دعا عليهم النبي.. احذر مريض خطير يصيب مُحتكر السلع
تاريخ النشر: 2nd, February 2024 GMT
ما حكم الاحتكار وعقوبته؟ لعن الرسول -صلى الله عليه وسلم- المحتكر في الحديث الذي رواه مسلم: «الْجَالِب مَرْزُوق وَالْمُحْتَكِر مَلْعُونٌ»، وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله بَرِئَ من هؤلاء المحتكرين والغشاشين، كما جاء في مسند الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي اللّه عنهما- أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ (عرصة -أي: مكان-) أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى».
أَخْرَجَهُ أحمد 2/33 (4880).
وتبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- ممن يبيع طعامًا مغشوشًا للمسلمين وذلك حينما مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجل يبيع طعاما "حبوبا"، فأدخل يده فيه فرأى بللا، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟"، قال: أصابته السماء، أي: المطر، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غشنا ليس منا" رواه مسلم. وفى رواية أخرى يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من غش فليس مني" رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
وجاء الوعيد الشديد لمن أدخَل في أسعار المسلمين شيئا ظُلمًا وعدوانًا ليغلِيَه عليهم، فعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «ثَقُلَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَ». وفى رواية: «قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لَيُغْلِيَ عَلَيْهِمْ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمِ جَهَنَّمَ رَأْسُهُ أَسْفَلُهُ» الحاكم في مستدركه ج 2/ ص 15 حديث رقم: 2168).
دعاء النبي على المحتكر
ودعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل محتكر بأن يبتليه الله بالمرض والإفلاس من جميع الأموال المحرمة التي جمعها من وراء هذه السلوكيات الخاطئة ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة، فعن عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ، ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالإِفْلاسِ» «ابن ماجة (2155)، وفي الزوائد: إسناده صحيح.
من إحدى خصائص المعاملات المالية في الإسلام مراعاتها لمصالح أطراف المعاملة جميعًا بحيث لا يلحق ضررا مؤثِّرا بأحد الأطراف، وتلك الخصيصة طبيعة لما يمليه العدل الكامل الذي رسَّخته الشريعة الإسلامية، وكل ذلك لأن المعاملات مبناها على التشاحح لا المسامحة، ولأجل تحقيق هذا المقصد نهى الشارع عن بعض الممارسات التي قد تضر بمصالح بعض أطرافها، وسدَّ بطريقة محكمة منافذ هذه الممارسات بما يجفف منابعها.
وورد النهي عن الاحتكار في عدة أحاديث، منها: حديث معمر رضي الله عنه: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» رواه مسلم، وفي رواية: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ»، وحديث أبي أمامة رضي الله عنه: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ" رواه الحاكم في "المستدرك" وغيره.
وقال الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، إن الابتلاءات والشدائد من أقدار الله تعالى التي تحمل في طياتها ألطافَه ورحماتِه، وإن أهل الإيمان والمعرفة بالله تعالى يرقبون الله ورحمته في السراء والضراء كما قال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له».
وأضاف مفتي الجمهورية، أنه علينا جميعًا كمصريين أن نلتزم بتعليمات الأمن والسلامة التي تعلن عنها وزارة الصحة المصرية والجهات المختصة في الدولة أولًا بأول، قائلا: "إن دار الإفتاء المصرية تدعو جميع المصريين إلى ضرورة التعاون على البر والتقوى والالتزام بتعليمات ديننا الحنيف من الحرص الدائم على الطهارة والنظافة".
وتابع: إن دار الإفتاء المصرية تحذر كذلك من استغلال الأزمات والشدائد بممارسة الاحتكار في السلع الغذائية أو الطبية أو غيرهما، وتحذر كذلك من ترويج سلع أو مستحضرات طبية غير معتمدة من الجهات المختصة؛ فإن مثل هذه الممارسات محرمة قبيحة في كل وقت، وهي في وقت الأزمات والشدائد تعتبر خيانة عظمى للدين والوطن.
