عثمان ميرغني

من الفصول المأساوية المظلمة في حرب السودان الراهنة، الانتهاكات والعنف الجنسي ضد النساء. على مدى أشهر الحرب، صدرت تقارير وشهادات وروايات عن حالات الاغتصاب والعنف الجنسي واختطاف فتيات صغيرات واستعبادهن، رافقتها إدانات دولية واسعة، وسط ذهول وغضب واسعين بين السودانيين. خلال الأيام القليلة الماضية عادت القضية إلى السطح مجدداً مع نشر تقارير وشهادات جديدة توثق وتدين هذه الظاهرة الخطيرة والبشعة.

قصص أشبه بكوابيس، وروايات تدمي القلب تسمعها وتكاد لا تصدق من هول ما تسمع.

في مقطع صوتي متداول أخيراً يحكي رجل عن تجربة تاجر شاهد في الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور سوقاً لبيع بنات مختطفات من شمال السودان وكانت من بينهن صبية صغيرة عمرها 11 سنة تبكي بينما يساوم رجال قال إنهم من النيجر وتشاد لشرائها. أشفق عليها التاجر وقرر إنقاذها فدفع ما يعادل نحو 4900 دولار، وأخذها إلى بيته وأسرته فاهتموا بها وعلموا أنها من منطقة الخرطوم بحري وحصلوا منها على رقم هاتف أهلها وتواصلوا معهم لإبلاغهم بإنقاذ ابنتهم من مصير مظلم مجهول.

وجود مثل هذه السوق وثقته أيضاً شهادات سكان وهيئات من دارفور، ومنظمات حقوقية دولية معنية بحقوق الإنسان. فقد نشر «المركز الأفريقي لدراسات السلام والعدالة» تقريراً مفصلاً هذا الأسبوع عن الاستعباد الجنسي وعن سوق لبيع النساء في «خور جهنم» بدارفور أورد فيه روايات مرعبة عن اختطاف المسلحين نساءً من مناطق الحرب في شمال السودان وبشكل خاص من الخرطوم وضواحيها، واقتيادهن إلى دارفور، حيث يجري استعبادهن جنسياً، وبيع بعضهن لذات الغرض، والمساومة في بعض الحالات مع أسر بعضهن لدفع فدية مقابل الإفراج عنهن.

وقال مساعد محمد، مدير المركز، إن تقريرهم مصحوب بأدلة، وروايات شهود عيان، ومقابلات مع 45 من الضحايا والشهود وأسر ناجيات من الخطف تم تحريرهن إما بواسطة الجيش السوداني وإما من خلال عمليات دفع فدى للخاطفين.

وفي إطار الإعداد للتقرير الذي استغرق ثلاثة أشهر من البحث الميداني، تواصل باحثون من المركز مع مواطنين من مدن وبلدات وقرى عدة في دارفور ونقلوا شهاداتهم مع حجب أسمائهم الحقيقية حفاظاً على سلامتهم.

استناداً إلى التقرير فإن البحث قاد إلى إفادات حول مشاهدة نساء وفتيات على متن سيارات بعضهن مقيد بالسلاسل ما يرجح خطفهن من مدينة الخرطوم. ونقل عن أربعة مدنيين من المقيمين بمنطقة كويم الملاصقة للبوابة الغربية لمدينة الفاشر بشمال دارفور، أنهم شاهدوا أكثر من 70 سيارة ماركة «تويوتا» نصف نقل محملة بصناديق وأشياء أخرى، وأكثر من 10 سيارات بها فتيات وفي أيديهن السلاسل. وذكر أحد سكان المنطقة أن الظاهرة رصدت للمرة الأولى في مايو (أيار) 2023، أي بعد أسابيع قليلة من اندلاع الحرب في الخرطوم، ثم أخذت في التنامي في شهر يونيو (حزيران).

المؤكد أن الظاهرة متواصلة مع استمرار الحرب وتوسعها في مناطق أخرى، إذ تحدثت تقارير أخرى عن حالات اختطاف بواسطة المسلحين من ولاية الجزيرة التي اقتحمت «قوات الدعم السريع» حاضرتها، مدني، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وأكد الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة على لسان الشفيع محمد علي المدير التنفيذي لجمعية تنظيم الأسرة بالسودان، أنه وبعد مرور 10 أشهر على الحرب «ارتفعت معدلات العنف ضد النساء بشكل مخيف للغاية، خصوصاً العنف الجنسي المتصل بالصراع، وعمليات الخطف، والإخفاء القسري، وإجبار النساء على مساعدة المسلحين بالإكراه».

