إعداد: بهار ماكويي | حسين عمارة تابِع إعلان اقرأ المزيد

وصلت الهجمات على القوات الأمريكية في الشرق الأوسط إلى مستوى غير مسبوق منذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 والحرب التي تلت ذلك في غزة.

منذ منتصف أكتوبر/ تشرين الأول، عانى الجنود الأمريكيون وجنود التحالف المناهض للجهاديين من 165 هجوما عبر الضربات بالمسيرات وإطلاق الصواريخ على مواقعهم في العراق وسوريا.

لكن هذه الهجمات لم تسفر عن أية خسائر في الأرواح لدى الجانب الأمريكي.

لكن الهجوم الأخير الذي وقع الأحد 28 يناير/كانون الثاني الماضي، الذي قتل خلاله ثلاثة جنود أمريكيين، وأصيب نحو أربعين آخرين في قاعدة لوجستية - "البرج 22" - الواقعة في الأردن على الحدود مع سوريا، كان نقطة تحول مفصلية.

وهو هجوم غير مسبوق منذ بداية الحرب بين إسرائيل وحماس، كما يرى ديفيد ريغوليه روس، الباحث المساعد في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط، "ويعد بلا شك تجاوزًا للخطوط الحمر". والدليل على ذلك هو أن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قد وعد بالرد عليه، قائلا مساء يوم الهجوم : "المسؤولون عنه سيدفعون الثمن، في الزمان والمكان اللذين نحددهما".

وفيما نفت إيران أي تورط لها في الغارة القاتلة. ومع ذلك، وفقا لسابرينا سينغ، المتحدثة باسم البنتاغون التي تحدثت في اليوم التالي، فإن هذا الهجوم يحمل "بصمة كتائب حزب الله"، ويتطابق مع طريقة عملها.

 

اقرأ أيضابايدن يعلن اتخاذ قرار بشأن الرد على مقتل جنود أمريكيين في الأردن وإيران تتوعد

 

وهو الاتهام ذاته الذي وجهه البيت الأبيض مرجحا أن جماعات "المقاومة الإسلامية في العراق" هي من تقف وراء الهجوم. هذا التجمع "يشمل" كتائب حزب الله، كما علق المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، خلال مؤتمر صحفي، موضحا أن الهجوم المميت "يحمل بالتأكيد بصمة" هذه المجموعة المسلحة الموالية لإيران.

الطاعة المطلقة للمرشد الأعلى الإيراني

إن كتائب حزب الله - وينبغي عدم الخلط بينها وبين حزب الله اللبناني - هي واحدة من الميليشيات العراقية "الأكثر ارتباطا بإيران"، كما يوضح ديفيد ريغوليه روس. "فهم يتبعون مبدأ ولاية الفقيه"، ما يعني أنهم يعترفون بالمرشد الأعلى الإيراني كمرجع أعلى لهم".

في عام 2020 خلال ضربة أمريكية في بغداد، قتل الرئيس السابق "لكتائب حزب الله"  أبو مهدي المهندس، الذي كان اليد اليمنى للجنرال الإيراني القوي قاسم سليماني في العراق.

كربلاء، خلال مراسم جنازة في 29 ديسمبر/كانون الأول 2020. يحمل أحد أفراد الحشد الشعبي صورة القائد أبو مهدي المهندس الذي قتل في غارة أمريكية. © أ ف ب/أرشيف

 

صنفت واشنطن كتائب حزب الله كمجموعة "إرهابية" واستهدفتها بعقوبات. وفي الأسابيع الأخيرة كانت تلك الكتائب عرضة للضربات الأمريكية في العراق، إضافة إلى "النجباء"، وهي ميليشيا أخرى معادية بشدة للولايات المتحدة.

معظم الهجمات التي استهدفت الأمريكيين في الأشهر الأخيرة تبنتها حركة "المقاومة الإسلامية في العراق"، والتي تشكل كتائب حزب الله والنجباء جزءا منها. وأعلنت هذه الحركة المكونة من الجماعات المسلحة الموالية لإيران أن هجماتها تأتي دعمًا للفلسطينيين.

لكن مطلبهم الأول والرئيس هو رحيل ما يقرب من 2500 جندي أمريكي لا يزالون منتشرين في العراق كجزء من التحالف الذي يقاتل تنظيم "الدولة الإسلامية". ونظرا للسياق المتفجر، بدأت الحكومة العراقية مفاوضات مع واشنطن بشأن جدول الانسحاب من البلاد.

