عن تاريخ الثورة الجزائرية.. دروس من عملية العصفور الأزرق والحركة البلحاجية
تاريخ النشر: 2nd, February 2024 GMT
إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين.
وفي تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة والطغاة فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر 1954) وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن السبع سنين مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانإ مع ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة من جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن سلف.. والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر التاريخ الإسلامي للأمة عندما كانت أمة حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي (الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948 ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الاولى مقارنة بما نراه على المباشر في الثورة الفلسطينية العظيمة الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون انقطاع.) في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله قادة العالم الغربي الاستعماري كله ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..
كنا نعتقد، وأن بعض الظن ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير القلق فقط حول مصير البشرية في هذا العالم (وحيد القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبالحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري) وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية ( فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه..
بقدر ما كانت الثورة الجزائرية عظيمة في أهدافها، وواسعة في نطاقها ومتنوعة في وسائلها، ومعقدة في عناصرها وأطرافها... اعترضتها مخططات وخيانات ومؤامرات في مستوى عظمة أهدافها، وشراسة أعدائها، في الخارج والداخل، من الفاعلين الحقيقيين المباشرين ومن نوابهم المساعدين؛ وهو ما نتناوله في هذه المقالات بما يتطلبه من شمولية، وتفصيل، وشهادات وتوثيق من الأطراف المعنية حسب مختلف المراحل والمنعرجات التي مرت بها الثورة من البداية إلى النهاية، وقد حصرنا أهم هذه المناوآت والاعتراضات والخيانات والمؤامرات فيما يلي:
عملية العصفور الأزرق
تتمثل هذه الملحمة الثورية الرائعة كما عرفتها من أفواه الذين صنعوها والذين عاشوا كلّ تفاصيلها من البداية إلى النهاية، وأذكر على سبيل الحصر اثنين منهم (لعلاقتهما المباشرة بالموضوع)، أوّلهما العقيد السعيد إيعزورن المدعو(فريروش)، وثانيهما الكاتب والمجاهد محمد الصالح الصديق الذي عاش تفاصيل تلك الأحداث عن قرب، وألّف كتابا حول هذه العملية، أمّا مُلخصها فهي أنّ الحاكم العام (روبير لاكوسط) خطط لتقويض أركان الثورة من الداخل في بلاد القبائل، فاتّصل بأحد العملاء الكبار في الناحية (دون ذكر الاسم تجنبا لإلحاق الضرر بالعائلة) وطلب منه أن يُجنّد له مجموعة من الرجّال الذين لا تحوم حولهم الشكوك بالعمالة لفرنسا، كي يُجندهم للقيام بالثورة المضادة قصد القضاء على جيش التحرير الوطني في المنطقة، فذهب ذلك العميل إلى أحد معارفه من الأعيان (يدعى أحمد الزايد) وطلب منه القيام بالمهمة مقابل وعود مغرية له ماديا ومعنويا بعد نجاح العملية.
اتصل هذا المناضل الكبير بالعقيد سي السعيد الذي أخبر هو بدوره قائد الولاية بلقاسم كريم، فاتفقا على أن يذهب هذا الوسيط مع العدو في هذه اللعبة إلى النهاية، فطلب رجل لا كوسط من أحمد الزايد (بعد أن أخبره بقبول المهمة) أن يُرشّح له حوالي ثلاث مائة عنصر من الرجال الأكفاء المقتنعين بالفكرة لتجنيدهم من طرف العدو للقيام بهذه المهمة، فلبى أحمد الزايد هذا الطلب بكلّ سرور للعميل، حيث أحضر له بعد أيام قليلة العدد المطلوب من الرجال الذين لم يكونوا إلاّ صناديد من مُناضلي الحركة الوطنية تمّ اختيارهم بعناية كاملة وسرّية تامة، مع قادة الثورة أنفسهم (كريم ورفاقه) وقدّمهم للعدو الذي جندهم بكلّ ثقة وغباء كعملاء، وزوّدهم بالأسلحة المتطورة ليبدأوا في التظاهر بالقيام بالأعمال المضادّة للثورة، ولكسب ثقة فرنسا فيهم، والبرهنة على إخلاصهم وولائهم لها، كانوا يأتون ببعض العملاء الحقيقيين من المصاليين وغيرهم الذين تحكم عليهم الثورة بالإعدام في أماكن أخرى من الولاية، فيلبسونهم بزات عسكرية بالية، ويقتلونهم في أماكن مُتفرّقة من المناطق التي يتظاهرون بنصب الكمائن الليلية فيها، ليبرهنوا بذلك على نجاحهم في مهمتهم المضادة للثورة، وعلى كفاءتهم وإخلاصهم، وليطلبوا المزيد من الأسلحة المتطورة والعتاد.
وقد دامت هذه العملية عدة شهور من سنة 1956 إلى أن تلقوا الأمر من القيادة العليا للولاية، بالتحاقهم جميعا بصفوف الثورة في ليلة واحدة بناحية بني جناد، شمال شرق مدينة تيزي وزو، فكان درسا قاسيا ومُوجعا جدا للعدو لم ينسه أبدا، ولم يُكرر هذا الخطأ القاتل مرّة أخرى فيما نعلم من سنوات الثورة حتى نهايتها، بل فعل العكس تمامًا كما يتبين لاحقا!.
وعن هذه العملية التي دبرها العدو للقضاء على الثورة فارتدت إلى نحره، يقول الدكتور يحي بوعزيز: "امتدت هذه العملية عشرة شهور من نهاية نوفمبر 1955 إلى نهاية سبتمبر 1956، وهي عبارة عن مؤامرة مدبرة من طرف القوات العسكرية الفرنسية، حولتها الثورة إلى انتصار لها، وخيبة للجيش الفرنسي، ويطلق عليها عدة أسماء:
ـ العصفور الأزرق OPERATION OISEAU BLEU
ـ عملية عسكرية سرية OPERATION ARMEE SECRETE DE KABYLIE
ـ كوماندو.كـ COMMANDOS :K
ـ قوة.كـ FORCES : K
ـ المؤامرة LE COMPLOT
وبدأ الوالي العام جاك سوستيل التفكير فيها خلال شهر نوفمبر 1955 بعد عام من اندلاع الثورة، وذلك في إطار البحث عن القوة الثالثة التي ستكون بديلا لجبهة التحرير، وجيش التحرير الوطني، تساعد على تطبيق سياسة الإدماج التي يتحمس لها سوستيل، ويسعى جاهدا لتطبيقها.
امتدت عملية العصفور الأزرق عشرة شهور من نهاية نوفمبر 1955 إلى نهاية سبتمبر 1956، وهي عبارة عن مؤامرة مدبرة من طرف القوات العسكرية الفرنسية، حولتها الثورة إلى انتصار لها، وخيبة للجيش الفرنسيوقبل أن تشرع القوات الفرنسية في تطبيق عملية العصفور الأزرق، عملت على دعم قوات بللونيس الميصالية، المعارضة للثورة ولكن هذه القوات الميصالية تلقت ضربات قاسية من طرف قوات جيش التحرير، وفقدت الكثير من رجالها واضطر بلونيس نفسه أن ينسحب بمن بقي له من الرجال إلى الجنوب.
