لجريدة عمان:
2025-03-16@21:02:03 GMT

إيريكا تشينويث.. المقاومة المدنية

تاريخ النشر: 3rd, February 2024 GMT

هل يمكن للمجتمع أن ينجح في إحداث تغيير سياسي جذري دون اللجوء إلى العنف المسلَّح؟ للوهلة الأولى قد يبدو هذا السؤال متفائلا بالنظر في سجل قرن كامل من الصراعات الدموية التي شهدها القرن العشرون، والحديث هنا ليس عن الحروب التقليدية التي تدور بين الجيوش النظامية، كما حدث خلال الحربين العالميتين مثلا أو كما يحدث اليوم في الحرب الأوروبية بين روسيا وأوكرانيا، إنما نتحدث عن صراعات الشعوب مع السلطات القاهرة التي تحكمها، كتلك الصراعات الواسعة التي خاضتها معظم شعوب «العالم الثالث» في سبيل تحررها إما من سلطة استعمار أو احتلال أو من سلطة محلية مستبدة.

إذ لطالما اعتُبر العنف المسلح (الكفاح المسلح) هو الطريق الأقصر إلى الحرية، مهما كان معمدا بالدم والتضحيات البشرية الباهظة، بل نُظر إلى البنادق في كثير من اللحظات الثورية على أنها الوسيلة الوحيدة لإسقاط هيمنة القوى القهرية التي غالبا ما تكون هي المبادر إلى العنف لحسم الانتفاضات الشعبية، معتمدة على تفوقها المادي والتنظيمي مقابل هشاشة المجتمع.

مع ذلك، وبالعودة إلى السؤال الافتتاحي، هل ستبقى لحظة العنف ضرورة تاريخية حتمية لا يمكن تفاديها في سبيل الحرية؟ تقترح إيريكا تشينويث خيارا بديلا للعنف من أجل التغيير، دون أن تعتمد على مزيد من التفاؤل الساذج، بل على دراسة ماسحة للصراعات العنفية واللاعُنفية على مدار أكثر من قرن، مراهنة في نفس الوقت على قدرة الذكاء الإنساني، العاطفي والبراغماتي معا، في إبداع وتطوير أساليب لا متناهية من المقاومة السلمية... ببساطة، لأن هناك ألف حل وحل قبل الضغط على الزناد وحسم الخلافات السياسة بالقتل، أي بالإلغاء الجسدي التام.

إيريكا تشينويث هي أستاذة العلاقات الدولية بكلية كينيدي التابعة لجامعة هارفارد بالولايات المتحدة، حيث تدير منذ سنوات «مختبر العمل اللاعنفي» الذي يجمع أكاديميين ونشطاء بجمهور من الطلاب المهتمين بمواجهة التهديدات السياسية التي تواجهها قيم الديمقراطية ومؤسساتها حول العالم. كرَّست تشينويث مجهودها الأكاديمي من أجل مساق واحد؛ وهو دراسة العنف السياسي واستنباط بدائله اعتمادا على أدوات العلوم الاجتماعية، وذلك من أجل تعزيز ثقافة المقاومة المدنية (السلمية أو اللاعنفية) كبديل لـ«وَهم» عنف القوة المهيمن على التفكير السياسي كوسيلة تغيير ناجحة (1). وقد اعترفت مجلة فورين بوليسي الأمريكية بتشينويث كواحد من بين أهم 100 مفكر عالمي لعام 2013.

سردت تشينويث في أكثر من مناسبة كيف بدأت دراستها للمقاومة المدنية متشككة بجدواها العملية في تغيير الاستبداد والفساد السياسي، فضلا عن قدرتها على إسقاط نظام عنصري أو طائفي. وما هي إلا عامان حتى اشتهرت تشينويث باستنتاجها الصادم الذي توصلت إليه بالاشتراك مع ماريا ستيفان في دراستهما الدقيقة لبيانات مجمعة عن كل حملات المقاومة التي شهدتها مناطق متفرقة من عالم بين عامي 1900 و2006، العُنفيَّة منها واللاعُنفية، إذ تخلُص الدراسة المنشورة عام 2008 تحت عنوان «لماذا تنجح المقاومة المدنية: المنطق الاستراتيجي للصراع اللاعنفي»(2) إلى استنتاج يقول إن «الناس يحتملون أكثر للحصول على ما يريدون باستخدام المقاومة المدنية بدلا من التمرد المسلح».

