عبد المجيد جرادات  في روايته الرابعة عشرة والتي حملت عنوان (خنجر سليمان)، يوقفنا الروائي صبحي فحماوي على تطورات الأحداث في العام 1798م، عندما قاد نابليون بونابارت حملته العسكرية متوجهاً إلى مصر وبلاد الشام، بقصد التأسيس لمرحلة تستطيع من خلالها فرنسا الحصول على المزيد من خيرات الشعوب، وممارسة أبشع الجرائم بحق من يتصدى من أبناء العروبة للسياسات والممارسات التي تنفذها القوات الفرنسية، وهي بمجملها تهدف للمزيد من إشاعة أسباب الجهل والفقر، إلى جانب أنها تتعارض مع اهم النواميس التي تحترم الذات الإنسانية وتقدر قيمتها.

رواية معلوماتية فيها من حقائق التاريخ ما يؤكد لنا أن الدول التي أخذت الغنائم من ممتلكات الشعوب المستعمرة، تحتاج للمزيد من حيل السياسة التي تذكي الخلافات بين أبناء الشعوب المستهدفة، لتستأصل مع الزمن كل مقومات الشعور بالعزة الوطنية والقومية، وتقتل الإرادة التي تمتلك مقومات الغيرة، أو تلك التي تحرص على الذود عن الحمى، وهذه هي المحطات التي تجوّل بنا من خلالها الروائي صبحي من مدينة حلب إلى هضبة الجولات وحيفا وعكا والقدس وغزة، إلى أن يلتحق بطل هذه الرواية(سليمان الحلبي) لدراسة (أصول الفقه) في الأزهر الشريف على أمل العودة بعد حين ليكون مفتياً في بلده، سوريا. في كلمة الإهداء يقول الروائي صبحي فحماوي :”الإهداء؛ إلى نابليون بونابارت صاحب الجرائم الكبرى، والهزائم المتلاحقة : في فلسطين ومصر وروسيا وأخيراً واترلو، ليموت معتقلاً في جزيرة سانت هيلانة.” اعتاد والد سليمان الحلبي (التاجر محمد ونس الأمين)، أن يسّوق بضاعته من مدينته  إلى المدن الفلسطينية وغزة ومصر ومكة المكرمة، وحين أصبح ابنه في الواحد والعشرين من العمر، اقترح عليه السفر إلى مصر للدراسة في الأزهر الشريف، ومما قاله له أن الدراسة ممتعة ومستقبلها مشرق، ووعده بأن سفره سيكون برفقة القافلة التي ستحمل منتجات حلبية وشامية، وأكد له بأنهم سيصلّون في المسجد الاقصى ومن هناك إلى غزة أرض الرباط، ومن ثم إلى القاهرة، حيث يباشر الدراسة في مصر. أخبر والد سليمان الحلبي ولده بأن مصر هي التي تذكرنا بالقائد البطل صلاح الدين الأيوبي، عندما قضى على الصليبيين الذين دمروا بلادنا الإسلامية: وفي سبيل التركيز على الحقائق والقيم النبيلة التي تعمق العلاقات بين الشعوب العربية قال:” تأكد يا ولدي أنه لن تقوم لسوريا الكنعانية ولا لمصر أم الدنيا قائمة، إلاّ بارتباطهما الوثيق معاً في الحياة والزراعة والصناعة والتجارة ومقاومة المعتدين عليهما معاً” كان رد سليمان لوالده هو:” تأكد أنني سأرفع رأسك هناك، وأكون فارساً تفخر به بين أهل سوريا ومصر كلها”  ص50.  في وصفه لجغرافية الوطن العربي وعبقرية المكان، يوثق الروائي فحماوي طريق رحلة القافلة التي سيرافقها سليمان الحلبي مع والده ونخبة من تجار سوريا، فهو يقول ستنطلق القافلة إلى مرتفعات الجولان، ومنها إلى بحيرة طبريا، وأمام شاطئ بحيرة طبريا، يقول والد سليمان لابنه، هنا وقف المتنبي وأنشد عن وحدة شعوب الفرات والنيل قائلاً : ورد ُ إذا ورد البحيرة شارباً … سمع الفراتُ زئيرَهُ والنيلا، مؤكداً لابنه إيمانه المطلق بوحدة الفرات والنيل: كلمة ورد هنا هي أحد أسماء الأسد. تواصل القافلة مسيرتها المعروفة لتجارها فتصل إلى بيسان، ثم تتابع صوب الجنوب، وقبل الوصول إلى مدينة أريحا بحوالي خمسة كيلو مترات يتوقفون في ساحة قصر هشام الذي يُعتبر من أهم المعالم السياحية في فلسطين، وقد أعطى الحاج محمد الأمين ابنه نبذة عن هذا المكان قال