الجزيرة:
2024-09-19@02:51:30 GMT

القارة السمراء حين تنتفض على النفوذ الفَرنسي

تاريخ النشر: 3rd, February 2024 GMT

القارة السمراء حين تنتفض على النفوذ الفَرنسي

لم يشهد العالم المعاصر إبادة جماعية وتطهيرًا عرقيًا، بلغَ فيه التدمير وإزهاق الأرواح وترويع الأهالي وهدم المباني، كلَّ هذه القسوة كالذي يحدث اليوم في غزة ويتابعها العالم الحر، كما لو كان في صالة سينما، يتأثر من هول المشاهد الدموية، لكن دون أن يدفعَه الضميرُ الإنسانيُّ إلى وقف مشاهد الرعب والموت التي تبثّ على الهواء مباشرة.

لقد سيطرت غزة – بصمودها أمام طيران وبوارج ودبابات جيش الاحتلال – على الأحداث وشغلت كبريات عواصم العالم بدون منازع، فهي اليوم الحدث الذي لا يُعلى عليه.

ومع ذلك هناك عوالم كثيرة تجري على ساحاتها، أحداث كبرى شديدة الارتباط، وتدفع بقوّة نحو إعادة ترتيب المسرح الدولي الذي اختل ميزانه وزعزع استقراره؛ بسبب هيمنة الولايات المتحدة الأميركيّة على رأس النظام الدولي.

فالقارة السمراء تشهد حراكًا، يلتقي مع فلسطين في هدف التحرر والانعتاق من قبضة القوى الاستعمارية التي نهبت خيراتها وحرمت أبناءها من العيش الكريم وتركتهم فريسة للجهل والفقر والصراعات الدموية.

فبعد أن سلبها الغرب وجرّدها من كل شيء، ها هي القارة السمراء تنفض عنها غبار سنين من القهر والاستغلال، علّها تتلمس طريقها نحو العيش الكريم، بعيدًا عن حكومات وظيفية، تنكّرت لشعوبها، وربطت مصيرها بالدول الغربية التي نصبتها حارسًا على عمليات نهب وشفط خيرات قارة، ظل أبناؤها يتضورون جوعًا ويرزحون تحت سياط الفقر والحاجة، وتفتك بهم الأمراض والأوبئة، فيما خيرات وثروات بلدانهم، تنعمُ بها دول أجنبية وتستفيد منها طغمة، حاكمة وفاسدة.

ورغم الصورة السلبية التي يحتفظ بها سكان القارة الأفريقية عن الانقلابات العسكرية، لكونها لم تحمل معها، لا أمنًا ولا استقرارًا ولا عيشًا كريمًا، فإن التغيير وتنحية الأنظمة السلطوية والاستبدادية التابعة وإنهاء حكمها، تحول لدى عموم الناس إلى أمل في غدٍ أفضلَ، تسود فيه العدالة والإنصاف، رغم الوعي بوعورة الطريق والتوائها ووحشتها.

فرنسا تخسر نفوذها في القارة السمراء

ما جرى في أفريقيا من انقلابات عسكرية متتالية، أطاحت بأنظمة حليفة للغرب وتحديدًا فرنسا التي لم يصدق رئيسها إيمانويل ماكرون الأحداث المتسارعة في دول، مثل: مالي، والنيجر، وبوركينافاسو، والغابون، واصفًا الأمر بالصعب وملقيًا باللائمة على جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية (DGSE) الذي فشل في الكشف عما كان يجري وسط الجيوش من إعداد وتحضير للانقلابات، وخاصة تلك التي عصفت بالرئيس محمد بازوم، الحليف الطيع لباريس.

لم يكن سهلًا على فرنسا أن تتجرع كل هذه الخَسارات المتتالية لمستعمراتها القديمة والتي كانت مجالًا محفوظًا، تستغله دون رقيب ولا حسيب.

فالقوات الفرنسية- التي غادرت قواعدها العسكرية مرغمة، تحت وابل من الشعارات المناهضة لوجودها الذي لم يعد مرغوبًا فيه- هوى سهمها إلى الحضيض ومُرّغت كبرياؤها في وحل آلام شعوب القارة السمراء التي كانت تبيض ذهبًا للغزاة الجدد.

