الجزيرة:
2025-01-19@12:19:25 GMT

القارة السمراء حين تنتفض على النفوذ الفَرنسي

تاريخ النشر: 3rd, February 2024 GMT

القارة السمراء حين تنتفض على النفوذ الفَرنسي

لم يشهد العالم المعاصر إبادة جماعية وتطهيرًا عرقيًا، بلغَ فيه التدمير وإزهاق الأرواح وترويع الأهالي وهدم المباني، كلَّ هذه القسوة كالذي يحدث اليوم في غزة ويتابعها العالم الحر، كما لو كان في صالة سينما، يتأثر من هول المشاهد الدموية، لكن دون أن يدفعَه الضميرُ الإنسانيُّ إلى وقف مشاهد الرعب والموت التي تبثّ على الهواء مباشرة.

لقد سيطرت غزة – بصمودها أمام طيران وبوارج ودبابات جيش الاحتلال – على الأحداث وشغلت كبريات عواصم العالم بدون منازع، فهي اليوم الحدث الذي لا يُعلى عليه.

ومع ذلك هناك عوالم كثيرة تجري على ساحاتها، أحداث كبرى شديدة الارتباط، وتدفع بقوّة نحو إعادة ترتيب المسرح الدولي الذي اختل ميزانه وزعزع استقراره؛ بسبب هيمنة الولايات المتحدة الأميركيّة على رأس النظام الدولي.

فالقارة السمراء تشهد حراكًا، يلتقي مع فلسطين في هدف التحرر والانعتاق من قبضة القوى الاستعمارية التي نهبت خيراتها وحرمت أبناءها من العيش الكريم وتركتهم فريسة للجهل والفقر والصراعات الدموية.

فبعد أن سلبها الغرب وجرّدها من كل شيء، ها هي القارة السمراء تنفض عنها غبار سنين من القهر والاستغلال، علّها تتلمس طريقها نحو العيش الكريم، بعيدًا عن حكومات وظيفية، تنكّرت لشعوبها، وربطت مصيرها بالدول الغربية التي نصبتها حارسًا على عمليات نهب وشفط خيرات قارة، ظل أبناؤها يتضورون جوعًا ويرزحون تحت سياط الفقر والحاجة، وتفتك بهم الأمراض والأوبئة، فيما خيرات وثروات بلدانهم، تنعمُ بها دول أجنبية وتستفيد منها طغمة، حاكمة وفاسدة.

ورغم الصورة السلبية التي يحتفظ بها سكان القارة الأفريقية عن الانقلابات العسكرية، لكونها لم تحمل معها، لا أمنًا ولا استقرارًا ولا عيشًا كريمًا، فإن التغيير وتنحية الأنظمة السلطوية والاستبدادية التابعة وإنهاء حكمها، تحول لدى عموم الناس إلى أمل في غدٍ أفضلَ، تسود فيه العدالة والإنصاف، رغم الوعي بوعورة الطريق والتوائها ووحشتها.

فرنسا تخسر نفوذها في القارة السمراء

ما جرى في أفريقيا من انقلابات عسكرية متتالية، أطاحت بأنظمة حليفة للغرب وتحديدًا فرنسا التي لم يصدق رئيسها إيمانويل ماكرون الأحداث المتسارعة في دول، مثل: مالي، والنيجر، وبوركينافاسو، والغابون، واصفًا الأمر بالصعب وملقيًا باللائمة على جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية (DGSE) الذي فشل في الكشف عما كان يجري وسط الجيوش من إعداد وتحضير للانقلابات، وخاصة تلك التي عصفت بالرئيس محمد بازوم، الحليف الطيع لباريس.

لم يكن سهلًا على فرنسا أن تتجرع كل هذه الخَسارات المتتالية لمستعمراتها القديمة والتي كانت مجالًا محفوظًا، تستغله دون رقيب ولا حسيب.