وعندئذ فكرت الولاية العامة في تنفيذ خطتها، وتجنيد رجال من منطقة القبائل وتسليحهم على غرار كتائب جيش التحرير، ليندسوا بين جنود التحرير، ثم ينقلبوا عليهم، وكلفت الولاية العامة، مصلحة الوثائق التابعة للمنطقة العسكرية العاشرة، لتباشر العمل، وهي لا تخضع إلا لمكتب الوالي العام مدنيا، وللجنرال لوريلو LORILLOT رئيس المنطقة العسكرية العاشرة عسكريا" .
ويضيف الدكتور بوعزيز قوله: "وتواصل تجنيد هؤلاء الرجال حتى بلغ عددهم 1500 رجلا، انتشروا في جهات عزازقة، تقزيرت، تيزي وزو، عين الحمام، وكانت نتائج أعمالهم مرضية بالنسبة للجيش الفرنسي، وقتلاهم كلهم من المصالين، والمخربين، وأعداء الثورة، حسب تعليمات قيادة جيش التحرير الوطني.
وكان الحاكم العسكري الفرنسي لتيزي وزو هو الذي يحمل في سيارته من نوع 203 صناديق الأسلحة والذخائر والمبالغ المالية، والمؤن إلى منزل مخلوف محمد آيت ونيش الذي يقيم عنده كريم بلقاسم في منزله، وفي يوم 16 سبتمبر 1956 تم توزيع آخر كمية من الأسلحة على بعض أفراد هذه المجموعات في قرية إفليسن، بحضور الجنرال أولي، ولم يكن رئيس فرقة الدرك بتيقزيرت على علم، وخلال مؤتمر الصومام تم الاتفاق على ضم هذه الكتائب إلى الثورة بصفة جماعية، وفي يوم 10 سبتمبر أعطي الضوء الأخضر لرؤسائها على أن يتم ذلك ليلة 30 سبتمبر 1956 وكان عددهم كما ذكرنا 1500 رجلا وقبل أن يلتحق أوزايد بالجبل مع هؤلاء الرجال تخلص من حشيش الطاهر وقتله بثلاث رصاصات في بطنه، وأخذ طريقه إلى الجبل" .
الحركة البلحاجية
ترى من يكون "كوبيس" وما هي أهدافه ولماذا جعلت فرنسا منه عميلها المخلص..؟
كوبيس اسم ارتبط بالخيانة والمكر إلى أن نال جزاء الخائن على أيدي الثوار المخلصين، أما اسمه الأصلي فهو بلحاج الجيلالي عبد القادر، من مواليد قرية "زدين" الفلاحية المتاخمة لعين الدفلة معقل الشيوعيين الجزائريين آنذاك، ينتمي إلى عائلة عريقة التحق بمدرسة ضباط الصف بشرشال وتخرج منها برتبة عريف. انتسب إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وأصبح عضوا في المنظمة الخاصة (S.O) ونظرا لكونه عسكريا أسندت إليه مهمة تدريب أعضاء المنطقة، ولما كان مؤتمر حركة انتصار الحريات الديمقراطية عام 1946 احتضنته في مزرعته "بزدين".
وعندما اكتشف أمر المنظمة الخاصة اعتقلت الشرطة الفرنسية مناضليها بما فيهم بلحاج، لكنه لم يلبث في السجن طويلا حتى أطلقت سراحه دون غيره بعد أن باح لها بجميع الأسرار التي كانت في حوزته متحديا بذلك أوامر قيادته التي تقر التكتم عن الأسرار وعدم البوح بها مهما كانت ظروف الاستنطاق والتعذيب.
ما إن غادر السجين حتى تحول إلى مخبر يعمل في جهاز شرطة العدو دون أن ينسى ما كان عليه أبوه الضابط في جهاز الصبايحية ... أتقن بلحاج مهمة المخبر بوجهين، بحيث ظل على اتصاله الدائم بالحركة الوطنية من جهة وبجهاز شرطة العدو من جهة ثانية، حتى إذا اندلعت ثورة التحرير اختار بلحاج أن يكون في صف المصاليين واتخذ لنفسه اسم "كوبيس" عوضا عن بلحاج في نهاية عام 1956.
تمكن في بادئ الأمر من مغالطة المواطنين في نواحي الشلف "الأصنام" على اعتبار أنه سجين سياسي قديم ومناضل في الحركة الوطنية فأوقع الكثير في شراكه وجندهم في صفوفه مدعيا أنه سيصنع منهم النواة الصحيحة لثورة التحرير تؤازره ماديا ومعنويا أجهزة الاستخبارات الفرنسية، وقد تمركزت قواته بإحدى الثكنات الفرنسية، وكان جل أتباعه من نواحي الأصنام ومنطقة الشراقة وبئر خادم بأحواز العاصمة، ينتمون في غالبيتهم الساحقة إلى فئات الفقراء المعدومين الذين غرّر بهم معتمدا أسلوب الوعود الكاذبة والمغالطة موهما إياهم بأنهم هم الفئة الناجية التي تقع على مسؤوليتها تجديد الجزائر.
والحقيقة أن "كوبيس" هو مجرد منفذ لمخطط العدو يضرب الثورة من داخلها وإشعال الفتنة بين الجزائريين وتحويل الأنظار عن الثوار الحقيقيين إلى غيرهم من الزائفين، فقد طلب من العدو الذي وافق بخبث على طلبه رفع العلم الجزائري إلى جانب العلم الفرنسي فوق ثكنته، وانطلق في محاربة الثورة ونصب الكمائن للمجاهدين والاشتباك معهم بقوة وصل تعدادها خمس مائة رجل مدعمين بعتاد معتبر وأسلحة متطورة مدَّه بها العدو، كانت مجموعاته المقاتلة لا تعلم شيئا عما يجري باستثناء قلة من معاونيه أعمتها الخيانة وأفسدها الطمع.
تفطن أتباعه لمكائد قائدهم الذي كان يحرضهم على قتال الجزائريين دون الفرنسيين وارتابوا في أمره حتى اذا تبينوا حقيقته غادروه إلى صفوف جيش التحرير ... فما كان إلا أن ركب رأسه وتحالف مع العميل الخائن (باش آغا بوعلام) وصارا يقاتلان جنبا إلى جنب مع قوات العدو جيش التحرير وجبهة التحرير الوطنيين.
وعن نهاية هذا الخائن يقول الرائد سي لخضر بورقعة:
"رتبت مجموعة من أبطال جيش التحرير خطة سرية شديدة الإحكام لقتل هذا العميل بإشراف المجاهد رشيد بوشوشي وامحمد بلحاج صهر كوبيس بعد أن جمعت كل المعلومات عن تحرك العميل ومكانه وأنشطته وأوقات تواجهده .. رسمت خطة تصفيته ثم رصد لها خيرة المجاهدين... نفذت هذه العملية يوم 16 أفريل 1958، وقد كنا يومها في اجتماع عقده القائد سي أمحمد حضرته بصفتي قائد الكتيبة الزبيرية المكلفة بتأمين ذلك اللقاء المنعقد في نواحي (سد أغريب) تحدث سي امحمد في ذلك الاجتماع عن ظروف تشكيل فرقة كومندوس تابع للمنطقة الثانية والأسس التي يجب أن يتم على ضوئها اختيار عناصر الفرقة وكان من بينهم بعض جنود كتيبتي، أمرنا القائد بالتراصف وطفق يقرأ الرسالة الوافدة عليه من سي بونعامة، كانت قراءته تشد الأذهان لما في محتواها من وصف دقيق لخطوات عملية القضاء على العميل الخائن وأسر جنوده وغنم أسلحته وذخيرته ..
