإلهية)

- "فإلى متى نعبد الصنم بعد الصنم، كأننا حُمُر أو نَعَم؟ إلى متى نستظل بشجرة تقلص عنا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن الشفاء فيها؟.." (الإشارات الإلهية)

"فإني أجد الإنسانَ ونفسَه كجارين متلاصقين، يتلاقيان فيتحدثان، ويجتمعان فيتحاضران".. (المقابسات)

- "والله يا رفيقي وشريك زادي، لقد صحبت الليالي ستين عامًا مُذْ عقلت، فما غدرني إلا من استوفيتُه، ولا كدّر عليَّ إلا من استصفيتُه، ولا أمرَّ لي إلا من استحليتُه، ولا أهمل أمري إلا من استرعيتُه، ولا قذِيَتْ عيني إلا بمن جعلتُه ناظرها، ولا انحنى ظهري إلا بمن نصبتُه عمادَه، ولا نجمتْ لي نجاةٌ إلا من حيث لم أحتسب، ولا سبقتْ إليَّ مسرّةٌ إلا ممن لم أكتسب".. (الإشارات الإلهية)

- ويقول أبو حيان التوحيدي:

«وحين يبلغ العجز آخره، ويستغرق اليأس ظاهره وباطنه.. أي رأي لمكذوب؟ أم أي عيش لمكروب، أم أي قرار لمرعوب؟.. إرادة مشوبة.. وعلامات متهمة، وطمأنينة قلقة».. (الإشارات الإلهية)

- وفي رواية عن أبي حيان التوحيدي، في كتابه «الصداقة والصديق»، أنه لا يكون الصديق صديقا إلا إذا وصلت به حال صداقته لأن يقول له "يا أنا".. (الصداقة والصديق)

وكانت النماذج التي قرأتها في هذه "الخلاصة" كافية تمامًا كي أقبل على قراءة نصوص التوحيدي الزاخرة بشغف وفضول كبيرين.. وبدأت هذه الرحلة بالخلاصة ولما تنته حتى وقتنا هذا!

(4)

لماذا أحببتُ التوحيدي؟ ولماذا رافقت نصوصه وصادقته على بعد العهد وتجاوز العقود وتباعد القرون؟

أولًا: أنت بإزاء شخصية شديدة التركيب والتعقيد على المستوى النفسي؛ جسدت تناقضات عصرها وتشابكاته والتباساته بامتياز؛ يقولون عن أبي حيان التوحيدي إنه نموذج للمثقف "الإشكالي" في القرن الرابع الهجري؛ بمعنى إدراكه العميق لكل التفاوتات الطبقية "في الوعي، وفي المعرفة بين شرائح الطبقات المثقفة الثرية في مجتمع المدينة الإسلامية الناهضة (بغداد) ومن هم في دائرة السلطة والجاه والنفوذ وبين الطبقات الدنيا والفقيرة بل المسحوقة؛ فيما اشتهر بمصطلح "المهمشين".

ثانيا: كان نثر أبي حيان التوحيدي بما وصل إليه من ذروة لم يسبقه إليها (ربما سوى الجاحظ) ولم يلحقه في الفضل بعده أحد، مجسدا لما بلغته اللغة العربية في زمنه من تطور مذهل استوعب كل مستجدات العصر "الذهبي" من انفتاح على العلوم العقلية والتجريدات الذهنية والترجمات وعلوم المنطق والفلسفة والجدل العقلي؛ وصار السؤال شعار العصر؛

وكان "التوحيدي" أحد أكبر طارحي وصائغي الأسئلة الوجودية والمعرفية في عصره، وكانت كتابته في زمنه كتابة تمرد وجنوح وخروج عن مألوف الكلام ومكرور القول؛ إنها كتابة تتأمل ذاتها بقدر ما تتأمل غيرها، وتطرح السؤال تلو السؤال، مثيرة من عواصف الشك وزوابع المسائلة بما يزعزع أركان اليقين المعرفي والوجودي معا؛ كتابة يصفها جابر عصفور بقدرٍ كبير من التطابق مع ما وصفها به صاحبها ذاته "التوحيدي"؛ بحروفه وألفاظه، وتعبيراته وتراكيبه:

"كان هذا النوع من الكتابة ينطوي على وعيه الذاتي، حيث الكلام يصف الكلام، واللغة تضع نفسها موضع المساءلة، والكتابة نفسها لا تكفّ عن تغيرها الذي هو نقض لكل عناصر الثبات. إنها الكتابة التي تأخذ من التصريح ما يكون بيانًا في التعريض، وتحصل من التعريض ما يكون زيادة في التصريح، وتستيقن أنه لا حرف ولا كلمة، ولا سمة أو علامة، ولا اسم أو رسم، إلا وفي مضمونه آية تدل على سرٍّ مطوي وعلانية منشورة. كتابة تعلو على ما جرَت به العادة، وتعرف أسرار الإيماء الذي يلطف عن الوهم، ويستغيث من الشكل والضد، ما يمتلئ به القارئ نورًا، ويتقد بحره نارًا، ويتعلم كيف تفارق المدركات سماتها القائـمة عليها، وتعاند صفاتها الثابتة بها، وتلج الكتابة الطرق الوعرة، معتسفة مضايقها، لتخرج من ظلمة التصديق إلى النور الذي يضيء بالسؤال، والسؤال الذي لا يسقط، قط، دون الغرض المعتمد.

مقالات مشابهة

  • "العلوم الصحي" تعلن الموافقة على بدء إجراءات استحداث إدارة للعلوم الصحية بوزارة الصحة
  • مذنب القرن يقترب من الأرض وهذا موعد ظهوره
  • مؤتمر سيتي سكيب البحرين 2024: الريادة في العيش الحضري تحت شعار “ابتكر، ارتقي، ازدهر- مقومات العيش في قلب رؤية البحرين
  • تعزيزًا للأمن الصحي للمجتمع.. “الصحة” تغرّم 3 شركات طيران لمخالفتها نظام المراقبة الصحية بمنافذ الدخول
  • وزير الصحة اللبناني لـ«الاتحاد»: نحتاج إلى مساعدات طبية عاجلة لمواجهة الأزمة الصحية
  • مفكران عراقيان: معرض الرياض الدولي للكتاب من أهم نوافذ الثقافة العربية
  • أبو حيان التوحيدي رفيقي وصديقي!
  • "الرعاية الصحية" تحضر لمؤتمر "الاستثمار في القطاع الصحي" فبراير المقبل
  • ضحايا لقمة العيش.. مصرع وإصابة عامل إثر سقوطهما في مول بالتجمع الخامس
  • الوقاية من الأمراض المزمنة: أهمية التوعية الصحية ونمط الحياة الصحي