فيها:” شيد هذا القصر من قبل الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك قبل أكثر من الف سنة، ومن المعروف ان السلالة الأموية الإسلامية قد حكمت إمبراطورية تمتد من الهند إلى فرنسا، وأن الأندلسيين حكموا حتى غرب إسبانيا.” ص55. وبعد زيارة قصر هشام وأريحا، تابعوا سيرهم للجنوب وعند وصولهم إلى البحر الميت، صعدوا جنوباً فوصلوا إلى مشارف مدينة القدس، وإلى اليسار من المكان الذي وقفوا فيه شاهدوا جبل الزيتون وعلى اليمين استمتعوا برؤية قبة المسجد الأقصى بمنظرها الجميل: وأمام أسوار المسجد يفرح سليمان بوصولهم إلى الساحة المدّرجة نزولاً والتي أخبره والده أنها  (مدخل باب العمود) وهي أحد أبواب المسجد الأقصى : وعندما دُهش سليمان بروحانية هذه المشاهد : قال له أبوه: “إنها مركز تكامل الدينين الإسلامي والمسيحي.” منذ أن حرّرها الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحّول اسمها الكنعاني ( إيليا) نسبة إلى الإله الكنعاني (إيل) إلى اسمها العربي الإسلامي ( القدس) صفحة 57.  بعد زيارة القدس ومعالمها الدينية والتاريخية، يقول والد سليمان لابنه، أردتك أن تشاهد هذه المعالم العظمى، وتتعلم منها فتضيف إلى علمك الأزهري الذي ننتظره نوراً على نور… وستحرص على احترام كل المساجد من دون تحيّز إلاّ للقرآن الكريم، فلا تفرق بين المسجد الاقصى في فلسطين والمسجد الحرام في مكة، والمسجد الأموي في دمشق والمسجد الأزهر ومسجد الحسين ومسجد السيدة زينب في القاهرة، ومسجد كربلاء الحسين في العراق، بصفتها كلها لها هيبة وإجلال عند المسلمين عامة. تابعت قافلة حلب الرحلة من القدس باتجاه الخليل والتي قال الروائي صبحي أنها سميت هكذا نسبة إلى ملك كنعاني قديم كان اسمه خليل، وعند مغادرة الخليل فوجئوا بمجموعة من قطاع الطرق حيث أشهر أحدهم خنجره بوجه سليمان الحلبي الذي استطاع بشجاعة وفتوة أن يجرده من الخنجر إلى أن هزمه، ومن الواضح أن هذه الواقعة قد عززت روح الشجاعة عند البطل سليمان الحلبي. في مطلع شهر آب من العام 1798وصلت قافلة حلب إلى قطاع غزة، حيث تم الاحتفال بها لأنها تصل إلى قطاع غزة كل صيف، وهناك نزل الحاج محمد الأمين وابنه سليمان ورفاقهم  بضيافة أحد كبار تجار مدينة غزة، وهو الشيخ نادر الصباغ الذي تربطه بوالد سليمان صداقة منذ زمن، وفي منزل الحاج الصباغ، شعر سليمان الحلبي بقيمة تلك الجلسة، حيث راح والده يحدثه عن قيمة العلم الذي لا حدود له، مستذكراً قوله تعالى:” وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً”. ص81″ وأضاف قائلاً ” إن الحرية يا ولدي متعة مرتبطة بتحمل المسؤولية” تعرف سليمان الحلبي إلى ابن الشيخ الصباغ (علي) الذي أخذه في صباح اليوم التالي بجولة للتعرف على مدينة غزة، وقد تبادلا الحديث حول طبيعة الحياة في غزة وحلب وبلاد الشام ومصر، وفي إحدى المزارع المكتظة بالأشجار دخلا إلى مبنى عرف سليمان يومها أنه مصنع الأسلحة البيضاء من سيوف ورماح ونبال وخناجر، يملكه صديقه علي، الذي أوضح لسليمان بأن كل هذه المعدات تستخدم في المهام الصعبة وهي المقاومة. في نهاية شهر آب سنة 1798م، وصل سليمان الحلبي إلى مدينة القاهرة وسجل في جامعة الأزهر الشريف، ثم سكن مع مجموعة من طلبة مدينة غزة، فكان ضمن الطلبة الذين يتلقون علمهم على يد الشيخ عبدالله الشرقاوي، الذي أعجب أشد الإعجاب بالطالب الجديد. أثناء محاضرته، قال الأستاذ الشيخ عبدالله الشرقاوي: ” إن البلاد أيها الشباب تعيش دماراً كبيراً  باحتلال هؤلاء المستعمرين الخنازير