إن جلاء القوات العسكرية والبعثات الدبلوماسية من بعض الدول الأفريقية- كان آخره انتهاء الانسحاب العسكري الفرنسي من النيجر وإغلاق السفارة- كشف حقائق كثيرة.

فهذه القوات الأجنبية التي أقامت قواعد عسكرية في عدد من الدول؛  بحجة مكافحة الإرهاب، تبين مع الأيام أنها كانت تستفيد من وجود هذه الحركات الإرهابية وتوظفها في هز استقرار منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وذلك لتوفير الغطاء لاستمرار الحاجة إليها، لضمان أداء دورِها الحقيقي في مساعدة الشركات الكبرى وحماية نهبها مختلفَ الثروات والمعادن الثمينة التي يتم تهريبها إلى الخارج.

ففرنسا التي لا تمتلك منجمًا واحدًا للذهب على أراضيها، تُعد من بين الدول التي تحوز احتياطات هامة من المعدن الأصفر.

والحال أن الشركات الغربية والفرنسية- تحديدًا- ستواجه أزمة غير مسبوقة. فأكبر شركة لاستخراج اليورانيوم في النيجر، فرنسية.

وفرنسا وحدها تستفيد من يورانيوم هذا البلد الأفريقي بحوالي 70 % لتشغيل مفاعلاتها النووية السلمية.

الغرب مع الديمقراطية وضدها!

إن نفاق الغرب الاستعماري، لا حدود له، فهو يدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان عندما تخدم مصالحه، ويتغاضى عنها كلما كان الاستبداد والأنظمة الفاسدة تحت جُبّته وإمرته ولا تتحرك إلا تبعًا لإشاراته وتوجيهاته.

هي الصورة نفسُها التي ظهرت بها باريس، حينما سقط واحد من تابعيها الأوفياء محمد بازوم التي طالبت بعودته واحترام النظام الدستوريّ، بل وهدّدت بالتدخل العسكري دفاعًا عن "الشرعية" التي ضيعت حقوق الشعب في النيجر، وقدّمتها للغزاة لكسب رضاهم وتوفير الحماية لهم ولأسرهم التي اغتنت من عَرق ودماء الأطفال والنساء والشيوخ.

إن تجربة أفريقيا مع الانقلابات طويلة، إذ بلغَ عددها منذ نالت استقلالها الشكلي، حوالي 200 انقلاب، لم تكن كافية لإخراج أفريقيا من الحروب الأهلية والصراعات الدموية التي تركت ندوبًا غائرة في جسم قارّة، تكالبت عليها نوائب الطغاة والغزاة.

هدير الدبابات وصعوبة الانتقال إلى حكم مدني

لكن، سلسلة الانقلابات – التي شهدها العديد من الدول الأفريقية في غضون السنتين الأخيرتين – أتت في سياق خاص، ترفع فيه شعار استقلالية القرار الأفريقي عن هيمنة الدول الغربية والعودة به إلى الشرعية الشعبية كمرجعية لتأسيس انتقال حقيقي، تتداول فيه النخب المدنية السلطة بشكل سلمي وعبر انتخابات نزيهة وشفافة.

ذلك أن مبادرة الجيش لم تكن هذه المرة مفصولة ومعزولة، فالشعب اصطفّ إلى جانب الانقلابيين الذين وضعوا حدًا لنظم فاسدة والتزموا بفترات انتقالية، يتم بعدها تسليم السلطة لقوى يختارها الشعب.

كما أن القوى السياسية في عمومها لم تعترض على تحرك الجيش، بل رأت فيه مخرجًا قد يساعد على تفكيك بنيات استبدادية، وظفت المال والعطاء لشراء النخب واستقطاب الفاسدين، لإفشال كل المحاولات الرامية لكسر قيود العبودية، وتفكيك قلاع السلطوية.

إنّ التحولات التي يشهدها العديد من الدول الأفريقية، لن يتركها الغرب الاستعماري تكمل مشوارها. فهذا الغرب يمكن أن يرتكب جرائم للحفاظ على مصالحه ومواقع نفوذه.

