رسومات فنية في «صخرة وادي لحجيج» محفورة ببراعة
تاريخ النشر: 3rd, February 2024 GMT
بعد زيارات متكررة لـ«متحف عمان عبر الزمان» بولاية منح، لفتت انتباهي صخرة وضعت قريبا من بوابة المدخل، وكأنها كائن معزول وممنوع من دخول مبنى المتحف، صخرة مستديرة بمساحة تسمح بالجلوس عليها، فرأيت أن أقف عندها لأراها عن كثب، فإذا بها تشع إبهارًا من النظرة الأولى، بجانبها لوحة تعريفية تفصح بهذا البيان: (اكتشفت هذه الصَّخرة، في «وادي لحجيج» بولاية طاقة، وتحمل فنًا صخريًا ثريًا، يحوي أشكالًا ورموزًا متداخلة مع بعضها بعضًا، تتنوع بين الأيادي والأقدام البشرية، والأشكال الحيوانية والهندسية، والأجرام السَّماوية، وحروف لأبجدية قديمة، وقد تُمثِّل هذه الرسومات سجلًا لفترات وأحداث مختلفة وأنشطة متنوعة).
وإذًا فهي ضمن مكوِّنات المتحف، أما المكان فتمَّت تهيئته ليكون أشبه بمكانها الأول: «وادي لحجيج»، بولاية طاقة في محافظة ظفار، وحولها استزرعت أشجار اللبان، لتعكس صورة لمكان الصخرة الأول، ذوق ينم عن إبداع وإحساس بتفاصيل المتحف الخارجية، يؤكد على أهمية هذه الصخرة، فقد نقلت من مكانها الذي استقرت فيه آلاف السنين، إلى بقعتها المُتحَفيَّة هذه، وفيها من الرموز ما يجعلها تختلف عن غيرها من الحجارة، قاطعة رحلة طويلة، وكأنها قادمة من أعماق التاريخ.
تبدو الصخرة أشبه بلوحة تعليمية استوعبت نحو 100 رمز، بين أياد وأصابع، ورموز لأبجديات قديمة، ألبوم كبير تحتشد فيه صور مرسومة، وتنوع في الرموز المحفورة، أقدام وكواكب وكائنات صغيرة بأشكالها المتداخلة، منحوتة في بياض الصَّخرة، وكأنها شاشة تعرض صورة لرموز مندثرة، أو لمحة تبرق في أفق التاريخ، قبل أن يبزغ فجره الحريري الغامض، وهي لوحدها عين «متحف عمان عبر الزمان»، ونواته الأولى.
إن وقفة عند هذه الصَّخرة، تأخذ بالمتأمل إلى حياة غائصة في عمق الزمان، يقدر بآلاف السنين، وأقدِّره بعدد لا يحصى من الأنامل التي لامستها، والأنفاس الحَرَّى التي لفحتها، وحبات العَرَق التي تساقطت عليها، من جبين وأيادي الحفارين الأوائل، وأشعر بالجهد المبذول في حفرها، أقدام تتلاحق في سيرها إلى حافة الصَّخرة، قادمة من أعماق الماضي السحيق إلى زماننا الحاضر، وها هو إنسان ذلك الزمان، يسعى ببدائيته البسيطة وتفكيره الحر، ورغبته الجامحة أن يترك أثرًا لا تمحوه الأيام، وها هي آثار أقدامه تؤكد زحفه الحثيث نحو الخلود، ولعل غريزة أن يترك بصمة قبل أن يرحل، كانت تراود ذهن ذلك الإنسان الفنان، فترك أكثر من مائة بصمة في حَجَرٍ واحدٍ، هي بمثابة رسائل مُشفَّرة، تقول الكثير من الحكايات.
ماذا تعني هذه الرُّسومات؟، وهل حفرها الإنسان تعبيرًا عن شيء ما، أو هي أبجدية للغة بصرية؟، الإجابة لا تغيِّر من كونها الآن لوحة أثرية، نمَّقها الإنسان القديم برموز من الحياة التي عرفها، ووضع فيها بصماته ولمساته، ففي اللوحة نجوم صغيرة، وشمس مشرقة، وأدوات استعملها، ولكن بصمة الأيادي والأقدام هي أكثر ما يظهر، وكأنه يمدها إلى إنسان سيأتي من بعده، متوسِّلا إليه أن يترفق بلوحته، حتى تبقى وَشْما لا تمحوه الأيام.
تذكرني هذه الصَّخرة بأخرى رأيتها في أحد مساجد منح القديمة، في حجم حصاة الرَّحى، في وسطها حفْرٌ غائر يشبه أثرًا لقدم إنسان، وتفسيرًا لذلك الحفر أشاع الناس أنها موطئ قدم لأحد الأنبياء، وأشاعوا كذلك أنَّ كل من يحاول سرقتها، ستعود إلى بقعتها المباركة في المسجد، ولكن حين هُدم المسجد القديم ضاعت تلك الحَجَرة، فلم يعد لها أثر وكأنها لم تكن، وما زال شكلها الغائر منطبعًا في ذهني، وحين وقفت عند «صخرة وادي لحجيج» هذه، وجدت صورة الأقدام المحفورة فيها قريبة الشبه بنقشة القدم تلك، المحفورة في حصاة المسجد القديم، ولا أستبعد أن يكون نقش الأقدام على الصَّخر، لغة يراد بها معنى مقصودًا يفهمه الأوائل.
