رغم العبارة القاطعة للدكتور زاهي حواس وفيرونيك فيرنوي، في بداية روايتهما المشتركة «خوفو وذات العيون الذهبية» بأن معظم الشخصيات حقيقية، أما الأحداث وتسلسلها وحبكتها فهي من وحي الخيال.. إلا أن القارئ يستمر في تخيل أنها تسجل أحداثا واقعية، بطلها أحد ملوك مصر العظام عبر التاريخ، ومن هنا تستمد تلك الرواية جاذبيتها.

لا أملك حصرا عن الأعمال التاريخية، أو كم كاتبا استلهم شخصية خوفو.. إلا أنني أعرف أن نجيب محفوظ جعله بطل أولى رواياته «عبث الأقدار». في هذه الرواية حاول خوفو أن يحافظ على عرشه بكل الطرق، ولما أخبره الساحر بأن امرأة ستلد اليوم طفلا، وأن أباه هو كاهن معبد الإله رع، وأن هذا الطفل سيجلس على عرشه في المستقبل، تحرك مع ابنه الأمير «رعخعوف» وقوة من حرسه، وقتلوا طفلا آخر وأمَّه ظنا منهم أنهما المقصودان، بعد أن تكون أم الطفل المقصود قد هرَّبت رضيعها مع جارية في آخر لحظة.. إلخ.

ثم عاد نجيب محفوظ لمحاكمة خوفو مع ملوك وأمراء ورؤساء آخرين في روايته «أمام العرش»، كانت تهمته هي نفسها في رواية «عبث الأقدار» حيث واجهه الإله أوزوريس بخطيئة قتل طفل، لكن خوفو رد عليه بشجاعة: «على الملك أن يدافع عن عرشه دفاعه عن وحدة أمَّته، وفي سبيل ذلك يصيب ويخطئ»، كما واجهه الإله بأقاويل تتردد حول أن كبرى بناته قد احترفت الدعارة فدافع عن نفسه بأنه: «قد يُصاب أنبَلُ الناس في عِرضه بغير علمه»، ثم تدخَّلت إيزيس لصالحه وقالت: إنه «ملك منير مثل الشمس في سماء العروش، وكم من إمبراطوريات تلاشت وبقيَ هرمُه شامخًا، وطالما كانت عظمته مثار حسد لدى العاجزين من بني وطنه والغرباء» لتنتهي المحاكمة بغفران خطيئتيْه، وجلوسه في المقام الرفيع بين الخالدين، ليشهد بقية المحاكمات ويشارك في مناقشاتها ومداولاتها..

أقول باستثناء هاتين الروايتين لم تقع في يدي رواية أخرى تستلهم شخصية خوفو، كما أن التاريخ الفرعوني بأكمله، رغم شغله لحيز زمني يمتد لآلاف الأعوام وتميزه بذروات وتعقيدات وصراعات.. إلا أنه لا يُشكِّل، للأسف، مجالا جاذبا للروائيين المصريين، وهذا يحتاج إلى دراسة..

وقد كتبتُ المقدمة السابقة لتصبح دلالة على أهمية وجود رواية تستلهم التاريخ الفرعوني وشخصية الملك العظيم صاحب أحد أعظم الآثار في العالم، وهو هرم «خوفو». تتميز الرواية بقدرة فائقة على الجمع بين الوصف الخارجي والاستبطان، فلم يطغَ أحدهما على الآخر، وبذلك يصبح القارئ مشدودا، طوال الوقت، إلى التفاصيل الخاصة بعالم قصر الملك سنفرو «والد خوفو» وما يدورُ في دهاليزه، وحياة العوام في الخارج وتوقهم إلى الطعام والحياة المرفَّهة السعيدة، لكنه أيضا يفهم الصراعات النفسية داخل كل شخصية، وتصبح بالتالي تصرفاتها وليدة شعور ما، كالحقد أو الغيرة أو الرغبة في التحرر، أو احتكار القوة.

