إذا كان حقُ الحياة مقرونٌ بالدفء.. ففي غزة يموتُ الحُلُم
تاريخ النشر: 3rd, February 2024 GMT
أطفال غزة يعاتبون العالم بأقدام عارية ترتجف بردا برداء لا يسمن ولا يغني من برد.. يسعى الغزيون لرشفة ماء "تبلُّ" روحهم العطشى للنجاة
ها قد وصلنا إلى اليوم الـ120 منذ أن أطمأن أهل غزة للمرة الأخيرة، حينما ذاقوا نوما هانئا، وتناولوا خبزا دافئا، وساروا في الطرقات باحثين عن الرزق، هناك، كد الغزيون في أشغالهم ومشاكلهم وتفاصيل دنياهم، قبل أن يسلب الاحتلال الإسرائيلي منهم كل مناحي الأمان، ويتركهم على رصيف الحياة، بلا أمل.
وكأن الحرب لم تكتفِ من أهل غزة، ولم تشبع من إرسال صواريخها على رؤوس الأطفال والنساء، وإسقاط الحجارة على صدورِ الآباء المنهكين، وفطر قلوب الأمهات، حتى طاردهم شبحُ الموت من خلال البرد والمطر وضيق الحال، فمنعهم من الأمل، حتى وهم على بعد أمتار من الحياة، في المنطقة الحدودية لمدينة رفح جنوبي القطاع قرب جمهورية مصر.
120 يوما في عداد البشر وقرونٌ بالنسبة للفلسطينيين، منذ أن بدأ الاحتلال الإسرائيلي الإرهابي تنفيذ أشد وأسوأ جرائم القتل في حق البشر، يردد اللاهث الباحث عن مأوى في بيت مهدم أو خيمة ممزقة، مقولة ربما تكون الأصدق في حق الإنسانية: "إذا كان حقُ الحياة مقرونٌ بالبحث عن الدفء والغذاء، وحسب، فعلى أرضِ غزة يموتُ الحُلُم".
ولعل هذا الطفل الفلسطيني نقل صورة لا يمكن للعقل البشري أن ينسفها من ذاكرته مهما طال الزمان؛ فها هو ببراءته، ضعفه، قلة حيلته، يسيرُ حاملا عبوات فارغة آملا أن يدرج أسمه على قائمة للوائح تضم أسماء البشر، الذين كتبَ لهم القدر حياة جديدة ومنحهم رشفة ماء يبلون بها روحهم العطشى للنجاة.
الطفل السائر بخشية وقلق في مدينة رفح جنوبي غزة، تلقى الصفعات واحدة تلو الأخرة، ولم يرأف البرد القارس بعمره؛ ففي غزة يحاربك العالم، هو استقبل المطر بيدين مفتوحتين تجمعان الماء المفقود، وبجسد هزيل نسى الطعام، وطعمه، وبرداء ممزق لا يسمن ولا يغني من برد، وبأقدام حفاة عراة.
يسير طفلنا البطل وهو يرتجف، وتقترب أصابعه من التجمد، إلا أنه يناظر عدسة الصحفي ويعض على شفتيه ألما وعتابا، هو يعاتبنا، على صمتنا وهواننا وضعفنا، ربما يعاتب العالم الذي يهرول لقطع الإمدادات عن آخر من يقدم له فتات الطعام طوعا للكيان وأكاذيبه، وربما يعاتب الطقس، الذي وقف مع الصواريخ ضدهم في هذا الظرف العصيب.
ولكنه بعد أن ناظر عدسة الصحفي لبرهة من الألم، مضى وأكمل طريقه، وعرف مبكرا منذ نعومة أظافره، أن العالم لن يحرك ساكنا، هو يكمل مسيره نحو من تبقى من عائلته، مواجها كغيره من الغزيين نقص الطعام بمعدات خاوية، مقاومين برد الليل بأقمشة من الرُقَع، ويغلبون في كل يوم النعاس كي لا يفوتوا شكل الصاروخ الهابط على رؤوس النيام، كل هذا ناظروه خلال العدوان.
في غزة فقط، يهيم الآباء على وجوههم بحثا عن أقمشة تقي أبناءهم برد الشتاء القارس الذي طرق سماء القطاع، حيث باتت صواريخ جيش الاحتلال الإسرائيلي تسقط على الأبرياء تزامنا مع هطول المطر عليهم، ليفقد الغزيون آخر معاني الطمأنينة.
المصدر: رؤيا الأخباري
كلمات دلالية: الحرب في غزة قطاع غزة الاحتلال الاسرائيلي الهطول المطري البرد
إقرأ أيضاً:
نهاية عصر المؤامرة
المقصود بالمؤامرة تدبير أفراد أو جماعات أو حكومات لعمل معادٍ ضد الآخرين
تتعايش القضايا السلبية والإيجابية وتتداخل في كل العصور، لكن قد تطغى واحدة بعينها في وقت ما فيتصف العصر كلّه بها، كما هو الأمر بالنسبة لسنوات الحروب والسلام والرخاء والشدة والمجاعة والأوبئة، وتغيرات المناخ.. وغيرها.
