سفراء أوروبا يطالعون من أرض حورس «أثر قدم السيد المسيح»
تاريخ النشر: 4th, February 2024 GMT
36 ساعة أمضاها نحو 20 سفيرا أوروبيا وقريناتهم، يتقدمهم كريستيان برجر، سفير الاتحاد الأوروبي لدى مصر، بين محافظات القاهرة والإسكندرية وكفر الشيخ في جولة غير مسبوقة، بينها 20 ساعة قطعت خلالها ثلاث حافلات وعدة سيارات - كانت تقلهم - طرقا عديدة وطويلة بين وداخل المحافظات الثلاث على وقع درجات حرارة منخفضة وأمطار غزيرة لم تشكل عائقا أمام رغبتهم وحرصهم على إكمال جولتهم بسلاسة، بل وإضافة محطات أخرى لم تكن مدرجة على برنامج الجولة.
جولة استغرقت في عمر الزمن 36 ساعة فقط كانت كافية ليرصد المحرر الدبلوماسي لوكالة أنباء الشرق الأوسط كيف وقع سفراء دول متقدمة ومتعددة الثقافات وقريناتهم في سحر حضارة مصر وحاضرها، مثلما كانت كافية ليرى كيف طغت مشاعر الشغف والانبهار بمعالم وآثار مصر وأسرارها الكامنة في جنبات مدنها وقراها على مظاهر الإرهاق من تعدد محطات الجولة وطول المسافات.
وفي الإسكندرية حاضنة الحضارات وعنوان الإنسانية والتعايش والتسامح وتعدد الثقافات، وفي كفر الشيخ أرض حورس التي احتضنته حتى اشتد ساعده ليقاتل وينتصر - في أول معركة بالتاريخ - للخير على الشر وفق القصة المصرية التاريخية الأشهر والأعمق، كانت أشياء كثيرة مقررة وكانت أشياء أخرى أعمق رتبتها الأقدار.
ومع كل كيلو متر من مسافات الرحلة بين بقاع شمال دلتا مصر النابض بالحياة والطاقة والأمل، ومع تنامي مشاعر الولع والشغف بأسرار حضارة مصر وحاضرها، امتدت محطات الجولة التي كان هدفها تفقد مشروعات المياه والصرف الصحي العملاقة التي شاركت في تمويلها دول الاتحاد الأوروبي، وأسهمت بشكل واضح في حل مشكلة صرف الأمطار الغزيرة في الإسكندرية وكفر الشيخ هذا العام.
وبلغ الانبهار ذروته عندما وصل الوفد الدبلوماسي الكبير والمرموق للمحطة الأخيرة والتي تمت إضافتها لبرنامج الرحلة، وهي رؤية "أثر قدم السيد المسيح" وهو طفل على صخرة محفوظة بعناية شديدة في كنيسة السيدة العذراء الأثرية بسخا في كفر الشيخ، حيث إن إحدى أهم نقاط مسار العائلة المقدسة في مصر.
وقبل زيارة الكنيسة الأثرية ورؤية أثر قدم السيد المسيح والمخطوطات التاريخية النادرة المحفوظة بعناية بداخلها، كان السفراء الأوروبيون يظنون خلال زيارتهم لمتحف كفر الشيخ - إحدى حاضنات كنوز وأسرار مصر الكامنة - أن مشاعرهم قد بلغت ذروة الانبهار وهم يطالعون في جنباته الآثار المنقوشة على الأحجار، وهناك عرفوا كيف كانت بها مدينة اسمها "بوتو" أول عاصمة لشمال مصر قبل توحيد شمالها وجنوبها على يد "مينا" موحد القطرين.
عرفوا أن هذه المحافظة الجميلة التي لم يسبق للكثيرين منهم زيارتها كانت تحمل اسم "أرض حورس"، حيث شهدت مولده واحتضان طفولته ليظل رمزا لها ولمصر على مدار القرون.
عرفوا وشاهدوا وسمعوا تفاصيل القصة القديمة الكامنة في وجدان مصر وشعبها، قصة إيزيس وأوزوريس وابنهما حورس وثأره وانتصاره على عمه "ست"، قصة انتصار الخير على الشر، وبالأحرى قصة مصر فجر الضمير.
وهناك في كفر الشيخ، عرفوا كيف انتصر حورس للحق والخير ليعيد العدالة والنظام لوادي النيل وللأرض، ومن بعدها ظل "حورس" أقدم لقب ملكي في مصر، ولقبا وحيدا قرينا بكل حاكم أو ملك لمصر منذ عصر ما قبل الأسرات وحتى الأسرة الثانية.