حكم الاحتكار للسلع وقت هلع الناس من الوباء واستغلال حاجة الناس والمغالاة
قال مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية، إن من أهم القواعد والأسس التي رسخها الإسلام في المعاملات بين الناس مراعاةَ الناس، وجعل من أهم خصائص الشريعة الإسلامية رفع الظلم والتظالم بين الناس، فإذا كان الإسلام قد أرشد ووجه إلىٰ طريق الكسب الحلال من خلال التجارة والبيع والشراء في قوله تعالىٰ: {وَأَحَلَّ ﷲ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، إلّا أنه تعالىٰ قد ضبط وقيّد هذه المعاملات بما يجب أن تكون عليه من مراعاة حقوق الناس، وإقامة العدل بينهم، وحرم أكل أموال الناس بالباطل فقال سبحانه وتعالىٰ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29].
معنى الاحتكار
والحكر والاحتكار في اللغة: ادخار الطعام للتربص، وصاحبه محتكر.
قال ابن سيده: الاحتكار جمع الطعام ونحوه مما يؤكل، واحتباسه انتظار وقت الغلاء به. [راجع: لسان العرب 2/204].
وجاء في القاموس المحيط [صـ484] للفيروزآبادي رحمه الله: الحكر هو: الظلم وإساءة المعاشرة.. وبالتحريك ما احتكر أى احتبس انتظارًا لغلائه.
أما في الاصطلاح: فقد اتفق الفقهاء علىٰ أن الاحتكار في الاصطلاح لا يخرج عن معناه في اللغة، فجميع تعريفاتهم متقاربة في المعاني والألفاظ، ويجمعها تعريف الإمام الباجي رحمه الله بقوله: "هو الادخار للمبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق" أي: أن الاحتكار هو حبس مال أو منفعة أو عمل، والامتناع عن بيعه وبذله حتىٰ يغلو سعره غلاءً فاحشًا غير معتاد، بسبب قلته، أو انعدام وجوده في مظانه، مع شدة حاجة الناس أو الدولة أو الحيوان إليه.
حكم الاحتكار
اتفق جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم علىٰ حرمة الاحتكار؛ لما فيه من تضييق علىٰ عباد الله مستدلين بما يأتي:
- بقول النبي ﷺ: «لا يحتكر إلا خاطئ» أخرجه مسلم.
ووجه الدلالة: أن التصريح بأن المحتكر خاطئ كافٍ في إفادة عدم الجواز؛ لأن الخاطئ هو المذنب العاصي، وهو فاعل من خطئ من باب علم إذا أثم فى فعله.
- وما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «منِ احْتَكَرَ حِكْرَةً يُريدُ أن يُغْلِيَ بها علىٰ المسلمينَ فهو خاطِئٌ» أخرجه الهيثمى فى مجمع الزوائد.
ووجه الدلالة: فى الحديث أنه واضح كسابقه علىٰ تحريم الاحتكار وعدم جوازه.
- وقوله ﷺ: «من احتكر طعامًا أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالىٰ، وبرئ الله تعالىٰ منه» أخرجه أحمد.
وقد ذكره ابن الجوزى فى الموضوعات.
- وما رواه الإمام مالك في الموطأ من الأثر عن الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: «لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلىٰ رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا.
- وبالمعقول: فلا يخفىٰ علىٰ لبيب أن الاحتكار يحمل في طياته بذور الهلاك والدمار للفرد والمجتمع؛ لما يسببه فى ظلم، وعنت، وغلاء، وبلاء، ولما فيه من إهدار لحرية التجارة والصناعة، وسد لمنافذ العمل وأبواب الرزق أمام غير المحتكرين.
الحكمة من حرمة الاحتكار
اتفق الفقهاء علىٰ أن الحكمة في تحريم الاحتكار هي رفع الضرر عن عامة الناس؛ ولذلك فقد أجمع العلماء علىٰ أنه لو احتكر إنسان شيئًا واضطر الناس إليه، ولم يجدوا غيره أُجبر علىٰ بيعه، دفعًا لضرر الناس، وتعاونًا علىٰ حصول العيش، قال الإمام النووي رحمه الله: "قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس، كما أجمع العلماء علىٰ أنه لو كان عند إنسان طعام واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعًا لضرر الناس، وتعاونًا علىٰ حصول العيش".