حلفاء قدماء لواشنطن في التحالف المناهض للجهاديين

لا شك في أن "كتائب حزب الله "هي الأكثر نفوذا ضمن مجموعات "المقاومة الإسلامية في العراق". فهي تنتمي أيضا إلى مجموعة الحشد الشعبي، المؤلفة من القوات شبه العسكرية العراقية السابقة الموالية لإيران، والتي "تلعب فيها الكتائب دورا قياديا"، كما يوضح ديفيد ريغوليه روس. ويتضح الأمر أكثر عندما نعلم أن أبو فدك المحمداوي، الرئيس الحالي "لكتائب حزب الله"، هو أيضا رئيس أركان الحشد الشعبي.

لقد ظهر الحشد الشعبي في يونيو/حزيران 2014 من أجل دعم القوات العراقية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية". وجنبا إلى جنب مع التحالف المناهض للجهاديين بقيادة واشنطن، ساهم الحشد في تحقيق الهزيمة التي ألحقها العراق بتنظيم "الدولة الإسلامية" في عام 2017.

"كان هناك تحالف موضوعي ضد تنظيم الدولة الإسلامية بين أعضاء هذا الائتلاف، ومن بينهم الأمريكيون، من جهة وبين ميليشيات الحشد من جهة أخرى. فقد قاتل الاثنان في المعسكر نفسه، أحدهما على البر والآخر في الجو. لكن بعد عام 2017، استعادت هذه الجماعات جوهرها الموالي لإيران، وبالتالي معاداة أمريكا"، كما يقول ديفيد ريغوليه روس.

يضم الحشد اليوم عشرات المجموعات وأكثر من 160 ألف عضو، وفقا لتقديرات اطلعت عليها وكالة الأنباء الفرنسية. في حين تقدر وحدة البحث المعمق "معهد واشنطن" الأمريكية بأن عضويتها قد تصل إلى 230 ألف عضو. لكن لا السلطات العراقية ولا الحشد الشعبي يعلنان عن عدد عناصرها.

أما بخصوص "كتائب حزب الله"، لا يزال العدد الدقيق لعناصرها مجهولا. وفقا لديفيد ريغوليه روس، تتراوح الأرقام بين 3 آلاف و30 ألفا، لأن بعض رجال الميليشيات هم في وضع الاحتياط.

"السلطات الحكومية ليس لها سيطرة على هذه الجماعات"

في مواجهة تزايد الهجمات على القوات الأمريكية في الأسابيع الأخيرة، تشعر الحكومة العراقية بأنها عالقة في تبادل إطلاق النار هذا بين الطرفين. فهذه الحكومة وصلت إلى السلطة بفضل ائتلاف من الأحزاب الشيعية الموالية لإيران وأغلبية برلمانية تتضمن الحشد الشعبي الذي يمتلك عددا من النواب في البرلمان منذ عام 2018.

ومن الناحية النظرية، فإن الحشد ومكوناته بما في ذلك "كتائب حزب الله" هو جزء من القوات النظامية في البلاد، بموجب قانون صدر في عام 2016. "لكنها إلى حد كبير مسألة شكلية. لأنه في الواقع، لا تملك السلطات الحكومية أية سيطرة فعلية على هذه المجموعات. فهي تستفيد من هامش واسع للحكم الذاتي. وهو الأمر الذي يمثل أيضا معضلة لحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني"، كما يوضح ديفيد ريغوليه روس.

بعد تهديدات الرئيس الأمريكي، الذي وعد بتنفيذ أعمال انتقامية "كبيرة"، وأشار إلى أنه سيحمل إيران "المسؤولية" عن تزويد الكتائب بالأسلحة اللازمة للهجوم الذي قتل الجنود الأمريكيين، أعلنت "كتائب حزب الله" في 30 يناير/كانون الثاني الماضي "تعليق" عملياتها العسكرية ضد القوات الأمريكية.

وأصدرت المجموعة بيانا وقعه الأمين العام أبو حسين الحميداوي، قالت فيه "نعلن تعليق عملياتنا العسكرية والأمنية ضد قوات الاحتلال، لتجنيب الحكومة العراقية أي إحراج". وجاء ذكر الحكومة العراقية فقط من أجل الشكليات. لأنه في الكواليس، تدخلت إيران بلا شك لتهدئة اللعبة، مدركة أن هناك الآن خطر التصعيد غير المنضبط مع الأمريكيين.