تعيدنا الرواية إلى الماضي، عبر أصوات الشخصيات، ورغبة كل منهم أن تكون الغلبة لقصته بحبكتها وطريقة الإقناع فيها وبقدرتها على الإمساك بالقارئ. فما أبرز تلك الشخصيات؟ الأم «حرس حتب»، امرأة شديدة التسلط والقوة، تدير مؤسسة الحريم والمحظيات، إذا أينعت فتاة في عائلة تقطفها وتضمها إلى حريم زوجها الملك «سنفرو». تستمع إلى أساطير العوام عن فحولته ولا تشعر بالضيق منها، لأنها جزء من تلك الأسطورة، لِمَ لا وهي تجهِّز بيديها عشرات الفتيات له؟ المهم أن يبقى تحت سيطرتها على الدوام. وإذا أرسل ملك أجنبي إحدى بناته إلى زوجها، ليتقي شرَّه ويحظى بالأمان تخضعها الأم «حرس حتب» لتقاليد مؤسستها القوية، وتضعها تحت عينها حتى لا تصبح قريبة من زوجها أكثر مما ينبغي.

لكن «حرس حتب» تغضُّ بصرها عن انفلاته ونزواته الطائشة، وتستعيد في كوابيسها حادثة مقتل ابنها الكبير إذ مزَّقه فرس النهر، ويعذبها خوفها على ابنها الأصغر خوفو، وفشلها في السيطرة على جموحه، وعدم قدرتها على إقناعه بأن يمتثل لتقاليدها. إنها المرأة التي تفهم في الإتيكيت والفن والجمال، تحتفظ لنفسها بأسرار المطبخ، مثل الطعم الرائع لكبد الأوز، حيث تضع في النظام الغذائي لأوز مؤسستها الجميز الحلو.

لا تكف تلك المرأة عن مراقبة الجميع، محاولةً شدَّهم إليها بخيوط قوية لا مرئية، لكن الأمور تفلت عن سيطرتها أحيانا، خاصة وأننا نتحدث عن شخصيات لعبت أدوارا ضخمة في التاريخ.

الابن خوفو، شاب متطلع، يريد أن يتذكره المصريون في كل زمان ببناء ليس له مثيل حتى هرم أبيه «سنفرو». الشاب الشجاع، يُظهر براعة في القتال حينما يتطلب الأمر القتال في سيناء. تعرض هو وعمه قائد الجيش وجنوده لمؤامرة من قبيلة مناوئة هناك، وحوصروا في مدق جبلي خطير، ومات منهم كثيرون لكن خوفو وعمه ينظمون الصفوف مرة أخرى ويهجمون على القبيلة في عقر دارها، لكن لأن خوفو به نزعة للطيش، تجاوز عمه في بعض التصرفات، فأدَّبه أبوه سنفرو وأبعده فترة.

كان لقامته الطويلة هيبة لا تقل عن هيبته حين يتحدث، وكان قد تعلم أن يبذل قصارى جهده ليبدو وكأنه وُهِب قوى خارقة للطبيعة لا يمكن للبشر العاديين الوصول إليها. وقد لاحظ أن ما يهم ليس امتلاك كل هذه الصفات المزعومة، ولكن أن يكون مَن يطيعونك مقتنعين بأنك تمتلكها. لم يكن يريد أن يحكم بالقوة، ولكن أراد أن تكون سيطرته برضا الجميع، ولهذا السبب أراد أيضا أن يتعرَّف على شعبه. كان قد اعتاد على التخفي، فيخرج حافيا مرتديا إزارا قصيرا ليختلط بالعامة في الأسواق أو في حانات الجِعَة. كان هذا يمكِّنه من فهم انتقاد المصريين للحكومة، وكيف يرون فرعونهم، بشكل أفضل بكثير من مجرد قراءة تقارير وزراء أبيه. كانت رؤيتهم للمجتمع، في معظم الأحيان، تتوقف عند أسوار القصر، حيث لم يلتقوا إلا بالطبقة العاملة من صغار الخدم، المخلصين التابعين للملكية مقابل العمالة الكاملة والمؤونة المنتظمة. أما الأميون ورواد الحانات المخمورون، حين تَحِلُّ الخمر عقدة ألسنتهم، فإنهم سرعان ما يسخرون من ملكهم ويصورونه في رسومات فاحشة يحفرونها على طاولات الحانة الخشبية.

أما الأخت «ميريت إت إس» فإنها الفتاة البدينة بطيئة الحركة والتفكير. تجد نفسها مطالبة بأن تكون زوجة لأخيها (زواج محارم) فالقصر لا يرضى بأن يختلط دمه الأزرق بدم العامة، وبالتالي عليها أن تكون بطنا لولي العهد المنتظر.

