لجريدة عمان:
2024-07-06@11:59:42 GMT

جرائم لا تسقط بالتقادم

تاريخ النشر: 3rd, February 2024 GMT

قرأت مند ثمانينيات القرن الماضي كتاب المؤرخ اللبناني أسد رستم (١٨٧٩-١٩٦٥)، (تاريخ بلاد الشام)، وهو من أهم الكتب التي تناولت تاريخ الشام، وخصوصا في ظل تبعيتها لمصر في عهد محمد علي، وقد توقفت كثيرا عند قضية خطيرة أوردها المؤرخ في هذا الكتاب، حينما روى أحداث قصة غريبة وثق كل وقائعها من خلال سجلات المحاكم الشرعية في القاهرة وحلب ودمشق (١٩٢٧)، وقعت هذه الأحداث في ٦ أبريل ١٨٤٠، عندما تخلف (الأب توما الكبوشي)، راعي الكنيسة الكاثوليكية في دمشق عن حضور مأدبة عشاء في الحي المسيحي، وراح أصدقاؤه ورجال الكنيسة يبحثون عنه لكن دون جدوى، ثم ذهب خادمه (إبراهيم) بعد أن شعر بالقلق على سيده للبحث عنه، وراح يسأل في كل الأماكن التي كان يرتادها الأب توما، ومن بينها حارة اليهود التي اعتاد الرجل التردد عليها لعلاج سكانها وتقديم الأدوية لهم، فقد كان مشهورا بخبرته في الطب، وخصوصا طب الأطفال، إلا أن الخادم (إبراهيم) اختفى هو الآخر عقب دخوله حارة اليهود.

كتب الوالي المصري على دمشق (شريف باشا) رسالة إلى محمد علي، يخبره فيها باختفاء الأب توما وخادمه عقب دخولهما حارة اليهود، وجه الوالي المصري نحو مزيد من البحث ومعرفة ظروف اختفاء الأب توما، الذي كان محمد علي يعرفه معرفة شخصية، وقد سبق أن استدعاه من دمشق لعلاج أحد أبنائه (طوسون)، بعدها أصبح موضوع اختفاء توما حديث مدينة دمشق كلها، وراح رجال الشرطة يستجوبون كل من رأى الأب وخادمه آخر مرة، وقد تبين من شهادة الشهود أن الأب دخل حارة اليهود ولم يره أحد بعدها، ثم ذهب خادمه إبراهيم للبحث عنه ودخل نفس الحارة ثم اختفى هو الآخر. وقد أثار هذا الموضوع عناية القنصل الفرنسي، بحكم أن الرجل كان راعيا للكنيسة الكاثوليكية، وهي تابعة للكنيسة الفرنسية في باريس، والأب توما نفسه كان من رعايا فرنسا.

راحت السلطات تستدعي وجهاء اليهود، ورصدت مكافأة مالية لكل من يدلي بمعلومات مفيدة عن سر اختفاء الرجلين، وقد تبين من شهادات الشهود ضلوع اليهود في قتل الرجلين! وراحت المراسلات بين محمد علي والوالي المصري على بلاد الشام (شريف باشا) تشير إلى ضلوع حاخامات اليهود في قتل الرجلين، بعد أن عُثر على بقايا عظامهما وقد وزعت على مجاري دمشق، راحت الشرطة تجمع مزيدا من المعلومات وقد تبين للمحققين أن الرجلين قد ذبحا وصُفيت دماؤهما في إناء كبير صنع منه الحاخام اليهودي ما يسمى بفطائر (الفصح اليهودي) وفقا لطقوس دينية بغرض صناعة خبز من دم الأغيار! وقد اعترف المتهمون بالجريمة بكل تفاصيلها وفقا لمحاضر التحقيق التي تلقاها محمد علي من واليه على دمشق، بعد أن ثبت ضلوع الحاخام ورجاله في القضية، عندما كان الأب توما يزور أحد مرضاه في حارة اليهود، وبينما هو عائد التقى بصديقه (داود هراري) وعمه وشخصين آخرين، وقد دعاه إلى منزله، بعدها هجم عليه الجميع وقيدوه من قدميه ووضعوا منديلا على فمه، ثم استدعوا حلاقا يهوديا (سليمان) وأمره هراري بذبح القسيس، فتردد الرجل، فما كان من داود هراري إلا أن أخذ السكين ونحر الضحية بنفسه، ثم أقدم شقيقه هارون على مساعدته وأجهزا على الرجل، وأسكبوا دمه في وعاء سلموه إلى الحاخام (يعقوب العنتابي)، لكي يصنع منه الفطير بمناسبة عيد (البوريم)، الذي كان يصادف يوم ١٤ فبراير .