ما يجب علىٰ وليّ الأمر (الحاكم ونوابه) فعله ضد المحتكرينللفقهاء اجتهادات فيما يجب علىٰ الحاكم ونوابه فعله ضد المحتكرين تستند في جملتها علىٰ مبدأ سياسة التشريع في الإجراءات والتدابير، لتكون هذه الأحكام قوةً لحكومات الدول الإسلامية في مقاومة الاحتكار ومواجهته، وقد ذكر مجملها بعضُ المعاصرين فيما يلي:
1- إجبار المحتكر علىٰ إخراج المادة المحتكرة المخزونة، وطرحها في السوق، ليبيعها هو بالسعر التلقائي الحر الذي كان ساريًا قبل الاحتكار، مع زيادة يتغابن الناس في مثلها عادة؛ إزالةً للظلم عن الناس، وتحقيقًا للربح المعقول للتاجر، توفيقًا وتنسيقًا بين المصلحتين؛ قال الإمام الكاساني رحمه الله: "يؤمر المحتكر بالبيع إزالة للظلم، لكن إنما يؤمر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله، فإن لم يفعل، وأصر علىٰ الاحتكار، ورفع إلىٰ الإمام مرة أخرىٰ وهو مصرٌّ عليه فإن الإمام يعظه ويهدده، فإن لم يفعل ورفع إليه مرة ثالثة يحبسه ويعزره؛ زجرًا له عن سوء صنعه، ولا يجبر علىٰ البيع" اهـ.
وقال الإمام البهوتى فى كشاف القناع ما نصه: "ويجبر المحتكر علىٰ بيعه، كما يبيع الناس –أى بالسعر العام في السوق– دفعًا للضرر … وكذا السلاح إن احتاجوا إليه".
2- البيع علىٰ المحتكر إذا تمرد
فإذا أصر المحتكر –تعنتًا أو تمردًا – علىٰ الامتناع عن البيع بالسعر التلقائي في السوق الذي يحدده قانون العرض والطلب، تولىٰ الحاكم أو نوابه بيع سلعه نيابة عنه، وبالسعر الذي كان ساريًا قبل الاحتكار عدلًا، حتىٰ لا يُضار هو ولا الناس...، فلا يترك العدل لإرادات الناس إذا تهاونوا في تنفيذ مقتضاه؛ لأن اطراح العدل ظلم محرم شرعًا، وكل إجراء يؤدي إلىٰ تحقيق الحق والعدل فهو من الشرع.
3- حرمان المحتكر من الربح إذا تمرد، وأخذه منه عقوبة ومعاملة له بالنقيض:
وهذا ضرب من التغريم بالمال عقوبة تعزيرية علىٰ معصية الاحتكار، أما المعاملة له بالنقيض، فلأن نيته السيئة في الاستغلال، ونزعته المفرطة في الربح تقتضي ذلك، وهذه العقوبة قررها الفقهاء سياسة؛ إذ لم يرد نص بخصوصها منعًا للاستغلال المحرم، لأنه من الكبائر فهو كالربا، كسب خبيث بالانتظار والتربص.
4- مصادرة الحاكم للمال المحتكر إذا خيف الهلاك علىٰ أهل البلد، وتفريقه عليهم إذا اقتضت الضرورة ذلك، والضرورة تقدر بقدرها
وعلىٰ ما سبق
شدد الأزهر على أن الاحتكار جريمة دينية اقتصادية واجتماعية، وثمرة من ثمرات الانحراف عن منهج الله، وقد تنوعت صورة، وتعددت أساليبه.
ونوه بأنه لا يكون في الأقوات فحسب، وإنما يكون في كل ما يحتاج إليه الناس من مال وأعمال ومنافع؛ ذلك أنه من المقرر فقهًا أن «الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أم خاصة»، فمواقع الضرورة والحاجة الماسة مستثناة من قواعد الشرع وعموماته وإطلاقاته، فالاحتكار المحرم شامل لكل ما تحتاج إليه الأمة من الأقوات والسلع والعقارات من الأراضي والمساكن، وكذلك العمال والخبرات العلمية والمنافع لتحقق مناطه، وهو الضرر اللاحق بعامة المسلمين من جراء احتباسه وإغلاء سعره.
وأكمل: ولا شك أن الذي يضايق المسلمين فيما يحتاجون إليه من السلع الضرورية ويشتريها كلها من السوق ويضطر الناس إلىٰ أن يشتروها منه بثمن مرتفع يتحكم فيهم لا شك أن هذا لا يجوز، وهو منهي عنه، ويجب الأخذ علىٰ يده، ومنعه من ذلك، إذا لم يكن في السوق غير هذه السلعة التي يحتاج إليها الناس، وهو يشتريها ويحضرها عنده ليتحكم فيها فهذا أمر لا يجوز، ويجب على ولاة الأمور منعه من ذلك.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: حكم الاحتكار الاحتكار محتكر المحتكر صلى الله علیه وسلم الاحتکار فی الله تعالى رحمه الله رواه مسلم الله عنه فی السوق ى الله ع رضی الل ت ع ال ى جمیع ا
إقرأ أيضاً:
الوفاء وحفظ الجميل
من أهم الأخلاق التي حث عليها ديننا الحنيف الوفاء وحفظ المعروف ورد الجميل ومقابلة الإحسان بالإحسان , والمكافأة للمعروف بمثله أو أحسن منه والدعاء لصاحبه، قال الله تعالى : { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}, وقال تعالى: { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} .
وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لاَ يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ". ( أحمد والترمذي وابن حبان ) . وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ". ( أحمد وأبو داود والنسائي).
بهذا بدأ حديثه حول الوفاء وحفظ الجميل وأ قائلا:
إن الوفاءَ وحِفظَ الجَميلِ خُلُقٌ جليلٌ ؛ بل هو من أخلاقِ الأوفياءِ الكِبارِ ؛ الذين لا ينسونَ المعروفَ ولو طالَتْ بهم الأعمارُ ؛ فلا يزالُ الكريمُ أسيرًا لصاحبِ الجميلِ؛ يُظهرُ له الوِدَّ ويُمطرُه بالثَّناءِ الجزيلِ .
وأما اللَّئيمُ فهو يتجافى عن أصحابِ العطايا الكبيرةِ ؛ لأنَّه يظُنُّ أنَّهم إنما أحسنُوا إليه لمصالحِ الدُّنيا الحقيرةِ .
وصدقَ الشَّاعرُ:إذا أنتَ أكْرَمتَ الكَريمَ مَلَكْتَهُ * وَإنْ أنْتَ أكْرَمتَ اللَّئيمَ تَمَرَّدَا
فهناكَ أُناسٌ قد اصطفاهم ربُّ العالمينَ، ليسَ لهم همٌّ إلا سعادةَ الآخرينَ، وليسَ لهم شُغلٌ إلا مساعدةَ الآخرينَ، فهم لغيرِهم بينَ سعادةٍ ومُساعدةٍ، لا يريدونَ من أحدٍ جزاءً ولا شُكورًا، وإنما يخافونَ من ربِّهم يومًا عبوسًا قمطريرًا ؛ يضعونَ بينَ أعينِهم: " اصْنَعِ الْمَعْرُوفَ إِلَى مِنْ هُوَ أَهْلُهُ، وَإِلَى مِنْ لَيْسَ أَهْلَهُ، فَإِنْ كَانَ أَهْلَهَ، فَهُوَ أَهْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلَهَ، فَأَنْتَ أَهْلُهُ " . ولسانُ حالِ أحدِهم:
ازرعْ جميلًا ولو في غيرِ مَوضعهِ * فَلا يضيعُ جميلٌ أينما زُرِعا
إنَّ الجميلَ وإن طالَ الزمانُ بهِ * فليسَ يَحصدُهُ إلا الذي زَرَعا
ولقد ضربَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ في الوفاءِ من المثالِ أجملَه، ومن النصيبِ أكملَه، ومن ردِّ الجميلِ أحسنَه وأعدلَه؛ ودلائل وفاءه صلى الله عليه وسلم لا تنتهي عند المواقف والأحداث التي كان يفي فيها بما التزمه، فقد شهد له أعداؤه بأنه يفي بالعهود ولا يغدر، فحين لقي هرقل أبا سفيان، وكان أبو سفيان على عداوته لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ سأل هرقل أبا سفيان عن محمد صلى الله عليه وسلم عددًا من الأسئلة، كان مما سأله فيه قوله: فهل يغدر؟. قال لا !!
للوفاء وحفظ الجميل صور ومجالات عديدة تشمل جميع فئات المجتمع ومن ذلك :
الوفاء ورد الجميل للوالدين: فالوالدان قد تحملا المشقة في الإنجاب والرعاية والتربية والتعليم؛ وإن من باب الوفاء رد الجميل لهما الذي قدماه لنا صغارًا ؛ فهما في حاجةٍ إليه كبارًا ؛ فهذا حبيبكم صلى الله عليه وسلم يحن شوقًا ووفاءً إلى أمه وعيناه تزرفان!! فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ. فَقَالَ:” اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي؛ وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي؛ فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ.”(مسلم)؛ ولم يقتصر وفاؤه – صلى الله عليه وسلم – على أمه الحقيقية فقط بل عمَّ أمَّه من الرضاعة؛ ففي يوم من الأيام كان النبي عليه الصلاة السلام في الجعرانة يقسم الغنائم التي وضعت أمامه، وبينما هو منشغل بتقسيم الغنائم إذا به يلمح أمه من الرضاعة؛ فيخلع رداءه ويضعه أرضًا ويجلسها عليه، ويقول إنها أمي التي أرضعتني!!!