فالتاريخ ما زال شاهدًا على فرق الموت التي جندتها الدول الغربية لاغتيال القادة الأفارقة الذين عملوا بتفانٍ لنهضة أفريقيا وتحررها من قبضة المستعمر.

فباتريس لومومبا الزعيم الكونغولي الذي كان يشكل خطرًا على الاستعمار البلجيكي، اغتيل رميًا بالرصاص هو وجماعة من رفاقه.

وكذلك توماس سانكارا زعيم بوركينافاسو الذي شكل بدوره تهديدًا حقيقيًا للوجود الاستعماري الفرنسي، فدبرت له القوات الفرنسية انقلابًا عسكريًا، انتهى بمقتله.

وفي غينيا بيساو ناهض الزعيم أميلكار كابرال الاستعمار البرتغالي، فكان مصيره الاغتيال.

هذا هو الغرب الذي يعزف على مسامع معذّبي الأرض لحن الحرية وحقوق الإنسان، وهو يخفي وجهًا بشعًا مليئًا بالرعب والقتل والتدمير. ورغم كل هذا العذاب الذي تجرعته القارة السمراء، ها هي اليوم تنتفض وتنهض من جديد.

وبفضل جيل من الشباب المتنوِّر، تستمر على درب القادة العظماء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل كرامة وحرية أفريقيا واستقلالها عن هيمنة القوى الأجنبية.

وعلى المنوال ذاته سار القادة الأفارقة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 78، حيث جاءت كلماتهم  مفزعة ومخيفة للغرب الذي بات محاصرًا بجرائمه البشعة التي ارتكبها ضد الإنسانية في عالم الجنوب.

فمن مطالبة الغرب بتعويض أفريقيا عن الأضرار الناجمة عن تجارة الرقيق إلى دعوته إلى إنهاء استغلالها ووقف نزعته العنصرية، كانت مطالبهم واضحة وجريئة.

إن أفريقيا اليوم، أمام مرحلة جديدة، قادها شباب من داخل الجيش، سماها البعض بظاهرة "السياديين الجدد".

ورغم أنه قد لا يأتي مع هدير دبابات الانقلابات خير، فإن نجاح هؤلاء في توطين قيم العدل والإنصاف في حياة الشعوب وتسليم السلطة ونقلها إلى حيث التنافس السلمي والمدني، سيمكن القارة السمراء من عبور الجسر وربح رهان الحرية والاستقلال. فهل تكون أفريقيا قد نهضت حقًا ودقّت المِسمار الأخير في نعش الابتزاز والاستغلال الغربي؟

 

 

 

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القارة السمراء

إقرأ أيضاً:

القارة والأرخبيل:أسباب توقيع أستراليا وإندونيسيا على اتفاقية تعاون دفاعي جديدة

 

بعد مرور 75 عاماً على نشأة العلاقات الدبلوماسية بين أستراليا وإندونيسيا، وقَّعت الدولتان يوم 28 أغسطس 2024، اتفاقية جديدة للتعاون الدفاعي، أثناء زيارة وزير الدفاع الأسترالي ريتشارد مارليس إلى جاكرتا، وذلك عقب أسبوع واحد من زيارة وزير الدفاع الإندونيسي والرئيس المُنتخَب برابوو سوبيانتو، كانبيرا، ولقائه مع رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز.

وعلى الرغم من أن الجانبين لم يفصحا بَعْد عن تفاصيل محددة حول الاتفاقية، فقد أشار مارليس إلى أن الاتفاقية سوف تسهل إجراء التدريبات العسكرية المُشترَكَة والتشغيل البيني بين القوات الدفاعية للبلدين، وتعزز التعاون في مجال الأمن البحري بين دولتين تشتركان في واحدة من أطول الحدود البحرية في العالم. كما صرح ألبانيز أن أستراليا وإندونيسيا وقعتا على اتفاقية جديدة من شأنها تعزيز تعاونهما الأمني في منطقة متوترة ومقيدة بشكل متزايد، ربما في إشارة ضمنية إلى الصين وتحركاتها في بحر الصين الجنوبي.