أثارت هذه القضية اهتمام العالم، ولا تزال حتى اليوم موضع عناية المؤرخين والباحثين، وقد سجل وقائعها المؤرخ (أسد رستم) سواء ما سجلته وثائق المحاكم الشرعية أو ما ورد في رسائل الوالي المصري في الشام إلى محمد علي، بعدها وردت هذه الأحداث في كتب كثيرة، لعل من بينها ما كتبه وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس (١٩٨٦) في كتابه بعنوان (فطير صهيون) وقد أثار هذا الكتاب حفيظة زعماء اليهود في العالم، إلا أن كثيرا من المؤرخين الأجانب تناولوا هذا الموضوع باستفاضة، رغم أن الكثير من الدول الأوروبية قد حاولت نفي الجريمة، وقد نجح الفرنسي Adolphe Creniemieux والبريطاني Moseshaim Montefiore وكلاهما يهوديان إلى الحضور إلى القاهرة لمقابلة محمد علي، باعتبارهما وسيطين من الحكومتين الفرنسية والبريطانية، بعدها صدرت تعليمات بالإفراج عن جميع المتهمين، وهو الإجراء الذي تم بموافقة السلطان العثماني (عبد المجيد)، وخصوصا أن هذه الأحداث قد واكبت عقد مؤتمر لندن (١٨٤٠-١٨٤١)، بشأن المسألة المصرية، التي أقر فيها المؤتمر بتقليم أظافر محمد علي، وخروجه من بلاد الشام مقابل ولاية الحكم في مصر لأسرته وترسيم الحدود المصرية التي أخرجت بلاد الشام عن تبعيتها لمصر، وهي صفقة لعب فيها اليهود دورا خطيرا بهدف إنقاذ سمعتهم من قضية (فطائر الدم) التي أثارت اهتمام العالم وقتئذ.

بقيت الحقائق والأدلة وشهادات الشهود وأحداث القضية بكل تفاصيلها فيما كتبه المؤرخون الذين اعتمدوا على مجمل الوثائق التي وثقت كل تفاصيل القضية، وقد أتيح لي شخصيا في عام ٢٠٠٣، الاطلاع على أوراق القضية برمتها كما سجلتها الوثائق من خلال مراسلات الوالي المصري شريف باشا ومحمد علي، الذي اعتاد أن يكتب إلى واليه على بلاد الشام، ثم يتلقى منه المراسلات يوما بيوم، وقد سجلت هذه الوثائق أحداث القضية بكل تفاصيلها، بداية من أول رسالة أخبر فيها الوالي باختفاء الأب توما وخادمه، وانتهاء بآخر رسالة التي تؤكد خضوع الجناة إلى التحقيق واعترافهم بكل ما ارتكبوه في هذه الجريمة، التي لم تكن جريمة جنائية فقط، وإنما كانت جريمة ذات طبيعة خاصة تتعلق بثقافة القتل وصناعة الخبز من دم الأغيار، مسلمين أو مسيحيين، وهي ثقافة تنم عن قدر هائل من الانحراف، وهي جريمة لا تقرها جوهر العقيدة اليهودية ولا أي دين آخر.

بذلت الدول الأوروبية جهدا كبيرا في غلق هذا الملف، ومارست ضغوطا هائلة على السلطان عبد المجيد وعلى محمد علي، في وقت كان القادة الأوروبيون يجتمعون في لندن للنظر في مصير حكم محمد علي وأسرته، في الوقت نفسه الذي كان يتم فيه التحقيق في القضية، ومورست ضغوطا هائلة على الرجلين (الوالي والسلطان) وقد رضخ كلاهما للضغوط الأوروبية، بعد أن اكتفى المحققون بجمع الأدلة وسماع شهادة الشهود، وجميعها تؤكد وقوع الحادثة، إلا أن أوامر الوالي المصري محمد علي قد صدرت بغلق الملف والإفراج عن المتهمين.