ولأن كل التقارير الدولية والمحلية وجّهت الاتهام لـ«قوات الدعم السريع»، رأينا بياناً من هذه القوات هذا الأسبوع يرد بالنفي على تقرير صادر من «شبكة المبادرة الاستراتيجية لنساء القرن الأفريقي» أحصى 104 حالات اختطاف قسري لنساء وفتيات صغيرات في السن. وقالت «الدعم السريع» إنها «ملتزمة بالقانون الدولي والإنساني»، وإنها «تتابع تصرفات الأفراد ولن تسمح بأي تجاوزات». لكن وزارة الخارجية السودانية قالت إن تقرير الشبكة يعضد ما جاء في البيان الصادر عن 32 من خبراء حقوق الإنسان والمقررين الخاصين للأمم المتحدة في قضايا حماية المرأة والطفل ومكافحة العنف الجنسي.

الثابت أن هذه الحرب أفرزت ظواهر كثيرة هزّت السودانيين، وستبقى آثارها لوقت طويل بعد أن تنتهي. فهناك أسر لا تعرف حتى اللحظة مصير بناتها المختفيات، وأسر تحاول أن تدفن أحزانها وتتكتم على الاعتداءات التي تعرضت لها النساء، وذلك بسبب الخوف من العار في المجتمع السوداني الذي يتعامل بحساسية عالية مع قضايا الشرف وينبذها بوصفها دخيلة عليه، ومتصادمة مع قيمه. لذا فإن هذه القضية ستكون من بين القضايا التي تحتاج إلى انتباه خاص من جهات الاختصاص لتوفير الدعم النفسي والطبي للضحايا وأسرهن، والتوعية بشكل عام في سبيل التصدي لمثل هذه الظواهر، لأنه لا يمكن الحديث عن اجتثاثها ما دامت هناك حروب تظهر فيها أسوأ أمراض النفس البشرية.

فالسودان ليس وحيداً في هذا المجال، وقد عانت مجتمعات ودول أخرى منها، بل إن السودان ذاته عانى من هذه الممارسات في مناطق صراعات قديمة وبشكل خاص في حرب دارفور بمراحلها المختلفة. صحيح أن الصدمة اليوم أكبر لأنها وصلت إلى مناطق أوسع، وجهات لم تعرفها وتألفها من قبل، ما يعني ضرورة تسخير جهود وموارد لدعم المنظمات والهيئات العاملة في مجال محاربة هذه الظواهر ومساندة ضحاياها.

الانتهاكات الواسعة التي حدثت ليس من المقبول لأي جهة أن تصفها بأنها مجرد «تفلتات» لا سيما أنها حدثت على نطاق واسع وبطريقة بدت ممنهجة وانتقامية أحياناً. وواهم مَن يعتقد أن الجروح الغائرة التي خلفتها هذه الحرب ستندمل بسرعة، أو أن السودانيين سينسون بسهولة. طريق التعافي سيكون صعباً، والمحاسبة القانونية لا بد أن تكون جزءاً من هذا الطريق.

الوسومعثمان ميرغني

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: عثمان ميرغني

إقرأ أيضاً:

السودان وتشاد: الفرصة التي لا ينبغي تفويتها

تدخل الحرب المفروضة على السودان وشعبه عامها الثالث، وقد تغيّر كثيرٌ من معالم المعركة، وتغيّر ميزان القوى في ميدان القتال، وأثّر ذلك على مواقف الفاعلين الإقليميين والدوليين بشكل ملحوظ.

فقد أدّت انتصارات القوات المسلحة السودانية الباهرة، والهزيمة النكراء التي لحقت بمليشيا الدعم السريع، إلى فرض إرادة الدولة السودانية التي كادت أن تُختطف، وتعزّزت السردية الحقيقية لهذه الحرب، والتي تهدف إلى السيطرة على الدولة، وتهجير سكانها وفرض واقع اجتماعي مختلف تمامًا. ويؤكد ذلك ممارسات مليشيا الدعم السريع غير الأخلاقية تجاه المدنيين الأبرياء وممتلكاتهم.

وغالبًا ما تدفع التحولات الجيوسياسية الكبيرة في الصراعات كل اللاعبين الفعليين والثانويين إلى إعادة التموضع، ومحاولة تلمُّس الخطى واستبانة الطريق القويم.

