الاستراتيجية الإيرانية في حرب إسرائيل على غزة
تاريخ النشر: 3rd, February 2024 GMT
عندما اندلعت الحرب الإسرائيلية على غزّة قبل عدّة أشهر، دفعت الحماسة البعض إلى الترويج بأنّ إيران وحزب الله على وجه التحديد سيرميان بثقلهما إلى جانب حماس ضد إسرائيل وداعميها. وعلى الرغم من أنّه لم يكن هناك ما يستدعي تأييد مثل هذا التحليل، وبالرغم من أنّ السوابق التاريخية تؤيد خلاف ما ذهب إليه هؤلاء، إلاّ أنّ الترويج لمثل هذا الزعم استمر بشكل متواصل.
ووصل هذا الادّعاء ذروته خلال الشهر الأوّل من الحرب لاسيما بعد مقطع الفيديو الذي قام حزب الله بالترويج له على نطاق واسع ويظهر فيه نصرالله وهو يكتب رسالة، وفي مقطع آخر وهو يمر أمام شعار حزب الله. وقد فُسّر هذا المقطع آنذاك بأنّه مؤشر قوي على أنّ خطاب نصرالله المرتقب سيفجّر خبر الإلقاء بثقله إلى جانب حماس في المعركة الدائرة لاسيما بعد أنّ قررت إسرائيل غزو القطاع برّياً.
لكن سرعان ما أصيب بعض هؤلاء بخيبة أمل كبيرة بعد الخطاب الذي أعلن فيه أمين حزب الله أنّه لم يتم إخطارهم بالعملية وأنّهم ليسوا على دراية بها أو بتفاصيلها ولا يقفون خلفها، تماماً كما كان المرشد الأعلى علي خامنئي قد قال في بداية الحرب عندما أعلن أنّ إسرائيل تلقت هزيمة عسكرية واستخباراتية لا يمكن ترميمها منوّها إلى أنّ من يقول أنّ إيران تقف خلف العملية مخطئ تماماً على حد قوله.
لا يوجد أدنى شك لدى من يتابع مجريات الأحداث أنّ الضربة التي تعرّضت لها إسرائيل كانت بمثابة زلزال مدمّر سيكون من الصعب جداً بعدها أنّ تعود إلى ما كانت عليه سابقاً. لكن إذا كان الوضع كذلك، فهذا يعني أنّ إسرائيل في وضع مثالي الآن لمن يريد أن ينال منها، والإشارة هنا إلى تصريحات إيران وحزب الله المتكررة. إذا كانت طهران ـ وأذرعها في المنطقة ـ تريد فعلا تدمير إسرائيل فهذه هي الفرصة المثالية لتحقيق ذلك، لكن الحقيقة أنّ إسرائيل وإيران يتبادلان الخدمات وكل منهما يبرر وجود أجندة الآخر.
ما تريده إيران في هذه الحرب هو تحقيق هدفين رئيسيين: الأوّل، هو تحسين صورتها في العالم العربي والإسلامي من خلال امتطاء ورقة "المقاومة" بعد أكثر من عقد على المذابح التي ارتكبها هذا المحور في سوريا والعراق ولبنان واليمن، ومساهمته الفعّالة والاكيدة في تحويل هذه البلدان إلى بلدان فاشلة تسّهل مهمّة طهران في التمدد الإقليمي وفي تسجيل نقاط مع لاعبين إقليميين ودوليين من خلال جعلها ساحة لتصفية حسابات.
أمّا الهدف الآخر، فهو تحسين وضع إيران التفاوضي مع الغرب في الملف النووي، وهو الملف الأصعب على قائمة التحديات الإقليمية والدولية خلال المرحلة المقبلة، أي ما بعد إدارة الرئيس الحالي بايدن. إيران حاولت باختصار أن تقول أنّها قادرة على إشعال المعارك في المنطقة وأنّه باستطاعتها أن تستخدم ميليشياتها في سوريا والعراق ولبنان واليمن لأداء المهمات القذرة وأيضا لاستهداف الولايات المتّحدة بشكل متزامن ضد أكثر من هدف وفي أكثر من ساحة بما في ذلك عرقلة الملاحة البحرية وتهديد التجارة الخاصة بالغرب في البحر الأحمر ومنطقيا في محيطه كذلك.
