الصراع على روح العالم.. لماذا الحرب على الفلسطينيين أكبر مما نعتقد؟
تاريخ النشر: 2nd, February 2024 GMT
في مقال لافت لكاتب العمود الأشهر في الـ "نيويورك تايمز" توماس فريدمان حمل عنوان: "لماذا أوكرانيا وغزة أكبر مما يعتقد؟" حاول أن يقدم تفسيرًا لأهم صراعَين يدوران في العالم اليوم. يعاني هذا التفسير كأي تفسيرات كلية شاملة في زمن معقد ومتشظٍّ من الاختزالية والتبسيط. وتكمن أهميته في أمرَين:
الأول: أنه أحد الطرق التي يجري بها تأطير فهمنا للعالم بعد الحرب الباردة.والثاني: أنه تسرب بالفعل لبعض صانعي القرار والنخب المثقفة في عالمنا العربي، لذا فهو يستخدم في الحشد والتعبئة خلف المواقف السياسية والفكرية والإعلامية؛ مما قد يكون له تداعيات مستقبلية خطيرة.
برغم هذا فإنه يظل في النهاية تصورًا يخلو من استدماج اهتمامات الناس في تذكير لنا بمقولة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". هو ينظر للعالم كأنه خواء لا توجد فيه شعوب متعددة لها تطلعاتها واهتماماتها المتباينة، وقيم تحركها أو تصبو إلى تحقيقها.
يقول أحد خبراء الشأن الإيراني: "الأولوية الأولى لإيران هي إيران، ويجب ألا ننسى ذلك أبدًا. إيران لن تحشد قواتها إلا إذا تعرضت لضربة مباشرة"
يقول السيد فريدمان: "هناك العديد من الطرق لتفسير أكبر صراعين في العالم اليوم، لكن اختصاري هو أن أوكرانيا تريد الانضمام إلى الغرب، وإسرائيلَ تريد الانضمام إلى الشرق العربي. روسيا – بمساعدة إيران- تحاول إيقاف الصراع الأول، وإيران وحماس تحاولان إيقاف الثاني".
يضع مقولته في سياق إستراتيجي أوسع لإعطاء دفعة قوية لها؛ فيقول: "إنها تعكس صراعًا جيوسياسيًا هائلًا بين شبكتين متعارضتين من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية حول قيمها ومصالحها التي ستهيمن على عالم ما بعد الحرب الباردة – في أعقاب حقبة السلام الأميركي/ العولمة المستقرة نسبيًا والتي بشّر بها سقوط برلين."
ينتقل فريدمان للحديث عن المنطقة والصراع الدائر بها الآن ليجعل منه -على حد قوله- صراعًا بين "شبكة المقاومة، المكرسة للحفاظ على الأنظمة المغلقة والاستبدادية، حيث يدفن الماضي المستقبلَ. وعلى الجانب الآخر، توجد شبكة الشمول، التي تحاول صياغة أنظمة أكثر انفتاحًا وترابطًا وتعددية؛ حيث يدفن المستقبلُ الماضي". ويكمل : "من سيفوز في الصراعات بين هاتَين الشبكتين سيحدد الكثير من الطابع السائد في حقبة ما بعد الحرب الباردة."
أميركا بالطبع زعيمة شبكة الإدماج، لكن موقع الصين بين هاتَين الشبكتين هام؛ لذا فلا ينسى أن يحدد دورها إذ يرى: "الصين في عهد الرئيس شي جين بينغ تمتدّ بين الشبكتين، جنبًا إلى جنب مع الكثير مما أصبح يسمى الجنوب العالمي. قلوبهم، وفي كثير من الأحيان دفاتر جيوبهم، مع المقاومين، ولكن رؤوسهم مع الاندماجيين".
لكن ما هو الجوهر الفارق بين شبكتي المقاومة والشمول أو الإدماج؟ الأولى -وفق فريدمان- تقوم على القتال ووحدة ساحات المقاومة، وتقوم على معاداة إسرائيل والغرب بقيادة الولايات المتحدة.
أما شبكة الشمول، فتركز على "نسج الأسواق العالمية والإقليمية معًا- بدلًا من جبهات القتال- ومؤتمرات الأعمال، والمؤسسات الإخبارية، والنخب، وصناديق التحوط، وحاضنات التكنولوجيا، وطرق التجارة الرئيسية.
وأضاف: "تتجاوز الحدود التقليدية، وتخلق شبكة من الاعتماد الاقتصادي والتكنولوجي المتبادل الذي لديه القدرة على إعادة تعريف هياكل السلطة وخلق نماذج جديدة للاستقرار الإقليمي".
