الشرق الأوسط وحده قادر على إصلاح الشرق الأوسط.. و7 أكتوبر أعادت هندسة المنطقة
تاريخ النشر: 2nd, February 2024 GMT
"الشرق الأوسط وحده قادر على إصلاح الشرق الأوسط"، هكذا بشكل مباشر يخلص تحليل كتبته كل من سنام فاكيل، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "تشاتام هاوس"، و داليا داسا كاي، الزميلة الأولى في مركز بيركل للعلاقات الدولية بجامعة كاليفورنيا، ونشرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية.
ويرى التحليل، الذي ترجمه "الخليج الجديد"، بوضوح أن شكل ووتيرة ونتائج التدخل الأمريكي الحالي في أزمة حرب غزة، على المستويين العسكري والدبلوماسي، يشير بوضوح إلى استمرار ضعف يد واشنطن في المنطقة وتراجع قدرتها على السيطرة أمنيا وعسكريا على إيران وحلفائها بالمنطقة، وبالتبعية تراجع نفوذها الدبلوماسي، وبالتالي لم يولد نشاطها العسكري والدبلوماسي في المنطقة الثقة المطلوبة.
ومن هنا، تؤكد الكاتبتان أن القوى الإقليمية الكبرى في الشرق الأوسط (السعودية ومصر والإمارات وقطر والأردن وتركيا وإيران)، تظل قادرة وحدها على استعادة توازن المنطقة واستقرارها، بما في ذلك حل الأزمة الحالية في غزة بخطط طموحة، بدليل أن تلك القوى كانت قد شرعت في تقارب مدروس وتجاوز للتوترات السابقة، ونجحت بشكل مبهر في ذلك التقارب، والذي جعلها تتحرك بشكل جماعي منسق وموحد مثير للإعجاب في التعاطي مع أزمة غزة الآن.
اقرأ أيضاً
تقدير أمريكي: منطق التطبيع لايزال قائما بالخليج.. لكن "ثمنه" الإسرائيلي ارتفع
لكن التحليل يسوق شرطين لتحقيق هذه المعادلة الصعبة، وهما:
أولا: تخلي تلك القوى تماما عن انتظار عودة النفوذ الأمريكي في المنطقة، لا سيما دول الخليج، التي ترى نفسها لا تزال تعتمد على هذا النفوذ بشكل شبه أساسي.
ثانيا: لتحويل هذا التصميم المشترك إلى مصدر دائم للقيادة الجماعية، يتعين على هذه القوى أن تحتضن مؤسسات وترتيبات إقليمية أكثر ديمومة، مثل منتدى حوار دوري يوفر طريقة فعالة لوضع الترتيبات الإقليمية وتنفيذها.
لماذا يتراجع النفوذ الأمريكي؟رغم مبادرة إدارة بايدن لإرسال قطع عسكرية كبيرة ووضع أصول كبيرة في المنطقة منذ اندلاع الحرب في غزة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإن الأمر لن يستمر، وفقا للسياسة الأمريكية الاستراتيجية والتي تقضي بتخفيف التواجد في الشرق الأوسط لصالح الاهتمام بصعود الصين وحرب روسيا وأوكرانيا.
ويبدو من غير المرجح أن ينهي المسؤولون الأمريكيون جهودهم لفصل الولايات المتحدة عن صراعات الشرق الأوسط، يقول التحليل.
ويضيف: إذا حدث أي شيء، فإن ديناميكيات الحرب المتزايدة التعقيد قد تؤدي إلى تراجع شهية الولايات المتحدة للمشاركة في المنطقة، كما أن مضاعفة الالتزامات في الشرق الأوسط من غير المرجح أن تكون استراتيجية رابحة لأي من الحزبين السياسيين الأمريكيين في عام انتخابي حاسم.
اقرأ أيضاً
هل 7 أكتوبر نهاية الطريق لنتنياهو؟
إعادة ضبط المنطقةويقول التحليل إنه خلال السنوات التي سبقت الهجمات، أظهرت الدول العربية وغير العربية إمكانية ظهور أشكال جديدة من التعاون فيما كان بمثابة إعادة ضبط كبيرة للعلاقات في جميع أنحاء المنطقة. وحتى بعد أشهر من الحرب، ظلت العديد من هذه العلاقات سليمة.