تنفسنا الصعداء لهذا النصر ثم أمرنا بالتوجه إلى مكان العملية الجريئة لمعاينة الحقيقة، وفي طريقنا إلى المكان التقينا بمجموعة الجنود الذين أنجزوا العملية البطولية بعد أن طاردتهم قوات العدو مدة ثلاثة أيام بلياليها، لكنهم لم يستسلموا ولم يضيعوا صيدهم الثمين.
تحلقنا مرة ثانية حول القائد سي أمحمد الذي أمر بفك رباط الكيس، والكشف عما بداخله فاذا بالمفاجأة تهزنا جميعا إنه رأس العميل كوبيس، وقد تدحرج أرضا مضرجا بدمائه هذا الرأس الذي سكنته الخيانة وملأه الغرور وأعماه الحقد على الشعب والثورة، هو ذا معفر بالتراب بعد أن فصلته يد الثورة العادلة عن جثته وأراحت منه الجماهير التي عانت من ويلاته.
علق الرأس على جذع شجرة ووقف القائد سي أمحمد يخطب فينا قائلا: "إخواني في بداية كلمتي أنبّهكم أن لا تعجبوا لهذا المشهد الذي أمامكم إذا قلت لكم إن صاحب هذا الرأس المعلق مفصولا عن جثته هو لشخص كان ذات يوم مسؤولي المباشر إبان فترة نضالنا الوطني قبل اندلاع الثورة...
أصابتنا الدهشة جميعا لما سمعناه من فم القائد، إذ لم نكن نعلم قبل اليوم عن "كوبيس" إلا أنه عميل فرنسا معاد لثورة التحرير لذا وجبت تصفيته" .
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير تاريخ الجزائر الاستعماري مقاومة الجزائر تاريخ استعمار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التحریر الوطنی حقوق الإنسان هذه العملیة جیش التحریر ما کان فی هذه من طرف بعد أن
إقرأ أيضاً:
نص كلمة قائد الثورة حول آخر التطورات والمستجدات 17 مارس 2025
نص كلمة قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي حول آخر التطورات والمستجدات الإقليمية والدولية، 16 رمضان 1446هـ / 16 مارس 2025م.
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
بالأمس أعلن العدو الأمريكي عن جولةٍ جديدةٍ من العدوان على بلدنا، ونَفَّذ عِدَّة غارات، وكذلك عمليات بالقصف البحري، استهدف بها المنازل والأحياء السكنية في العاصمة صنعاء، وفي عددٍ من المحافظات اليمنية، وأسفرت تلك الاعتداءات عن ارتقاء العشرات من الشهداء والجرحى، في تلك المحافظات التي استهدفها العدو الأمريكي، وهناك عددٌ من الشهداء والجرحى من الأطفال والنساء.
هذا العدوان هو عدوانٌ غاشمٌ ظالمٌ، في إطار الطغيان الأمريكي والعربدة الأمريكية تجاه أُمَّتنا، والهدف منه واضحٌ، وهو: الإسناد للعدو الإسرائيلي، بعد أن أعلن بلدنا موقفاً واضحاً، في الإسناد للشعب الفلسطيني، تجاه ما يقوم به العدو الإسرائيلي من تجويعٍ لأهل غزَّة، ومنعٍ لدخول المساعدات الإنسانيَّة، ومنعٍ تامٍ لدخول البضائع إلى قطاع غزَّة.
جريمة التجويع لاثني مليون فلسطيني جريمة كبيرة جدًّا، بكل ما توصَّف به كبار الجرائم، جريمة ضد الإنسانيَّة بكل ما تعنيه الكلمة؛ ولـذلك فكل من له ضميرٌ إنسانيٌ، وكل من له انتماءٌ صادقٌ إسلامي، لا يمكنه أن يسكت تجاه ذلك، ومن المؤسف أن يكون الموقف العام للأنظمة في العالم الإسلامي- في أغلبها- وفي العالم العربي، موقفاً بارداً تجاه ذلك، ليس هناك أي تَحَرُّك جادّ، لمنع ما يقوم به العدو الإسرائيلي من تجويع تام لأهل غزَّة، بل وصل الحال به الآن إلى السعي لتعطيشهم، والسعي لمنع الماء عنهم.
وما يعيشه الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة هو مأساة كبيرة، يتجاهلها الكثير من الناس، ولا يتفاعلون معها؛ لأن السقف لدى الكثير من الناس- بحسب الترويض الإسرائيلي حتى يتفاعل- أن يكون هناك إبادة شاملة، بالقتل بالقنابل والسلاح، فقد يتابع؛ وإلَّا فقد تضعف حتى مسألة المتابعة للأحداث، حينما يكون الوضع هناك دون ذلك، في مستوى أقل، لكن مسألة التجويع لأهل غزَّة، ومنع الغذاء عنهم، لا بدخول المساعدات الإنسانيَّة، ولا بحركة البضائع، ليست قضيةً سهلة، هي توجُّهٌ نحو الإبادة لهم، بوسيلة من وسائل الإبادة، وهي: التجويع ومنع الغذاء عنهم.
الآن خمسة عشر يوماً والعدو الإسرائيلي مغلقٌ للمعابر إلى القطاع، مانعٌ لدخول المساعدات والبضائع، ومعنى ذلك: أن المعاناة قد زادت لدى الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، ومن يتابع ما يجري هناك، ويلحظ حجم المعاناة الكبيرة، يدرك أنها مأساة كبيرة.
وهناك في المقابل مسؤولية، مسؤولية على أُمَّتِنَا قبل غيرها، على المسلمين جميعاً، على كل شعوبنا وبلدان أُمَّتِنا، أين هو التحرك الجاد لمنع ذلك، وللضغط بإدخال المساعدات إلى الشعب الفلسطيني؟ ليس هناك أي تَحرُّك جاد، أين هو على المستوى السياسي، أكثر من مسألة بيانات؟ أين هو على المستوى الاقتصادي؟ ليس هناك أي موقف يرقى إلى مستوى الموقف بما تعنيه الكلمة، في أي مجالٍ من المجالات من جانب معظم الأنظمة، وهي مؤثِّرة على مواقف شعوبها، التي تَجْمُد وتبقى متفرِّجة.
معنى ذلك: أن هناك خطر كبير على هذه الأُمَّة، عندما يكون هناك إخلال كبير بالتزاماتها الإنسانيَّة، والدينيَّة، والإيمانيَّة، والأخلاقيَّة، وتفريط في واجباتها الكبرى؛ خشيةً من أمريكا، هذه هي الحقيقة، وخوفاً من أمريكا؛ لأن الأمريكي يتدخل مع الإسرائيلي كشريك في كل جرائمه، وكحامٍ له؛ لينفِّذ ما يشاء ويريد من الجرائم، ثم يتولى الأمريكي دور الحماية له، هذه هي المشكلة التي أوصلت هذه الأُمَّة، في معظم بلدانها وشعوبها، رسمياً وشعبياً، إلى هذا المستوى من التفريط، والتقصير في التزاماتها الإيمانيَّة، والإنسانيَّة، والأخلاقيَّة.