ولما كانت السياسة لا تعرف العداءات الدائمة، فإن مراجعة الدول لسياساتها وتصحيح مواقفها يُعتبر من الحكمة الدبلوماسية والفطنة السياسية المحمودة، وهي سُنّة ماضية في السلوك السياسي للأنظمة والدول.

ولما نشاهده اليوم من أن كثيرًا من الدول والجماعات تسعى لتصحيح موقفها من الحرب المفروضة على الدولة والشعب السوداني، فإن هذا المقال هو نداء صارخ لكل من السودان وتشاد لتصفير المشكلات، وإعادة ضبط إيقاع العلاقة التاريخية بينهما، والعودة إلى الوضع الطبيعي لهذه العلاقات، التي ظلّ التعاونُ والتكامل وحسن الجوار هو الأصلَ فيها، والخلاف والنزاع شأنًا عابرًا.

إعلان الثابت والمتغير في العلاقات

من أهم الثوابت في هذه العلاقة أنها علاقات قديمة ضاربة الجذور في التاريخ والثقافة والموروث الاجتماعي بين المجموعات العرقية والقبائل المشتركة، وهي علاقة ذات ديناميكية اجتماعية متجددة.

يربط السودان وتشاد حدود طويلة تزيد عن 1.400 كيلومتر، وهي أطول حدود تربط السودان بدول جواره السبع بعد حدوده مع دولة جنوب السودان.

والحدود بين البلدين مفتوحة لا تعيقها تضاريس وعرة، مما جعل حركة السكان سهلة وميسّرة ويصعب السيطرة عليها. فهي أرض شاسعة، منبسطة وخصبة، تمتد في شكل حزام طويل واسع ومتداخل من منطقة موندو وأبشي وأدري في تشاد، مرورًا بولايات دارفور وحتى غرب كردفان في السودان.

هذا السهل الشاسع تسكنه أكثر من عشرين قبيلة مشتركة بين البلدين، ولها امتدادات اجتماعية عميقة، تعززت بالزواج والمصاهرة والنظم والتقاليد القبلية الصارمة لدى هذه المجتمعات.

وفي الواقع، فإنّ التداخل القبلي والاندماج المجتمعي والتواصل الأسري الميسور بين مواطني السودان وتشاد هو حالة متفرّدة، بالنظر إلى علاقات السودان مع جميع جيرانه الآخرين.

الثوابت القوية والمتعددة في العلاقة بين البلدين جعلت الأصل في العلاقة بينهما هو التعاون والتكامل والتنسيق في كل المجالات، وجعلت العداء هو الاستثناء.

وباستعراض تاريخ البلدين نجد أن الدبلوماسية السودانية ظلّت دومًا ناشطة وفاعلة في تعزيز العلاقات بين البلدين وفي ترسيخ السلم والأمن في تشاد، أثناء الحروب الطويلة التي شهدتها منذ استقلالها عن فرنسا في العام 1960، وحتى وصول الرئيس الراحل إدريس ديبي إلى السلطة في العام 1991، وهي أطول فترة استقرار نسبي تعيشها تشاد في تاريخها المعاصر.

وقد أسهم السودان بشكل كبير في استقرار تشاد، واستضاف العديد من مؤتمرات السلام والمصالحة بين الفرقاء التشاديين.

لذلك، فإنّ حالة الجفاء التي سادت العلاقات بين السودان وتشاد بسبب الحرب المفروضة على السودان، هي حالة عابرة، لأنّها تنافي ثوابت العلاقة التاريخية بين البلدين.

إعلان

ومن مصلحة قيادة وشعب البلدين التحلّي بالشجاعة والكياسة السياسية للعودة بالعلاقات إلى طبيعتها المسالمة، والطريق الأسهل لذلك هو العمل على تصفير المشكلات، مهما كان دافعها.

تشاد ومعضلة الأمن والاستقرار

يؤكد تاريخ جمهورية تشاد المعاصر أنها دولة مليئة بالاضطرابات والنزاعات والصراعات السياسية والأمنية منذ الاستقلال وحتى اليوم. يُعتبر الرئيسُ فرانسوا تمبلباي، أبا الاستقلال وأول زعيم للدولة الحديثة، لكنه لم يكن محل إجماع وطني، مما دفع القوميات الشمالية إلى الثورة.