ويحذر التحليل من إمكانية تسبب حرب غزة – إن طال أمدها – أن تتسبب في عكس هذه الجهود الإقليمية لضبط العلاقات بين الشركاء الذين تجاوزوا مرحلة التوتر، وانتقلوا إلى شراكات متميزة، مثل السعودية والإمارات مع قطر والعكس، ومصر مع تركيا والعكس، والسعودية والإمارات مع تركيا والعكس، والسعودية مع إيران والعكس.
وترى الكاتبتان أن الولايات المتحدة ستظل لاعباً رئيسياً في المنطقة بسبب أصولها العسكرية وعلاقتها التي لا مثيل لها مع إسرائيل.
لكن أي توقع بأن واشنطن سوف تكون قادرة على التوصل إلى صفقة كبرى قادرة على إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل نهائي، هو توقع منفصل عن حقائق الشرق الأوسط اليوم.
اقرأ أيضاً
السعودية مستعدة لقبول "التزام سياسي" من إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية مقابل التطبيع
واجب الوقتلذلك، يرى التحليل أنه من الواجب على القوى الإقليمية الآن أن تبادر لدعم لية سياسية ذات معنى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، واتخاذ خطوات حاسمة لمنع تجدد ما حدث في السابع من أكتوبر 2023، عبر ترتيبات أمنية إقليمية جديدة وأقوى يمكنها توفير الاستقرار بقيادة الولايات المتحدة أو بدونها.
التطبيعوبعد أن نجحت واشنطن، قبل حرب غزة، في إدماج التطبيع بين إسرائيل ودول خليجية وعربية، كمسار ضمن الحراك الإقليمي لإعادة ضبط الأوضاع بين القوى الكبرى في المنطقة، جاءت تلك الحرب لتبعثر الأوراق مجددا، بعد أن تزايدت مشاعر الغضب ضد تل أبيب في أوساط الرأي العام العربي وتدهور العلاقات التي كانت تعود ببطء بين تركيا وإسرائيل، وكذلك توقف حراك تطبيع السعودية.
وتؤكد الكاتبتان أن السبب الأساسي لهذا الفشل ليس حرب غزة، ولكن تجاهل القضية الفلسطينية ووضعها على الرف، خلال بداية تأسيس حراك التطبيع الجديد، وهو ما أدى لتفجر الأوضاع، ولكن يبدو أن الدول العربية والقوى الإقليمية الأخرى تعلمت من هذا الدرس.
وبالتالي، عملت قوى عربية وخليجية على صياغة خطة لإعادة مسار التطبيع، ولكن بشروط صارمة متعلقة بالقضية الفلسطينية هذه المرة، وأبرزها إقامة دولة فلسطينية، وهو الحراك الذي بات يحظى بدعم واشنطن، لكن حكومة نتنياهو لا تزال تقاومه بإصرار، وهو الأمر الذي قد يسرع من طريقها نحو مصيرها المحتوم، التفكك والانهيار لصالح هيمنة الرؤية الجديدة، التي تحظى بإجماع عربي وموافقة أمريكية.
اقرأ أيضاً
مدير المخابرات الأمريكية: الشرق الأوسط قريب من الانفجار.. وأمن المنطقة في التعامل مع إيران
ضوء أخضر إيرانيويرى التحليل أن إعادة تنظيم المنطقة التي بدأت إقليميا، قبل حرب غزة، كانت في الأساس هشة لكنها مستقرة ومتقدمة، ولن يكون من المتصور أن تسمح القوى الإقليمية الحالية ببعثثرة كل شيء من أجل رغبات حكومة نتنياهو بحرب طويلة لا نهاية لها في الأفق القريب.
حتى إيران، التي ينظر إليها كأكثر تلك القوى تشددا وتطرفا ضد إسرائيل، أرسلت عدة رسائل مطمئنة لبقية القوى من العرب، حينما نأت بنفسها بشكل متصاعد عن مسار الحرب والتصعيد، رغم استمرار وكلائها في العمل بوتيرة شبه منضبطة.