فالقوات الفرنسية- التي غادرت قواعدها العسكرية مرغمة، تحت وابل من الشعارات المناهضة لوجودها الذي لم يعد مرغوبًا فيه- هوى سهمها إلى الحضيض ومُرّغت كبرياؤها في وحل آلام شعوب القارة السمراء التي كانت تبيض ذهبًا للغزاة الجدد.

إن جلاء القوات العسكرية والبعثات الدبلوماسية من بعض الدول الأفريقية- كان آخره انتهاء الانسحاب العسكري الفرنسي من النيجر وإغلاق السفارة- كشف حقائق كثيرة.

فهذه القوات الأجنبية التي أقامت قواعد عسكرية في عدد من الدول؛  بحجة مكافحة الإرهاب، تبين مع الأيام أنها كانت تستفيد من وجود هذه الحركات الإرهابية وتوظفها في هز استقرار منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وذلك لتوفير الغطاء لاستمرار الحاجة إليها، لضمان أداء دورِها الحقيقي في مساعدة الشركات الكبرى وحماية نهبها مختلفَ الثروات والمعادن الثمينة التي يتم تهريبها إلى الخارج.

ففرنسا التي لا تمتلك منجمًا واحدًا للذهب على أراضيها، تُعد من بين الدول التي تحوز احتياطات هامة من المعدن الأصفر.

والحال أن الشركات الغربية والفرنسية- تحديدًا- ستواجه أزمة غير مسبوقة. فأكبر شركة لاستخراج اليورانيوم في النيجر، فرنسية.

وفرنسا وحدها تستفيد من يورانيوم هذا البلد الأفريقي بحوالي 70 % لتشغيل مفاعلاتها النووية السلمية.

الغرب مع الديمقراطية وضدها!

إن نفاق الغرب الاستعماري، لا حدود له، فهو يدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان عندما تخدم مصالحه، ويتغاضى عنها كلما كان الاستبداد والأنظمة الفاسدة تحت جُبّته وإمرته ولا تتحرك إلا تبعًا لإشاراته وتوجيهاته.

هي الصورة نفسُها التي ظهرت بها باريس، حينما سقط واحد من تابعيها الأوفياء محمد بازوم التي طالبت بعودته واحترام النظام الدستوريّ، بل وهدّدت بالتدخل العسكري دفاعًا عن "الشرعية" التي ضيعت حقوق الشعب في النيجر، وقدّمتها للغزاة لكسب رضاهم وتوفير الحماية لهم ولأسرهم التي اغتنت من عَرق ودماء الأطفال والنساء والشيوخ.

إن تجربة أفريقيا مع الانقلابات طويلة، إذ بلغَ عددها منذ نالت استقلالها الشكلي، حوالي 200 انقلاب، لم تكن كافية لإخراج أفريقيا من الحروب الأهلية والصراعات الدموية التي تركت ندوبًا غائرة في جسم قارّة، تكالبت عليها نوائب الطغاة والغزاة.

هدير الدبابات وصعوبة الانتقال إلى حكم مدني

لكن، سلسلة الانقلابات – التي شهدها العديد من الدول الأفريقية في غضون السنتين الأخيرتين – أتت في سياق خاص، ترفع فيه شعار استقلالية القرار الأفريقي عن هيمنة الدول الغربية والعودة به إلى الشرعية الشعبية كمرجعية لتأسيس انتقال حقيقي، تتداول فيه النخب المدنية السلطة بشكل سلمي وعبر انتخابات نزيهة وشفافة.

ذلك أن مبادرة الجيش لم تكن هذه المرة مفصولة ومعزولة، فالشعب اصطفّ إلى جانب الانقلابيين الذين وضعوا حدًا لنظم فاسدة والتزموا بفترات انتقالية، يتم بعدها تسليم السلطة لقوى يختارها الشعب.

