نوافذ: لا شيء أكثر أهمية من متعة اللعب!
تاريخ النشر: 3rd, February 2024 GMT
في واحدة من التماعاته الذكية يخبرنا الكاتب والباحث الإيرلندي سي. إس. لويس في كتابه «تجربة في النقد» أننا «لسنا بحاجة إلى النقاد من أجل الاستمتاع بنصوص المؤلفين، ولكننا نحتاج إلى نصوص المؤلفين كي نستمتع بالنقاد». تذكرتُ هذه العبارة وأنا أقرأ كتاب منى حبراس الجديد «لا شيء أكثر أهمية من متعة اللعب: عشر نظرات في السرد» الصادر مؤخرًا عن دار الرافدين العراقية، فالنظرات العشر التي تلقيها الناقدة على نصوص وظواهر أدبية متعددة، ورغم أن ظاهرها النقد، إلا أن جوهرها هو الكتابة الممتعة التي لا تقل متعةُ تلقّيها عن متعة النصوص التي تضعها تحت مبضع التحليل، لذا؛ فإن دار النشر لم يجانبها الصواب حين وضعت على غلاف الكتاب - الذي صممه الفنان البحريني حسين المحروس - تصنيف «أدب»، وليس «نقد»، فالكلمة الأولى أكثر دلالة على مضمون هذه النصوص العشرة، بل إن الكاتبة نفسها متواطئة في ذلك حين وصفت هذه النصوص بــ«نظرات» وليس «مقالات».
وكما أحسنتْ منى حبراس وصفَ نصوصها بــ«نظرات»، فقد أحسنتْ أيضًا اختيار عنوان الكتاب، وهو العنوان الذي يتصادى مع عبارة كتبها الشاعر الفرنسي شارل بودلير في يومياته: «ما من فتنةٍ للحياةِ حقيقيةٍ غير فتنة اللعب.
ولكن ماذا لو كنّا غير مبالين أن نكسب أو نخسر»! ذلك أن اللعب هو أساس كتابها ولُحْمتُه وسُداه. ولا أقصد هنا أن اثنين من النصوص النقدية العشرة للكتاب يختصان بالحديث عن لعبة كرة القدم، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى لعبة الكتابة نفسها. وما هي الكتابة في الأصل إن لم تكن لعبة!
اللعب إذن هو الفكرة الرئيسة التي انبنى عليها «لا شيء أكثر أهمية من متعة اللعب»؛ لعب كتّاب السرد الذين تُرسِلُ المؤلفة نظراتِها فيما يكتبون، ولعبتها هي كناقدة تُدرك أن أحد مهام الناقد أن يساعد المتلقي على فهم العمل الأدبي، والانتباه إلى «ألعابه» الفنية وميزاته الجماليّة، ورؤية دقائقه الصغيرة التي لا تُرى إلا بعينٍ فاحصة مُدرَّبة. وليس مستغربًا والحال هذه أن تستدعي في تقديمها للكتاب الذي سمته «مدخل» أستاذَها وقدوتها في النقد عبدالفتاح كيليطو، لتذكِّرنا أن «سرّ اختلافه أنه يكتب وكأنه يلعب، أو يلعب بينما يكتب»، مستشهِدة بقوله في أحد حواراته: «صدّقني أنه لولا وجه اللعب الذي تتخذه الكتابة، لما كتبتُ. ما جدوى الكتابة إذا لم نلعب في الوقت ذاته بالكلمات والصور والذاكرة» (الكتاب ص13).