النص الفرنسي: بهار ماكويي | النص العربي: حسين عمارة

المصدر: فرانس24

كلمات دلالية: كأس الأمم الأفريقية 2024 الحرب بين حماس وإسرائيل أزمة المزارعين ريبورتاج الأردن الجيش الأمريكي هجوم طائرة بدون طيار إيران ميليشيا العراق الولايات المتحدة جو بايدن للمزيد كرة القدم كأس الأمم الأفريقية 2024 منتخب المغرب رياضة الجزائر مصر المغرب السعودية تونس العراق الأردن لبنان تركيا الدولة الإسلامیة الحکومة العراقیة الموالیة لإیران کتائب حزب الله الحشد الشعبی فی العراق

إقرأ أيضاً:

المصارف الإسلامية التي أعادت الاعتبار للمال.. ماذا حدث لها؟

في قرية وادعة من قرى دلتا النيل، وُلدت عام 1963 شرارة تجربة مغايرة على يد الدكتور أحمد عبدالعزيز النجار، العائد من ألمانيا وقتها ليس باحثًا عن بديل شرعي للتمويل الغربي؛ بل عن معنى جديد للمال.

لم يكن المال عنده سلعة للبيع؛ بل أمانة لإعمار الأرض، وأداة لاستعادة التوازن بين الإنسان والحاجة. ومن خلال "بنوك الادخار المحلية" في مدينة "ميت غمر"، دشّن النجار نموذجًا مبكرًا لما يمكن تسميته اليوم بـ "اقتصاد المعنى"؛ حيث لم يكن المال يُباع؛ بل يُستثمر بالشراكة، ويتقاسم الناس عوائده وخسائره بوعي ومسؤولية.

ومع خروج التجربة من طورها المحلي إلى فضاء المؤسسات، بدأت تتشكل الملامح الأولى لمنظومة مصرفية إسلامية متكاملة، فتأسس أول مصرف إسلامي مستقل عام 1975 في دبي، تلاه في العام نفسه إنشاء البنك الإسلامي للتنمية في جدة كذراع تنموية تعاونية، ثم جاءت تجربة السودان الرائدة في أوائل الثمانينيات حين أسلمت نظامها المصرفي بالكامل.

وعلى مدى العقود التالية، اتسع حضور المصرفية الإسلامية، وتحوّلت من مبادرة طموحة إلى صناعة مالية في عقدها الخامس؛ لتتجاوز أصولها 4.5 تريليونات دولار، وتشكل المصارف الإسلامية منها أكثر من 70%، وتُصدر سنويًا صكوكًا بأكثر من 200 مليار دولار؛ لتمويل مشاريع في الطاقة والتعليم والتنمية. ومع ذلك، ما زال السؤال الجوهري مطروحًا: هل ما زالت المصرفية الإسلامية وفيّة لرسالتها القيمية، أم تحوّلت إلى نسخة مألوفة بلغة شرعية؟

إعلان

في هذا السياق، يُطرح مفهوم "اقتصاد المعنى" بوصفه إطارًا تحليليًا لفهم المصرفية الإسلامية من الداخل؛ لا باعتبارها منظومة تخلو من الربا فحسب، بل كمحاولة لإنتاج نماذج مالية تتجاوز منطق الربحية إلى غايات تعيد الاعتبار للمال كوسيلة للكرامة والعمران.

وبهذا يختلف عن مفاهيم قريبة كاقتصاد السعادة، الذي يربط المال بالرضا النفسي، والاقتصاد السلوكي الذي يفسّر السلوك المالي وفق الانحيازات الإدراكية، إذ إن "اقتصاد المعنى" يُعيد تموضع المال في مركز القيمة؛ حيث لا يُقاس النجاح بالربح فقط، بل بما أحدثه المال من نفع، وعدل، وعمارة. فبينما تسأل بعض النماذج: كم ربحت؟، يسأل اقتصاد المعنى: لمن ربحت؟ وبأي أثر؟

كما يتقاطع منهجيًا مع "نظرية المآلات" في الفقه الإسلامي، دون أن يتطابق معها مفهوميًّا؛ حيث يهتم هو بالسياق المؤسسي والرسالة، وليس بعواقب الأفعال فقط.