إذا كان غلق هذا الملف قد تم تحت ضغط الدول الأوروبية لأسباب سياسية خالصة، وهو ما يفسر تأثير اليهود في المجتمعات الأوروبية، ورغم مرور أكثر من مائة وثمانين عاما على هذه الأحداث- إلا أن نفوذ اليهود في المجتمعات الأمريكية والأوروبية لا يزال قويا، وهو ما يؤكد حتى اليوم ضلوع هذه القوى في دعم الصهيونية التي تمارس الإبادة ساعة بعد أخرى في فلسطين، تحت غطاء دولي، وبدعم من القوى الأوروبية والأمريكية ذاتها، إلا أن هذه القضية وقضايا أخرى كثيرة لا يمكن أن تسقط بالتقادم.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه الأحداث حارة الیهود بلاد الشام الیهود فی محمد علی إلا أن بعد أن

إقرأ أيضاً:

تقرير: جرائم القتل والسرقة تعمّق الفوضى في قطاع غزة

يعيش أغلب سكان قطاع غزة حاليًا في خيام مزدحمة ومناطق مدمرة في وسط وجنوب القطاع، ومع استمرار الحرب للشهر التاسع على التوالي، أصبحت شرطة حماس التي كانت تفرض سيطرتها "غائبة أو بلا قوة"، وفق ما ذكر سكان لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وسلطت الصحيفة الضوء على قصة الغزي محمد أبو كرش، الذي سرق لصوص بطارية سيارته في مارس، وطاردهم إلى طريق مظلم، قبل أن يتلقى رصاصة قاتلة في رأسه.

حينها اتصل الأقارب بالشرطة، التي لم يكن بمقدورها فعل أي شيء سوى تفقد مسرح الجريمة على أطراف مدينة دير البلح، وفق الصحيفة.

وقال ابن عمه محمود فؤاد لوول ستريت جورنال: "قالوا إنه لم يعد لديهم سجنًا، ولو عثروا على الجاني، ربما تهاجمهم عائلته. نرى معارك بين العائلات بشكل يومي، ويدرك الناس أنهم لن يُعاقبوا على أي شيء يقومون به".

وأشارت الصحيفة الأميركية إلى "تزايد الجريمة والعنف بين سكان القطاع، في ظل المساعدات الإنسانية الشحيحة" التي تصل إليهم، فيما أوضحت أن هناك تحذيرات من مسؤولين أميركيين وعرب يشعرون بالقلق من أن غزة "قد تعاني من فشل كامل في الحكم لسنوات مقبلة".

وأوضحت أن إسرائيل "كسرت قبضة حماس على النظام العام، لكنها لم تملأ الفراغ بنفسها أو تسمح للسلطة الفلسطينية بالدخول لاستئناف الخدمات الأساسية، قائلة إنها تريد العمل مع الفلسطينيين دون انتماءات سياسية".

"ننام في الشارع بلا مأوى".. النزوح المتكرر يفتك بسكان غزة المنهكين كشفت تقارير أممية أن تسعة من بين كل عشرة أشخاص في قطاع غزة نزحوا لمرة واحدة على الأقل منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر، فيما وصف بأنها دائرة لا تنتهي من "الموت والتشريد".

كما قال سكان من شمالي قطاع غزة الذي فر معظم سكانه جنوبًا، إن المنازل المهجورة التي لم تتعرض للقصف، "تعرضت لنهب الأثاث والألواح الشمسية واسطوانات الغاز".

وأضافوا لوول ستريت جورنال، أن "من حاولوا تأمين منازل جيرانهم، قالوا إن اللصوص أصبحوا أكثر وقاحة، ويعتقدون أن المعاناة التي فرضتها الحرب تمنحهم رخصة سرقة ما يحتاجون إليه".

ونقلت الصحيفة عن رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في غزة (التابع لحماس)، إسماعيل الثوابتة، أن "الشرطة حاليًا تعمل وفق خطط الطوارئ، وتفرض الأمن في المناطق التي يمكنها القيام بذلك فيها، بما في ذلك منع النهب وملاحقة اللصوص وإعادة المسروقات لأصحابها".

