يصادف اليوم الأول من فبراير ذكرى ميلاد الدكتور حسن الترابي . وكان سألني سائل عن فقه الحكم متى حلّت الإنقاذ عن سمائنا. وواضح أن وجهة الثورة هي استبدال الإنقاذ بدولة مدنية حتى لا نقول علمانية. وبدا لي أن السائل مشفق من جهة هذا الكائن المسمى “دولة مدنية”. وأراد أن يطمئن أن هذه الدولة ليست خصماً للإسلام ولا خصماً منه.

وتصادف أن كان هذا السؤال شاغلي لعقود سعيت فيها للخروج بنا من ثنائية علماني-ديني التي وقعنا مغمضي الفكر في براثنها بينما هي صناعة كشفت النقاب عن تاريخها في كتابي “الشريعة والحداثة”. وقد أعود إليها. ووجدت في اجتهادات أخيرة للترابي مادة حسنة لصقل أدوات هدمي للثنائية وتجسير ما بين أطرافها.

لو قرأت فصل الحركة الإسلامية من كتابي “بئر معطلة وقصر مشيد” سترى كيف اضطربت الحركة بمشروعها المركزي في التمكين لشرع الله الذي تؤوب به الدولة الي الدين عن طريق التراضي على دستور إسلامي، أو فرضه. وقد استبدت بها هذه الفكرة استبداداً لم تحسن به تنزيلها بلطف وسداد في الوطن. ومن أراد التوسعة عن حصاد الحركة الإسلامية المؤسف من مشروعها في تديين الدولة فليقرأ كتب الدكتور البوني في هذا الباب.

بعد هذا التيه الدستوري والعقدي المشاهد جاء الترابي بفقه في علاقة الشريعة والحكم يستحق الوقوف عنده متى أردنا تجاوز الثنائية العقيمة: دولة للشريعة أو دولة علمانية. وبدأ فقهه بإضافة “الدولة” كركن من أركان الاجتهاد في الشريعة إلى جانب مصادره الأخرى المعروفة. وكان هذا بعض أسباب تكفير الدكتور جعفر شيخ إدريس، رفيقه اللدود منذ ستينات القرن الماضي، له في التسعينات. فمؤدى اجتهاد الدولة، في رأي الترابي، في تَنَزُل الشريعة، كمصدر للتشريع، من خلال سلطة الدولة التشريعية المنتخبة مثل الجمعيات التأسيسية والبرلمانات.

أراد الترابي بجعل الدولة منصة اجتهاد لجم طبقتين من المثقفين عن التشريع كفاحاً هما صفوة الثقافة الحداثية وطبقة الفقهاء رجال الدين. وسنؤجل النظر في مآخذه على الطبقة الحداثية كمشرع. وستجده صب جام نقده على رجال الدين الذين هم في نظره فئة طرأت عليه وليست منه. فهي عنده من “أمراض التدين” الذي هو، خلافاً للدين الأصل، حصيلة كسب المسلمين التاريخي. ومن رأيه أن هذه المشيخية استلبت التشريع من الدولة ومن الأمة جمعاء وجعلته حكراً لها تقرر وحدها فيما يوافق الدين من الحادثات، وما لا يوافقه.

وسعى الترابي من الجهة النظرية إلى شكم هذه الطبقة في حركته الإسلامية وفي الدولة. فجردها من سلطات ثلاث كانت سبب وجودها وشوكتها. أولهما احتكار الفُتيا في مسائل ابتلاء المسلمين بالحداثة دون سائر المثقفين والمهنيين. وثانيهما رفعه للمذاهب (شافعية ومالكية إلخ) والنحل الإسلامية (شيعة وسنة) التي وصفها بأنها من التدين لا من الدين. وثالث السلطات هو الزعم بعصر ذهبي إسلامي مضى ولم يبق لنا سوى أن نكون سدنة نحفظ بقية الدين. فمن عقيدة الترابي أن هذا العصر الذهبي في رحم المستقبل لا في الماضي. أما من جهة الممارسة فقد سعى الترابي لكيلا تستقل المشيخة بمنظمة سلطانية قابضة. فقد وقف بقوة ضد قيام المجمع الفقهي بالخرطوم بعد قيام دولة الإنقاذ حتى لا يطرأ لأهله، من فوق هذا المنبر السلطاني، أنهم سدنة التشريعً يجترحونه غير مبالين بضروب علوم الدنيا الأخرى. ولم يقم المجمع الفقهي الكائن إلا بعد خسران الترابي في مفاصلة الحركة الإسلامية المعروفة في 1999.