لماذا الحرب على غزة مهمة؟هذا هو المشهد كما يقدمه لنا فريدمان ومن خلفه من شبكات وعلاقات ومصالح، ولكن دعنا نجمع بعض اللقطات الأخرى لنستكمل تعقيد المشهد وتركيبه:
اللقطة الأولىأصدرت ناميبيا بيانًا يدعم قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، بما في ذلك انتقادات لاذعة لقرار ألمانيا التدخل دفاعًا عن إسرائيل.
يرى العديد من الدول- فيما يسمى بالجنوب العالمي- نفاقًا صارخًا في إدانة أوروبا والولايات المتحدة للاحتلال غير القانوني في أوكرانيا، بينما تستمران في دعم إسرائيل بقوة على الرغم من ارتفاع عدد القتلى في غزة، وعنف المستوطنين في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل.
رفعت جنوب أفريقيا قضية الإبادة الجماعية، بينما عارضتها الولايات المتحدة بشكل غريزي. أدى هذا الموقف إلى تضاؤل مصداقية الأخيرة بين الأفارقة، وتحطيم فكرة أن واشنطن تؤيد نظامًا قائمًا على القواعد.
قالت منظمة هيومن رايتس ووتش؛ إنها وثّقت جريمة استخدام التجويع كسلاح حرب في غزة خلال الحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع. وفي تقريرها العالمي السنوي، سلطت المنظمة غير الحكومية الضوء على "المعايير المزدوجة" للحكومات التي صمتت عن "الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الإنساني الدولي في غزة.
اللقطة الثانيةجمعت اتفاقيات التطبيع التي يطلق عليها "أبراهام" بين أحد أكبر مصدري برامج التجسس في العالم وبين الدول التي تسيء استخدام الأسلحة السيبرانية وتقنيات المراقبة بشكل متصاعد.
من المرجح أن تؤدي هذه الغزوة المشتركة في مجال الأمن السيبراني إلى موجة جديدة من القمع العابر للحدود القائم على التكنولوجيا باسم الأمن القومي.
بعض الدول كانوا عملاء لمجموعة NSO Group، المرتزِقة السيبرانية الإسرائيلية، لسنوات عديدة واستخدمت برنامج التجسس Pegasus لاختراق هواتف وصفحات الصحفيين والناشطين والمعارضين السياسيين في الداخل، وفي المنفى.
عمل التطبيع مع الاحتلال العسكري الإسرائيلي لفلسطين على توسيع السيطرة الاستبدادية على المستوى الإقليمي، من خلال إضفاء الطابع الرسمي على قنوات التعاون العسكري والاستخباراتي السرية.
اللقطة الثالثةفي استطلاع حديث أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والذي شمل 8000 عربي في 16 دولة، قال 92% من المشاركين؛ إن القضية الفلسطينية هي قضية تهم جميع العرب.
وقال ما يقرب من 90% من المشاركين؛ إنهم يعتبرون هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي نفذته حماس "عملية مقاومة مشروعة" أو "عملية مقاومة مشروعة – شابها بعض الأخطاء".
ورفض 89% من المشاركين الاعتراف بإسرائيل، وهي أعلى نسبة في تاريخ استطلاعات المركز. وقال 13% فقط من العرب الذين شملهم الاستطلاع؛ إنهم يعتقدون أن السلام مع إسرائيل لا يزال ممكنًا.
ما الذي تعنيه هذه اللقطات الثلاث؟
أولًا: التعقيد والتركيب في مقابل الثنائيات التبسيطية المتعارضةفلا يعني تأييد الرأي العام العربي للقضية الفلسطينية بالضرورة مساندة كل مواقف ما يطلق عليه محور المقاومة -كما يظهر في سوريا والعراق واليمن- ولا يعني تطلع شعوب المنطقة للعيش الكريم – كما يعبر محور الشمول في بعض سياساته- عدم الانحياز للقيم الأساسية، كما يظهر في الموقف من فلسطين.
يقول أحد خبراء الشأن الإيراني: "الأولوية الأولى لإيران هي إيران، ويجب ألا ننسى ذلك أبدًا. إيران لن تحشد قواتها إلا إذا تعرضت لضربة مباشرة"، ويتابع: "من المهم عدم المبالغة في الترويج لمكانة إيران في المنطقة أو استثماراتها في محور المقاومة".
تماسك المحور ودوره الإقليمي ليس مجرد إملاءات إيرانية، هو مرتبط ببعضه بعضًا من خلال الكراهية المشتركة للاستعمار الأميركي والإسرائيلي، ولكنها كراهية تمتد للرأي العام العربي، كما يظهر في بيانات المؤشر العربي.
لا تعني هذه الكراهية المشتركة الموافقة على سياسات إيران وحلفائها في سوريا والعراق ولبنان، ولا يعني منع الملاحة في البحر الأحمر من قبل الحوثيين نصرة للفلسطينيين تأييدًا لمواقفهم في حرب اليمن.