لبلادنا، لقد ضربوا القاهرة بالمدافع وكسروا أنف أبو الهول، هذا التمثال الذي نعتبره رمزاً لهيبة مصر وأنفتها، وأهم أثر عظيم من تاريخها المصري القديم”: ومن المؤكد بأن متابعات سليمان الحلبي ومشاهداته للتنكيل بالشعب المصري ونهب خيراته والاعتداء على كرامات الناس وأعراضهم، الأمر الذي حفزه بعد أن اختنق صدره من الممارسات المهينة ضد الشعب المصري، فبدأ يُفكر بالانتقام من القائد العام للقوات الفرنسية الذي جاء بعد نابليون وهو ( الجنرال كليبر). لم يكن جماعة قافلة حلب يعرفون ما يُخطط له نابليون، والذي يسعى لتحقيق طموحاته وأطماعه، حيث قام بتجميع أسطولٍ كبيرٍ يتألف من 40 الف جندي و10آلاف بحار كانوا، متواجدين في موانئ فرنسا المطلة على البحر المتوسط، إضافة إلى 13 سفينة خط و14 فرقاطة و400 ناقلة، وقد رافق الحملة الفرنسية أكثر من مائة وخمسين عالماً وأكثر من الفين من أشهر الفنانين والرسامين والمتخصصين في شتى مجالات العلوم من كيمائيين وأطباء وفلكيين، وذلك ليتفحصوا مواطن نهب الموارد والأموال واستنزاف الثروات المصرية التاريخية خلال دخول الجيش لأراضي مصر. في التاسع من شهر أيار 1798م وصل زعيم الاحتلال إلى تولون وخاطب جنوده قائلاً: “إن سياسة دولتهم تشجع على احتلال مناطق وممتلكات الشعوب المستهدفة ونهب ثرواتها وقتل من يعترض سياساتهم فيها، ثم أكد لهم أنهم متوجهون إلى مصر مخزن آثار حضارة العالم وكنوزه، وذلك بهدف احتلالها واستعبادها وليس استعمارها. وعند وصول نابليون وضباطه طلب مقابلة كبار شخصيات الإسكندرية من حكام ورجال دين وضباط عثمانيين، فجاء كبار القوم من أهالي الإسكندرية وعندما اقتربوا من نابليون للسلام عليه، فقد قرر أن لا يُصافحهم فأشعرهم أنه يخشى انتقال العدوى من أحدهم إليه، وفي حقيقة الأمر، فإن هذا الموقف يُعبر عن نذالة المستعمر عندما يستهين بمن جاء لمصادرة حرياتهم ونهب خيرات بلادهم. خاطب نابليون جنوده قائلاً : هنا على شواطيء الإسكندرية نزلت الجيوش الرومانية ليوليوس قيصر وأنطونيوس وبومبي، وكان أول فعل لها هو حرق مكتبة الإسكندرية ثلاث مرات، تلك المكتبة التي لم يكن مثلها في تاريخ العالم كله، والتي كانت تضم معظم كتب المعرفة المصرية والكنعانية والبابلية والإغريقية والفارسية وكثيراً من كتب الثقافات الهندية والصينية القديمة .  بعد الإسكندرية وزحفت قواته نحو القاهرة، وفي يوم 11آب 1798م وقعت معركة في الصالحية، فكان ميزان القوة يميل لصالح الفرنسيين، الأمر الذي أدى لفرار جنود المماليك نحو الشرق وصولاً إلى غزة ومن ثم إلى بلاد الشام، وكان معاون نابليون الجنرال كليبر هو الذي قام بمطاردة القائد المملوكي ( ابراهيم بك ص123) بعد أن هزمه في معركة الصالحية وتابعه حتى دفعه إلى خارج مصر. لم تتوقف جرائم نابليون على أثر الأفعال الشنيعة التي ارتكبها جنوده في مصر، فبعد مذابح يافا، أرسل إلى أهالي نابلس والقدس وبيت لحم وأريحا مطالباً كلاً منهم بالاستسلام، لكن هذه المدن لم تستسلم، ومع ذلك فقد ضرب نابليون حصاراً حول (عكا) في 20آذار من العام 1799م فهي تمثل من وجهة نظره، موقعاً استراتيجياً هاماً يوصل الطريق بين مصر وسوريا، وكان يهدف بذلك للوصول إلى قلب دمشق وتأجيج ثورة سورية على حكم العثمانيين . في شهر آب 1799م عاد نابليون سراً إلى فرنسا، بعد أن سلم القيادة (للجنرال كليبر) وترك 151عالماً ومهندساً وعاملاً في مجال الطب مع عدد من الباحثين تحت مسمى  (المجمع العلمي المصري) الذي تأسس بمبادرة منه ليكون نسخة استعمارية استعبادية