يستطيع قارئ تشينويث أن يستعيد من الذاكرة القريبة نماذج فارقة على العصيان المدني الفعَّال، مثل «الثورة الصفراء» في الفلبين التي أطاحت برأس النظام منهية 20 عاما من ديكتاتورية فرديناند ماركوس. كما تذكرنا الباحثة الأمريكية بالمظاهرات الشعبية التي شهدتها العاصمة الجورجية تبليسي عام 2003، والتي نجحت في الإطاحة بإدوارد شيفردنادزه المتهم بتزوير الانتخابات والتستر على الفاسدين. ومع فشل الكثير من الصراعات المسلحة حول العالم وانتهائها إلى مآلات كارثية، ترى تشينويث أن المقاومة المدنية اللاعنفية تلقى اليوم وجاهة علمية أكبر في الجامعات كموضوع يستحق التأمل والدراسة، كما تتسع بمرور الوقت قاعدة الجماهير المهتمين بهذا النوع من المقاومة، أولئك الذين باتوا يؤمنون أكثر بنجاعة تطبيقاتها السلمية في التغيير السياسي، كالإضراب والمقاطعة ومسيرات التظاهر. تعلل الباحثة نجاح الحملات السلمية (بضعفين مقارنة بنجاح الحملات العنيفة) لأسباب عدة أهمها قابلية الحملات السلمية على استيعاب عدد أكبر من المشاركين من مختلف شرائح وفئات المجتمع، في حين أن العمل المسلح يفرض مواصفات بدنية وعمرية واستعدادا عسكريا لدى المشاركين فضلا عن كُلفته الباهظة: الموت. بل تذهب تشينويث إلى مفاجأة أخرى وهي «قاعدة 3.5%» التي ترى أن 3.5% من الشعب فقط كفيل لإسقاط حكومة إذا ما خرج في حراك سلمي منظم ومستمر.

في عالمنا العربي، حيث دوامات العنف التي لا تتوقف، أعتقد أننا في أمس الحاجة لنظرية إيريكا تشينويث. ولا بدَّ من مبادرة ثقافية أولى تتمثل في ترجمة كتابها المهم «المقاومة المدنية: ما يحتاج الجميع إلى معرفته» إلى اللغة العربية، تمهيدا لدراسة هذا النمط الحضاري والأخلاقي من المقاومة كحقل علمي في جامعاتنا.

هوامش:

1. www.ericachenoweth.com

2. Maria J. Stephan, Erica Chenoweth, Why Civil Resistance Works: The Strategic Logic of Nonviolent Conflict, International Security (2008) 33 (1): 7–44

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المقاومة المدنیة

إقرأ أيضاً:

التنمر السياسي في العراق: السلطة والمجتمع

16 مارس، 2025

بغداد/المسلة:

 ليث شبر

غالبا ما تكون التعليقات على منشورات السياسيين وآراءهم وأفكارهم تعليقات مهينة ومسيئة بل تتعداها إلى التهديدات وهتك الأعراض واستعمال الكلمات النابية والبذيئة وغالبا مايتخفى أصحاب هذه التعليقات خلف أسماء وهمية وصفحات بديلة..

في ظل التحديات الكبيرة التي يواجهها العراق منذ سقوط النظام السابق في عام 2003، برزت ظاهرة خطيرة تهدد استقراره السياسي والاجتماعي، وهي ظاهرة التنمر السياسي. هذه الظاهرة ليست جديدة في التاريخ السياسي، لكنها اتخذت أشكالًا أكثر تعقيدًا في العراق بسبب التركيبة الاجتماعية والسياسية الهشة.

التنمر السياسي هنا لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد ليشمل الأحزاب والجماعات المتنفذة التي تستخدم أساليب الترهيب والتشويه والتضليل لإسكات الأصوات المعارضة وتقويض مكانة الخصوم. وقد تعرضنا نحن لكم هائل من التنمر السياسي ولسنوات وغالبا ما كنت أقول أن هذه الظاهرة لابد من اكتشاف أسبابها ومظاهرها وآثارها وطرق مواجهتها ..

هذا المقال مخصص لذلك وهو خطوة ومحفز للآخرين لتطويره وتنفيذ خطواته..

أولا..أسباب تفشي التنمر السياسي في العراق

1. الاستقطاب السياسي الحاد :
العراق يعيش حالة من الاستقطاب السياسي الذي يقسم المجتمع إلى معسكرات متناحرة، كل منها يسعى لإقصاء الآخر. هذا الاستقطاب يخلق بيئة خصبة للتنمر، حيث تُستخدم كل الوسائل المتاحة، بما في ذلك التشويه الإعلامي وحتى العنف، لإضعاف الخصوم. على سبيل المثال، خلال الانتخابات الأخيرة، شهدنا حملات تشويه ممنهجة ضد مرشحين معينين، تم خلالها نشر معلومات مغلوطة واتهامات باطلة عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

2. ضعف المؤسسات القانونية :
المؤسسات القانونية في العراق تعاني من ضعف كبير، مما يسمح للمتنمرين بالإفلات من العقاب. غياب المحاسبة يشجع على استمرار هذه الممارسات، حيث يجد المتنمرون أنفسهم في مأمن من أي تبعات قانونية. قضية اغتيال الناشطين والصحفيين، مثل الشهيد هادي المهدي، تظل شاهدة على هذا الضعف، حيث لم يتم محاسبة الجناة بشكل كافٍ.

3. انتشار وسائل التواصل الاجتماعي :
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة رئيسية للتنمر السياسي. يتم استخدامها لنشر الشائعات والأخبار الكاذبة، مما يؤدي إلى تشويه سمعة الأفراد والمجموعات. على سبيل المثال، خلال احتجاجات تشرين 2019، تم تداول أخبار كاذبة عن بعض الناشطين بهدف تشويه صورتهم وإبعاد الجمهور عنهم.