أما سوبيانتو، فقد وصف توقيع هذه الاتفاقية بالحدث التاريخي، لكنه ركز على أنها ليست تحالفاً عسكرياً بين الدولتين، وأن هدفها تعزيز التعاون لمساعدة كل طرف على التغلب على التهديدات الأمنية المختلفة وتعزيز السلام والاستقرار المستدامين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

دوافع الدولتين لتوقيع الاتفاقية:

تستند هذه الاتفاقية الدفاعية الجديدة إلى العلاقة الطويلة الأمد والمتطورة بين إندونيسيا وأستراليا، والتي تشكلت من خلال القرب الجغرافي والمصالح المتبادلة في تحقيق الاستقرار الإقليمي؛ ومن أبرز دوافع الجانبين لتوقيع هذه الاتفاقية ما يلي:

1 – تعزيز علاقات التعاون الدفاعي والأمني المُشتَرَك: تاريخياً، تضمنت علاقات الدفاع بين إندونيسيا وأستراليا التعاون في الأمن البحري ومكافحة الإرهاب، والاستقرار الإقليمي، وذلك منذ يونيو 1994 حينما اقترح رئيس الوزراء الأسترالي حينها، بول كيتنغ، إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات الدفاعية بين الدولتين أثناء زيارته لجاكرتا، وفي 18 ديسمبر 1995، وقعت الدولتان اتفاقية أمنية مُشترَكَة هي الأولي بين الجارتين، وأول اتفاقية من نوعها تُوقِّعُها إندونيسيا مع أي دولة أخرى.

وقد وضعت اتفاقية لومبوك (نسبةً إلى مكان توقيع المعاهدة في إندونيسيا) المُوقَّعة في عام 2006، والتي دخلت حيز التنفيذ في فبراير 2008، أطُر التعاون بين الدولتين للتعامل مع التحديات الأمنية التقليدية وغير التقليدية، واتفاقية التعاون الدفاعي لعام 2012؛ الأساس لتعاون أمني أعمق بين الدولتين، خاصةً في مجال الاستجابة للتهديدات الأمنية غير التقليدية بما في ذلك الاتجار بالبشر وتهريب المخدرات، كما كثف خفر السواحل الإندونيسي وقوات الحدود الأسترالية تعاونهما في قطاع الأمن والسلامة البحرية. وفي المجالات الأخرى تحسنت العلاقات بين الدولتين منذ تولي الرئيس جوكو ويدودو، رئاسة إندونيسيا في عام 2014، ودخلت اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بينهما حيز التنفيذ منذ عام 2020.

وعلى الصعيد العسكري، تشارك أستراليا، منذ عام 2022، إلى جانب اليابان وسنغافورة، في التدريبات القتالية السنوية المُشترَكَة بين إندونيسيا والولايات المتحدة، والتي تسمىSuper Garuda Shield. كما أجرت القوات الجوية الملكية الأسترالية والقوات الجوية الإندونيسية تدريبات مراقبة بحرية مُشترَكَة في بالي، في مايو 2024، في أعقاب مهمة تدريب على القتال الجوي في شمال سولاويزي، في سبتمبر 2023. وعلاوة على ذلك، منحت أستراليا مؤخراً 15 مركبة قتالية من طراز Bushmaster Protected Mobility Vehicles؛ لدعم مشاركة إندونيسيا في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

2- تصاعُد التحركات الصينية في بحر الصين الجنوبي: يشهد بحر الصين الجنوبي منافسة جيوسياسية شديدة بسبب المطالبات الإقليمية المتداخلة والمصالح الاستراتيجية المتناقضة؛ إذ أدت المطالبات الإقليمية الحازمة للصين وعسكرة الجزر الاصطناعية إلى زيادة التوترات مع دول جنوب شرق آسيا. وكثيراً ما يرى القادة الأستراليون في العلاقات الأمنية الوثيقة مع إندونيسيا موازنة فعالة للنفوذ الصيني المتزايد في آسيا، ولاسيما بين أولئك الذين يشككون في موثوقية الولايات المتحدة على المدى الطويل كشريك أمني؛ فالموقع الاستراتيجي لإندونيسيا في المحيط الهندي والمحيط الهادئ الذي يغطي الجزء الشمالي من أستراليا، ومرور أكثر من 60% من صادرات أستراليا عبرها، يجعلها واحدة من أهم الجيران لأستراليا.