نحن نعيش في عالم انتقائي. ففي حين يميل الزعماء السياسيون إلى النظر إلى عالم اليوم من خلال عدسة الأنظمة الأيديولوجية والسياسية المتنافسة (الفسطاطَين)، حيث تكون مع الغرب أو ضده، مع الديمقراطية أو ضدها، مع العالم الحر أو ضده، مع محور المقاومة أو محور الاستيعاب والشمول …، تؤكد نتائج استطلاع للرأي العام حديثة أن الناس في مختلف أنحاء العالم يفضلون بدلًا من ذلك الترتيبات الانتقائية، حيث يمكنهم وتستطيع حكوماتهم أن تختار بشكل عملي شركاءها اعتمادًا على القضية المطروحة.
دخلنا عالمًا انتقائيًا، حيث يمكنك المزج والتوفيق بين شركائك حول قضايا مختلفة، بدلًا من الاشتراك في قائمة محددة من الولاء لجانب واحد أو الطرف الآخر.
إن العمل السياسي لن يكون فاعلًا إذا تمّ تأطيره في ثنائيات متعارضة؛ ثنائية القطب: من ليس معنا فهو ضدنا.
ثانيًا: هل الصراع بين المحورين برغم مساحات التداخل والمصالح المشتركة بينهما، هو صراع حول القيم أم أساسه اختلاف المصالح؟أليس جوهر الشبكتين يقوم على الاستبداد، والأسواق المندمجة تؤدي إلى سوء التوزيع وعدم المساواة في الدخول والثروات والفرص؟. حتى اتفاقيات التطبيع الأخيرة بُنيت ركائزها على تحالف الرأسماليات والشركات الكبرى، وكانت على حساب المواطنين العاديين في الخليج وإسرائيل.
استطاعت المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في أنحاء العالم أن تربط بشكل مبدع وقوي بين همومها الذاتية- وفي أحيان المحلية – وبين القضية الفلسطينية. سئل أحد المتظاهرين في الغرب عن سبب خروجه، فأجاب: "خرجنا لأنفسنا، ولاسترداد ذاتنا الإنسانية."
إن الرأي العام في مختلف أنحاء المنطقة والجنوب العالمي، بل وحتى الغرب، ينظر على نحو متزايد إلى الصراع باعتباره نتيجة لاحتلال دام عقودًا من الزمن، وليس ردًا على الإرهاب الإسلامي، كما يصوره فريدمان.
إن تكوين فريق المحامين في جنوب أفريقيا يقول كل شيء، فهو: متعددُ الأعراق، وهو ذكورٌ، وإناثٌ، وأيرلنديون، وبريطانيون، وجنوب أفريقيون، لم يكن هناك فلسطيني رسمي معهم في المجموعة، ولا عربي واحد. ومع ذلك، وبعد يوم واحد من انتهاء جلسة الاستماع، اندلعت مظاهرات حاشدة في 45 دولة ليس من بينها أي من الدول العربية.
هل هو تطلع أو بحث عن قيم إنسانية مشتركة قد يتوزع عليها العالم في المستقبل؟ ربما.
تعود فلسطين إلى الظهور كقضية عالمية، تمامًا كما كانت الحال في الكفاح ضدّ الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. العرب والمسلمون – شعوبًا وحكومات- هم أقل المساهمين فيها. إن العلاقة بين النضال من أجل الحقوق الفلسطينية والمعركة الداخلية في بلدان المنطقة من أجل الديمقراطية والتوزيع العادل للثروات والدخول والفرص ربما تتعزّز في المستقبل.
الموقف الشعبي العربي يدفع الفلسطينيون ثمنَه بحرمان الأنظمة شعوبَها من الحرية وانتشار القمع بينهم، كما يدفعون ثمنه من إنهاك يتعرضون له بحكم سياسات نيوليبرالية شرسة.
لا يفهم فريدمان وأمثاله العلاقة المعقدة بين الشعوب العربية وبين قضية فلسطين. هي لاتزال قضيتهم المركزية وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. هي تعبير عن بحثهم عن كرامتهم في الداخل، وفي الإقليم وفي العالم من حولهم. إن صعود القضية الفلسطينية يؤدي إلى عزل إسرائيل والولايات المتحدة وزيادة الانتقادات العالمية للاستعمار الاستيطاني والاحتلال والفصل العنصري.
تكتسب هذه الأفكار اهتمامًا جديدًا، يضاف إليها حقوق السكان الأصليين والعدالة العرقية والبيئية والتوزيعية …إلخ. الطريف في كل هذا؛ أننا لم نعد بإزاء غرب ولا شرق ولا محور مقاومة ومحور شمول، وإنما توزع للقوى وفق المصالح على هذه المناطق الجغرافية المختلفة، وتباين في تموضعها حسب كل قضية، فيما أطلقت عليه تشظّي الاستقطابات.