4. التأثيرات الخارجية :
بعض القوى الإقليمية والدولية تلعب دورًا في تأجيج الصراعات الداخلية في العراق، مما يشجع على استخدام التنمر السياسي كأداة للصراع. هذه التأثيرات تزيد من تعقيد الوضع الداخلي وتجعل من الصعب تحقيق الاستقرار.

ثانيا..مظاهر التنمر السياسي في العراق

1. حملات التشويه الإعلامي :
تستخدم بعض القوى السياسية وسائل الإعلام، التقليدية والحديثة، لتشويه سمعة خصومها. على سبيل المثال، تم توجيه اتهامات باطلة لبعض السياسيين بالفساد أو التعاون مع جهات أجنبية دون أدلة كافية، مما أثر على صورتهم العامة.

2. التهديدات والترهيب :
يتعرض العديد من السياسيين والناشطين لتهديدات بالقتل أو الاعتداء. هذه التهديدات تهدف إلى إسكات الأصوات المعارضة وخلق جو من الخوف. حالة الناشطة سارة طالب سليمان، التي تعرضت لتهديدات بسبب مواقفها السياسية، هي مثال صارخ على ذلك.

3. التضليل والتلاعب بالرأي العام :
يتم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أخبار كاذبة وتضليل الرأي العام. خلال الانتخابات الأخيرة، تم تداول معلومات مغلوطة عن بعض المرشحين بهدف التأثير على نتائج التصويت.

4. استخدام الخطاب الطائفي والمذهبي :
بعض القوى السياسية تستغل الانقسامات الطائفية والمذهبية لتأجيج الصراعات. هذا الخطاب يعمق الانقسامات ويجعل من الصعب تحقيق الوحدة الوطنية.

ثالثا..آثار التنمر السياسي على المجتمع العراقي

1. تقويض الديمقراطية :
التنمر السياسي يقوض الديمقراطية من خلال ترهيب المعارضين وإسكات الأصوات الحرة. هذا يحد من حرية التعبير ويضعف التعددية السياسية.

2. تأجيج الصراعات :
يؤدي التنمر السياسي إلى تأجيج الصراعات بين مكونات المجتمع، مما يزيد من الانقسام والاستقطاب.

3. تدهور الثقة بالمؤسسات :
يؤدي التنمر السياسي إلى تدهور الثقة بالمؤسسات الحكومية والقضائية، مما يزيد من الفوضى وعدم الاستقرار.

4. تأثير سلبي على الشباب :
الشباب العراقي يشعر بالإحباط واليأس من العملية السياسية بسبب التنمر السياسي، مما يدفعهم إلى العزوف عن المشاركة السياسية.

رابعا.. سبل مواجهة التنمر السياسي في العراق

1. تعزيز المؤسسات القانونية :
يجب تعزيز المؤسسات القانونية لضمان محاسبة المتنمرين. هذا يتطلب إصلاحات شاملة في النظام القضائي.

2. تفعيل دور الإعلام :
على وسائل الإعلام أن تلعب دورًا مسؤولًا في مكافحة التنمر السياسي من خلال نشر الأخبار الصحيحة والتصدي للشائعات.

3. توعية المجتمع :
يجب توعية المجتمع بمخاطر التنمر السياسي وتعزيز ثقافة الحوار والتسامح.

4. تفعيل دور المجتمع المدني :
منظمات المجتمع المدني يجب أن تلعب دورًا فعالًا في رصد وتوثيق حالات التنمر وتقديم الدعم للضحايا.

5. سن قوانين تجرم التنمر السياسي :
يجب على البرلمان العراقي سن قوانين تجرم التنمر السياسي وتحدد عقوبات رادعة للمتنمرين.

الخلاصة أن التنمر السياسي في العراق يمثل تهديدًا حقيقيًا للديمقراطية الناشئة وللحياة السياسية بشكل عام. ومواجهة هذه الظاهرة تتطلب جهودًا متضافرة من جميع الأطراف، بما في ذلك الحكومة والمجتمع المدني ووسائل الإعلام. إذ فقط من خلال العمل الجماعي يمكن للعراق أن يتغلب على هذه التحديات ويبني مستقبلًا أكثر استقرارًا وعدالة.

 

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author زين

See author's posts

مقالات مشابهة

  • حين يقابَــلُ الحصارُ بالحصار والقصفُ بالقصف
  • معاوية بين التوظيف السياسي والواقع المر
  • التنمر السياسي في العراق: السلطة والمجتمع
  • مائة عام من الرفض.. “الگریلا” السلمية ليس الانفجار الكبير
  • المقاومة تلعب بذكاء والعدو يكرس فشله أكثر.. الهُدنة إلى أين؟
  • مصر تؤكد على ضرورة حل النزاعات بالطرق السلمية والاستناد إلى ميثاق الأمم المتحدة
  • حماس تستنكر قرار حجب قناة الأقصى
  • مصطلح الإسلام السياسي
  • مشاركة المقاومة الشعبية
  • «مصطفى بكري» عن فانوس «أبو عبيدة»: المقاومة أصبحت من تقاليد رمضان