ومنها: الوفاء بين الأزواج: ففي الحديث :" أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ" . (متفق عليه) . فالوفاء بين الزوجين، يجعل الأسر مستقرة، والبيوت مطمئنة، فيكون رابط الوفاء بينهما في حال الشدة والرخاء، والعسر واليسر.
وما أجمل وفاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – لزوجه خديجة؛ فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غِرْتُ على أحدٍ من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غِرْتُ على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِر ذِكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة، فيقول: ” إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولدٌ.” (البخاري) . وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ على رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ, فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَالَةَ». قَالَتْ: فَغِرْتُ فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ، أَبْدَلَكَ الله خَيْرًا مِنْهَا .”(متفق عليه) .
وعن عائشة ، قالت : جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي ، فقال : لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أنت ؟ » قالت : أنا جثامة المزنية ، فقال : « بل أنت حسانة المزنية ، كيف أنتم ؟ كيف حالكم ؟ كيف كنتم بعدنا ؟ » قالت : بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فلما خرجت قلت : يا رسول الله ، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال ؟ فقال : « إنها كانت تأتينا زمن خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان » .(الحاكم وصححه ووافقه الذهبي) يقول النووي “في هذا كله دليلٌ لحُسن العهد وحفظ الوُدّ، ورعاية حُرمة الصاحب والعشير في حياته وبعد وفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب”.
ومنها: الوفاء مع الأقارب: فها هو صلى الله عليه وسلم يرد الجميل لعمه أبي طالب الذي تكفل بتربيته بعد وفاة جده عبد المطلب , فلا ينسى له ذلك , فحينما يتزوج السيدة خديجة رضي الله عنه يأخذ ابن عمه عليًا في كنفه ورعايته ردًا لجميل عمه ومساعدة له . وحينما حضرت الوفاة عمه أبا طالب كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يموت على الإسلام فأبى إلا أن يكون آخر كلامه: على ملة عبدالمطلب. فحزن صلى الله عليه وسلم عليه حزنًا شديدًا ؛ ودعا الله أن يخفف عنه العذاب. فعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ. هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ. وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ". (البخاري). فهذه شفاعةٌ خاصةٌ لعمِّه الذي دافعَ عنه وحماهُ، وردًا للجميل ؛ ولولا الكُفرُ لشفعَ له حتى نجاه من العَذَابِ .
قائلا:
ومنها: الوفاء مع غير المسلمين: فبعدَ عَودةِ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وبصحبتِه زيدُ بنُ حارثةَ من الطَّائفِ، وقد لَقيَ من ثَقيفٍ ما لقيَ من الإيذاءِ والضَّربِ بالحجارةِ، قَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَى قُرَيْشٍ وَهُمْ أَخْرَجُوكَ؟، فَقَالَ: "يَا زَيْدُ إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ"، ثُمَّ انْتَهَى إِلَى حِرَاءٍ فَأَرْسَلَ رَجُلاً مِنْ خُزَاعَةَ إِلَى مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ يَسْأَلُهُ: "أأَدَخُلُ فِي جِوَارِكَ؟"، فَقَالَ: نَعَمْ، وَدَعَا بَنِيهِ وَقَوْمَهُ فَقَالَ: تَلَبَّسُوا السِّلاَحَ، وَكُونُوا عِنْدَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ فَإِنِّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمَّدًا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَامَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمَّدًا فَلاَ يَهِجْهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَانْتَهَى صلى اللهُ عليهِ وسلمَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَانْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَوَلَدُهُ مُحِيطُونَ بِهِ. (طبقات ابن سعد).