تبحث كيفية استنزاف تاريخ مصر وموجودات الحضارة والموارد فيها وكيفية نهبها ونقلها إلى فرنسا. ضاق صدر سليمان الحلبي نتيجة مشاهداته ومتابعاته للأعمال الوحشية وأساليب النهب والاعتداء على الأموال والأعراض، وبعد أن أنهى دراسة السنة الثانية في الأزهر، ومع أن أستاذه الشيخ عبدالله الشرقاوي أعجب به وفكر بأن تتزوج ابنته الحسناء ليلى من هذا الشاب الحلبي، إلاّ أن سليمان توجه إلى غزة واجتمع مع (علي) ابن صديق والده ودار بينهما حوارٌ أدى للنتائج التي خطط لها : قال علي: “إن اسلحتنا التي نصنعها في معملنا كفيلة بالقضاء على قائد الفرنسيين الأكبر”. وبعد أن اتفقا على مضمون الخطة، قال علي: ( نحن الغزيين) يا صديقي نصنع السيوف والسكاكين والخناجر لنذكي روح المقاومة ضد المحتلين، وذلك للتخلص من عدو خطير، فأنت لو كنت تملك بندقية في حضرة ذلك القائد، فلن تستطيع استخدامها لقتل شخصية من هذا النوع، لأنهم سيمسكوا  بك قبل أن تقترب من الضحية، لكنك تستطيع إخفاء الخنجر داخل ملابسك والتسلل بصمت إلى حيث تتواجد الضحية وتفاجئه بضربة لا ثانية لها ، وإذا كنت رجلاً مهولاً ، فلن تستخدم الخنجر إلاّ بضربة واحدة  تصل إلى قلب الحبيب” يقصد كليبر. أخذ سليمان الخنجر الطويل، كهدية من علي، بما معناه أنه قد قبل التحدي،  وتدرب على كيفية استخدامه وحمله معه إلى القاهرة بعد أن استبدل فكرة عودته إلى حلب ليكون إماماً هناك وعاهد نفسه أن يكون ( إمام المجاهدين). وعند عودته لاحظ زملاؤه في الدراسة أنه غير مستقر، وعند سؤاله من قبل أحدهم أجاب: أشعر أننا مستهدفون سواء في مصر أو بلاد الشام لمحو شخصيتنا العربية الإسلامية، ولهذا نذرت حياتي للجهاد الإسلامي في سبيل تحرير مصر من الغزاة . تابع سليمان الحلبي تحركات الجنرال كليبر، وبعد شهور من التقصي والمتابعة، تمكن من مشاهدة الجنرال كليبر في صباح يوم 14 حزيران 1800م، عند دخوله هو وأحد الجنرالات لحديقة القصر، فتسلل من إحدى المداخل غير المصرح بها، حيث تظاهر بأنه يسير إلى جانب جماعة من الخدم، ودخل معهم، ليصل إلى الجنرال، وبمنتهى التركيز وجه سليمان الحلبي طعنه قوية بخنجره الفولاذي الطويل الذي أخذه هدية من صديقه علي نادر الصباغ لتكون الضربة التي أنهت حياة كليبر.

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: بعد أن

إقرأ أيضاً:

عبد المجيد تبون يؤدي اليمين الدستورية رئيسا للجزائر لولاية ثانية

عبد المجيد تبون يؤدي اليمين الدستورية رئيسا للجزائر لولاية ثانية

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية المصري: حماس تؤكد لنا التزامها الكامل باقتراح وقف إطلاق النار الذي توصلنا إليه في 27 مايو والتعديلات التي أجريت عليه في 2 يوليو
  • رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون يباشر مهامه رسميا
  • الحلبي حدد مواعيد الدورة الثانية لامتحانات الكولوكيوم
  • عبد المجيد تبون يؤدي اليمين الدستورية رئيسا للجزائر لولاية ثانية
  • وفد من التيار عرض مع الحلبي القرار المتعلق بالطلاب السوريين
  • نسخة إيرانية.. صحف إسرائيلية ترد على رواية المليشيات بشأن نوعية الصاروخ الحوثي الذي استهدف تل أبيب
  • وائل الجشي لـ24: "البعد المفتوح" مساهمة نوعية في الثقافة العربية
  • " أنت تشرق..أنت تضيء "رواية تناقشها مكتبة مصر الجديدة.. اليوم
  • الحزب القومي يبارك العملية النوعية للقوات المسلحة التي استهدفت يافا المحتلة
  • «الدبيبة» يدعو لمعالجة المعوقات التي تواجه المعهد القومي لعلاج الأورام