وقبل زيارة المتحف وخلال اللقاء مع محافظ كفر الشيخ جمال نور الدين، سمع السفراء عن كنيسة السيدة العذراء وما تحتضنه من آثار وعلامات وأسرار، سمعوا وعرفوا أن بداخلها تقبع تلك الصخرة، الصخرة التي ضربها السيد المسيح وهو طفل بقدمه فانشق عنها الماء بعد دخوله برفقه والدته السيدة مريم العذراء إلى هذه المدينة في رحلة العائلة المقدسة داخل مصر سعيا للأمان وهربا من بطش الملك الروماني هيرودس قاتل الأطفال، سمعوا فلم يكتفوا بالسمع وقرروا أن يشاهدوا، فتمت إضافة زيارة الكنيسة كمحطة أخيرة لجولتهم لتكتمل بداخلهم مشاعر الانبهار.
وبين كفر الشيخ والإسكندرية وتحت الأمطار الغزيرة خلال يوم ونصف اليوم هو عمر هذه الجولة، طالع السفراء معالم من حاضر مصر، طالعوا كيف يتم تطوير منطقة محطة الرمل والمنشية وهذا المزيج الإنشائي بالغ التميز بين طرازات مدارس البناء الأوروبية ليعكس امتزاج الحضارات التي سكنت شعوبها تلك المدينة الساحرة عنوانا للتعايش والتسامح الإنساني حقا لا قولا، وشاهدوا في طريقهم بين الإسكندرية وكفر الشيخ، بحيرة البرلس البديعة وعملية التطوير الجارية فيها لإعادتها لسابق عهدها.
وطالعوا المزارع السمكية والطريق الساحلي الذي يربط دول شمال أفريقيا، وشاهدوا واستمعوا لشباب مصر المبدع وأفكارهم وأبحاثهم الخلاقة حول كيفية مواجهة إشكاليات تغير المناخ وتأثيراتها على المياه.
وطالع السفراء الأوروبيون وسط كل ذلك الزخم شريطا تاريخيا يمتد آلاف السنوات ليعكس بجلاء عظمة مصر وعمق الشخصية المصرية مثلما يعكس ملامح الحاضر والمستقبل.
وفي حضرة المتحف الروماني - اليونانى بالإسكندرية، وبعد أن التقوا محافظها محمود الشريف، طالع السفراء من الآثار ما جسد بصمة مصر وحضارتها الملهمة على الحضارتين الرومانية والبطلمية منذ نشأة الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث بعد الميلاد.
استمعوا وشاهدوا كيف صهرت الإسكندرية بروح مصر حضارات وحضارات مثلما شهدوا بإعجاب تطوير المنطقة المحيطة بالمتحف بمبانيها وشوارعها العتيقة بمعايير الهوية البصرية لتحمل نفس الطابع اليوناني الروماني للمتحف، فتصبح معه تلك المنطقة أحد أهم معالم المدينة وفي قلب خارطتها الثقافية والسياحية.
ومثلما طور أجدادنا في مصر وأوروبا جارنا الشمالي المتوسطي شراكة حضارية إنسانية بكل ما تعنيه الكلمة عكستها معالم التاريخ الذي يربط شعوب الجانبين، فقد تزامنت الجولة مع علامات بارزة على إرادة راسخة للجانبين لتطوير شراكة مصرية مع الإتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء تتجسد معها وبها آفاق التعاون في الحاضر والمستقبل والخطوات البناءة التي يجرى تدشينها في الوقت الراهن لترفيع العلاقات بين الجانبين.
ولم يكن مفاجئا في هذا الإطار أن يسبق تلك الجولة انعقاد الاجتماع العاشر لمجلس المشاركة بين الاتحاد الأوروبي ومصر في بروكسل في 23 يناير المنصرم، وهو الاجتماع الذي يواكب الذكرى العشرين لدخول اتفاقية المشاركة حيز النفاذ عام 2004 ويؤكد الشراكة القوية ومتعددة الأوجه بين الطرفين، حيث أعلن الجانبان اعتزامهما الارتقاء بالعلاقات إلى مستوى "الشراكة الشاملة والاستراتيجية".. ووقعا على اتفاق البروتوكول الإطاري الذي يمهد الطريق لمشاركة مصر في برامج الاتحاد الأوروبي، وبالتالي زيادة توطيد التواصل بين الشعوب.