ونستطيع أن نقول إلى حد بعيد أنّ هذين الهدفين تحققا سريعاً في بداية الحرب، لا بل إنّ إيران نجحت في الحصول على المزيد من المكاسب المجانية بسبب موقف بعض الدول العربية المتخاذل كالعادة، وموقف الشعوب المتضامنة مع القضية الفلسطينية على المستوى الدولي حيث تم استغلال ذلك للخلط بين حقيقة أجندة ودور أذرع إيران في المنطقة وبين المقاومة لإسرائيل، وقد تجلّى ذلك بشكل واضح في حالة ميليشيات الحوثي.
ويعتبر غرق حيش الاحتلال في غزّة فرصة حقيقيّة لاختبار نوايا إيران وأذرعها، إذ لطالما سمعنا لعقود عن استعداد إيران والمحور التابع لها لتدمير إسرائيل خلال دقائق، لكن ما حصلنا عليه الآن هو مجرّد الاكتفاء بالظهور الإعلامي والدعائي مع بعض العمليات المدروسة بعناية لتبرير الحصاد الإعلامي، وتحفيز أمريكا وإسرائيل على إبقاء المعركة في غزّة وبعض الساحات العربية وعدم نقلها إلى طهران. علاوة على ذلك، شهدنا تصريحات ومواقف تؤكد على عدم رغبة إيران في مواجهة إسرائيل أو أمريكا.
ففي نوفمبر الماضي، نفى آية الله علي خامنئي أن تكون إيران قد هدّدت بالقاء الصهاينة في البحر أو أنّهم يسعون لإزالة إسرائيل، وقال انّهم يدعمون مع يريده الشعب الفلسطيني. وفي نفس الشهر أيضاً، أشار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان تعليقا على سؤال عن التوقيت المحتمل للتدخل مباشرة في حرب غزّة، إلى أنّ إيران لا تصدر أوامر الى فصائل "المقاومة"، وأنّهم يتخذون القرارات بأنفسهم وفقاً لما تقتضيه مصالحهم وتطورات الاحداث.
المثير للسخرية أنّ إيران التي تمتلك واحدة من أكبر ترسانات الصواريخ البالستية في العالم، عندما قرّرت الرد على بعض ما تعرّضت له خلال الشهر الماضي، قامت بضرب كل من العراق وسوريا وباكستان، أي البلدان العربية والإسلامية مع أنّ مدى صواريخها يستطيع الوصول بسهولة إلى إسرائيل، وفهمكم كاف.لاحظنا بعدها أنّ إسرائيل صعّدت بشكل غير مسبوق ضد حزب الله لدفعه إلى فتح معركة معها، لكنّ الأخير بالرغم من حجم ووتيرة الضربات التي تعرّض لها والخسائر التي مني بها، فقد حافظ على رد فعل متواضع ومحسوب قياساً بما سبق من معطيات أو بما يمتلكه من قدرات. لا بل إنّ حزب الله وإمعاناً في تأكيد رسالته بأنّه لا يريد معركة مع إسرائيل قام بسحب جزء من قواته الخاصة الأكثر تدريبا وتأهيلا "الرضوان" من الحدود مع إسرائيل، بعد أن كان قد سحب أيضا حوالي 1500 من عناصره من سوريا إلى داخل لبنان.
ومثله، قامت كتائب حزب الله العراق بإصدار بيان في نهاية يناير 2024 قالت فيه أنّها أوقفت عمليات "المقاومة" ضد القوات الأمريكية، وقام الحرس الثوري بعدها بيوم بسحب قادة كبار له إلى جانب عشرات الضباط من المستوى المتوسط من سوريا إلى داخل إيران. وذلك بعد أن كان قد تلقى عدداً من الضربات الموجعة في سوريا والعراق بل وحتى داخل إيران عبر تفجيرات نُسبت لجماعات إرهابية. وقد انسجمت هذه المواقف مع موقف خامنئي العلني لاحقاً بعد أن عقد المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني اجتماعا طارئا لمناقشة الوضع في المنطقة في بداية فبراير، وقيل أن خامنئي وجه خلال الاجتماع "بتجنب الحرب المباشرة مع الولايات المتحدة والنأي بإيران عن الجماعات التي قتلت الأمريكيين" في المنطقة مؤخرا.
