والنمري سنبلة بزغت منها.. تظل معجزة الشاعر عبدالمحسن النمري مقترنة بأنه الوحيد الذي تمكن بالفعل دون سواه من قول ما تمنى الكثيرون أن يقولوه على هذا النحو الطازج، والمدهش وأنهم قالوا مقولته بعد أن قالها ليعبروا بها عن أنفسهم ويفهموا أعماقهم أكثر:

الوفا ما تغير .. عهد الأحرار باقي

يا رعى الله نفس.. تعيش في العمر حرة

فللوهلة الأولى تبدو قصائده الوطنية وزوامله الشعبية ثورة وفي مقدمة الصفوف الأولى للجبهات، لكنها في العمق تفضح بكاء روح وأنين قلب تلظى من قساوة الحرب التي عاشها وعاشتها صعدة:

ما خُلقنا لغير الرمح وإلاّ السيوف

والفرس والمهند لي خيار أصدقاء

بندقي في يميني والجعب في الكتوف

والكفن فوق راسي موت وإلا نقا

لقد كان النمري كطائر الأيك أو يمامة برية تبحث عن سماء بحجم أنفاسها، ربما البياض وحده يسعفه في تلك الليالي الطويلة فينسج الكلمات حبلى بالتحدي والصمود والحرية:

يا قلم يا بياضة يا خفوقي تفجر

داعي الله ينادي جوّبي يا برية

اصرخي يا قصايد واعتلي كل منبر

واهتفي بالحروف الطاهرة الأبجدية

فلا يمكن لأحد تجاهل تجربة الشاعر النمري في كتابة القصيدة الشعبية (الزامل) وهو أحد روادها والمخلصين لها.

صاحب تجربة عميقة مع التمرد ضد الظلم وعلى الواقع المعيشي بقساوته وآلامه، لذا دق جرس الإنذار مبكراً وكشف زيف السلطة ورفض الوصاية:

حطم القيد وإلا زد مع القيد قيد

والله أني لأكبر رغم أنف الرئيس

ارفع السجن وإلا وسعه لي تريد

من هو المجرم السفاح وإلا الحبيس

تميز الشاعر عبدالمحسن النمري بحساسية شعرية عالية، وبلاغة تعبيرية أرست دعائم الزوامل الشعبية والقصائد الوطنية.

امتلك الجرأة والموهبة في التعبير، وانسجم مع ذاته في نقل ما يشعر به، فالقصيدة الشعبية (الزامل) تُعبر عن حالة شعرية قُدر لها أن تكتب منذ عقود، لكنها تلاشت واختفت، أما قصائد النمري فقد بقيت مخلصة لنسقها ولواقعها وخيطها الناظم لشعلة متقدة من الأحاسيس.

نلهف ونتلهف حديد نفوسنا ما هي خزف

واللي يوالي الشر باينسف ويعرف الانتساف

ففي الشارع، والرصيف، والبيت، والمقهى، وفي الجبهات وكل معالم المكان نسمع زاملاً في شكله خصائص وسمات متفردة، ولم يفتر ولم يمت، بقي حاضر الذاكرة، طازج الحضور.

بعد رحيله بسنوات أرسل لي أحد الأصدقاء قصائد مسجلة للشاعر عبدالمحسن النمري، فانبهرت بصوته وهو يقرأ قصائد ذات سمات مختلفة، ومنذ ذلك اليوم ترسخ الاسم والصورة في ذاكرتي، لقد كنت معجباً بالمتنبي وبسرعة أصبح النمري متنبئي الجديد، أو متنبي اليمن، أو المتنبي القادر على نقل أوجاعنا بلغة حادة ثاقبة تذهب لعمق الجرح بسرعة لأنها كانت تحمل معها الروح الجديدة للقصيدة الوطنية والنَّفس المختلف لكتابة القصيدة الشعبية:

يا سماء يا أرض صيحي واشرقي

يا طيوف بلغي الكون كله يدروا

الحذقا طبلة الحرب دقت دقدقي

يا طيوف داعي الحق ومنادي الجهاد أبرقا

عبدالمحسن النمري إذاً مدرسة شعرية في المشهد اليمني، وقامة لها وزنها ورسوخها في المشهد الشعري الشعبي. أصبح أحد أنهار الطبيعة وجزءاً حميماً من جمالها وموجوداتها خالداً خلود الكلمة في لوح الوجود. كانت له نبرته وصوته، روحه وجوهره، فرادته وجرأته، لكن تلك (الخصوصية النمرية) إن صحت التسمية هي التي منحته ربما جماهيرية كبيرة واسعة يُحسد عليها لدى الكثير من الشعراء،

ولعلنا لا نبالغ ونحن نعترف الآن وبعد رحيله بأن النمري بلغ مرتبة عالية في مقام القصيدة الشعبية .