وبهذا، لا يناقض "اقتصاد المعنى" تلك النظريات؛ بل ينبني عليها ويعمّقها، ويعيد الاعتبار لفلسفة التزكية، والعدل، والاستعمار الأخلاقي للأرض، بوصفها مرجعيات معيارية لأيّ نشاط مالي. وبهذا المعنى، لا ندعو إلى العزلة عن السوق؛ بل إلى الحضور فيها بشروط تُعلي من المقصد، وتُبقي على الإنسان في مركز المعادلة، لا في هامش العائد.

وبناءً على هذا التأصيل، ينطلق المقال عبر ثلاثة محاور مترابطة. فيتأمل، أولًا، في التصوّر الإسلامي لوظيفة المال مقارنةً بالنماذج الاقتصادية الوضعية، ثم يتتبع كيف حاولت المصرفية الإسلامية تجسيد هذا التصوّر عبر هياكلها التمويلية ومؤسساتها التشغيلية، وأخيرًا، يتوقف عند سؤال التحدي والبقاء: هل ما زالت هذه المنظومة تحتفظ بجوهرها الأخلاقي، أم أنها انزلقت إلى تَشييء المال (reification of money) تحت ضغط الامتثال والمنافسة؟

المال في التصور الإسلامي.. أداة لا غاية

من بين المفاهيم التي تتداولها الألسن يوميًّا دون كثير تأمّل، يبرز مفهوم المال، لا كمجرد وسيلة تبادل؛ بل كأحد أكثر المفاهيم التصاقًا بالمصير الإنساني. غير أنّ التباس المصطلح قد يُضيّع دلالته. فـ "المال" ليس هو "النقد" المتداول فقط، ولا هو "الثروة" المدَّخَرة فحسب؛ ولا يقتصر على الممتلكات أو الدخول والهبات.

إعلان

إنه مفهوم أوسع من ذلك؛ إذ يشمل كل ما له قيمة قابلة للتملك والانتفاع، سواء أكان عينًا أم منفعة، أو مادة ملموسة أو حقًا متجردًا. فالنقد فرع من المال، والثروة مظهر من مظاهره، والاقتصاد لا يدور إلا في فلكه.

هذه الحقيقة تبدو بسيطة؛ لكنها تحوّلت عبر التاريخ إلى معركة فلسفية واقتصادية عميقة بين رؤيتين متباينتين: رؤية تُقدّس المال، وأخرى تُقيّده بوظيفة أخلاقية، وتنظر إلى آثاره.

ففي النظام الرأسمالي المعاصر، وامتداده الليبرالي، عُرّف المال في جوهره بأنه «وسيلةٌ للتبادل، ومخزن للقيمة، وأداة لتحديد الأسعار. غير أنّ هذا التعريف المحايد، سرعان ما تلوّن حين تَحوّل المال إلى غاية بذاته.

فمع تصاعد الفردانية، وتراجع المرجعيات الأخلاقية، أصبح المال في الفكر الغربي لا يُعرّف فقط بوظائفه الاقتصادية؛ بل بدلالاته الاجتماعية، مثل: النجاح، والمكانة، والهيمنة.

وربما كان عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" أبرز مَن أظهر هذا التحوّل، حين ربط بين الأخلاق البروتستانتية وصعود الرأسمالية، موضحًا كيف أصبح السعي لجمع المال نوعًا من التديّن الجديد؛ "علامة على رضا الرب"، ولكن بلغة الأسواق. فالمال لم يُعَدّ وسيلة؛ بل أصبح دينًا بلا معابد.

وفي المقابل، يتعامل التصور الإسلامي مع المال بوصفه أداة محايدة، لا تكتسب قيمتها من ذاتها؛ بل من طريقة اكتسابها وإنفاقها. فالمال مخلوق، لا خالق، ومنحة لا هوية. قال تعالى: ﴿وأنفقوا مما جعلكم مُستَخلَفين فيه… الآية﴾ [الحديد: 7]، ليؤكد أنّ المُلك الحقيقي لله، وأنّ الإنسان مجرّد وكيل يُحاسَب لا على الكم فقط؛ بل على الكيف.