وهكذا بدأت الحرب في الدولة الوليدة منذ العام 1963 تقريبًا، واستمرت سلسلة الحروب والتمرّد والعصيان على الدولة حتى يوم الناس هذا.

وتختلف الصراعات والحروب في تشاد عن نظيرتها في السودان، حيث ينحصر الصراع في السودان في إقليم معين، وغالبًا في الأطراف، ولا يكاد المواطن العادي في العاصمة والمدن الكبرى يشعر بذلك. ولم تنجح أي حركة تمرّد على الدولة في تاريخ السودان في الوصول إلى العاصمة، أو انتزاع السلطة المركزية بقوة السلاح.

بالمقابل، فإن الحروب في تشاد تستهدف العاصمة مباشرة، وتنتزع السلطة في المركز بالقوة، وتقوم بإعادة بناء الدولة من جديد. هكذا فعلت حركة فرولينا بقيادة جوكوني عويدي، التي أسقطت نظام الرئيس مالوم وسيطرت على العاصمة، وحكمت تشاد بقوّة السلاح.

وعلى ذات النهج سار الدكتاتور حسين حبري، الذي تمرّد على جوكوني ونظّم حرب عصابات قوية استطاعت أن تُسقط الحكومة المركزية، وتدخل بالقوّة إلى العاصمة نجامينا، وتستبيحها، وحكم حسين حبري بقوة الحديد والنار حتى أطاح به وزير دفاعه الجنرال إدريس ديبي في العام 1990 بثورة مسلّحة.

إن حالة الفوضى والاضطراب السياسي المتكرر في تشاد أدّت إلى هشاشة الدولة، وضعف المؤسسات المدنية والعسكرية، وطغيان الروح القبلية، لأن كل حركة كانت تعتمد على قبائل بعينها تُشكّل العمود الفقري لقواتها.

إعلان

ويؤكد ذلك أنه، ومنذ استقلال تشاد عن فرنسا في العام 1960، جرت استباحة العاصمة نجامينا ثلاث مرّات، وحُلّ الجيش الوطني ثلاث مرّات، وأُعيد بناء الخدمة المدنية ثلاث مرّات على الأقل.

أما النقطة الأهم، والجديرة بالنظر، فهي أنّ كل الحركات التي نجحت في انتزاع السلطة في نجامينا جاءت عن طريق شرق تشاد، أي غرب السودان.

ويعلم العسكريون جيدًا أن الحدود الوحيدة التي يمكن أن تهدد الأمن والاستقرار في تشاد هي حدودها مع السودان. ويؤكد ذلك أنه طوال تاريخ تشاد المضطرب لم تسلك أي حركة عسكرية الحدود الجنوبية مع أفريقيا الوسطى، بل إن ليبيا القذافي، وفي صراعها الطويل مع تشاد، احتلت شريط أوزو، وتمدّدت في المناطق الصحراوية في شمال تشاد، ولكنها لم تنجح في الوصول إلى العاصمة. حتى هزمها وزير الدفاع حينها، إدريس ديبي، في معركة مشهورة أكدت العبقرية العسكرية لهذا القائد التشادي، وجرى القبض على الجنرال خليفة حفتر، قائد القوات الليبية، في شريط أوزو، قبل أن يُفرج عنه في صفقة معروفة.

تمدّد الحركات السالبة

تواجه تشاد تحديات أمنية كبيرة في منطقة حوض بحيرة تشاد، وذلك بسبب النشاط المتزايد لجماعة بوكو حرام وأخواتها من الحركات السالبة. وقد ساهمت السياسات الخاطئة التي اعتمدتها الدول المتشاطئة على البحيرة في تعظيم نفوذ هذه الجماعة الإرهابية.

وبالرغم من أنّ الحركات السالبة في منطقة البحيرة وعلى امتداد الحدود بين تشاد والنيجر من جانب، وبين تشاد والكاميرون ونيجيريا من جانب آخر، تُعتبر مهددًا لكل دول منطقة الساحل، فإن تشاد تعاني أكثر من الدول الأخرى، وذلك ربما لأنّ جيشها هو الأكبر في المنطقة بعد نيجيريا، وقد قام بعمليات كبيرة ناجحة ضد هذه الجماعات، مما جعلها تستهدف تشاد بشكل أكبر.