وإذا كنا نتفق أن الكتابة الإبداعية تقوم في الأساس على اللعب الفني، فإن اللافت في اختيارات منى حبراس للنصوص السردية في هذا الكتاب هو كون هذا اللعب واضحًا فيها بجلاء؛ لعِب إيمان مرسال على سبيل المثال على تحويل الهامش إلى متن، والمتن إلى هامش في كتابها «في أثر عنايات الزيات»، حيث «تعطينا تعريفًا جديدًا للكتابة عن الآخر في عدم انفصالها عن الكتابة عن الذات» (الكتاب ص87)، ولعب يحيى سلام المنذري على ثيمة الخوف في مجموعته القصصية الأخيرة «وقت قصير للهلع» وتعدد أشكال حضور هذا الخوف واختلاف طرق التعبير عنه بين شخصية وأخرى، ولعب أحمد بوزفور على أشكال التلقي وتأويلاته في قصته «رجل عارٍ يعانق الإسفلت»، وجعلها جزءا من عملية الكتابة ومكمِّلا لها، وألعاب عبدالعزيز الفارسي السردية في قصصه من الميتا قصة إلى كتابة القصة كلها في الهامش، وربط ذلك بالمضمون القصصي المتعلق بأهل مدينته شناص، وهو ما جعل الكاتبة تجترح اسمًا جديدًا لمقاربة هذا اللعب لدى الفارسي مشتقًّا من اسم مدينته؛ ألا وهو «شنصنة السرد»، ولعب القاص الإنجليزي جون ريفنسكروفت على ثيمة الحلم في قصته «أحلام أسامة» حين تناول أحداث الحادي عشر من سبتمبر من خلال وجهات نظر متعددة تمثلها أربع شخصيات تحلم أحلاما مختلفة، تنتهي - أي الأحلام - بنهايات متشابهة عندما تلتقي الشخصيات الثلاث الأولى في أحد الكهوف بالشخصية الرابعة التي تحلم هي الأخرى حلمها الخاص.
ولا تكتفي المؤلفة بتتبّع هذا اللعب لدى هؤلاء الكُتّاب وتقصّيه، بل تَعْمَد أحيانًا إلى تقديمه للقارئ من خلال لعبٍ مشابِه، مُتمثِّلةً تعريف الناقد الإنجليزي ماثيو أرنولد للنقد بأنه: «الحبّ النزيه للعب الحرّ للعقل في جميع الموضوعات لأجل العقل ذاته»، كما هي الحال في كتابتها عن هذه القصة الأخيرة «أحلام أسامة»، إذ يُماثل مقال منى حبراس عنها بين موضوع القصة وبنائها الفني القائم على التقطيعات، وربط المنطقي الواقعي بالحلمي الفنتازي. وكما هي الحال أيضًا في مقالها الممتع «كرة القدم في السرد العُماني» الذي تبنيه بناءً يحاكي مباراة كرة قدم مكونة من شوطين، وفاصلة زمنية تفصل بينهما، وأشواط إضافية، ووقت بدل ضائع!. إنها تكتب وكأنها تلعب، إذا ما استعرنا وصفها لكيليطو، أو تلعب بينما تكتب.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الثقافة تصدر «كل النهايات حزينة» لـ "عزمي عبد الوهاب" بهيئة الكتاب
صدر حديثا عن وزارة الثقافة من خلال الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، كتاب «كل النهايات حزينة» للكاتب عزمي عبد الوهاب.
ويتناول الكتاب، اللحظات الأخيرة في حياة أبرز الكتاب والمبدعين في الأدب الإنساني، من بينهم دانتي أليجييري، أنطونيو جرامشي، وفولتير، ولودفيك فتجنشتاين، وصادق هدايت، وأوسكار ويلد، وراينر نعمت مختار، وجويس منصور، وجورجيا آمادو، وثيربانتس، وغيرهم.
ويقول عزمي عبد الوهاب في تقديمه للكتاب: «ظللت مشغولاً بالنهايات لسنوات طويلة، لكن بداية أو مستهل كتاب "مذاهب غريبة" للكاتب الكبير كامل زهيري كان لها شأن آخر معي، فحين قرأت الفقرة الأولى في هذا الكتاب، تركته جانبا، لم أجرؤ على الاقتراب منه مرة أخرى، وكأن هذه الفقرة كانت كفيلة بإشباع رغبتي في القراءة آنذاك، أو كأنها تمتلك مفاتيح السحر، للدرجة التي جعلتني أتمنى أن أكتب كتابا شبيها بـ"مذاهب غريبة".