خلاصة القول أنّ مثل هذه المعطيات لا يمكن أن تدرك من خلال العواض والانجرار وراء الدعايات، وأنّه من المهم تسجيل هذه النقاط لمنع الخلط بين ما يجري حقيقية على الأرض في غزّة من مقاومة للاحتلال، وبين التصريحات والمساومات والتسويات التي عادة ما تتم تحت غطاء الخداع للرأي العام. فتواجد إيران في كل الساحات العربية التي تتواجد فيها اليوم تم من خلال صفقات مع أمريكا، بدءً من صفقة احتلال العراق، ومرورا بصفقة محاربة الإرهاب في اليمن، وصفقة الاتفاق النووي الإيراني في سوريا، وصفقة الغاز في لبنان.
المثير للسخرية أنّ إيران التي تمتلك واحدة من أكبر ترسانات الصواريخ البالستية في العالم، عندما قرّرت الرد على بعض ما تعرّضت له خلال الشهر الماضي، قامت بضرب كل من العراق وسوريا وباكستان، أي البلدان العربية والإسلامية مع أنّ مدى صواريخها يستطيع الوصول بسهولة إلى إسرائيل، وفهمكم كاف.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الحرب الإسرائيلية إيران المواقف إيران إسرائيل غزة مواقف حرب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی المنطقة إیران فی فی سوریا حزب الله من خلال بعد أن
إقرأ أيضاً:
سوريا التي وقعت في الكمين
في الساحل السوري وقعت سوريا كلها بكمين مدبّر أطاح بطموحات بناء سوريا على أسس جديدة، كمين تم تصميمه من قبل فاعلين إقليميين ودوليين، عبر أدوات سورية، انتهى بجراح عميقة طالت جميع السوريين والعرب المتعاطفين معهم، ولم ينته عند صورة الأم المذهولة في الساحل على مقتل أبنائها، فيما القتلة ينكلون بروحها وروح سوريا ومستقبلها.
ليس سرا أن ما حصل كان ثورة مضادة، تبدأ بسلخ الساحل السوري، وتحويله في مرحلة لاحقة إلى قاعدة ومنطلق للانقضاض على سوريا. القائمون المحليون على هذا المخطّط شرحوا بما فيه الكفاية وكشفوا عن آلياتهم التنفيذية "المجلس العسكري" وأهدافهم من وراء ذلك" تحرير سوريا"، وإعادة الزمن السوري إلى الوراء.
وخلف هذه اللعبة وقفت أطراف خارجية كثيرة، بعضها أعلن عن نفسه، وبعضه الآخر انتظر نجاح الخطة، ليعلن بصراحة وقوفه مع الطرف المنتصر، لكن فشل المخطط وهشاشة وضعف الروافع المحلية له دفع إلى تراجع المشغلين الخارجيين وطي بياناتهم التي جهزوها لإعلان مرحلة جديدة في سوريا.
خلف هذه اللعبة وقفت أطراف خارجية كثيرة، بعضها أعلن عن نفسه، وبعضه الآخر انتظر نجاح الخطة، ليعلن بصراحة وقوفه مع الطرف المنتصر، لكن فشل المخطط وهشاشة وضعف الروافع المحلية له دفع إلى تراجع المشغلين الخارجيين وطي بياناتهم التي جهزوها لإعلان مرحلة جديدة في سوريا
لكن، هل تجاوزت سوريا الكمين؟ وهل انتهت المخاطر؟ حتى بعد أن أجرت إدارة دمشق تفاهمات مع الهياكل والأطر في شمال سوريا وجنوبها، ما زالت سوريا في عين الاستهداف لأكثر من سبب:
أولا: ما زالت سوريا هدفا للتقسيم، فإسرائيل تعلنها صراحة وجهارا، عن عزمها استقطاع جنوب البلاد، وقد بدأت بالفعل التأسيس لوجود طويل الأمد يشمل أربع محافظات سورية، درعا والقنيطرة والسويداء وريف دمشق، ولن تتراجع إسرائيل عن هدفها ما دامت لم تتشكّل مقاومة ضدها تستنزفها وتدفع حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة والمنتشية بانتصاراتها في المنطقة إلى إعادة حساباتها.