لن يجد معارضو جعل الشريعة مصدراً (أساسياً أو سواه) للتشريع حجة عليها طالما اقترن تنزيلها من خلال مؤسسة التشريع في الدولة-الأمة. فمتى اتفق لهؤلاء المعارضين هذا التنزيل المؤسسي للشريعة أمنوا من خوف المباغتة. فقد جاءتنا شريعة نميري في 1983 بليل تهامس بها “رجلان وامرأة”، في قول الدكتور منصور خالد، من ناشئة القانونيين حذرهم نميري من الخوض في أمرها مع الترابي كما هو معروف. وجاءتنا في 1989 كأمر واقع لاغتصاب الحركة الإسلامية الحكم بليل أليل.

ومتى صرنا إلى تنزيل الشريعة بطرائق البرلمانية سيزول الحاجز النفسي حيالها بين العلمانيين. فهذا الإجراء سيخلي وفاض حججهم عليها. فالشريعة هي تقليدنا القانوني الذي لا مندوحة منه. وأقباس عدالتها واضحة ومشرقة كما بينت في كتابي “الشريعة والحداثة”. فمن اعترض على بعض أنماط العقوبات فيها وجب أن يتذكر أنه لم تمنع غلظة القانون الروماني من أن يكون المرجع في بلاد تعد في أقاليم النور مثل فرنسا. وقد نبه الي ذلك بصفاء مولانا المرحوم مدثر الحجاز في مذكرة له عام 1956 يلتمس من لجنة الدستور اصطحاب الشريعة في عملها.

ماذا نعني بتنزيل الشريعة برلمانياً؟ من حسن الطالع أن لنا تجربة في هذا الخصوص كان بطلها الأستاذ على محمود حسنين النائب عن منطقة دنقلا في برلمان 1968. فقد تقدم للبرلمان بمشروع قانون لمحاربة البغاء استجابة لما ثار في دوائر في المجتمع من ضيق بالبغاء العلني كأثر استعماري. ويقف هذا القانون فريداً في بابه. فمن بين كل التشريعات التي تمسحت بالشريعة كان قانون حسنين وحده الذي أجازه برلمان منتخب في قراءات عديدة. وقدم له حسنين بمذكرة تفسيرية مخدومة مهنياً بصورة لافته أراد بها تأسيس قاعدة خلقية شرعية تستبدل القانون الاستعماري الذي شرّع للمسلمين في السودان كأمة لا خِلاق لها.

فخلافاً لشرعنا لم يجرم القانون الوضعي تعاطي الرجل والمرأة الغريبين الجنس طالما وافقهما ذلك. وقال حسنين إن الانجليز في بلادهم لا يحرمون مثل هذا التعاطي للجنس الا إذا داخله ثمن مقبوض. ولم يكترث الانجليز حتى بتضمين هذا الاحتراز في قانونهم عندنا، أو انهم لم يَجِدوا في تطبيق القانون بشدة حتى ازدهرت دور البغاء. وكانت نشأت أصلاً لراحة جنود الجيش الإنجليزي. ولذا ألزموها بقيود صحية منها الكشف الصحي الدوري على البغايا لسلامة الزبائن.
ليس من بعد عرض التشريع على البرلمان، الذي السلطان فيه للشعب، وجه للاحتجاج على أي مشروع فكري ناهيك عن الإسلام. فحتى نحن الشيوعيين قررنا منذ مؤتمرنا الثالث (1956) أن يكون تنزيل الاشتراكية عن طريق البرلمان بمعني قبولنا الصبر عليها حتى تلقى تشريعاتها القبول من الأمة. ولكن خرج علينا منا من سارع إلى الحكم متأبطاً بندقية والباقي تاريخ. من جهة أخرى، ستجد الترابي التزم بمفهومه بالشريعة البرلمانية في دستور 1998 حيث عقد، بعد تقرير أن الشريعة وإجماع الأمة هي مصادر التشريع (المادة 65)، للبرلمان اختصاص التشريع بقوله “يمثل المجلس الوطني الإرادة الشعبية في التشريع والتخطيط ومراقبة التنفيذ والمحاسبة، والتعبئة الاجتماعية والسياسية العامة” (المادة 73).