وقالت إيران بوضوح إنها لن تمانع أي حراك نحو حل الأزمة الفلسطينية، شريطة أن يتم بواسطة الفلسطينيين أنفسهم وليس بشكل خارجي يستمر في تجاهلهم، وهو ما يعد أمرا مشجعا للمضي قدما نحو استئناف الترتيبات الإقليمية.
أيضا، أعطت طهران أولوية جديدة للأعمال التجارية الإقليمية والعلاقات التجارية ليس فقط مع دول الخليج العربية ولكن أيضًا مع العراق وتركيا ودول آسيا الوسطى، فضلاً عن الصين وروسيا.
اقرأ أيضاً
لماذا تنخرط إيران في صراع أفقي محدود وحذر بالشرق الأوسط؟
تأثير غزةويسوق التحليل مفارقة مهمة، وهي أن غزة، التي ينظر إليها كنقطة تفجير لكل الترتيبات الإقليمية، قد تكون هي أكبر نقطة للحفاظ على تماسك المنطقة.
ففي مواجهة الغضب الشعبي الساحق واحتمال التطرف على المدى الطويل وعودة الجماعات المتطرفة، قام زعماء المنطقة بمواءمة استجاباتهم السياسية للحرب إلى حد كبير ومثير للإعجاب، وهو ما نتج عنه زيادة الروابط بينها بشكل يخدم الاستقرار.
على الرغم من الاستراتيجيات المتباينة تجاه إسرائيل والفلسطينيين قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، فإن الحكومات في جميع أنحاء الشرق الأوسط متحدة على نطاق واسع بشأن المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، ومعارضة أي نقل للفلسطينيين إلى خارج غزة، والدعوة إلى وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة وتوفير المساعدات العاجلة ودعم المفاوضات من أجل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين مقابل إنهاء الحرب.
اقرأ أيضاً
حرب غزة.. لهذا لم تقطع تركيا جميع علاقاتها مع إسرائيل
خطر وجوديويخلص التحليل، في نهايته، إلى أن الاستقرار الإقليمي بالشرق الأوسط بات في خطر وجودي، وأن تحرك القوى الإقليمية الكبرى بشكل موحد يأتي استشعارا لهذا الخطر، وأن القضية الفلسطينية عادت إلى مركز هذه الترتيبات مجددا، بعد أن جرى تهميشها، والفضل يعود لحرب السابع من أكتوبر التي بدأتها "حماس".
وانطلاقا من هذه التطورات، يطالب التحليل تلك القوى الإقليمية بصياغة مبادرات منتظمة للحوار ووضع الخطط الاستراتيجية، وصولا إلى صياغة منتدى للأمن الإقليمي بشكل دوري وثابت.
ونظراً لحاجة المنطقة الملحة إلى التنسيق ووقف التصعيد، فإن الأزمة الحالية توفر فرصة حاسمة لبدء مثل هذه المبادرة.
المصدر | سنام فاكيل وداليا داسا كاي / فورين أفيرز - ترجمة وتحرير الخليج الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الشرق الاوسط حرب غزة التطبيع القضية الفلسطينية 7 أكتوبر حماس القوى الإقليمية الولایات المتحدة القوى الإقلیمیة الشرق الأوسط فی المنطقة اقرأ أیضا تلک القوى حرب غزة
إقرأ أيضاً:
رؤية نتنياهو للشرق الأوسط الجديد: التوسُّع الإسرائيلي وأجندة القوى الكبرى
#رؤية_نتنياهو للشرق الأوسط الجديد: التوسُّع الإسرائيلي وأجندة القوى الكبرى
دوسلدورف/ #أحمد_سليمان_العمري
تشكِّل رؤية «بنيامين نتنياهو» للشرق الأوسط الجديد تجسيدا لطموحات إسرائيليَّة تاريخيَّة في توسيع نفوذها والسيطرة على الأراضي الفلسطينيَّة، مستندة إلى أيديولوجيَّة صهيونيَّة تهدف إلى ضمِّ الأراضي المحتلّة وتحقيق الأمن القومي الإسرائيلي.