ومن شأن استمرار التوتر والحروب في ولايات دارفور، أن يشكل مهددًا أمنيًا إضافيًا لمناطق شرق تشاد المكتظة بالسكان، ومثل هذا الجو الموسوم بالانفلات الأمني يمكن أن يشجع جماعة بوكو حرام وأخواتها على التمدد إلى جبهة شرق تشاد، وحينها ستُشكل تهديدًا أكبر، لا سيما في ظل حالة السيولة الأمنية في الحدود بين تشاد وأفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى الوجود القديم والمستمر لحركات معارضة تشادية في المناطق الصحراوية الشمالية.

إعلان

إن تعدد بؤر التوتر في تشاد سيؤدي إلى تشتيت جهود المؤسسات العسكرية والأمنية، مما يهدد بقاء الدولة المركزية.

خيارات تجارية أكبر

ومن شأن الخلاف السياسي والمشكلات المتصاعدة بين تشاد والسودان أن يحرما تشاد من تعظيم تعاونها التجاري والاقتصادي مع السودان، وهو تعاون مهم ومربح ومفيد جدًا لكلا البلدين، لكنه أكثر أهمية لتشاد لأنها دولة حبيسة.

وقد شهد التعاون الاقتصادي تطورًا كبيرًا في عهد الرئيس السابق إدريس ديبي إتنو، لدرجة أنه بدأ التفكير عمليًا في إنشاء خط أنابيب ناقل للبترول التشادي عبر ميناء بورتسودان.

وقام الرئيس التشادي بعدة زيارات إلى بورتسودان لتخصيص ميناء للواردات والصادرات التشادية، وبدأت فعليًا عملية نقل الواردات التشادية عبر ميناء بورتسودان إلى ميناء أدري الجاف في عام 2016.

وتفيد الدراسات التي أُجريت أن استخدام تشاد ميناءَ بورتسودان يقلل مدة وصول البضائع إلى نصف المدة، مقارنة مع الطريق الحالي الذي تستخدمه تشاد عبر ميناء دوالا في الكاميرون.

وفي الواقع، فإن فكرة استخدام تشاد ميناءَ بورتسودان فكرة قديمة بدأت فور استقلال تشاد، حيث وقّع الرئيسان التشادي فرانسوا تمبلباي والسوداني إسماعيل الأزهري مذكرة تفاهم؛ لتعبيد الطريق البري بين البلدين من نيالا إلى أبشي في تشاد، وذلك في عام 1967.

أزمة المجال الحيوى السوداني

تؤثّر الخلافات بين تشاد والسودان بشكل كبير على السودان أيضًا، ويشمل ذلك التأثير المجالَ الأمني والاقتصادي والثقافي والاجتماعي على السواء، لكنه في المقام الأول يؤثر على تمدد النفوذ السوداني نحو منطقة الساحل الأفريقي الممتدة من تشاد وحتى تخوم المحيط الأطلسي في السنغال وموريتانيا. وهذه قضية ذات بُعد إستراتيجي يجب ألا يهملها صانع القرار السياسي السوداني.

معلوم أن لكل بلد نطاقًا حيويًا يؤثر فيه بشكل واضح ويُعدّ منطقة نفوذ أساسية، تخدم رؤيته ومصالحه الإستراتيجية في المنطقة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الولايات المتحدة الأميركية، مهما عظم نفوذها في العالم، تعتبر أن أميركا الجنوبية هي منطقة نفوذ حيوي لها، والصين مهما تمددت لن تسمح بالمنافسة في بحر الصين الجنوبي، وكثير من الصراعات الدولية الكبيرة – كما في أوكرانيا الآن – إنما هي في المقام الأول للحفاظ على مناطق النفوذ الحيوي التي يُعدّ الحفاظ عليها جزءًا من الحفاظ على الأمن القومي.

إعلان

وبالنظر إلى السودان، فإن مجاله الحيوي القاري يمتد شرقًا وغربًا وليس شمالًا وجنوبًا كما يعتقد البعض. وإذا كان الأمر كذلك، فإن تشاد تمثل البوابة الأساسية لانفتاح السودان نحو نطاقه الحيوي الخصيب في غرب أفريقيا عامة ودول الساحل الأفريقي خاصة.

إن التأثير الثقافي والاجتماعي للسودان على دول الساحل الأفريقي كبير جدًا وملحوظ، وله جذور تاريخية ضاربة تعود لحقبة الحضارة النوبية الأولى في شمال السودان، وهناك شواهد كثيرة على ذلك يضيق هذا المقال عن ذكرها.