وكان الواجب، وأُمَّتِنا هي في شهر رمضان، والعادة أن يُقْبِل الناس أكثر على تلاوة كتاب الله، أن يتذكَّر الجميع هذه المسؤولية الإنسانيَّة، والأخلاقيَّة، والدينيَّة، والإيمانيَّة، وأن يدركوا- في نفس الوقت- الخطأ والخطر الكبير، عندما يصل واقع الناس إلى أن تكون خشيتهم من أمريكا، وخوفهم من أمريكا، أكثر من خوفهم من العقوبة الإلهية، والعذاب الإلهي، حينما يُفرِّطون في مسؤوليات كبيرة، وعظيمة، ومُقَدَّسة، ومهمة، وضرورية لهذه الأُمَّة، ضرورية لهذه الأُمَّة؛ لأن ما تقبل به هذه الأُمَّة على الشعب الفلسطيني من إبادة، من تجويع، من قتل، من تهجير، من ظلم، دون ردة فعل، دون موقفٍ جادّ؛ هي بذلك تفتح الأبواب للشرِّ على نفسها، والحال نفسه سيكون تجاه أي بلد عربي آخر، أي بلد مسلم آخر، أينما اتَّجه الأمريكي والإسرائيلي لفعل ما فعلوه في فلسطين، سواءً في البلدان المحيطة بفلسطين، أو بغيرها؛ ستكون النتيجة هي النتيجة: يتفرَّج الباقون، يكونون مُكَبَّلين بالخوف والرعب والذُّلّ، وهذا ما يُجَرِّئُ الأمريكي أكثر.
هذا له مخاطر كبيرة على هذه الأُمَّة؛ لأنه- بالفعل- يُشَجِّع الأمريكي، ويُشَجِّع الإسرائيلي، وكلاهما ليس عنده أي وازع من ضمير، أو أي مراعاة لاعتبارات أخرى، يعني: هم لا يُقَدِّرون لأي شعب، أو بلد، أنه تفرَّج عليهم، وهم يفعلون ما يفعلونه في بلدٍ عربيٍ أو مسلمٍ آخر، فَيُقَدِّرون لذلك البلد العربي والإسلامي أنه تَفرَّج، ولم يتدخل، هذا لا يفيده شيئاً بالنسبة لهم؛ هُمْ أصحاب أطماع كبيرة، ومشاريع عدوانية إجرامية يستهدفون بها أُمَّتنا، ولديهم منطلقات عقائدية، ومنطلقات أيضاً تعود إلى نزعتهم الاستعمارية، وسلوكهم الطغياني والإجرامي.
لذلك كان موقف بلدنا اليمن، وقراره في الإسناد للشعب الفلسطيني، واتِّخاذ قرار بحظر الملاحة الإسرائيلية، وبشكلٍ واضح أن هذا القرار يَخُصُّ العدو الإسرائيلي فقط، وبهدف الضغط عليه؛ من أجل السماح، ومن أجل فتح المعابر، لدخول المساعدات الإنسانيَّة إلى الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، وإنهاء التجويع.
ما يجري هناك هو تجويع بالفعل، ويضاف معه التعطيش، في ظل نكبة كبيرة يعيشها الشعب الفلسطيني في القطاع، بعد الإبادة لخمسة عشر شهراً، والدمار الشامل للقطاع، وتدمير كل مقومات الحياة فيه، يعني: ليست الظروف التي يعيش فيها الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة ظروفاً عادية، يكون تأثير مثل هذا القرار بمنع دخول المساعدات، ودخول البضائع، قراراً لا تأثير له بشكلٍ كبيرٍ عليه، التأثير كبير؛ لأن الوضعية صعبة من أساسها، ليس هناك لا مخزون غذائي، الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة لا يمتلك أي مخزون من الغذاء، ليس هناك نشاط زراعي، ليس هناك أي مقومات باقية للحياة، القطاع بكله مُدَمَّر بشكلٍ كامل، مقومات الحياة فيه مُدَمَّرة بشكلٍ كامل، والمشاهد واضحة لمن يتابع، فالظروف هناك هي صعبة للغاية؛ ولـذلك عندما أقدم العدو الإسرائيلي على هذه الخطوة، هو من اللحظة الأولى ألحق ضرراً بالغاً، ومعاناة حقيقية للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، والآن تزايدت المعاناة على مدى خمسة عشر يوماً، لم يحصل هناك منذ اللحظة الأولى أي تَحَرُّك جاد- كما قلنا- للأنظمة العربية، وللأنظمة في العالم الإسلامي، تَحَرُّك جاد بما تعنيه الكلمة.
ولـذلك نحن- وبحكم انتمائنا الإيماني، نحن شعبٌ قال عنه رسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ": ((الْإِيْمَانُ يَمَان، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّة))، هذا الانتماء الإيماني، وبضميرنا الإنسانيّ- لا يمكننا أبداً أن نتفرَّج تجاه ما يجري، بلدنا وقف مع الشعب الفلسطيني على مدى خمسة عشر شهراً، في إسناد طوفان الأقصى، في معركة طوفان الأقصى، في مواجهة الإبادة الجماعية، التي يرتكبها العدو الإسرائيلي بشراكةٍ أمريكيةٍ ضده، وشعبنا صمد، وتصدى أيضاً للعدوان الأمريكي، الذي كان في تلك المرحلة بكلها، على مدى خمسة عشر شهراً؛ إسناداً للعدو الإسرائيلي، كما هي الحالة الآن، صمد شعبنا في مواجهة العدوان الأمريكي، بكل ثبات، بكل فاعلية.
فشعبنا هو مستمرٌ في موقفه المساند للشعب الفلسطيني، وهناك خطوط حمراء في الوضع الفلسطيني، عندما يتَّجه العدو الإسرائيلي، وبشراكة أمريكية وحماية أمريكية، لارتكاب الإبادة الجماعية، هذا خطٌ أحمر، المسألة لا يمكن التَّفَرُّج عليها، هناك التزامات قانونية وإنسانيَّة حتى على غير المسلمين تجاه ذلك، في القانون الدولي، في مواثيق الأمم المتحدة، لكن الكل يفرِّطون بالتزاماتهم، في المجتمع الدولي، في البلدان الأخرى، يفرِّطون في التزاماتهم الإنسانيَّة تلك، وفي عالمنا الإسلامي يفرِّطون في التزاماتهم الإنسانيَّة، والدينيَّة، والأخلاقيَّة، والمرتبطة حتى بأمنهم القومي، وبمصالحهم كأمة مستهدفة، يفرِّطون في كل شيء تفرِّيطاً شاملاً، وهذا- كما قلنا- يشجِّع العدو الإسرائيلي، ويشجِّع معه الأمريكي شريكه وحاميه، يعني: لا يمثِّل حلاً للأُمَّة، لا يدفع الخطر عنها، ولا يمثِّل حلاً تجاه ما يجري؛ فقرار بلدنا لإسناد الشعب الفلسطيني، وقراره في منع حظر الملاحة فيما يخص العدو الإسرائيلي نفسه، هو في إطار هذا الالتزام الإنساني، والأخلاقي، والديني، والإيماني؛ للضغط بإدخال المساعدات، وإنهاء التجويع لاثنين مليون فلسطيني في قطاع غزَّة، ليست المسألة مسألة عادية يمكن التجاهل لها، أو التغاضي عنها، المسألة خطيرة، جريمة كبرى، ضد فئة واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني، الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني.