لقد ترك الترابي، مهما كان الرأي فيه، مفتاحاً لتجاوز ثنائية العلماني والديني. وبقول الفلاسفة جاءنا بتركيب لتجاوز الأطروحة (الدولة الدينية) والأطروحة النقيض (الدولة العلمانية). وهذا من علم الجدل.

عبد الله علي إبراهيم

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الحرکة الإسلامیة

إقرأ أيضاً:

رئيس التواب: قانون الإجراءات الجنائية صفحة مشرقة في سجل التشريع المصري

أكد المستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، أن لحظة التصويت النهائي على مشروع قانون الإجراءات الجنائية تمثل صفحة جديدة ومشرقة في سجل التشريع المصري، مشيرًا إلى أن المجلس كسر جمودًا تشريعيًا امتد لعقود، ليضع مصر على أعتاب منظومة عدالة جنائية حديثة تواكب العصر.

وقال جبالي، خلال كلمته في الجلسة العامة، إن مشروع القانون الجديد جاء تتويجًا لجهود مضنية ونقاشات عميقة شهدتها أروقة المجلس، بمشاركة نخبة من الخبراء القانونيين الشباب في سابقة برلمانية فريدة، مؤكدًا أن مصر لا تزال زاخرة بالكفاءات والطاقات الواعدة.

وأضاف رئيس المجلس أن الإرادة السياسية القوية للرئيس عبد الفتاح السيسي كانت من بين الدوافع الأساسية لفتح هذا الملف الشائك، إيمانًا بأن دولة القانون هي أساس بناء الأوطان ونهضتها. كما وجه الشكر لرئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، ووزير العدل المستشار عدنان فنجري، ووزير الشؤون النيابية المستشار محمود فوزي، لدورهم المحوري في دعم المشروع وإنجاحه.

وخص جبالي بالشكر المستشار محمد عبد العليم، المستشار القانوني لرئيس المجلس، مشيدًا بجهوده العلمية والأخلاقية التي وصفها بأنها "مثال نادر للجدية والتجرد"، معتبرًا أن إسهامه كان من الركائز الأساسية في إخراج التشريع بصورته النهائية.

وشدد جبالي على أن هذا القانون، كغيره من نتاج البشر، قابل للتطوير والتقويم، مؤكدًا أن النواب راعوا الله في كل كلمة وحرف، ولم يكن هدفهم سوى تحقيق العدل ونصرة الحق، سائلًا المولى أن يجعل ما قدموه في ميزان حسناتهم.

طباعة شارك حنفي جبالي مجلس النواب مشروع قانون الإجراءات الجنائية الإجراءات الجنائية

مقالات مشابهة

  • أمين الفتوى: مصادر التشريع في الإسلام أربعة.. والقرآن والسنة الأصل
  • هآرتس: في ذكرى تأسيسها إسرائيل تتمزق من الداخل
  • بنكيران: النقابات مرتزقة و موخاريق باع وشرا فينا
  • بخطوات بسيطة.. إصدار شهادة ميلاد بدل مفقود من منصة أبشر
  • بكلمات مؤثرة.. هاجر الشرنوبي تحيي ذكرى ميلاد والدها
  • استراتيجية الحركة الإسلامية .. لتصفية الثورة واغتيال الدولة تحت غطاء الحرب (1-3)!!
  • أمين الإفتاء: الشريعة جعلت لـ المرأة نفقة الأقارب لحمايتها
  • وزير الشئون النيابية: قانون الإجراءات الجنائية لحظة فارقة في تاريخ التشريع المصري
  • رئيس التواب: قانون الإجراءات الجنائية صفحة مشرقة في سجل التشريع المصري
  • مي نور الشريف تحتفل بذكرى ميلاد والدها الراحل بكلمات مؤثرة