وقال إن إسرائيل "استهدف عشرات مراكز الشرطة وقتلت المئات من الضباط منذ بداية الحرب، مما قوّض قدرتها على العمل"، مضيفًا أن الهجمات الإسرائيلية تهدف إلى "خلق الفوضى وتعطيل الأمن في قطاع غزة، وإحداث فراغ إداري وحكومي".

وطالما تؤكد إسرائيل أن الهدف الأساسي للحرب في غزة هو "القضاء على حركة حماس" بشكل يمنع قدرتها على الحكم مجددا، ولا يسمح لها بشن أي هجوم على إسرائيل، بجانب استعادة المختطفين منذ السابع من أكتوبر وتحتجزهم حماس ومجموعات مسلحة أخرى في غزة.

ورفض مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي التعليق لصحيفة "وول ستريت جورنال" على الفوضى التي يشهدها قطاع غزة.

ومن بين الأحداث التي سلطت الصحيفة الضوء عليها، والتي تعكس حجم الفوضى في القطاع، "النزاع الذي وقع بين مراهقين من عائلتين في مخيم النصيرات وسط غزة، والذي تسبب في خلاف بين البالغين".

وقال شاهد عيان للصحيفة، إن "رجلا قتل آخر بعدما سحق رأسه بكتلة خرسانية".

نزوح الآلاف وسط قصف إسرائيلي بجنوب غزة قصفت القوات الإسرائيلية عدة مناطق في جنوب قطاع غزة، الثلاثاء، وفر آلاف الفلسطينيين من منازلهم فيما قد يكون جزءا من الفصل الأخير من العمليات العسكرية الإسرائيلية المكثفة خلال الحرب المستمرة منذ نحو 9 أشهر.

وأوضح الشاهد أن "عائلة الضحية انتقمت بإشعال النار في المبنى الذي تقطن فيه العائلة الأخرى"، مضيفًا أن رجال الإطفاء تمكنوا من إخماد الحريق وفرّقت الشرطة الحشود، لكن المشاجرات تواصلت بين العائلتين.

كما نقلت "وول ستريت جورنال" عن مسؤول أميركي مشارك في عمليات الإغاثة: "تدهورت القدرات العسكرية لحماس، وكذلك قدرتها على فرض النظام والقانون، وبالتالي لا ينبغي لأحد أن يتفاجأ مطلقًا بأن هذا هو الوضع داخل غزة حاليًا".

واندلعت الحرب في غزة إثر هجوم حركة حماس (المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة ودول أخرى) غير المسبوق على إسرائيل في السابع من أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم مدنيون، وبينهم نساء وأطفال، وفق السلطات الإسرائيلية.

وردا على الهجوم، تعهدت إسرائيل بـ"القضاء على حماس"، وتنفذ منذ ذلك الحين حملة قصف أُتبعت بعمليات برية منذ 27 أكتوبر، أسفرت عن مقتل نحو 38 ألف فلسطيني، معظمهم نساء وأطفال، وفق ما أعلنته السلطات الصحية في القطاع.

مقالات مشابهة

  • الصحراوي قمعون: القضية الفلسطينية وحروب التضليل
  • زعيم المعارضة التركية: تواصلنا مع الأسد وسأتوجه إلى دمشق للقاء به هذا الشهر
  • هنية يشيد بجهود الشعب الأردني لنصرة الشعب الفلسطيني
  • عنصر حوثي يغتصب طفلة جنوبي صنعاء
  • عباس العقاد يكشف أفكار وأسرار الصهيونية العالمية
  • تقرير: جرائم القتل والسرقة تعمّق الفوضى في قطاع غزة
  • أوكرانيا تسقط 21 مسيرة روسية وتتراجع في مدينة إستراتيجية شرقا
  • باحث: الولايات المتحدة ستدعم إسرائيل حال دخولها في جبهة صراع جديدة (فيديو)
  • مخرج فلسطيني: لم يعد يمكن الحديث عن فلسطين في هوليوود عقب 7 أكتوبر
  • كيف سيُصوِّت اليهود في الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