ولـذلك فالعدو الأمريكي عندما ينفِّذ هذا العدوان، وهذه الغارات، فهو لن يحقق هدفه في الضغط علينا بالتراجع عن موقفنا، الحل الوحيد هو:
دخول المساعدات الإنسانيَّة إلى قطاع غزَّة.
إنهاء التجويع للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة.
إنهاء التعطيش للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة.
ما يجري هو أمرٌ فظيعٌ جدًّا، عندما يُقْدِم العدو الإسرائيلي على مثل هذه الخطوات، أو على خطوة الاستهداف للمسجد الأقصى، والسعي لمصادرته أو تدميره، أو للسعي للتهجير للشعب الفلسطيني، هذه يجب أن تكون لدى كل أُمَّتنا خطوطاً حمراء، لا تسمح بها الأُمَّة؛ لأن العدو عندما يدرك أن الأُمَّة مهما فعل، لا تتَّخذ أي خطوات عملية، ولا قرارات حقيقية، ولا مواقف جادّة؛ يُشَجِّعه ذلك على ما هو أسوأ؛ لأن سقفه في مشروع الصهيوني معروف، فكل خطوة تصعيدية كبيرة جدًّا، يُقْدِم عليها دون رد فعلٍ ولا موقف، ستشجعه للانتقال فيما بعدها إلى خطوة أكبر منها، وهو يريد- بالفعل- أن يسيطر بشكلٍ تامٍ على الشعب الفلسطيني، أن ينهي الوجود الفلسطيني، أن يُصَفِّي القضية الفلسطينية، هذا ما يريده العدو الإسرائيلي، ومعه العدو الأمريكي، كلاهما يعتنقان المعتقد الصهيوني، ويتبنيان المشروع الصهيوني، ويتحركان على أساسه، فالمسألة مسألة مهمة.
ولـذلك هذه الخطوط الحمراء، لا يمكن أبداً أن نُفرِّط نحن في التزامنا، ولو فرَّط الآخرون، أن نسكت نحن، ولو سكت الآخرون، فلن نسكت أبداً، هذا موقفنا بكل ما نستطيع، في مستوى قدراتنا وإمكاناتنا، وخياراتنا المتاحة؛ لأن هذه مسؤولية أمام الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والتفريط فيها عليه عقوبة من الله، عليه جزاءٌ كبير في الدنيا والآخرة، ونحن من السهل بالنسبة لنا أن تكون مشكلتنا مع طغاة عصرنا، وأن يكون الخطر علينا من جهتهم، أن نضحِّي في سبيل الله تعالى، ولا أن يكون لنا مشكلة مع الله، أو نجلب على أنفسنا سخط الله، وغضب الله، وعذاب الله في الدنيا والآخرة؛ لأننا نطمئن أننا عندما نتَّخذ الموقف الصحيح، الذي يتطابق تماماً- كما قلنا- مع الالتزامات الإنسانيَّة، والأخلاقيَّة، والدينيَّة، وحتى مع مصالح الأمن القومي لأُمَّتنا بكل الاعتبارات، ونتَّجه هذا التَّوجُّه من أجل الله تعالى، واستجابةً له؛ فإن الله هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ، {هُوَ مَوْلَانَا}[التوبة:51]، {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الأنفال:40]، نحن نثق بالله، نحن نثق بوعده الصادق، نحن نتوكل على الله، نحن نعتمد على الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}[آل عمران:150]، {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
الأمريكي أيضاً في تصريحاته، وفي بياناته، يقول أيضاً: أن من أسباب هذه الجولة من عدوانه الجديد على بلدنا، هذا العدوان الغاشم، الظالم، الإجرامي، هو أيضاً بسبب وقوف شعبنا خلال الخمسة عشر شهراً مع الشعب الفلسطيني، في مواجهة عدوان الإبادة الجماعية، الذي نفَّذه العدو الإسرائيلي، بشراكة أمريكية، وحماية أمريكية، ضد الشعب الفلسطيني، فهو أيضاً يُقَدِّم عدوانه هذا أنه يحاسب فيه شعبنا على وقفته المُشَرِّفة، الشجاعة، الكاملة، إلى جانب الشعب الفلسطيني، في مواجهة عدوان الإبادة الجماعية.
نحن نقول أيضاً: تلك الوقفة المشرِّفة، التي هي من أجل الله تعالى، وفي سياق هذه الالتزامات الإيمانيَّة، والإنسانيَّة، والأخلاقيَّة، والدينيَّة، هي أيضاً موقفٌ لن يندم عليه شعبنا، موقفٌ مشرِّف، موقفٌ عظيم، موقفٌ يُمَثِّل قُربةً إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وموقفٌ زاد شعبنا قوةً، زاده قوةً على كل المستويات، بما في ذلك على المستوى العسكري، والقدرات العسكرية، وموقفٌ يُبَيِّض الوجه، وشعبنا العزيز انطلق فيه من منطلقٍ إيماني، ببصيرة عالية، بثباتٍ إيماني، بِعزَّةٍ إيمانيَّة؛ ولـذلك فشعبنا لن يتزحزح عن تَوَجُّهِه الإيماني، القرآني، الإنساني، الأخلاقي، مهما كان الطغيان الأمريكي والإسرائيلي، نحن سنقف ضد هذا الطغيان الأمريكي والإسرائيلي.
العدوان الأمريكي فاشل، وسيفشل بإذن الله تعالى، ولن يحقق أهدافه:
لن يحقق أهدافه في الضغط على شعبنا وبلدنا في التراجع عن موقفه، ولا عن قراره؛ لأنه موقفٌ أساسيٌ، موقفٌ مهمٌ، موقفٌ ضمن التزامات إيمانيَّة، وإنسانيَّة، وأخلاقيَّة، ودينيَّة، وضرورة، ضرورة فعلاً بكل ما تعنيه الكلمة، ضرورة كما سنشرح أيضاً حول هذه النقطة.
لن يحقق العدوان الأمريكي أهدافه في تقويض القدرات العسكرية لبلدنا بإذن الله تعالى؛ لأننا نحن نعيش تجربة جهادية، وتصدٍ للعدوان الأمريكي على مدى سنوات طويلة؛ وإنما هذه جولة من جولات العدوان الأمريكي، بل كما في المراحل الماضية، الأمريكي سيسهم بهذا العدوان الجديد، بهذه الجولة الجديدة من عدوانه، في تطوير قدراتنا العسكرية أكثر فأكثر بإذن الله تعالى.