هذه الرؤية ليست جديدة، بل تمتدُّ لعقود منذ قيام دولة إسرائيل، حيث تبنَّى قادة إسرائيليون مثل «دافيد بن غوريون» وحتى «نتنياهو» سياسات مشابهة تسعى لتوسيع حدود الدولة على حساب الفلسطينيين.
مقالات ذات صلة كل ……… ها….ياذا الورع البارد 2024/11/11الجذور الأيديولوجيَّة والتاريخيَّة
يرجع هذا التوجُّه إلى أواخر القرن التاسع عشر، مع ظهور الحركة الصهيونيَّة التي سعت لإنشاء دولة يهوديَّة في فلسطين، معتبرةً أنَّ هذه الأرض هي «أرض الميعاد» التي وُعد بها اليهود دينيّا وتاريخيّا.
منذ ذلك الحين، سعت إسرائيل إلى ترسيخ سيطرتها على الأراضي الفلسطينيَّة، بما في ذلك الضفة الغربيَّة وقطاع غزّة، بوصفهما جزءا لا يتجزَّأ من الدولة الإسرائيليَّة، وهي الرؤية التي تُعرف بـ «إسرائيل الكبرى».
في خطابه أمام الكونغرس الأمريكي، صرَّح نتنياهو بوضوح أنَّ «السامرة» و «يهودا»، وهما الاسمان العبريان للضفة الغربيَّة، هما جزء لا يتجزَّأ من «أرض إسرائيل». لم يكن هذا التصريح مجرَّد تعليق سياسي عابر، بل يعكس استراتيجيَّة إسرائيليَّة طويلة الأمد تسعى لدمج هذه الأراضي ضمن حدود الدولة، متجاهلة الحقوق الفلسطينيَّة، حيث تكرِّس إسرائيل من خلال هذه السياسة رؤية مستقبليَّة تتضمّن الضمَّ التدريجي للأراضي الفلسطينيَّة، ما يمهِّد الطريق لتغيير جذري في الخارطة الجيوسياسيَّة للشرق الأوسط.
خارطة الشرق الأوسط الجديد
تشير بعض التحليلات الإسرائيليَّة إلى أنَّ رؤية نتنياهو تتجاوز مجرَّد ضمّ الأراضي الفلسطينيَّة، فهي جزء من خطة أوسع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتناسب مع المصالح الإسرائيليَّة.
يرى المحلِّل الإسرائيلي «إيال زيسر» أنَّ هذه الخطة تسعى إلى بناء علاقات جديدة مع دول عربيَّة في إطار تحالفات أمنيَّة واقتصاديَّة تعزِّز موقع إسرائيل في المنطقة.
من جهةٍ أخرى، عرض نتنياهو، خلال خطابه أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة الجمعة 26 سبتمبر/أيلول 2024، خريطتين تظهران الضفة الغربية وقطاع غزّة كجزء من إسرائيل، الأولى باللون الأخضر للدول التي تربطها معها اتفاقيات تطبيع وأخرى قاب قوسين أو أدنى، وضمّت مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن، وكُتب على الخريطة الأولى كلمة «البركة»، وعلى الخريطة الثانية كلمة «اللعنة».
هذه الرؤية تتوافق مع خطة «صفقة القرن»، التي اعتبرتها العديد من الدول وسيلة لتعزيز السيطرة الإسرائيليَّة، حيث يُنظر إلى الحدود المقترحة على أنَّها تسعى لتغيير الخريطة السياسيَّة لتشمل الأردن وأجزاء من السعوديَّة ومصر وسوريا ولبنان.
في حين دعمت الولايات المتحدة إسرائيل لتحقيق أهدافها التوسّعيَّة، فإنَّ روسيا والصين أبدتا مخاوفهما من أن يؤدي الضمُّ الإسرائيلي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة.
العديد من المحلِّلين السياسيين الأوروبيين يعتبرون أنَّ هذه الرؤية الإسرائيليَّة تمثِّل تهديدا للأمن الإقليمي، وقد تقود إلى مزيد من التوترات مع الدول المجاورة، خاصَّة الأردن ومصر، اللتين قد تتأثَّران بشكل مباشر من هذه التغيرات الجيوسياسيَّة.