وبالنسبة لإندونيسيا؛ فإنها تُدرِج أستراليا كدولة ذات “أولوية أولى”، وتصنفها كشريك استراتيجي شامل بموجب مخطط الدبلوماسية العسكرية الإندونيسية 2019-2024؛ ولذا تُعزِّز الاتفاقية الجديدة مع أستراليا موقف إندونيسيا الاستراتيجي في ظل المطالبات الإقليمية المتداخلة في بحر الصين الجنوبي. ووفقاً لمسح حالة جنوب شرق آسيا لعام 2024، لا يزال ما يقرب من 57% من الإندونيسيين حذرين بشأن النفوذ الإقليمي للصين؛ بسبب النزاعات البحرية الثنائية في بحر ناتونا الشمالي، والتوترات في بحر الصين الجنوبي الأوسع، والشكوك التاريخية في التدخل الصيني في السياسة الإندونيسية.

3- وصول برابوو سوبيانتو إلى الرئاسة: مع انتخاب الرئيس الإندونيسي الجديد، سوبيانتو، في فبراير 2024، يبدو أن كانبيرا ترى فرصة لتعزيز العلاقات مع جاكرتا؛ فقد اتخذ سوبيانتو في الماضي موقفاً أكثر ليونة مقارنة بكثير من القادة الإندونيسيين الآخرين تجاه قرارات السياسة الخارجية الأسترالية المثيرة للجدل مثل المشاركة في اتفاق “أوكوس” مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، كما أن خلفيته العسكرية وقوميته القوية تجعله ميالاً إلى الدبلوماسية الدفاعية.

وعلى الرغم من أن سوبيانتو لم يتولَّ منصبه رسمياً بَعْد؛ فإن تصريحاته السابقة وميوله السياسية تشير إلى تركيزه القوي على تعزيز القدرات العسكرية لإندونيسيا وتأكيد مصالحها الاستراتيجية؛ فخلال الأشهر الثمانية عشر الأولى من توليه منصب وزير الدفاع، أجرى عشرين زيارة خارجية إلى 14 دولة في محاولة لصياغة خطة مشتريات دفاعية لمدة 25 عاماً. وفي حين ركز سلفه رياميزارد رياكودو، على المخاوف الأمنية الداخلية مثل: الإرهاب والقرصنة، حوَّل سوبيانتو التركيز نحو زيادة الإنفاق العسكري وتعزيز القدرات الدفاعية الخارجية لإندونيسيا وتوثيق التعاون الأمني مع دول الجوار.

تحديات تواجه الاتفاقية:

رغم أن إندونيسيا، وهي دولة أرخبيلية شاسعة يبلغ عدد سكانها أكثر من 270 مليون نسمة، وثالث أكبر ديمقراطية في العالم، غالباً ما يتم تقديمها على أنها واحدة من أهم جيران أستراليا وحلفائها الاستراتيجيين؛ فإن العلاقة بين الدولتين لم تكن سلسة دائماً؛ وهو ما قد يضع بعض التحديات أمام تطوير العلاقات الدفاعية بين الدولتين، ومن أهمها:

1 – تاريخ مضطرب للعلاقات بين أستراليا وإندونيسيا: وقَّعت أستراليا وإندونيسيا معاهدات أمنية سابقة؛ ففي عام 1995، أبرم الرئيس الإندونيسي سوهارتو، ورئيس الوزراء الأسترالي بول كيتنغ ميثاق سوهارتو-كيتنغ، لكن جاكرتا ألغت الاتفاقية في سبتمبر 1999؛ بسبب ما اعتبرته تورُطاً أسترالياً في أزمة تيمور الشرقية. كذلك تم توقيع اتفاقيات أمنية جديدة في عامي 2006 و2012، لكن قامت إندونيسيا بتعليق العمل بها عَقِبَ الكشف في عام 2013 عن تنصُّت أستراليا على هاتف الرئيس الإندونيسي آنذاك سوسيلو بامبانغ يودويونو، وزوجته ومسؤولين كبار آخرين.