سنواجه التصعيد بالتصعيد، هذا هو توجُّهنا، والبارحة قامت قواتنا المسلحة- وعلى الفور- بإطلاق الصواريخ والطائرات المسيَّرة؛ للتصدي لتلك الاعتداءات، والغارات، والقصف الأمريكي على بلدنا؛ ولـذلك فهذا خيارنا، وهذا قرارنا، وهذا توجُّهنا، طالما استمر العدو الأمريكي في عدوانه على بلدنا، فبارجاته، وحاملة طائراته، وقطعه البحرية، ستكون مستهدفة بالطائرات المسيَّرة، وبالصواريخ، وأيضاً- مع ذلك- سيشمله قرار الحظر في الملاحة البحرية، طالما استمر في عدوانه، وهو الذي يسعى هو إلى التأثير على الملاحة البحرية، حينما يحوِّل البحر إلى ساحة حرب، هو الذي يؤثِّر هو بذلك على الملاحة البحرية؛ أمَّا قرارنا فكان واضحاً، كان يَخصُّ العدو الإسرائيلي فقط، والأمريكي الآن سيشمله الحظر، لكن تحويل الأمريكي للبحر إلى ميدان حرب، وساحة حرب، هذا يؤثِّر- بالفعل- على الملاحة الدولية.
ولـذلك من واجب كل الدول أن تعرف من الذي يُشكِّل خطورة على الملاحة، مَنِ الذي يُشكِّل تهديداً على الملاحة البحرية، وعلى حركة السفن؟ هو الأمريكي، الأمريكي والإسرائيلي هما مصدر شرّ، وخطر على مستوى العالم، وعلى مستوى المنطقة بكلها، الشَّرُّ منهم، الإجرام منهم، العدوان منهم، التوتير للوضع العام في هذه المنطقة منهم، هم مصدر الشَّرّ والخطر، وهم من يعتدون، من يرتكبون الجرائم، من ينفِّذون الاعتداءات، هم من يُضِيعُون السلام بكل ما تعنيه الكلمة، ويحوِّلون الأجواء بكلها، الأجواء العالمية، إلى أجواء متوترة في الشرق والغرب، وأجواء مأزومة؛ لأنهم عدوانيون، وظالمون، ومتكبرون.
لدينا أيضاً خيارات تصعيدية، يعني: الآن نحن سنواجه التصعيد بالتصعيد، سَنَرُدّ على العدو الأمريكي في غاراته، في اعتداءاته، بالقصف الصاروخي، بالاستهداف لحاملة طائراته، لبوارجه، لسفنه، سيشمله قرار الحظر، ومع ذلك أيضاً لا يزال لدينا خيارات تصعيدية، فإذا استمر في عدوانه، ننتقل إلى خيارات تصعيدية إضافية بإذن الله تعالى.
شعبنا العزيز أيضاً سيتحرَّك تَحَرُّكاً شاملاً، على مستوى التعبئة العامة، على مستوى كل المجالات، كما كان ذلك التَّحَرُّك العظيم، والمشرِّف، والقوي، على مدى خمسة عشر شهراً، ضد عدوان الإبادة الجماعية، التي ارتكبها العدو الإسرائيلي بشراكة أمريكية، وحماية أمريكية، ضد الشعب الفلسطيني، الآن في مواجهة هذا العدوان على بلدنا، والتجويع للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، والتعطيش، شعبنا العزيز سيتحرَّك تحرُّكاً شاملاً وواسعاً للتصدي للطغيان.
نحن لسنا في موقفٍ عبثي، نفتعل المشاكل لأنفسنا، نحن في موقفٍ إيماني، أخلاقي، إنساني، جهادي في سبيل الله تعالى، نتصدى للطغيان، للظلم، للإجرام، للعربدة الأمريكية والإسرائيلية.
ما يسعى له الأمريكي هو: إخضاع هذه المنطقة بكلها للإسرائيلي، وهذا شيءٌ واضح، بالرغم من أن الأمريكي شريكٌ في الاتفاق المتعلق بوقف العدوان على قطاع غزَّة، وإدخال المساعدات، وإنهاء التجويع للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، وعليه التزامات بذلك، التزامات، مما هي التزامات بين الدول، بين الناس، اتِّفاقات تُوَقَّع، فيها التزامات واضحة، لكن الأمريكي لا يكترث بالتَّنكُّر لالتزاماته، بعدم الوفاء بالتزاماته، بالنَّكْثِ بالاتِّفاقات.
والإسرائيلي كذلك، يَنْكُث أي عهد، أي ميثاق، يتنكَّر لأي اتِّفاق، ما يفعله العدو الإسرائيلي في فلسطين نفسها:
في الضفة الغربية: جرائم مستمرة.
في مخيم جنين: لا يتوقف يومياً عن القتل، عن التهجير، عن التدمير...
وفي مخيمات أخرى: في طولكرم، وغيرها.
ما يفعله أيضاً في ما يتعلق بالاقتحامات للمسجد الأقصى: بشكلٍ متكرر.
وهذه خطوات- كما قلنا- ليست هي النهاية، ليست هي السقف الأخير فيما يفعله العدو الإسرائيلي، هي خطوات ضمن برنامج للعدو الإسرائيلي، وكلما سكتت الأُمَّة؛ تجرَّأ على ما هو أكثر.
ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة: استمرار بالقتل اليومي، وإن لم يكن بالوتيرة التي كان عليها في الإبادة الجماعية اليومية، لكن هذه جرائم، جرائم لا يجوز أن تسكت الأُمَّة عنها.
والأمريكي يشجِّعه على ذلك، يقتل الصحفيين، يقتل المواطنين، يقتل العاملين في المجال الإنساني، وكأن الموضوع طبيعي! جرائم واضحة، اعتداءات واضحة، انتهاكات لكل شيء: للمواثيق، والقوانين، والأخلاق، والقيم... ولكل شيء.
عربدته ضد الشعب اللبناني مستمرة، لم يفِ بالاتِّفاق، الذي عليه أيضاً ضمين هو الأمريكي من الضمناء عليه في تنفيذه، لم ينسحب كُلِّيّاً من جنوب لبنان، يستمر في الاعتداءات بالقتل لأبناء الشعب اللبناني، والانتهاكات المتنوعة.
يفعل ما يفعله في سوريا: يجتاح، يتوسَّع، يُنَفِّذ الغارات، أحياناً بشكل مُكثَّف، قبل أيام (أربعين غارة) في ليلة واحدة، غارات كثيرة، يُدَمِّر، يقتل، يحتل، يتوسَّع، عربدة واضحة.
وكل هذه الجرائم هي جرائم واضحة، اعتداءات واضحة، ليس لها أبداً ما يُبرِّرها، ومع ذلك الغالب تجاه ذلك هو السكوت، معنى ذلك: أن الأمريكي- وكما قلنا أكثر من مرَّة- يسعى مع الإسرائيلي، لفرض معادلة الاستباحة في أوساط أُمَّتنا، على شعوب أُمَّتنا وبلدانها كافَّة، هذا والله ما يسعى له الأمريكي والإسرائيلي! يريدان أن تكون أيديهما مطلقة بالعدوان والإجرام، بالقتل، بالتدمير، بالاحتلال، بفعل ما يشاؤون ويريدون، دون رد فعل، ودون موقفٍ جادّ في مقابل ذلك، هذه مسألة خطيرة جدًّا، القبول بها له تداعيات كثيرة.
لو كان السكوت سيجدي، لو كانت التَّوَجُّهات الأخرى التي لا تتبنى أي موقف ضد الطغيان والعدوان الأمريكي والإسرائيلي ستجدي، لكان ذلك مجدياً في سوريا، التَّوجُّه واضح من الجماعات التي في سوريا، هي تؤكِّد بكل وضوح أنَّها لا تعادي الإسرائيلي، وأنَّها لن تتحرك ضده بأي شيء، هي لا ترد عليه بأي رد تجاه ما يفعل، هي عمَّمت في الأوساط الإعلامية، ألَّا يكون هناك حتى في التعبير الإعلامي كلمة (العدو الإسرائيلي)، ومع ذلك لم ينفع، لم ينفع كل ذلك، أن يقولون له: [نحن لا نُعاديك، نحن لن نرد عليك، نحن لا نستهدفك].