الأوضاع الإنسانيَّة في غزّة
بالتوازي مع هذه الرؤية التوسّعيَّة، تعيش غزّة حرب إبادة وتطهير عرقي، فضلا عن الأزمةً الإنسانيَّة الخانقة نتيجة الحصار المستمرِّ والعمليات العسكريَّة الدائمة المتكرِّرة، حتى أنّها أصبحت أداة قتل بالتجويع. في شمال غزّة على وجه الخصوص، يعاني المدنيون من نقص شديد في المساعدات الإنسانيَّة، حيث تتعرَّض المستشفيات للحصار والقصف والدمار، مما يُفاقم القتل المُمنهج جرّاء ذلك.
تشير التقارير الواردة من وزارة الصحة الفلسطينيَّة إلى أنَّ عدد القتلى والإصابات قد ارتفع بشكل كبير، بينما تُمنع فرق الإنقاذ من إيصال الجرحى إلى المستشفيات. هذا الوضع الإنساني الكارثي يُستخدم كأداة ضغط سياسيَّة لتحقيق أهداف إسرائيليَّة أوسع، حيث يسعى الجيش الإسرائيلي إلى تنفيذ «خطة الجنرالات» التي تهدف إلى تهجير السُكّان الفلسطينيين قسريّا من شمال غزّة، ما يمهِّد الطريق لإعادة احتلال المنطقة وبسط السيطرة عليها.
الاغتيالات الإسرائيليَّة للقيادات الفلسطينيَّة
جزء آخر من سردية إسرائيل لترسيخ نفوذها يتجلّى في استخدام سياسة الاغتيالات كوسيلة للقضاء على القيادات الفلسطينية، فهي تعتقد أنّ التخلّص من قيادات المقاومة الفلسطينية يعني بالضرورة إنهاء المقاومة بشكل عام.
هذه الفكرة تجسّدت في التصريحات الأخيرة التي صدرت عن مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين وأوروبيين، حيث طالبت هذه الأطراف بإعادة الأسرى الإسرائيليين بعد استشهاد يحيى السّنوار، مما يعكس اعتقادهم بأن المقاومة مرتبطة ارتباطا وثيقا بشخصيات معينة.
تسعى الحكومة الإسرائيلية من خلال سياستها المتمثّلة في اغتيال قادة المقاومة إلى تحقيق تصورها بأنّ القضاء على الأفراد يمكن أن يؤدّي إلى تقويض الحركة المقاومة برُمّتها. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية تُظهر تجاهلا عميقا للواقع المعقّد الذي يواجه القضية الفلسطينية، حيث إن المقاومة ليست مجرّد ظاهرة تتعلّق بشخص، بل هي نتاج احتلال مقيت وأطول في التاريخ الحديث، تزامنا مع ظروف تاريخية واجتماعية ودينية وسياسية عميقة تتجاوز الأفراد.
أحد الأمثلة الدالة على ذلك هو رئيس المكتب السياسي لحركة المقامة الإسلامية حماس، يحيى السّنوار، الذي كان مستهدفا في محاولات الاغتيال الإسرائيلية، والشيء الذي لم تحسب إسرائيل له حسابا هو أنّ استشهاد السّنوار جعل منه رمزا وأيقونة في تاريخ المقاومة في العالم وليس في فلسطين والعالم العربي والإسلامي حصرا.
الصور التي تم تداولها بعد استشهاد يحيى السّنوار مُشتبكا عصفت بالقيادة الإسرائيلية وجيشها الهادف إلى إضعاف المقاومة واحباطها عبر قتل قائدها، وبدلا من هزّ صورته وتقويض المقاومة من خلاله، آل السّنوار ضميرا حيّا ومضربا للمثل بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وروح مقاومة ومُلهمة عابرة للقارات.
تُعدُّ هذه الاغتيالات جزءًا من حملة إسرائيليَّة بائسة أوسع تهدف إلى إضعاف المقاومة الفلسطينيَّة وتعزيز السيطرة الإسرائيليَّة على الأرض، وهو ما ينسجم مع رؤية نتنياهو للشرق الأوسط الجديد.