ثانيا: النوايا الإيرانية والروسية غير مطمئنة وستبقى عامل خطورة مرتفعة في المديين القريب والمتوسط؛ فإيران ترى أن هناك إمكانية لإعادة سيطرتها على سوريا، ويمكنها بعد التقاط أنفاسها على إثر الحرب الإسرائيلية على لبنان، إعادة تنظيم صفوف فلول الأسد وتدعيمهم بقوى مليشياوية عراقية ولبنانية، في ظل حالة الفوضى التي تعيشها القوات السورية والتأخر في عملية تنظيمها وهيكلتها.
ثالثا: الإشكالية السورية المتمثلة بموت الوطنية السورية وإعادة إحياء الهويات الماقبل دولتية لدى جميع الأطراف، والحاصل في سوريا أن الأطراف السورية تنظر للواقع السوري من منطلق وجود أطراف منتصرة وأخرى مهزومة، بل ترى أن هذا وضعا طبيعيا سائدا في المشرق العربي كله وقد تعايشت معه مختلف المكونات؛ فالمنتصر المنتعش بانتصاره يحق له تقرير ما يشاء، والمغلوب لا يملك إلا التخريب وانتظار لحظة تغير المعادلات وانقلاب موازين القوى، ولن تكون سوريا استثناء عن هذا الواقع.
رابعا: الإدارة الخاطئة للصراع والتنوع الإثني والطائفي واختيار السياسات المناسبة لذلك والأدوات التي يمكنها بالفعل تسيير هذا الواقع المعقّد، هذه الإدارة لا تتماشى مع وضع بلد مثل سوريا خارج لتوه من أتون حرب مديدة ويسعى إلى كسب ثقة العالم الخارجي الذي يضع سوريا تحت المجهر، ويحاول بعض الفاعلين الدوليين مقايضة السلطة الجديدة وابتزازها، تحت عناوين وشعارات عديدة.
قد تكون المواجهة الساخنة انتهت، وفشلت الكمائن التي قام بها الفلول لبداية ثورة مضادة، لكن ما من شيء يؤشر الى احتمالية تراجع الخطر، والأصح أن الخطر يتجمع في غرف العمليات التي جرى إنشاؤها في العراق ولبنان وحتى في قاعدة حميميم وتل أبيب
قد تكون المواجهة الساخنة انتهت، وفشلت الكمائن التي قام بها الفلول لبداية ثورة مضادة، لكن ما من شيء يؤشر الى احتمالية تراجع الخطر، والأصح أن الخطر يتجمع في غرف العمليات التي جرى إنشاؤها في العراق ولبنان وحتى في قاعدة حميميم وتل أبيب. لدى هذه الأطراف الكثير لتخسره إن استقر الوضع في سوريا، سينتهي حلم السيطرة على هذه البلاد والأحلام التي جرى بناؤها طيلة السنوات الماضية؛ فلن تكون هناك إيران الكبرى التي يمتد نفوذها من قزوين إلى المتوسط، وستظهر روسيا بعد نهاية الحرب الأوكرانية وبرود جروحها دبا جريحا لن يطول الوقت قبل أن يخسر قواعده في أفريقيا التي بناها على صدى سمعة جبروته في سوريا، كما لن تكون هناك إسرائيل الكبرى، التي يجب عليها أن تتحضر لواقع مختلف بدأت مؤشراته في الظهور على شكل صراعات سياسية ومجتمعية هائلة داخل الكيان.
بالطبع، لا يمكن مواجهة كل هذه المخاطر وإفشالها بدون ترتيب البيت الداخلي السوري، والذي يبدأ من إعادة تنظيم قوى الجيش والأمن على أسس حديثة وليس على أسس أيديولوجية ولائية، وإيجاد صيغ سياسية مقبولة ومنطقية، عبر توسيع قواعد المشاركة وإشراك جميع السوريين، بأطيافهم وطوائفهم وعرقياتهم، في إدارة البلاد، والمحافظة على مؤسسات الدولة وتطويرها لتستطيع رفع البلد من القاع الذي وصلت له، باستثناء ذلك ستبقى سوريا عرضة لفخاخ كثيرة وستفقد الأمهات أبناءها في صراعات عبثية لا فائز فيها.
x.com/ghazidahman1