وعندما جرى إعلان اتفاق “أوكوس”، في سبتمبر 2021، أصدرت وزارة الخارجية الإندونيسية بياناً يُشكِّك في الاتفاق ويُعرِب عن مخاوف بشأن أهدافه؛ واعتبر البيان أن استخدام أستراليا وتطويرها للتكنولوجيا النووية قد يكون له تأثير سلبي مباشر في إندونيسيا ودول أخرى في المنطقة؛ من خلال تلويث النظم البيئية البحرية. ومهما كان رأي سوبيانتو في اتفاق “أوكوس”؛ فإنه سوف يستمر في إثارة حفيظة العديد من النخب الأمنية والسياسية الخارجية في جاكرتا.

2 – التزام إندونيسيا بسياسة الحياد: تشير الاتفاقية الجديدة إلى قوة العلاقات حالياً بين أستراليا وإندونيسيا، في ظل تقارب التصورات الاستراتيجية للجانبين، ولاسيما فيما يتعلق بالتحولات الجيوسياسية المتزايدة الناجمة عن صعود الصين وطموحها الإقليمي والدولي. ورغم ذلك تفسر الدولتان هذا الصعود الصيني بطرق مختلفة تماماً؛ فبينما تؤكد أستراليا تحالفها مع الولايات المتحدة لمواجهة الصين؛ تتمسك إندونيسيا بالسياسة الخارجية المستقلة وغير المنحازة التي تعتمدها منذ الاستقلال.

وعلى الرغم من أن سوبيانتو أشاد بالاتفاقية الجديدة خلال زيارته لأستراليا في 20 أغسطس 2024 باعتبارها تطوراً كبيراً لكلتا الدولتين؛ فإنه حرص في الوقت ذاته على تأكيد أن هذه الاتفاقية لن تعرض حياد إندونيسيا التقليدي للخطر. ويشير لتلك الحقيقة قيامه بزيارة الصين بَعْد فوزه في الانتخابات الرئاسية، في أوائل شهر إبريل 2024؛ بل إنه صرح أنه اختار الصين لتكون أولى محطات زياراته الخارجية؛ نظراً لأنها شريك أساسي لإندونيسيا، مؤكداً عزمه على الاستمرار في سياسة الرئيس السابق ويدودو، وأن الحكومة الجديدة ستدعم التعاون بين الدولتين؛ خاصةً وأن الصين هي الشريك التجاري الأكبر لإندونيسيا خلال السنوات العشر الماضية، مع ارتفاع قيمة التعامل التجاري بينهما من 68 مليار دولار في عام 2013 إلى 149 مليار دولار في عام 2022. كما التقى سوبيانتو خلال هذه الزيارة مع وزير الخارجية الصيني، وانغ يي؛ لمناقشة التبادلات العسكرية واستئناف التدريبات المُشترَكَة التي توقفت بين الدولتين في عام 2015؛ بسبب النزاع حول بحر ناتونا الشمالي.

أيضاً، قام سوبيانتو، في مطلع شهر أغسطس 2024، بزيارة روسيا، التي تُعد شريكاً مهماً لإندونيسيا في مجال المشتريات الدفاعية؛ وهو ما يؤكد –إلى جانب قرار عودة التدريبات العسكرية المشتركة مع الصين– أن إندونيسيا لا تنحاز إلى الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ حتى الآن، بما في ذلك أستراليا.

3 – هواجس ثنائية مُتبادَلَة: لا تزال هناك شكوك قائمة بين النخبة السياسية في إندونيسيا بشأن النيات الأسترالية؛ إذ كانت النزاعات الحدودية البحرية سمة أساسية للعلاقات بين الدولتين خلال الجزء الأخير من ثمانينيات القرن العشرين. ورغم توقيع الترتيبات البحرية المحددة في بحر تيمور في عام 2006؛ فإنه لم يتم تحديد حدود دائمة حتى اليوم. وما زال إندونيسيون كثيرون يتذكرون تدخُّل أستراليا في تيمور الشرقية في عام 1999، وموقفها من دعم الحركة الانفصالية في بابوا غينيا. ويقول مسؤولون في إندونيسيا إن جارتهم لديها تاريخ “طويل” فيما يخص منع قوارب طالبي اللجوء من الوصول إلى سواحلها وإعادتهم مرة أخرى إلى إندونيسيا.