ويستطيع السودان أن يلعب دورًا أكثر حيوية في هذه المنطقة ثقافيًا واقتصاديًا وأمنيًا. من أجل ذلك، وحتى لا يعزل السودان نفسه عن نطاقه الحيوي، فإن الحفاظ على علاقات التعاون وحسن الجوار مع تشاد يكتسب أهمية إستراتيجية بالغة.

الأمن لا يتجزأ

كما هو معلوم، فإن الأمن كل لا يتجزأ، لأن أمن جارك من أمنك، بل إن أمن الإقليم الذي تنتمي إليه هو جزء من أمنك، لأننا نعيش في عالم متداخل، والعلاقات فيه متشابكة.

لقد أكدت الحرب الجارية في السودان الآن صدق هذه المقولة، فقد ظل إقليم الساحل الأفريقي ساحة مليئة بالنزاعات والصراعات المختلفة، مما ساعد في ظهور حركات سالبة عابرة للحدود، وتطورت الجريمة المنظمة، وأصبحت تجارة الأسلحة غير المشروعة وتهريب البشر والجماعات المسلحة المستعدة لبيع بندقيتها لمن يدفع، ظاهرة بارزة في المنطقة.

وربما لم يكن المواطن السوداني البسيط في قرى ولاية الجزيرة يتوقع يومًا أن هذه الجماعات البعيدة جغرافيًا عنه، يمكن أن تصبح مهددًا حقيقيًا لأمنه، وتُصوّب بندقيتها المأجورة لإخراجه من داره والسيطرة على ماله وممتلكاته.

لقد كان هناك قادة عظام في كل من تشاد والسودان أدركوا أهمية، بل قدسية، علاقات حسن الجوار بين بلديهما وشعبيهما، من أمثال فرانسوا تمبلباي، وإدريس ديبي، وجعفر نميري، وعمر البشير، كانوا يتغاضون عن الخلافات الصغيرة من أجل المصالح الكبيرة.

إعلان

ويشهد على ذلك أنه رغم حدة الأزمة الأمنية بين البلدين في عام 2008، بعد عملية الذراع الطويلة، وعملية محاصرة قصر الرئاسة في نجامينا، فإن البلدين سرعان ما تجاوزا هذه الأزمة، وعَمِلا على تطويقها باعتماد أكبر مبادرة لتعزيز الأمن الجماعي، وهي تجربة قوات الحدود المشتركة.

وتُعدّ تجربة القوات المشتركة لمراقبة وحفظ أمن الحدود بين تشاد والسودان، التي بدأت في عام 2010، واحدة من أهم مبادرات التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، وقد أتاحت الحدود الآمنة سهولة انسياب حركة البضائع والبشر، وعزّزت التعاون المشترك بشكل غير مسبوق.

وفي هذه المرحلة الحرجة التي تمرّ بها علاقات البلدين، فإن الثوابت المشتركة والعميقة بينهما كفيلة بفتح آفاق جديدة، أكبر وأوثق، للتعاون والشراكة وحسن الجوار، يبدأ ذلك بتصفير المشكلات العالقة.

وهذا ليس عسيرًا إذا توفرت الإرادة السياسية، والابتعاد عن الاعتماد على الخارج، لأن قبول أجندة الخارج له ثمن، وربما يكون صعبًا ومكلفًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • بنك التنمية الأفريقي يخصص تمويل ضخم لنساء السودان
  • 57 قتيلا نتيجة أعمال العنف في مدينة الفاشر في دارفور بغرب السودان  
  • السودان وتشاد: الفرصة التي لا ينبغي تفويتها
  • مخيمات النازحين في دارفور تحت قصف القوات المسلحة السودانية
  • حريق ضخم يُضاعف معاناة النازحين في أحدى المخيمات بوسط دارفور
  • سقوط عشرات القتلى في الفاشر والأمم المتحدة تحذّر من كارثة إنسانية في دارفور
  • شهادات حية يرويها المتضررون.. كارثة إنسانية فى السودان بعد عامين على الحرب.. ميليشيات الدعم السريع ارتكبت إبادة جماعية ضد مجتمع المساليت فى دارفور
  • القيادي بحركة جيش تحرير السودان: هذا تعليقي على وجود مناوي خارج دارفور
  • شهادات حية يرويها المتضررون.. كارثة إنسانية في السودان بعد عامين على الحرب
  • تحرير السودان تقدم المتهم بمجزرة معسكر زمزم وتطالب الجنائية الدولية بالتحرك