ولم يكن مفاجئا كذلك أن يعقب تلك الجولة بيوم واحد إبلاغ مفوض الاتحاد الأوروبي لسياسة الجوار والتوسع "أوليفر فارهيلي"، في اتصال هاتفي منذ يومين، وزير الخارجية سامح شكري، بالمستجدات الخاصة بإقرار قمة دول الاتحاد الأوروبي، التي عقدت في بروكسل، لمخصصات مالية إضافية إلى دول الجوار للاتحاد الأوروبي ومن بينها مصر، في إطار المراجعة النصفية للميزانية الأوروبية للفترة (2021 - 2027)، وما يتضمنه هذا القرار من تخصيص دعم مالي واقتصادي إضافي لمصر.
وإذا كانت الجغرافيا قد اختارت أن تكون مصر جار أوروبا المتوسطي جنوبا، وإذا كان التاريخ قد اختار أن تتلاحم حضارات مصر منذ الأزل بحضارات أوروبا، فقد جاءت تلك الجولة - بروحها الاقتصادية والثقافية والحضارية - لسفراء دول أوروبا واللقاءات والزيارات التي تمت على هامشها لتؤكد أن صفحة المستقبل سيكون عنوانها مثلما سطورها شراكة متميزة لصالح شعوب الجانبين مثلما لصالح الحضارة والإنسانية.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی السید المسیح کفر الشیخ
إقرأ أيضاً:
هل حانت ساعة أوروبا مرة أخرى؟
في عام 1991، أَكَّـدَ وزير خارجية لوكسمبورج آنذاك، جاك بوس: «إذا كان بوسع الأوروبيين حلّ مشكلة واحدة فهي المشكلة اليوغوسلافية». كان الاتحاد السوفييتي تفكك رسميا وبشكل سلمي إلى حد كبير في نهاية ذلك العام، لكن التوترات العرقية في البلقان كانت في تصاعد، وكان بوس يصر بشدة على أن أوروبا، وليس الولايات المتحدة، هي التي يجب أن تدير الأزمة المتصاعدة في يوغوسلافيا، بما أنها دولة أوروبية. وأعلن بفخر «هذه هي ساعة أوروبا». ومع ذلك، في السنوات التي تلت ذلك، عانت يوغوسلافيا من عملية تفكك دموية، وأثبتت أوروبا عجزها عن فعل أي شيء يُـذكَر حيال ذلك.
اليوم، يجري تمزيق دولة أوروبية أخرى: أوكرانيا. لذا، وحسب منطق بوس، فإن الأمر متروك لأوروبا «لإنقاذها». فهل ستثبت أوروبا كونها أكثر فعالية هذه المرة؟ يبدو أن اتهامات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب الفجة بأن أوروبا لا تعتمد على نفسها بالقدر الكافي عندما يتعلق الأمر بالأمن لا تخلو من ذرة من الحقيقة. الواقع أن لا أحد في أوروبا يتوهم أن أوروبا قادرة وحدها على حل «المشكلة» الأوكرانية؛ إذ كان من المتوقع دائما أن تضطلع الولايات المتحدة بدور قيادي. لكن هذا الواقع لا ينبغي أن يحجب مساهمات أوروبا في أوكرانيا. وفقا لمتتبع الدعم المقدم لأوكرانيا التابع لمعهد كيل، فإن أوروبا ــ بما في ذلك الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء والنرويج والمملكة المتحدة ــ تجاوزت الولايات المتحدة كمصدر رئيسي للمساعدات المقدمة لأوكرانيا، مع تخصيص نحو 125 مليار يورو (128 مليار دولار أمريكي) حتى أواخر العام الماضي، مقارنة بـنحو 88 مليار دولار من الولايات المتحدة. وشمل هذا المبلغ كل المساعدات العسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة (حوالي 60 مليار يورو). علاوة على ذلك، التزمت أوروبا بالفعل بتقديم 120 مليار يورو أخرى، على أن يتم صرفها في السنوات القليلة المقبلة، في حين أصبحت المساعدات الأمريكية في المستقبل موضع شك. عندما نضع في الاعتبار حجم اقتصادات المانحين وميزانياتهم العسكرية، نجد أن أياً من المساهمات لا يعتبر مثيرا للإعجاب. بالنسبة للولايات المتحدة - حيث يبلغ الناتج 27 تريليون دولار سنويا - لا تمثل 88 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات تقريبا سوى خطأ تقريبي، وتمثل 60 مليار دولار 7.5% من إجمالي الإنفاق العسكري الأمريكي الذي يبلغ الآن أكثر من 800 مليار دولار سنويا. ورغم أن اقتصاد أوروبا أصغر بعض الشيء، فإن إجمالي مساعداتها لأوكرانيا (بما في ذلك المساعدات المقدمة من النرويج والمملكة المتحدة) لا تزال تكلفتها تشكل أقل من 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي. المعنى الضمني واضح: الاعتبارات المالية ليست عائقا لا يمكن التغلب عليه يحول دون «إنقاذ» أوكرانيا. من الناحية السياسية أيضا، تبدو الأمور جيدة إلى حد معقول بالنسبة لأوكرانيا. فحتى مع استمرار الحرب لأكثر من ثلاث سنوات، صَـمَـد الدعم الشعبي للبلاد بدرجة كبيرة. وفي حين تضاءل حماس الأوروبيين لإرسال المساعدات لأوكرانيا، حيث فقدت رواية «ديفيد ضد جالوت»، التي أثبتت قدرتها على إثارة الحماس في أيام الحرب الأولى، تأثيرها، فإن الأغلبية الشعبية في كل بلد أوروبي تقريبا لا تزال تفضل استمرار تقديم الدعم لأوكرانيا.