وتأطيرًا لهذا المعنى الأخلاقي العميق، عبّر عنه النبي ﷺ بقوله: "لا تزولُ قدَما عبد يومَ القيامة حتَّى يسألَ عن عمره فيما أفناهُ، وعن علمه فيمَ فعلَ، وعن ماله من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمه فيمَ أبلاهُ." [أخرجه الترمذي]، ليُحيل العلاقة بالمال من مجرّد نشاط اقتصادي، إلى سؤال وجودي، ومسؤولية أخروية. فالمال في هذا التصور ليس رصيدًا بنكيًّا؛ بل هو أثرٌ في النفس، وأمانة في اليد، ومآل في الحساب.

إعلان

وقد نَظَر العلامة الطاهر بن عاشور إلى المال من زاويتين تكشفان عمق التصور المقاصدي له في الإسلام؛ فهو من جهة "ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس، في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيات بحسب مبلغ حضارتهم، حاصلًا بكدح"، ومن جهة أخرى يرى أن المال "حقٌ للأمة عائد عليها بالغنى عن الغير".

فليست الغاية من المال محض التملك أو التراكم؛ بل تحقيق الكفاية والتوازن الاجتماعي، في إطار يجعل منه وسيلةً للكرامة لا أداةً للهيمنة، وشراكةً في الإعمار لا استئثارًا بالمنفعة.

وهنا يُعاد ترتيب الوظائف الأساسية للمال: لا قيمة للمال إلا بقدر ما يحقق من كرامة للإنسان، وعدالة للمجتمع، وتعمير للأرض. فالمال ليس سلعةٌ تُباع مستقلة؛ بل قيمة أخلاقية تؤسس لعلاقة متوازنة بين الفرد والآخر، بين الغاية والوسيلة، وبين السلطة والمسؤولية.

ذلك التباين العميق بين "المال كوسيلة" و"المال كغاية"، هو ما يفتح الباب لفكرة "اقتصاد المعنى"؛ حيث لا تُقاس الثروة بالعائد وحده؛ ولكن بوظيفتها الأخلاقية ومآلاتها المجتمعية.

ومن هنا، جاءت المصرفية الإسلامية كتجربة مؤسسية تسعى لتجسيد هذا التصور، عبر نماذج تمويلية تقوم على المشاركة والإنتاج لا الربا، وعلى تقاسم المخاطرة لا ضمان العائد.

ومع التوسع في أكثر من 80 دولة، وبلوغها نطاق المؤسسات السيادية، باتت هذه المصرفية جزءًا من السوق العالمية؛ لكنها في ذلك تواجه سؤالًا وجوديًا متجددًا، ألا وهو: هل لا تزال تُعَبّر عن جوهرها الأخلاقي، أم أنها تحوّلت إلى نسخة مألوفة.. بلغة مأذونة؟

فبين صكوك تُسَوَّق باسم الاستدامة، ومؤسسات رقمية تتزيّن بلغة الشريعة، يتأرجح المشروع بين الوعد والمراوحة، وبين المعنى الذي أطلقه الرواد، والواقع الذي تفرضه قواعد البورصة.

المصرفية الإسلامية: محاولة لبناء مؤسسات ذات معنى

حين نخرج من الحبر إلى الحجر، ومن التنظير إلى البناء، تتجلّى المصرفية الإسلامية كمحاولة لاختبار فكرة "اقتصاد المعنى" في الواقع المؤسسي. فلم تأتِ هذه المصارف لتبدّل الأسماء، ولا لتلوّن المعاملات بلغة دينية؛ بل جاءت لتمنح المال وظيفة أخلاقية، وتجعل من كل عقد مرآةً لقيمة، ومن كل صيغة بابًا لكرامة. ففي هذا المشروع، لم يكن المال هدفًا؛ بل جسرًا، ولم يكن المصرف مؤسسة لتكديس الأرقام؛ بل لبناء حياة تستحق أن تُعاش.

إعلان

وقد بدأت هذه الفكرة من تلك الشرارة الأولى في مدينة "ميت غمر"، حين أراد النجار أن يُحرّر المال من منطق الجشع إلى أفق المشاركة، ومن لغة الربح فقط إلى منطق التنمية بالمعنى.

لقد غُرست البذرة هناك، في مشروع بدا متواضعًا في حجمه، لكنه كان جسورًا في روحه. وما أن خرجت الفكرة من الضيق إلى السعة، حتى بدأت تنمو بهدوء، من السودان إلى الخليج، ومن إسطنبول إلى جاكرتا، ومن كوالالمبور إلى نواكشوط، ومن لاهور إلى لاغوس. في كل محطة، كانت التجربة تحمل ملامح السياق؛ لكنها تعود لتتغذى على الجذر ذاته: المال ليس سلعة، بل أمانة.