تحاول بكل الطرق أن تلفت نظره، تستمع إلى نصائح «نفرت إيابت» (وهي أخت غير شقيقة لها ولخوفو من أم تنتمي لجُبيل) لتكون مثيرة في عينيه لكنها لا تلتفت، في كل هذا الحديث، إلا لوقاحة أختها.

أما «حنوت- سن» فهي الفتاة التي خطفت قلب خوفو، من أول نظرة. فلاحة ابنة فلاحين، ذات أسنان متفلجة وعيون ذهبية، ظهرت له في السوق بينما يتخفَّى في هيئة رجل عادي، ثم اختفت فجأة، ليبدأ رحلة البحث عنها، دافعا بصفوة رجال استخباراته لتفتيش القرى والمدن وإحضارها إليه. لم يهدأ إلا حين باتت بالقرب منه، تحدَّى كل تقاليد القصر، وأنجب منها ابنه «خفرع»، أدرك بها أنه وجد دواء قلبه، وتفرَّغ للعمل الحقيقي، وهو بناء هرمه الأكبر، ليخلِّد اسمه كأعظم ملوك مصر. كان محاطا بالمؤامرات والدسائس، وقد وضعت أخته غير الشقيقة «نفرت إيابت» يدها في يد ألد أعدائه لإسقاطه، بعد أن فشلت كل محاولاتها لإغوائه، والسيطرة عليه، ودفعه للزواج منها، وإجلاسها بجواره على العرش. كان على خوفو ألا ينام، أو ينام مفتوح العينين، وإلا سيُغمَدُ نصل سام في قلبه أو يُهشَّم رأسُه. كان عليه أن يبدأ بناء مملكته بالقوة والجَلَد والصبر وعدم الثقة في أحد إلا نفسه، كان عليه أن يقتنع بأن الشخص لا يولد فرعونا وكي يكون فرعونا عليه أن يجترح المعجزات.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أن تکون

إقرأ أيضاً:

طارق الشناوي لـ "البوابة نيوز" : تقديم الشخصيات الشريرة في الدراما تكون أكثر إلهامًا لصناع العمل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

علق الناقد طارق الشناوي علي ظاهرة انتشار قضايا الخيانة والغدر في المسلسلات المصرية خلال الفترة الماضية وإخفاء وعدم إبراز القيم الأخلاقية داخل العائلة المصرية.

وقال الشناوي في تصريحات خاصة لـ"البوابة نيوز": إن الدراما المصرية دائماً تحمل الوجهين سواء تقديم وإظهار العلاقات الأسرية الإيجابية أو السلبية ولكن أري أن الشر والشخصيات الشريرة لها جاذبية أكثر من الخير.

وتابع: الشخصيات السيئة والتي تنطوي علي ضعف تكون درامياً هي أقوي وتصبح مادة دسمة للجمهور وجاذبة له بشكل كبير ويريد أن  يشاهدها؛ لافتاً أنها تلهم الكاتب والمخرج والممثل في التقمص أكثر من الشخصية الطيبة.

وأضاف "الشناوي": إنني أري أننا ليس بحاجة إلي مسلسلات مباشرة علي حث الناس إلي عمل الخير والأعمال الجيدة لأنها تفقد مصداقيتها والجمهور يري دائماً أن الشر هو الكسبان، وأكد أن الدراما حالياً أصبحت مقيدة عن وقت سابق علي الكُتاب ولم تكن مفروضة في الماضي.

مقالات مشابهة

  • جوبا بخير ونتمنى ان تكون بخير
  • الجديد: نريد أن تكون البضاعة المباعة بالبطاقات أرخص من الكاش
  • الولايات المتحدة: نهاية الحرب في لبنان قد تكون قريبة
  • “حماس”: موافقون على تشكيل لجنة لإدارة غزة على أن تكون محلية كلياً
  • لماذا قد تكون النقود أفضل صديق لميزانيتك؟ دراسة جديدة تكشف الأسرار!
  • الاولى وقد تكون الأخيرة.. بيرييلو في بورتسودان.. تفاصيل الزيارة
  • أن تكون نازحا!
  • طارق الشناوي لـ "البوابة نيوز" : تقديم الشخصيات الشريرة في الدراما تكون أكثر إلهامًا لصناع العمل
  • هل تنفع «التسوية الودية».. بأن تكون حلاً متوازناً لتراكمات السداد
  • لماذا تكون آثار السكتة الدماغية أشد لدى البعض؟