يرى صناع السياسة في الاتحاد الأوروبي أن انتصار روسيا من البديهي أن يهدد وجود الاتحاد الأوروبي ذاته. وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، واضحة بشكل خاص في هذا الصدد، وقد أخذت على عاتقها قيادة ودعم مجموعة غير مسبوقة من العقوبات وغيرها من التدابير التي تهدف إلى إجبار روسيا على تغيير مسارها.
الأمر الأكثر أهمية أن معظم صناع السياسة الأوروبيين على المستوى الوطني يتشاركون القناعة بأن دعم أوكرانيا يصب في مصلحة بلدانهم. ذلك أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، الذي أعلن بوضوح ازدراءه للقيم والمعايير التي يمثلها الاتحاد الأوروبي، يخوض بالفعل حربا في الظل مع الغرب. وإذا سُمح له بالمطالبة بالأراضي الأوكرانية بالقوة، فما الذي قد يمنعه من المضي قدما في طموحه لإعادة رسم خريطة أوروبا؟ هذا الخطر لا يشغل بال جيران أوكرانيا الأقربين فحسب، بل وأيضا أولئك الذين يعتبرون أوكرانيا، مع بعض التعديل للعبارة السيئة السمعة التي جاءت على لسان نيفيل تشامبرلين، بلدا بعيدا لا يعرف الناس عنه إلا القليل. هذا التصور المشترك للتهديدات يفسر السبب وراء حرص 26 حكومة في الاتحاد الأوروبي في أواخر عام 2023 على الدفع بقرار فتح مفاوضات الانضمام مع أوكرانيا. مثل هذه الخطوة ليست في حكم الممكن، إلا بالموافقة بالإجماع، لكن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان رفض دعمها، لذلك طلب منه قادة الاتحاد الأوروبي مغادرة القاعة أثناء إجراء التصويت. سلطت هذه الحادثة الضوء على الكيفية التي قد تتسبب بها قواعد الاتحاد الأوروبي، التي تتطلب الإجماع غالبا، في إعاقة الاستجابات الفعّالة وفي الوقت المناسب للتحديات الداخلية والتهديدات الخارجية. لكنها أظهرت أيضا أن الأغلبية الساحقة، إذا كانت عاقدة العزم بالقدر الكافي، قادرة على تجنب إعاقتها من قبل منشقين من دول صغيرة. في الواقع، يدرس ائتلاف كبير من دول الاتحاد الأوروبي الآن إنشاء صندوق مشترك بقيمة 500 مليار يورو لمشاريع الدفاع خارج معاهدات الاتحاد الأوروبي، بحيث لا يخضع لحق النقض. لن يتسنى لأي قدر من الدعم الأوروبي أن يعمل كبديل كامل للثقل السياسي والعسكري الذي تتمتع به الولايات المتحدة. ولكن عندما يحاول ترامب التفاوض على «صفقة سلام» تعود بالنفع على بوتن على حساب أوكرانيا ــ يجب أن تكون أوروبا مستعدة للارتقاء إلى مستوى «ساعتها» فتعمل على تزويد أوكرانيا بالدعم السياسي والمالي الذي تحتاج إليه للحفاظ على قدرتها على المقاومة. ورغم أن أوروبا لا تستطيع أن تقرر نتيجة الحرب، فإنها قادرة على تحسين فرص أوكرانيا بدرجة كبيرة. وسوف تؤثر عزيمتها على حسابات كل من ترامب وبوتن.