ولأن الرؤية مهما علت لا تثمر إلا حين تُترجم، حاولت هذه المصارف أن تخلق من داخلها نموذجًا يعكس فلسفتها. فكان التمويل التشاركي قلبًا نابضًا لهذا الجسد المؤسسي.

ففي عقد المشاركة، يُعيد الطرفان تعريف العلاقة من "دائن ومدين" إلى "شريكين في البناء والمصير". وكل طرف يضع من ماله قدرًا، ويتقاسمان الربح وفق اتفاق مسبق، ويتحملان الخسارة بقدر المساهمة من رأس المال.

أمّا المشاركة المتناقصة، فهي صيغةٌ تحمل في طيّاتها فكرة التمكين التدريجي؛ حيث يبدأ العميل شريكًا، ثم يشتري حصص المصرف حتى ينفرد بالملكية، ما يجعل العقد أشبه بسُلّم تصاعدي نحو الاستقلال.

وفي المضاربة، يستثمر المصرف المال، ويستثمر العميل الجهد، في علاقة تُبنى على الأمانة لا الضمان، وعلى الثقة لا الفائدة. أمّا الإجارة المنتهية بالتمليك، فقد كانت جسرًا ثالثًا يتيح للعميل استخدام الأصل والانتفاع به، ثم امتلاكه بعد سداد الأقساط، مع وضوح الشروط، وضبط الالتزامات، دون أن يُفضي إلى تداخل يُربك المقاصد، أو يختلّ به حدّ الفصل بين العقود.

ليست هذه الصيغ مجرد أدوات تمويلية؛ بل هي تجسيد عملي لمفهوم "اقتصاد المعنى" الذي يربط العقود بالثقة، والمسؤولية، والإنتاج الحقيقي.

إعلان

فقد سعت المصرفية الإسلامية في بداياتها لإحياء الغايات لا مجرد أسلمة العمليات. لكن مع الوقت، تقلصت بعض الصيغ إلى إجراءات شكلية، وظهرت أدوات تحاكي الربا شكلًا دون تسميته، فيما غلب في بعض المؤسسات الصوت الكَمي على الرؤية المقاصدية، فصار التقييم ينشغل بالتوافق مع المعايير لا بتحقيق العدالة والمعنى.

وهكذا، اتّسعت الفجوة بين اقتصاد الامتثال واقتصاد المعنى، وباتت بعض المؤسسات تتحدث لغة الأرقام بدقة؛ لكنها تهمس بلغة القيم بخجل. لا لخلل جوهريّ؛ بل لأنّ السوق يُكافئ النمو السريع أكثر مما يُكافئ الانسجام الأخلاقي.

وعلى الرغم مما شهدته التجربة من تحولات، لا تزال جذوة المعنى مشتعلة في مؤسسات صامتة لكنها صادقة، تُعيد الروح للمصرفية الإسلامية من خلال التمويل الأصغر، والمبادرات الوقفية، والشراكات المجتمعية. فالمعنى لا يُكتب في اللوائح؛ بل يُترجم في الضمير، ويتجلى في النية، وليس فقط في تجنّب الفائدة. فالتساؤل الأهم هو ليس عن حجم الأصول؛ بل عن جوهر الرسالة.

فهل تجرؤ هذه المؤسسات، وقد بلغت من النضج ما بلغت، أن تعود لتسأل نفسها: لماذا وُجدنا؟ وهل ما زلنا نحمل هذا المعنى الذي لأجله وُلدنا؟ ذلك هو السؤال الحقيقي.. وكل الباقي تفاصيل.

التحدي البنيوي.. ضغوط السوق وسؤال البقاء

بكل هدوء واتزان، تأتي تلك اللحظة الفاصلة بين الفكرة وتجربتها، بين الرؤية وواقعها؛ لتطرح السؤال الأصعب: هل ما زالت المصرفية الإسلامية تحفظ "المعنى" الذي وُلدت من أجله، في عالم تملي فيه السوق شروطها، وتُحاصر لوائح الامتثال هامش الاختيار؟

فبعد أن انطلقت من تصور يرى المال أمانة لا غاية، ووسيلةً للإعمار لا للاحتكار، تجد اليوم نفسها أمام اختبار وجوديّ عسير، لا يقف عند حدود التنظير؛ بل يتطلب إعادة مساءلة الأساس الذي عليه بُنيت؛ ليستقيم التصوير.