تذكرت على الفور أوائل القراءات التي ارتبطت بكتاب محمد حسين هيكل "تراجم مصرية وغربية" وبعدها ظلت قراءة المذكرات والذكريات تلقى هوى كبيرا لدي، كنت في ذلك الوقت لم أصدر كتابًا واحدًا، لكن ظلت تلك الأمنية أو الفكرة هاجسا، يطاردني لسنوات، إلى أن تراكم لدي من أثر القراءة كثير من مواقف النهايات، التي تتوافر فيها شروط درامية ما، وكلها يخص كتابا غربيًا؛ لأن حياة الأغلبية العظمى من كتابنا ومثقفينا تدفع إلى حافة السأم والتكرار والملل.
إنها حياة تخلو من المغامرة التي تصل حد الشطط، ربما يعود ذلك إلى طبيعة الثقافة العربية، التي تميل إلى التحفظ، وربما أن تلك الثقافة لم تكشف لي غرائب النهايات، هناك استثناءات بالطبع، شأن أية ظواهر في العالم، قد يكون الشاعر والمسرحي نجيب سرور مثالا لتلك الحياة المتوترة لإنسان عاش على حافة الخطر طوال الوقت، حتى وصل إلى ذروة الجنون، لكن دراما "نجيب سرور" مرتبطة بأسماء كبيرة وشخصيات مؤثرة، تنتمي إلى ثقافة: "اذكروا محاسن موتاكم" حتى لو كانت لعنة نجيب سرور ظلت تطارد ابنه من بعده، فقد مات غريبا في الهند مثلما عاش أبوه غريبا في مصر وروسيا والمجر».
ويضيف عبد الوهاب: « يمكن أن أسوق أسماء قديمة مثل "أبي حيان التوحيدي" الذي أحرق كتبه قبل موته، أو ذلك الكاتب الذي أغرق كتبه بالمياه، في إشارة دالة إلى تنصله مما كتب، أو ذلك الكاتب الذي أوصى بأن تدفن كتبه معه، وإذا كان الموت هو أعلى مراحل المأساة، فهناك بالطبع شعراء وكتاب عرب فقدوا حياتهم، بهذه الطريقة المأساوية كالانتحار ، مثل الشاعر السوداني "أبو ذكري" الذي ألقى بجسده من فوق إحدى البنايات، أثناء دراسته في الاتحاد السوفيتي السابق، والشاعر اللبناني "خليل حاوي" الذي أطلق الرصاص على رأسه في شرفة منزله، والروائي الأردني "تيسير سبول" الذي مات منتحرا بعد أن عاش فترة حرجة من عام ١٩٣٩ إلى ۱۹۷۳م.
لكن المختفي من جبل الجليد في تلك الحكايات، أكبر مما يبدو لنا على سطح الماء، خذ على سبيل المثال "خليل حاوي" فقد أشيع في البداية أن الرصاصات، التي أطلقها على رأسه، كانت إعلانًا للغضب، ومن ثم الاحتجاج على الصمت العربي المهين، إزاء اقتحام الآليات العسكرية الإسرائيلية للجنوب اللبناني، ومن ثم حصار بيروت في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وفيما بعد، حين استفاق البعض من صدمة الحدث، قيل إن ما جرى كان نتاج علاقة حب معقدة، دفعت بالشاعر إلى معانقة يأسه والانتحار، فهل كان انتحار الروائي الأردني "تيسير سبول" صاحب أنت منذ اليوم أيضًا احتجاجا على ما جرى في العام ١٩٦٧ م ؟
ربما يوجد كثير من النماذج، لكن تظل الأسماء الغربية الكبيرة، قادرة على إثارة الدهشة كما يقال، ونحن دائما مشغولون بالحكاية أكثر من المنجز، وكأن هذا من سمات ثقافتنا العربية، فالاسم الكبير تصنعه الحياة الغريبة لا الإنتاج الأدبي.
ومع ذلك يمكننا أن نتوقف أمام اسم كبير مثل "إدجار آلان بو" وكيف كان آخر مشهد له في الحياة، فهو أحد الكتاب الذين غادروا الحياة سريعا، وحين مات وجدوه في حالة مزرية، يرتدي ملابس لا تخصه، وحين تعرف عليه أحد الصحفيين، نقله إلى المستشفى، ومات وحيدا، بعد أربعة أيام، في السابع من أكتوبر عام ١٨٤٩م، ولم يعلم أقاربه بموته إلا من الصحف».