في المقابل، هناك شكوك وهواجس أسترالية بشأن شخصية الرئيس الإندونيسي الجديد، خصوصاً دوره في تيمور الشرقية حينما كان جنرالاً في القوات الخاصة للجيش الإندونيسي “كوباسوس”، وربما يتفاعل سوبيانتو بشكل سلبي مع أي انتقادات إعلامية أسترالية قد تُوجَّه إليه، بما قد يؤثر في علاقات الدولتين.

4 – مخاوف إقليمية متزايدة: تمتد تداعيات هذه الاتفاقية إلى ما هو أبعد من العلاقات الثنائية؛ إذ تؤثر في المشهد الجيوسياسي الأوسع؛ فمن المُرجَّح أن تنظر الصين إلى العلاقات الدفاعية القوية بين إندونيسيا وأستراليا بقلق؛ إذ تعتبرها جزءاً من استراتيجية غربية لمواجهة نفوذها. وقد يؤدي هذا التصور إلى تصعيد التوترات وإعادة تقييم نهج الصين تجاه بحر الصين الجنوبي؛ مما قد يؤدي إلى تصعيد الصراعات الإقليمية. وعلى النقيض، من المُتوقَّع أن تنظر الولايات المتحدة إلى الاتفاقية بشكل إيجابي؛ لأنها تتماشى مع مصالحها الاستراتيجية في الحفاظ على منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة.

ختاماً، يُمكِن القول إن اتفاقية الدفاع الجديدة بين إندونيسيا وأستراليا تُشكِّل تقدماً كبيراً في علاقتهما الثنائية مع عواقب بعيدة المدى على الأمن الإقليمي. وبالنسبة لكلتا الدولتين، فهي وإن كانت تعزز تعاونهما العسكري، الذي قد يُنظَر إليه في سياق أشمل هو بناء تحالفات أمنية جديدة للدول الحليفة للولايات المتحدة داخل قارة آسيا، إلا أنها تفرض أيضاً مخاطر تتعلق بالتوترات الإقليمية المُحتمَلَة والإجراءات المضادة من جانب الصين؛ ولهذا فإن أحد التحديات التي تواجه رئيس إندونيسيا الجديد، برابوو سوبيانتو؛ يتمثل في تحقيق التوازن بين تعزيز القدرات الدفاعية وإدارة العلاقات الاقتصادية مع الصين.

 

 


مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية المصري: حماس تؤكد لنا التزامها الكامل باقتراح وقف إطلاق النار الذي توصلنا إليه في 27 مايو والتعديلات التي أجريت عليه في 2 يوليو
  • الخارجية : إن الجمهورية العربية السورية، التي عانت على مدى ال ۱۳ سنة الماضية، من حرب كونية هدفت لتدمير دولتها وكسر إرادة شعبها بذريعة ادعاء الغرب الكاذب بحماية الديمقراطية وتعزيزها من خلال ممارساته الإرهابية المماثلة لتلك التي مارسها الصندوق الوطني للديمق
  • ترامب: لا يجب أن يكون لدينا عداوة مع الدول التي تمتلك أسلحة نووية
  • القارة والأرخبيل:أسباب توقيع أستراليا وإندونيسيا على اتفاقية تعاون دفاعي جديدة
  • تقرير يسلط الضوء على النفوذ المغربي بغرب إفريقيا..أبعاد استراتيجية تتجاوز الحدود التقليدية
  • شولتس وماكرون في القائمة: من هم القادة الأوروبيون الأقل شعبية في القارة العجوز؟
  • الرئيس التنفيذي لمؤسسة “غيتس”: الإمارات شريك رائد في مواجهة الأمراض التي تهدد المجتمعات
  • بعيو: مصراتة تنتفض ضد الثلاثي الدبيباتي الذي حكم فأفسد
  • تطورات جدري القرود بالقارة السمراء.. نقص الاختبارات يدق ناقوس الخطر
  • ساكنة المحمدية تنتفض ضد آيت منا وتندد بالوضع الكارثي للمدينة