كان الشاعر النمري ينقب عن الكلمات كما ينقب عالم الآثار عن التحف في خبايا التراب ويحفر في خفايا النفس ليكشف أسرارها ورؤاها، كان صوته موجز القصيدة الشعبية، تنفس أصالتها، وشرب من نبع خلودها، وبلل روحه بعبقها ونداها،

فمن خلال قراءتنا لقصائده، يتضح لنا أن الشاعر عبدالمحسن النمري ذو ثقافة واسعة، حيث استخدم عناصر متعددة زادت من قوة القصيدة الشعبية، فهناك الخيال الواسع، والصور البلاغية المتنوعة، والموسيقى المتداخلة، هذا بالإضافة إلى بعده العقائدي الذي عزز به بُعده الإنساني والحضاري.

عبدالمحسن النمري يحتاج إلى وقفات لأنه ثرٌّ غزيرٌ بلغته وموسيقاه وبنيته الإيقاعية، ومضمونه الراقي.

نراه في قصائده يتألم ويحزن على الوضع اليمني الهزيل، لكنه لم يقف بل كان يعبر وبوضوح، ويرفض العيش تحت هاجس التعذيب ورطوبة السجون وعفونة الجلادين، ويصرخ وبأعلى صوته ضد الظلم وبجرأة لم نجدها عند الكثيرين من الشعراء:

من هو اللي بذله في حياته تحرر

ومن هو اللي بخوفه خف قهره شوية

من طوى القيد عنقه عاش عمره مُسيَّر

يحكم السيف راسه حاصرته المنية

النمري شاعرٌ مقاوم أبدع في شعره، ونقلنا نقلة نوعية في كتابة القصيدة الشعبية، كان يفخر ويثور ويحزن ويشارك بالكلمة الحرة التي تساير الحدث.

لقد كان الشاعر النمري يدرك تماماً حين تدخل القصيدة وتتشابك مع من يحنِّي تراب الوطن بدمه، تُزهر حروف الشعر وتخضر وتضرب جذورها عميقاً في تربة الإيقاع وتجد طريقها إلى الروح وتثمر الكلمة التي تنطلق من معاناة وحسرة لتعكس بؤس الواقع.

كان يدعو إلى تجسيد رؤيته، ويمتطي صهوة الحلم مدخلاً لتغيير الواقع ويجعل من ذلك العالم الخاص به سلوكاً وواقعاً.

لقد كانت ميزة النمري الكبرى -كشاعر- لم يستطع فقط محاكمة لحظته، وتجاوزها لمحاكمة الواقع السيئ من تاريخ أمته، ذلك السوء الذي تراكم عبر السنوات، وأفرز رداءةً تكونت حولها نخب تتبنى أطروحات ناشرة بذلك ظلاماً كثيفاً يمنع الرؤيا ويقتل الرؤية.

الشاعر النمري هو النموذج الذي ينبغي نسخه وإشهاره وتعميمه ليكتًشف القارئ الفارق ما بين الشعر الشاهر سيفه بالحق، والشعر الحامل ضمور وذُلّ وانكسار وتسول، كان النمري يشتد خجلاً كلما تكاثرت من حوله أمواج الثناء فيسقط فوق وجهه قناعاً من الجدية والوقار، ولا يرى ولا يسمع أصداء الإعجاب وينظر بعيداً، وكأنه يبحث عن ذلك الشخص الذي يزجون إليه عبارات الثناء، وكأنه ليس هو المقصود.

إن تجربة النمري ستظل خاصة به، وبالتأكيد سيأتي شعراء ولن يكونوا هو، وليس المطلوب أن يكونوا كذلك، إن المبدع من يصنع فرادته ويمتلك خصوصية تجربته، ولا أظن أن القصيدة الشعبية ستقف على الرغم من خسارتها الكبيرة برحيل شاعر يصعب أن يتكرر.

رحل النمري، وترك لنا إرثاً شعرياً كبيراً يحمِّلنا التاريخ مسؤولية كشفه والحفاظ عليه. إن ذلك الصنف من الشعر هو الذي يؤمن للشاعر البقاء خالداً حتى بعد رحيله، إنه شاعر يعيد إلينا ما قد نسيناه، ويذكرنا بما أُريد لنا أن ننساه. وحده النمري الذي أعاد الروح للقصيدة الشعبية ونفخ فيها الحياة.

 

صحيفة لا

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

إقرأ أيضاً:

«العازي».. فنٌ أصيل يرمز للشجاعة والإقدام

تامر عبد الحميد (أبوظبي)

أخبار ذات صلة بدور القاسمي تكرّم طاقماً تمثيلياً من الجامعة الأميركية في الشارقة مكتبة محمد بن راشد تنظم ورشة «فن الإيجاز» رمضانيات تابع التغطية كاملة

تشكّل فنون الأداء التقليدية جزءاً من ثقافة وتاريخ دولة الإمارات، وتستعرض الفرق الشعبية في المهرجانات الثقافية والتراثية والفنية، هذه الفنون التي تتنوع بين الفلكلور والأهازيج والموروثات القديمة التي تتمثل في الأداء الشعبي الرصين، والتي تضيء للآخر جزءاً من ملامح الثقافة الإماراتية، بهدف الحفاظ على موروث الأجداد ونقله إلى الأجيال الجديدة.
يُعتبر فن «العازي» من فنون الأداء الشفهية الأصيلة والذي أُدرج ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية في منظمة «اليونسكو» عام 2017، والذي يتم تقديمه بصفة مستمرة في المحافل الوطنية والمهرجانات الثقافية والمناسبات الخاصة.