وفعلاً الواقع يُثْبِت ذلك، أنَّهم جادُّون في ذلك، لا يريدون أن يتَّخذوا أي موقفٍ ضده، لديهم توجُّه جادّ، نحن نشهد لهم في ذلك: أنَّهم لا يريدون أن يردوا عليه أي رد، ولا يريدون أن يعادوه، ولا يريدون أن يمثِّلوا أي إشكالية معه، أو أن يكون لهم أي صراع معه، يريدون منه فقط أن يَكُفّ عن احتلال سوريا فقط، يعني كمطلب وليس في إطار موقف، كمطلب عادي، يَتَوَدَّدُون، يَتَوَسَّلُون، يطلبون من الدول الأخرى، يطلبون من الأمريكي؛ لكن لم يُفِد ذلك، الإسرائيلي يحتل المزيد والمزيد، ويتوسَّع، ويُثَبِّت احتلاله، يستمر في تدمير القدرات، التي هي ملكٌ للشعب السوري، ويستمر في تثبيت سيطرته على ما قد قام باحتلاله في جنوب سوريا، في ثلاث محافظات يطمع بها: (القنيطرة)، والمساحة الواسعة من (درعا)، وايضاً (السويداء)، ويصل إلى (أطراف ريف دمشق)، ومناطق محسوبة من (ريف دمشق)، وعلى مقربة من (دمشق) نفسها، على مقربة من العاصمة السُّوريَّة نفسها.
فليس هناك في سوريا ما يمكن أن يتذرَّع به، لا علاقة مع إيران، الموقف في سوريا من تلك الجماعات من إيران موقف واضح، هم يعلنون أنَّها هي عدوهم، أنَّها العدو وليس إسرائيل، واضح أنَّهم سيقبلون بالتطبيع، وليس عندهم إشكالية في ذلك، لكن كل هذه الخيارات لن تنفع.
السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية خياراتها واضحة، الاتِّفاقات التي وقعها العدو الإسرائيلي معها فيما مضى واضحة، ومع ذلك العدو الإسرائيلي لا يلتفت إلى تلك الاتِّفاقات إطلاقاً، لا يفي بشيءٍ منها، يُعَبِّر عن أطماعه بوضوح، عن أهدافه العدوانية بوضوح، يرتكب الجرائم اليومية ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية.
معنى ذلك: حتمية الموقف الذي يردع العدو، يردع العدو الإسرائيلي.
فنحن لسنا في موقفٍ عبثي، نحن في موقفٍ ضروري، موقفٍ إنساني، أخلاقي، ديني، أمام ما يريد الأمريكي تثبيته على مستوى المنطقة بكلها، في إخضاعها للعدو الإسرائيلي، هذا هو الهدف الأمريكي: الإخضاع لهذه المنطقة بكلها للعدو الإسرائيلي، وفرض معادلة الاستباحة، وكلاهما لا يمكن أن نقبل به أبداً: لن نقبل بإخضاع هذه المنطقة للعدو الإسرائيلي، لن نقبل أبداً بتثبيت معادلة الاستباحة لأُمَّتنا، لا في بلدنا ولا في غيره، هذا غير مقبول إطلاقاً؛ القبول به تنكُّر لمبادئ الإسلام، القبول بذلك ذِلَّة، والله يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:8]، القبول بذلك لا يُمَثِّل حمايةً للأُمَّة، لا من القتل، ولا من الاحتلال، ولا من الشَّرّ، ولا من الخطر الأمريكي والإسرائيلي، القبول بذلك تمكين للعدو الإسرائيلي، وللعدو الأمريكي معه، تمكين لهما مما يشاءان أن يفعلاه في هذه الأُمَّة، من تنفيذ أهدافهما، ومخططاتهما، ومؤامراتهما، العدوانية التدميرية ضد هذه الأُمَّة.
نحن في موقفنا العظيم المشرِّف، الذي هو استجابةٍ لله تعالى، وفي إطار التزاماتنا الإيمانيَّة، الإنسانيَّة، والأخلاقيَّة، والدينيَّة، في موقفٍ أصيل، ليس إملاءً علينا من أي جهة، وليس من أجل امتداداً لجهة هنا أو هناك، تحالفنا، وتعاوننا، وتنسيقنا، مع أخوتنا من أحرار أُمَّتنا في محور المقاومة، هو في إطار موقف ضمن التزاماتنا جميعاً، كأُمَّة، واجب الأُمَّة بكلها، إذا تَحَرَّك فيه البعض ضمن التزاماتهم، لا يعني ذلك أنها مسألة عمالة من بلد لبلد، أو من فئة لفئة، هذا موقف ضمن التزامات الجميع، ومسؤولية الجميع، فمن يفرِّطون في هذا الالتزام هذه مشكلتهم؛ أمَّا موقفنا فهو في أشرف قضية، في موقفٍ عظيم، يُبَيِّض الوجه أمام الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وفي موقف ضروري.
نحن في هذا التَّوجُّه، ضد الطغيان الأمريكي والإسرائيلي، ضد الإجرام الأمريكي والإسرائيلي، ضد العدوان الأمريكي والإسرائيلي، نحن امتدادٌ لمسيرة الإسلام، المسيرة العظيمة، التي على رأسها رسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، ونحن نعيش ذكرى غزوة بدرٍ الكبرى، التي هي في السابع عشر من شهر رمضان المبارك، حينما تحرَّك رسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ"، بعد الإذن من الله، والتوجيه من الله، كما قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39]، وكما قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال:5-6]، تحرَّك رسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ" في غزوة بدرٍ الكبرى ضد الطغيان، ضد جبهة الطغيان.
جبهة الطغيان آنذاك، التي تمثَّلت بدءاً بجبهة قريش، في محاربتها، في عدوانيتها، في جاهليتها، في ظلمها، في عدائها للإسلام والمسلمين؛ جبهة الطغيان في هذا العصر هي أمريكا وإسرائيل، جبهة الشَّرّ، جبهة الكفر، جبهة الظلم، جبهة الإجرام، جبهة العداء للإسلام والمسلمين: أمريكا وإسرائيل، هل هناك شَكٌّ في ذلك؟ هل هناك أحدٌ يفعل بالأُمَّة كما يفعلون؟ أهدافهم واضحة، جرائمهم واضحة، أطماعهم واضحة، أحقادهم واضحة، مشروعهم الصهيوني، العدواني، الإجرامي، التدميري، واضح، هم جبهة الكفر في هذا العصر، فنحن نتحرك ضد ذلك الطغيان، العدوان، الإجرام، المُسْتَهدِف أصلاً في حالة عدوانية لنا ولأُمَّتنا، نتحرَّك امتداداً لمسيرة الإسلام، بموقفه الحقّ، اقتداءً برسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ".