كما أن القوى السياسية في عمومها لم تعترض على تحرك الجيش، بل رأت فيه مخرجًا قد يساعد على تفكيك بنيات استبدادية، وظفت المال والعطاء لشراء النخب واستقطاب الفاسدين، لإفشال كل المحاولات الرامية لكسر قيود العبودية، وتفكيك قلاع السلطوية.

إنّ التحولات التي يشهدها العديد من الدول الأفريقية، لن يتركها الغرب الاستعماري تكمل مشوارها. فهذا الغرب يمكن أن يرتكب جرائم للحفاظ على مصالحه ومواقع نفوذه.

فالتاريخ ما زال شاهدًا على فرق الموت التي جندتها الدول الغربية لاغتيال القادة الأفارقة الذين عملوا بتفانٍ لنهضة أفريقيا وتحررها من قبضة المستعمر.

فباتريس لومومبا الزعيم الكونغولي الذي كان يشكل خطرًا على الاستعمار البلجيكي، اغتيل رميًا بالرصاص هو وجماعة من رفاقه.

وكذلك توماس سانكارا زعيم بوركينافاسو الذي شكل بدوره تهديدًا حقيقيًا للوجود الاستعماري الفرنسي، فدبرت له القوات الفرنسية انقلابًا عسكريًا، انتهى بمقتله.

وفي غينيا بيساو ناهض الزعيم أميلكار كابرال الاستعمار البرتغالي، فكان مصيره الاغتيال.

هذا هو الغرب الذي يعزف على مسامع معذّبي الأرض لحن الحرية وحقوق الإنسان، وهو يخفي وجهًا بشعًا مليئًا بالرعب والقتل والتدمير. ورغم كل هذا العذاب الذي تجرعته القارة السمراء، ها هي اليوم تنتفض وتنهض من جديد.

وبفضل جيل من الشباب المتنوِّر، تستمر على درب القادة العظماء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل كرامة وحرية أفريقيا واستقلالها عن هيمنة القوى الأجنبية.

وعلى المنوال ذاته سار القادة الأفارقة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 78، حيث جاءت كلماتهم  مفزعة ومخيفة للغرب الذي بات محاصرًا بجرائمه البشعة التي ارتكبها ضد الإنسانية في عالم الجنوب.

فمن مطالبة الغرب بتعويض أفريقيا عن الأضرار الناجمة عن تجارة الرقيق إلى دعوته إلى إنهاء استغلالها ووقف نزعته العنصرية، كانت مطالبهم واضحة وجريئة.

إن أفريقيا اليوم، أمام مرحلة جديدة، قادها شباب من داخل الجيش، سماها البعض بظاهرة "السياديين الجدد".

ورغم أنه قد لا يأتي مع هدير دبابات الانقلابات خير، فإن نجاح هؤلاء في توطين قيم العدل والإنصاف في حياة الشعوب وتسليم السلطة ونقلها إلى حيث التنافس السلمي والمدني، سيمكن القارة السمراء من عبور الجسر وربح رهان الحرية والاستقلال. فهل تكون أفريقيا قد نهضت حقًا ودقّت المِسمار الأخير في نعش الابتزاز والاستغلال الغربي؟

 

 

 

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القارة السمراء

إقرأ أيضاً:

إطلاق ASG كمنصة لتشكيل مستقبل أفضل لأفريقيا

 أعلنت الكلية الأفريقية للحوكمة (Africa School of Governance) عن إطلاقها الرسمي بالعاصمة الرواندية كيجالي، يأتي هذا الحدث التاريخي مصحوبًا بفتح باب التسجيل لأول دفعة للعام الأكاديمي 2025/2026، ليجسد رؤية الكلية في تمكين قادة المستقبل والمبتكرين في مختلف المجالات على امتداد القارة.

شهد الحفل حضور شخصيات بارزة من قادة الدول، وصناع السياسات، وأكاديميين من أنحاء إفريقيا والعالم، أبرزهم الرئيس الرواندي بول كاجامي ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي مريام ديسالين، ويؤكد هذا التعاون القيادي التزام الكلية بإحداث تحول جوهري في مفاهيم القيادة والحوكمة بالقارة.