قصائد هادفة
وعن هذا الفن يقول مبارك العتيبة، عضو في جميعة أبوظبي للفنون الشعبية: «العازي» فن عريق ومتوارث جيلاً بعد جيل، وتشير التسمية إلى أنه يعبر عن العزة والاعتزاز بالنفس والعزوة والتكاتف، ويطلق على القصيدة المؤداة بهذا الفن مصطلح «العزاوة»، أما الشاعر الذي يؤدي هذا الفن فيسمى «العازي» وهو من يقوم بترديد كلمات شعرية وفق نمط هذا الفن ووحي المناسبة، وتكون كلمات القصائد هادفة ومنتقاة وغالباً ما تكون لتأكيد تلاحم المجتمع.
وتابع: يؤدى فن «العازي» عن طريق الشخص الرئيس وهو الشاعر، حيث يتولى توجيه المؤدين وتنسيق إيقاع حركاتهم، ويشارك في «العازي» مجموعة تتراوح بين 40 و60 شخصاً، يشكلون صفوفاً متناسقة ومتراصة مرددين الكلمات الحماسية بصوت واحد خلف الشاعر، والتي تدعو إلى الوحدة والتكاتف، والبطولة، والاعتزاز، والفخر.

تكاتف وتضامن
ولفت العتيبة إلى أن أصل هذا الفن يعود إلى الاحتفالات بالنصر، حيث كان يُلقى في ساحة المعركة، ثم توارثته الأجيال عبر مئات السنين، ويتكون شعر العازي من أبياتٍ مقفّاة على غرار الشعر العربي التقليدي، مع اقتباس الأقوال المأثورة، والأمثال في بعض الأحيان، ويتميز شعر العازي بالصوت الجهوري القوي للشاعر الذي يصدح بأبيات الشعر ويرددها جواباً فريق المنشدين الذين يحملون بنادق رمزية متكاتفين في صفوف خلف الشاعر الذي يحمل بدوره سيفاً، وتنقل طريقة إلقاء شعر العازي بأسلوب النداء من الشاعر والجواب من المنشدين شعوراً عاماً بالتكاتف والتضامن، بينما تؤكد الأسلحة الرمزية التي يحملونها على معاني الشجاعة.

آلة الكاسر
وأشاد العتيبة بجهود دولة الإمارات في الحفاظ على هذا التراث، وإعادة إحياء فنون الأداء التقليدية في مختلف المحافل والمهرجانات والمناسبات، وقال: استعراض أداء فن «العازي» من الوسائل المهمة لنقل التقاليد والمعارف والثقافة التقليدية الإماراتية في فن التأقلم مع البيئة والطبيعة المحيطة من جيل إلى آخر.
وأضاف: بين الأهازيج التراثية، وإيقاعات الفنون التقليدية، بمصاحبة آلات موسيقية متنوعة، تعمل الفرقة على تأدية «العازي» رفقة آلة الكاسر التي تُعتبر أهم إيقاع في هذه اللوحة الفنية.

تعزيز القيم
أوضح مبارك العتيبة، أنه على الرغم من أن «العازي» من فنون الأداء التي عرفها مجتمع الإمارات قديماً، إلا أنه يشهد إقبالاً متزايداً من الأفراد وفرق الفنون الشعبية لإحيائه من خلال تنظيم قصائد جديدة، بحيث تتناول أغراضاً جديدة كالاعتزاز بالوطن وقيادته الرشيدة، وما تحقق من إنجازات في مختلف المجالات، إضافة إلى تعزيز القيم التي عرفها المجتمع والحرص على تكريسها، ومنها المروءة والشجاعة والكرم والتضحية، ما يجعل «العازي» فناً متجدداً وقابلاً للاستمرار والتطور.

مقالات مشابهة

  • في ذكرى الشاعر خليل فرح
  • «العازي».. فنٌ أصيل يرمز للشجاعة والإقدام
  • إعلام عبري عن مصادر: إسرائيل تعطي حماس مهلة 10 أيام للإفراج عن المحتجزين وإلا فستجدد الحرب
  • باقي كام يوم صيام؟.. موعد إجازة عيد الفطر 2025 في مصر
  • منتخب إب يتوج ببطولة كأس بطولة الوفاء لمأرب
  • تطورات حالة عمرو مصطفى الصحية بعد إصابته بالسرطان
  • منتخب محافظة إب يتوج بكأس بطولة “الوفاء لمأرب”  في كرة القدم
  • نجم الشعرى
  • مسن يتخلص من حياته شنـ.قاً داخل أرض زراعية بالشرقية
  • الرد وإلا الفصل..ماسك يبعث برسائل تهديد جديدة للموظفين الفيدراليين