وبعدَ سنواتٍ من هذه الحادثةِ هاجرَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ إلى المدينةِ، ثُمَّ ماتَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ على الشِّركِ قبلَ غزوةِ بدرٍ، وفي يومِ بدرٍ نصرَ اللهُ المسلمينَ، وأُسرَ من المشركينَ سبعينَ، وفي هذا الموقف تذكر صلى الله عليه وسلم موقف المطعم بن عدي والجميل الذي قدمه وذلك من باب الوفاء؛ فعن جُبير بن مُطعِمٍ بنِ عَدِيٍّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ". (البخاري).أي لأطلَقَهم له جميعًا دونَ فديةٍ، ردًّا للجميلٍ الذي كانَ منه في مكةَ.
ومنها: الوفاء للوطن الذي نعيش فيه: وذلك بالحفاظ على معالمه وآثاره ومنشآته العامة والخاصة؛ والحفاظ على مياه نيله التي تربينا عليه وروينا منها أكبادنا !! وعدم الإفساد في أرضه؛ أو تخريبه وتدميره؛ وعدم قتل جنوده وحراسه الذين يسهرون ليلهم في حراستنا وحراسة أراضينا!! والذين تمتد إليهم يد الغدر والخيانة بين الحين والحين!! فعن الأصمعي قال: ” إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه.” ( الآداب الشرعية لابن مفلح).
إن الوفاء يتَّخذُ أشكالاً وألواناً عديدةً، فهو أشبهُ بأنواع الزُّهور، فعبيرُ كلِّ واحدةٍ منها يختلفُ عن عَبير الأُخرَيات؛ ويكفي القلادة ما أحاط بالعنق!! فعلينا أن نكون أوفياء في كل صور الوفاء ومجالاته .
إننا بحاجة ماسة إلى خلق الوفاء وحفظ الجميل؛ لكل مَن له علينا معروف، والحذر مِن نكران الجميل؛ فإنه خبث في الطبع، وحمق في العقل . قال بعض العقلاء: "تعلموا أن تنحتوا المعروف على الصخر، وأن تكتبوا آلامكم على الرمل؛ فإن رياح المعروف تذهبها!". وهذه قصة لطيفة في هذا المضمون: والقصة تبدأ عندما كان هناك صديقان يمشيان في الصحراء ، خلال الرحلة تجادل الصديقان فضرب أحدهما الآخر على وجهه. الرجل الذي ضُرب على وجهه تألم ولكنه دون أن ينطق بكلمة واحدة؛ فكتب على الرمال: اليوم أعز أصدقائي ضربني على وجهي. استمر الصديقان في مشيهما إلى أن وجدوا واحة فقرروا أن يستحموا. الرجل الذي ضُرب على وجهه علقت قدمه في الرمال المتحركة و بدأ في الغرق، ولكن صديقة أمسكه وأنقذه من الغرق. وبعد أن نجا الصديق من الموت قام وكتب على قطعة من الصخر: اليوم أعز أصدقائي أنقذ حياتي. الصديق الذي ضرب صديقه وأنقده من الموت سأله: لماذا في المرة الأولى عندما ضربتك كتبت على الرمال؛ والآن عندما أنقذتك كتبت على الصخرة ؟! فأجاب صديقه: عندما يؤذينا أحد علينا أن نكتب ما فعله على الرمال؛ حيث رياح التسامح يمكن لها أن تمحيها، ولكن عندما يصنع أحد معنا معروفًا فعلينا أن نكتب ما فعل معنا على الصخر؛ حيث لا يوجد أي نوع من الرياح يمكن أن يمحوها .
فتعلموا أن تكتبوا آلامكم على الرمال لتمُحى؛ وأن تنحتوا المعروف على الصخر ليُحفظ الجميل ؛ لأن أقسى شيء على نفس الإنسان؛ أن يُقابل جميله بالنكران؛ ومعروفه بالكفران.
فيا أهلَ الإسلامِ: دينُّكم دينُ الوفاءِ؛ ونبيُّكم أوفى الأتقياءِ؛ فتمسكوا بدينِكم واقتدوا بنبيِّكم؛ وكونوا مضربَ مثلٍ لسائرِ الأممِ في الوفاءِ؛ فإن كثيرًا منهم قد فَقَدَ الوفاءَ في الأحبابِ؛ ولم يجده إلا عندَ الكلابِ.
إن الوفاء خُلق الكرام، به يسعد الفرد في الدنيا والآخرة؛ وبه يعيش المجتمع في أمن وأمان؛ والحب والتراحم يسود بين أفراد المجتمع؛ وبه ينال المسلم رضا ربه ويهنأ بدخول جنته.