تسمية العصور بما يقع فيها من أحداث في فترة ما من التاريخ، ترتبط بالعلم ومنجزاته، وبالثقافة وتنوعها، وبالأديان وخلافات أتباعها، وبمنظومة القيم وأبعادها الإنسانية والحقوقية، وبمستوى الوعي الإنساني، ومع ذلك فقد يعاني البشر في عصر ما من عدم فهم؛ أو غياب شروح وافية للأحداث والوقائع وللظواهر الاجتماعية وللمواقف السياسية، وفي تلك الحالة يبحثون عن سبيل للخروج ممَّا هم فيه، خاصة إذا طغى على حياتهم غير المتوقع أو المأمول، ونقلوا من اليقين إلى الشك والظن.
عمليّة البحث المصحوبة بعدم اليقين لم تكن خاصة بعصر دون غيره، كما أنها لم تقتصر على العلاقة بين البشر على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب والدول والأمم، إنما شملت أيضا علاقة البشر بالكائنات الأخرى غير المرئية، النابعة من الاعتقادات الدينية، مثل: الشياطين والملائكة، أو تلك الآتية من الأساطير والخرافات، وما رافقها من اعتقاد وثني في الكواكب والنجوم، والشجر، والحجر، والحيوانات، وغيرها.
ودون الذهاب بعيداً في رحلات البشر عبر تاريخهم الطويل بخصوص الاعتماد على "الظن الذي لا يغني عن الحق شيئاً"، أو تقديم تفسير لما يحدث سعياً لفهم غير مؤسس على أدلة وبراهين، فإننا نكتفي هنا بالحديث على السائد اليوم ضمن خطابات السياسة والإعلام والثقافة، وهو القول بوجود "مؤامرة"، حيث يأتي هذا القول عند كثير من الناس عند عجزهم عن فهم ما يحدث أو ضعفهم أمامه، أو اكتشافهم أنهم كانوا مغفلين حين أسهموا فيه بدون قصد، أو نظراً لتفاعلهم معه خوفاً أو طمعاً.
والمقصود بالمؤامرة هنا في المعنى العام تدبير أفراد أو جماعات أو حكومات لعمل معادٍ ضد الآخرين، أي تخطيط وتنفيذ أعمال لأغراض ليست شرعية وفي سريّة تامة، ما يعني التصميم على القيام بفعل إجرامي، ومن هذا التعريف تأسس المعنى السياسي للمؤامرة، فأصبحت تشير إلى اتحاد مجموعة من الأشخاص، أو الحكومات بهدف اغتصاب، أو تغيير، أو الإطاحة بسلطة سياسية راسخة، أو دعم قوى معارضة لها، أو العمل على تغيير خريطتها، والقضاء على تماسك جبهتها الاجتماعية.
السؤال هنا: هل إذا تمَّ التصريح العلني بالمؤامرة قبل وقوعها من طرف القائمين بها، مثلما يحدث اليوم لبعض دولنا العربية خاصة، وكثير من دول العالم، ومنها دول الشرق الأوسط تظل "المؤامرة" حاملة لمعناها المتداول منذ عقود، ولتكرار الفعل البشري منذ قرون؟.
واقعنا العربي من خلال تعامل القوى الكبرى معنا، وأيضا من خلال إسهام بعض دولنا في ذلك، لم يعد يعيش عصر المؤامرة، حتى لو قال كثيرون بذلك، بمن فيهم عناصر النخبة، ذلك أن ما تواجهه دولنا عملا استراتيجيا علنياً، يشي بنهاية عصر المؤامرة.
لم نعد اليوم في حاجة لفهم الواقع العربي والدولي اعتمادا على ما ذكره العالم السياسي" مايكل باركون"، حين قال إن "نظريات المؤامرة تعتمد على نظرة أن الكون محكوم بتصميم ما، وتتجسد في ثلاثة مبادئ: لا شيء يحدث بالصدفة، ولا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط ببعضه"، ذلك لأن الوقائع والشواهد حولت المؤامرة إلى استراتيجية تتطلب المتابعة والدراسة والفهم، وليس التوهم والتخمين، والمثال الأوضح هنا ما تعيشه الدول العربية حاضرا وما ستؤول إليه مستقبلاً، إذ نبلغ به كمسؤولين وشعوباً، ومع ذلك نصرُّ على أن ذلك كله مؤامرة، مع أن كل المعطيات تنفي ذلك تماما.
مهما يكن من التغير المنتظر في منطقتنا، فإن استراتيجية الدول ـ العدوة والصديقة ـ في بلادنا العربية تظهر في بعض الأمثلة منها: تقوية الجماعات الإرهابية وتحويلها إلى منظمات معترف بها، وإضعاف دور الجيوش النظامية والعمل على حلِّها في بعض الدول، والسعي لأجل تحويل دولنا إلى فيدراليات في أحسن الأحوال، وإلى جماعات متقاتلة في أسوأ الأحوال، وإعادة النظر في الخرائط، وتثوير الأقليات، وإحداث الفتن والصراع الإثني والطائفي والديني والمذهبي.. وهذا قليل من كثير.