قال هايلي مريام ديسالين: "إن إطلاق الكلية الأفريقية للحوكمة يمثل نقطة تحول محورية في مسار القيادة الإفريقية، حيث تسعى الأكاديمية لتمكين الجيل القادم من القادة وإرساء أسس حوكمة مبتكرة وأخلاقية تتوافق مع تحديات القارة واحتياجاتها".

تخلل الحدث جلسة نقاشية تناولت أهمية تعليم السياسات العامة في دفع عجلة التنمية والتحول في إفريقيا، شارك في الجلسة خبراء بارزون، من بينهم: “د. دونالد كابيروكا، الرئيس السابق للبنك الأفريقي للتنمية، البروفيسور كينجسلي موجالو، رئيس الكلية الأفريقية للحوكمة، د. أجنيس كاليبانا، رئيسة تحالف الثورة الخضراء في إفريقيا”.

وأشار البروفيسور كينجسلي موجالو إلى أن الكلية تهدف إلى إلهام وإعداد قادة يتحلون بالمرونة والابتكار لتحدي العقبات الحالية ورسم مسار جديد لتنمية القارة.

أكد د. بيتر ماتيرو، ممثل مؤسسة ماستركارد، أن الكلية الأفريقية للحوكمة تتماشى مع استراتيجية "أعمال الشباب في إفريقيا" التي تستهدف تمكين 30 مليون شاب، 70% منهم نساء، من الحصول على وظائف مجزية بحلول عام 2030. وتأتي هذه الشراكة كجزء من التزام المؤسسة بتعزيز فرص التعليم والقيادة للشباب الأفريقي.

تقدم الكلية برامج متطورة تشمل ماجستير الإدارة العامة (MPA) وماجستير الإدارة العامة التنفيذي (EMPA)، وتستهدف تسجيل أكثر من 100 طالب وطالبة في السنة الأولى. وتهدف المناهج إلى دمج المعايير الأكاديمية العالمية مع السياق الإفريقي لتخريج قادة مؤهلين لقيادة التغيير في مختلف القطاعات.

تطمح الكلية الأفريقية للحوكمة إلى تخريج 1000 طالب خلال خمس سنوات، ليصبحوا سفراء للتغيير في مجتمعاتهم ويسهموا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) عبر إفريقيا.

من خلال تركيزها على التطبيقات العملية والابتكار، تمثل الكلية الأفريقية للحوكمة منصة ريادية لإعداد قادة قادرين على مواجهة التحديات وتحقيق التنمية المستدامة. ويجسد إطلاقها بداية عهد جديد من الحوكمة الرشيدة والقيادة التحويلية في إفريقيا.

مقالات مشابهة

  • على درب واشنطن.. دولة أوروبية تطالب بحظر "تيك توك" في القارة العجوز
  • تشريع بايدن للذكاء الاصطناعي يرسم حدود النفوذ الاقتصادي
  • مصر تنتفض لاستقبال الأشقاء من غزة.. غرفة عمليات ووزير الصحة على رأس فريق إلى شمال سيناء ومعبر رفح
  • فشل الغرب في الحرب التي شغلت العالم
  • الوجود الإماراتي في اليمن ..مهام تجسسية لصالح الكيان ونشاط تخريبي لتعزيز النفوذ
  • لقاء يجمع وزراء خارجية مصر والسنغال ونيجيريا
  • بمناسبة مرور 65 عاماً على تدشين العلاقات الدبلوماسية.. ماذا دار على طاولة النقاش بين مصر والسنغال؟
  • إطلاق ASG كمنصة لتشكيل مستقبل أفضل لأفريقيا
  • نصيحة أبوية من الملك سلمان خلال برنامج عطاء الطلبة في 2004 ..فيديو
  • درس غزة المنتصرة