تسريبات هآرتس حول الخصخصة في غزّة
في سياق التوسُّع الاستيطاني الإسرائيلي على أراضي الفلسطينيين، تسعى حكومة نتنياهو إلى تحقيق استراتيجيات تتضمَّن السيطرة على مساحات واسعة في الضفة الغربيَّة وقطاع غزّة. في هذا الصدد، تتكشَّف خططٌ جديدة تعكس نوايا إسرائيليَّة أعمق لإعادة تشكيل المشهد السياسي والعسكري في المنطقة.
في مقال نشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024، كشفت الصحفية «نوا لانداو» عن تسريبات خطيرة تؤكِّد أنَّ نتنياهو يسعى لخصخصة الحكم في غزّة. ووفقًا لهذه التسريبات، فإنَّ الخطة تهدف إلى نقل السيطرة المدنيَّة في قطاع غزّة إلى شركات خاصّة مثل شركة «GDC» الإسرائيليَّة – الأمريكيَّة، وهي شركة لها تاريخٌ طويلٌ في العمل بالمناطق التي خضعت للاحتلال، مثل العراق وأفغانستان.
يأتي هذا في إطار سياسة إسرائيليَّة قديمة تستهدف إبعاد المسؤولية القانونيَّة والأخلاقيَّة عن إسرائيل عبر تسليمها إلى شركات خاصّة ذات مصالح ماليَّة، بما يُؤدِّي في النهاية إلى تقويض السلطة الفلسطينيَّة ومنعها من استعادة السيطرة في القطاع.
وتشير «لانداو» في مقالها إلى أنَّ هذه الاستراتيجيَّة تعتمد على تدمير البنية التحتيَّة، وتهجير السُكّان، وخلق مواقع عسكريَّة جديدة، مما يجعل المنطقة تواجه مستقبلا مليئا بالفوضى والاستيطان، وهو ما تعتبره «وصفة مؤكّدة للكارثة القادمة».
الحاجة إلى موقف عربي موحَّد
إنَّ ما يحدث اليوم في غزّة والضفة الغربيَّة من قصف متواصل، وعمليات قتل ممنهجة، وتدمير للمدن، يشكِّل صورةً قاتمة عن إبادة جماعية في عصر الحقوقية وانتهاكات حقوق الإنسان التي يجب أن تقف أمامها الدول العربيَّة والعالمية وجميع أحرار العالم.
إنَّ الفظائع التي تُرتكب بحق الفلسطينيين، من أبادة وقتل بالتجويع وتهجير قسريّ إلى تدمير كامل للبنية التحتيَّة؛ لا يقف خلفها حرب تقليدية، بل هي جرائم حرب ضدّ الإنسانيَّة؛ تتطلَّب تحركً عاجلا وجادّا من المجتمع الدولي.
يجب على القادة العرب أن يُدركوا أنَّ السكوت عن هذه الجرائم يُعدُّ بمثابة تواطؤ صريح، وأنَّ الوحدة العربيَّة يجب أن تتجاوز الشعارات لتتحوَّل إلى خطوات فعليَّة لدعم الشعب الفلسطيني، لا بل أصبح تشكيل جبهة عربيَّة متضامنة ضرورة مُلحّة، تعبِّر عن موقف حازم ضدَّ الاعتداءات الإسرائيليَّة والقتل اليومي، وتُعزِّز من الجهود الرامية إلى تقديم الدعم الإنساني العاجل وإنهاء الحرب الدامية، وتبنِّي حلول سياسيَّة شاملة تُعيد الحقوق الفلسطينيَّة وتضمن لهم تحقيق العدالة.
إنَّ التصدي لهذه الأزمات يتطلَّب إرادةً سياسيَّة حقيقيَّة، واستراتيجيَّة موحَّدة تحمي الأمن القومي العربي وتؤكِّد على أنَّ فلسطين ليست مجرَّد قضية شعب مضطهد، بل هي رمزٌ للكرامة الإنسانيَّة، وحقٌّ الفلسطيني في العيش على أرضه وتحت سيادته بسلام وأمان.
بقاء الدول العربيَّة متفرّجة على مأساة إنسانيَّة بهذا الحجم عار لن يمحيه التقادم.
ahmad.omari11@yahoo.de