الإنسان يحاول أن يوجد تفسيرًا لكل شيء لافت حوله، ويطلق لخياله العنان في ترميزه للأشياء، فيمنحها شيئًا من القدسيَّة والمُبَاركة، أو يحولها إلى أسطورة، أو عمل سحري وغيبي، والمتأمِّل لرسومات الصَّخرة، لا شك أن سيلمح سِحرًا خفيًا يجذبه إلى تفاصيلها الدقيقة، هو سحر الحفر ببراعة، فلم تتصدَّع الصَّخرة، وبقيت محتفظة بملامحها.
سأحاول أن أحلِّق بخيالي إلى مدى أبعد وأعمق، علَّني أطوي القرون والألفيات، وأصل إلى العالم البعيد عن مرمى البصر والبصيرة، لأرى إنسان ذلك الزمان يضرب بإزميله، وينقش على الصخرة ما يشاغل ذهنه، وأسرِّح البصر في الوادي الذي تكونت فيه الصَّخرة، فأرى أشجار اللبان برائحتها الشَّذيَّة، يسيل من جذوعها لعابٌ لزج، ومن حولها حيوانات المَها والغزلان، وأرى أعماق الوادي مليئة بكائنات لا نألفها اليوم، وحصباء تشبه الدرر، أما الإنسان فهو ذاته الإنسان، في نزوعه للبقاء ونُشدانه لحياة أجمل.
في الندوة الثقافية التي أقامتها «وزارة التراث القومي والثقافة» في شهر نوفمبر 1980م، وطبعت في عشرة أجزاء بعنوان: «حصاد ندوة الدراسات العمانية»، خصصت الجزأين الأخيرين منها (التاسع والعاشر)، عن «الفن الصَّخري في عُمان»، نشرت في الكتاب باسم: «ر. جاكلي»، الذي مكث ست سنوات ونصف في عُمان، بين أعوام: 1970 – 1977، في البحث عن الفن الصَّخري وتسجيله، قَدمت محاضرته مادة علمية عن طبيعة الصخور والأدوات التي استخدمها الإنسان في الحفر، وعشرات الصور الضوئية التي التقطها من أماكن مختلفة في عمان، ومستفيدًا من صور زميله «س. ف. كلارك» الذي قام بدور في تصوير الرُّسومات المحفورة، في الجبال والكهوف والأودية المتناثرة في الجغرافيا العمانية، وأكثرها في سفوح جبال الحجر، سلسلة طويلة الذيل، أشبه بقافلة من الديناصورات العملاقة، تضم سفوحها كتابات غامضة، هي بمثابة مفاتيح لأساطير حُفِرَتْ في الصَّخر، لكن على ما يبدو لم تكن رسومات «صخرة وادي لحجيج» ضمن معثورات الباحثين وتوثيقاتهم في تلك الندوة، وإلا كان سَيُكتب عنها الكثير.
إن الحديث عن الفن الصخري يغري بالكتابة كما يغري بالرَّسْم؛ لأنه يحمل كلا الخاصيتين، فهو رسم للتفاصيل التي يُعنى بها الإنسان، وكتابة بلغة إشارية ونقاط متلاحقة، والسؤال: بأي إيحاء ندرس هذا الفن؟، لقد مضى على رسمه محفورًا ألفيات من السنين، وتظل قراءتنا له محاولات لفهم تفكير الإنسان القديم، قد لا تقول الحقيقة، واختياره للصَّخر الصَّلد دون غيره، وكأنه في تقدير اليوم صفحة من كتاب، هي من أسرار إنسان ذلك الزمان.
ومثل صخرة وادي لحجيج كثير، تترامى في بطون الأودية العمانية، لم يكتشفها أحد بعد، ومما يؤسف له أن صخورًا كثيرة تحمل مثل هذه الرموز، طحنتها أسنان الجرَّافات، وكسرتها آلات التحجير، بحثا عن الرخام والمعادن، فضاع كنز كان يلوح كالوشم في ظاهر الحجر، وكان يمكن أن يضيف معرفة جديدة في علم الفن الصَّخري، وما يزال لدى بعض الباحثين اليقين أن ألواحًا صخرية حَفَرَ فيها الإنسان القديم أناشيده ومواويله، قد تكون مطمورة تحت الأرض، وستظهر يومًا.
ولعل صخرة وادي لحجيج من أندرها وأقواها إيحاءً، وكأنها تعبِّر بلسان إشاري مبين، أن الانسان في العصور القديمة مَرَّ من هنا، وحقًا كم إنسان مرَّ عليها بعد الإنسان البدائي الأول، الذي ترك بصمته فيها ورَحَل؟، كم كائن لامسها بيده، وكم وَعْل نطحها بقرنه ليوهِنَها، (فلَمْ يَضِرْها وَأوْهَى قرْنَهُ الوَعِلُ) كما يقول الشاعر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه الص
إقرأ أيضاً:
طائرات F-16 تنفذ ضربة جوية ناجحة في وادي زغيتون بكركوك
بغداد اليوم -