رسول الله تحرَّك في قِلَّة من العدد والعُدَّة، لكنه تحرَّك متوكلاً على الله، تحرَّك بإيمانه، وتحرَّك من تحرَّك معه من المسلمين بالدافع الإيماني، بالاستجابة الإيمانية، بالثقة بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، بالثقة بوعده الحق، وحقَّق الله لهم في غزوة بدرٍ الكبرى الانتصار العظيم، الذي جعل من تلك الغزوة غزوةً فارقة عمَّا قبلها وعمَّا بعدها، وأسَّست لمرحلةٍ جديدة، مرحلةٍ للعزِّ والنصر والقوة للإسلام والمسلمين، لإحقاق الحق، بالنصر، بالموقف في الميدان.
فنحن امتدادٌ لذلك التحرُّك، وكما كان موقف الأنصار مع رسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، بدءاً حينما استشارهم، كانت تعبيرات أولئك المؤمنين تعبيرات تُعَبِّر عن الثبات، عن الوفاء، عن الشجاعة، عن العِزَّة الإيمانية، عن الصمود، عن الاستجابة لله تعالى، ثم كان الموقف كذلك في الجهاد في سبيل الله، شعبنا العزيز هو يحذو حذو أولئك الأسلاف من الآباء والأجداد المجاهدين، الذين حملوا راية الإسلام، في مواجهة الطغيان، بدءاً بطغيان قريش، وغير قريش، وصولاً إلى طغيان القوى العالمية آنذاك، المستكبرة، الظالمة: (إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الحَربِ، صُدُقٌ عِنْدَ اللِقَاء، وَاللَّهِ يَا رَسُوْلَ اللَّهِ لَنْ نَقُولَ لَكَ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيْل لِمُوسَى: اِذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ اِذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعْكُم مُقَاتِلُون).
أسوتنا هو رسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، لم يسكت في مواجهة الطغيان، لم يخنع، كيف يمكن أن يكون مقبولاً عند الله لِأُمَّة الإسلام، لِأُمَّة الملياري مسلم، للعالم العربي (أكثر من ثلاثمائة مليون إنسان)، أن يكون خيار أُمَّة هو الاستسلام، هو السكوت، هو الجمود، شعوبٌ بأكملها، بلدانٌ وأوطانٌ بأكملها، يتحوَّل هذا إلى خيار جماعي؟! هذا خيار انتحاري للأمة، يسبب لها سخط الله، وتمكين عدوها منها، خيار الاستسلام لِأُمَّة كبيرة، لا يجوز ذلك في دين الله.
رسول الله، الذي قال عنه الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]، تَحَرَّك بثلاثمائة إنسان، ثلاثمائة مجاهد، يزيدون قليلاً بالعشرات، أو بأقل من العشرات، على هذا الرقم: ما بين أربعة عشر، أو أكثر، أو أقل، بحسب اختلاف الروايات، بهذا العدد حمل راية الإسلام، وتحرَّك في سبيل الله تعالى.
مخاطر الخنوع كبيرة جدًّا، هذه التحديات وهذه الأخطار التي تستهدف أُمَّتنا، لابدَّ فيها من التحرُّك الجاد، بالاعتماد على الله، والثقة به، والتوكل عليه "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ونحن كشعبٍ يمني لن نقبل بالاستسلام للعدو، ولن نتيح له الفرصة لتحقيق أهدافه العدوانية؛ لأننا نتحرَّك معتمدين على الله، لدينا هذا السند العظيم: هو الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، نثق به، نتوكل عليه "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، خيارنا وقرارنا هو من إيماننا، من كرأمتنا الإنسانيَّة والإسلامية، في الثبات على الموقف، في التصدي للعدوان والطغيان، بتحرُّكٍ واسعٍ وشامل.
ولـذلك أطلب من شعبنا العزيز، وأتوجَّه إلى شعبنا العزيز، أن يخرج في يوم الغد، في ذكرى غزوة بدرٍ الكبرى، أن يخرج خروجاً مليونياً، في العاصمة صنعاء، وفي بقيَّة المحافظات؛ لِيُعَبِّر، وليعلن، وليؤكِّد عن ثباته، وعلى ثباته على موقفه الحق، موقفه الإيماني، موقفه الجهادي، في دعم الشعب الفلسطيني، وفي التصدي للعدوان الأمريكي، وبحسب الوقت والإجراءات المحددة من اللجنة المنظمة وفروعها، مسألة تحديد الوقت، وتحديد الأماكن، هذا متروكٌ إلى اللجنة إن شاء الله.
ولكن من المهم أن يكون الخروج الشعبي واسعاً جدًّا، يُعَبِّر عن هذا الثبات، عن هذا الانتماء العظيم، في هذه الذكرى المهمة؛ لأن موقفنا هو امتداد لذلك الموقف، قدوتنا هو رسول الله، كما خرج الآباء والأجداد بوفاء، وإيمان، وثبات، وعِزَّة إيمانية، وصدق مع رسول الله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ"، في غزوة بدرٍ الكبرى، وفي غيرها من معارك الإسلام ضد طغيان الجاهلية الأولى، سنتحرك امتداداً لذلك، امتداداً لرسول الله، لراية الإسلام، لمسيرة الإسلام، لموقف الإسلام، للجهاد في سبيل الله، في هذا العصر، في هذه المرحلة، لن نقبل مطلقاً بالاستباحة، بإخضاع هذه الأُمَّة، وإخضاع بلدنا وغيره، للإسرائيلي في هذه المنطقة، لن نسكت تجاه العربدة، والطغيان، والعدوان، والإجرام، من قبل العدو الإسرائيلي، والعدو الأمريكي.
آمَل يا شعبنا العزيز- وأنتم شعب الوفاء، الشعب الذي خرج على مدى خمسة عشر شهراً، خروجاً مُشرِّفاً عظيماً، لا مثيل له في كل الدنيا- آمُل أن يكون الخروج يوم الغد كبيراً وعظيماً، مُعبِّراً عن إيمانكم، عن وفائكم، عن عِزَّتِكُم الإيمانية، عن صمودكم، عن ثباتكم العظيم الذي هو من إيمانكم، عن استجابتكم لله تعالى، عن أنكم الامتداد في هذه الأُمَّة، بين كل ذلك المحيط من التخاذل والخنوع والاستسلام، أنتم الامتداد لنهج الإسلام الأصيل، لحمل راية الإسلام، للموقف الحقّ، الذي يريده الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وفيه الخير، وفيه الشرف.
اُطَمْئِن شعبنا العزيز، أنه مهما كانت التطورات، وضعنا- بحمد الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"- قوي، متماسك؛ باعتمادنا على الله، بتوكلنا على الله، بتجربتنا أيضاً في المواجهة لهذا العدو، لاعتداءاته، لتكتيكاته العسكرية، ونحن معتمدون كل الاعتماد على الله تعالى، وواثقون كل الثقة به، هو القائل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}[آل عمران:160]، هو القائل: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7]، فنحن نثق به، هو لا يُخلِفُ وعده، هو "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {خَيْرُ النَّاصِرِينَ}[آل عمران:150]، {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الأنفال:40].
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ العَلِيّ العَظِيْم.
أَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، فِي مُوَاجَهَة طُغْيَانِ طُغَاةِ العَصْر الظَّالِمِين، المُسْتَكْبِرِين، المُجْرِمِين، أَمَرِيكَا وَإِسْرَائِيل وَمَن يَدُورُ فِي فَلَكِهِم، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