ففي بيئة مصرفية عالمية تحكمها الربحية والكفاءة، تواجه المصرفية الإسلامية ضغوطًا من ثلاث جبهات: الامتثال التنظيمي، والمنافسة السوقية، ومتطلبات العائد.

إعلان

لم يعد يُنظر إليها من زاوية قيمتها الأخلاقية، بل بقدرتها على التكيّف مع مؤشرات الأداء والرقابة. وبدل ابتكار أدوات تعبّر عن رؤيتها، انزلقت بعض المؤسسات إلى "أسلمة الأدوات التقليدية"، فغدت المرابحة تُشابه الفائدة، والإجارة تضمن الأرباح دون تقاسم للمخاطر، والمشاركة تُفرغ من معناها التمكيني.

وامتد التحدي من الأدوات إلى العقل المؤسسي؛ حيث تغلب الحسابات الكمية على الاجتهاد المقاصدي، وتُدار الصيغ بلغة الجداول لا بروح الغايات، فتُختزل فكرة التمويل القيمي إلى توافق شكلي.

فالمطلوب إذن، ليس رفض السوق؛ بل استعادة التوازن بين الامتثال والمقصد، وبين المنافسة والرسالة. فالمصرفية الإسلامية وُجدت لا لتُقلد؛ بل لتُعبّر عن رؤية تُعيد للمال قيمته، وللمؤسسة معناها. والسؤال الذي ينبغي طرحه اليوم، هو: هل نملك الشجاعة لبناء أدوات تعبّر عن رؤيتنا.. لا تُشابه غيرنا؟

ما بعد القول.. وما قبل الإجابة

في المصرفية الإسلامية، لم يكن الغرض يتمثل في إنتاج أدوات مالية فحسب؛ بل إعادة صياغة العلاقة بين المال والإنسان. فقد وُلدت هذه التجربة قبل خمسة قرون في لحظة حضارية حرجة، لتقدّم بديلًا أخلاقيًّا في عالم يُعامل المال كأداة سيطرة لا وسيلة إعمار. لم تكن مجرد تعديل تقني على نموذج رأسمالي؛ بل دعوة لإعادة الاعتبار للإنسان والعَقد والقيمة، ضمن ما يمكن تسميته باقتصاد المعنى.

لكن مع مرور الزمن، تآكلت بعض هذه الرؤية تحت ضغط الامتثال ولوائح السوق، فانزلقت مؤسسات إلى تكرار أدوات تقليدية بأسماء شرعية، وابتعدت عن المقاصد إلى حسابات الربحية وحدها.

فقوة المصرفية الإسلامية لا تُقاس بعدد الصكوك ولا بحجم الميزانيات؛ بل بقدرتها على الوفاء برسالتها بأن تكون أداة تحرير لا تدوير، ومؤسسة تعيد للمال معناه، لا تسلبه روحه. ففي زمن تجتاحه الأشكال، تبقى المعاني وحدها قادرة على البقاء.

إعلان

والسؤال الجوهري الذي يظل يُلحّ على الضمير المهني والأخلاقي معًا،هو: هل يكفي ألا تكون المصرفية الإسلامية ربويّة أم يجب أن تكون رحيمة وعادلة أيضًا؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • غضب متبادل في بيروت وبغداد بعد تصريحات عون وردّ رجل دين عراقي
  • هجوم كشمير يذكي نار التوتر بين الهند وباكستان... ماذا نعرف عن الصراع حول الإقليم؟
  • سلاح الجو النوعي الذي أرعب الحركة الإسلامية
  • ملك الأردن يجتمع بابن سلمان في جدة.. ويستقبل برلمانيين أمريكيين
  • مخطط شارون الرهيب في غزة: ماذا نعرف عن محور موراج؟
  • الأردن يُعلن حظر جماعة الإخوان المسلمين... ماذا نعرف عنهم؟
  • الكنز الحرام.. ماذا كشفت النيابة داخل وكر سارة خليفة لتصنيع المخدرات ؟
  • المصارف الإسلامية التي أعادت الاعتبار للمال.. ماذا حدث لها؟
  • هل تواصل الحكومة العراقية تحكمها في الموازنة رغم انخفاض أسعار النفط؟
  • لا انسحاب ولا إعادة انتشار.. الحشد الشعبي مستمر على الحدود العراقية السورية