ثالثًا: البحث عن روح العالمبشّرت الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة بنظام دولي قائم على القواعد يتعزّز بعدد من المؤسسات الدولية التي تم إنشاؤها. يتسم النظام الدولي الآن بالفوضى والتشتت، لكن مع الحرب على الفلسطينيين ظهر بجلاء أن حكومة الولايات المتحدة تتخلّى عن القواعد والقيم التي تمثلها المؤسسات الدولية.
الاهتمام العالمي بقضية فلسطين خلق محورين جديدين: الأول الذي يضمّ كثيرًا من الدول وعددًا من الفواعل من غير الدول وينحاز لقيم إنسانية مشتركة، والثاني يضم عددًا من الدول وقوى من غير الدول يرى أن هذه القيم هي حق أصيل لجنس أو عرق أو أتباع دين معين دون الآخرين.
سأل فريدمان وزير الخارجية الأميركي في منتدى دافوس الذي عقد الشهر الماضي (يناير/كانون الأول) عما إذا كانت حياة المسلمين والمسيحيين أقل قيمة من حياة اليهود، أجاب بلينكن بصوت متقطع بالعاطفة: "لا، أعتقد بالنسبة لي، وبالنسبة للكثيرين منا، فما نراه كل يوم في غزة أمر مؤلم. والمعاناة التي نراها بين الرجال والنساء والأطفال الأبرياء تفطر قلبي". والسؤال هو: ما الذي يجب فعله؟ يستحق بلينكن أن يرشح لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل على المسرح الدولي.
يحتاج المجتمع الدولي إلى بناء تقاليد عالمية للعمل الإنساني، وعليه أن يعترف بالقول والفعل بأن حياة البشر جميعًا لها نفس القيمة، وأن قتل المدنيين أمر غير مقبول أينما وقع.
يقول فريدمان في مقال آخر له: "إذا فكرت في الركائز الثلاث التي أدّت إلى استقرار العالم منذ أن أصبحت صحفيًا في عام 1978 – أميركا القوية الملتزمة بحماية النظام العالمي الليبرالي بمساعدة مؤسسات صحية متعددة الأطراف مثل حلف شمال الأطلسي، والصين التي تنمو بشكل مطرد هناك دائمًا لدعم الاقتصاد العالمي، والحدود المستقرة في الغالب في أوروبا والعالم النامي ــ اهتزت هذه الركائز الثلاث بفعل الاختيارات الكبيرة التي اتخذها لاعبون كبار على مدى العقد الماضي".
وأقول؛ إن العالم لن يستقر إلا بمقدار استحضار روحه التي تقوم على أن التكريم الإلهي لبني آدم يشمل الجميع ولا يُستثنَى منه أحدٌ.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: بعد الحرب الباردة الولایات المتحدة جنوب أفریقیا فی العالم من الدول فی غزة عالم ا صراع ا
إقرأ أيضاً:
غزة.. منطقة المواصي أكبر مدينة للخيام في العالم
الثورة /وكالات
بدلاً أن تكون منطقة زراعية خالية، تكسوها السوافي الرملية، والمناطق الخضراء، باتت منطقة المواصي أكبر مدينة للخيام في العالم، تحوي في جنباتها آلاف المواطنين الذين شردوا قسرًا وإرهابًّا من منازلهم، ومعها تحوي آلامهم وقصص وجعهم، وغربتهم التي طالت، حتى الأرض التي يفترشونها باتت قبورًا لهم ولأحلامهم وآمالهم.
وتمتد المواصي على الشريط الساحلي للبحر المتوسط جنوب قطاع غزة، وتبعد عن مدينة غزة نحو 28 كيلو متراً، ويبلغ طولها 12 كيلو مترًا، بعرض نحو كيلو متر، وتمتد من جنوب دير البلح حتى رفح جنوبًا، مرورًا بخان يونس.
سر التسمية
استمدت المواصي اسمها من استخراج المزارعين للمياه في المنطقة عبر حفر البرك (برك امتصاصية) واستخدامها لري المزروعات، حيث تُعد منطقة غنية بالمياه الجوفية، وهي التي شاركت الغزيين معركتهم الكبيرة منذ السابع من أكتوبر، وقاسمتهم الصمود، وهي التي تعرضت لمرات لا تكاد تحصى من القصف والقتل الصهيوني، وفيها حدثت مجازر مروعة معها ابتلعت الرمال خيامًا وأناسًا في مشاهد مروعة على الإجرام والحقد الصهيوني.
منسيون في المواصي
أجساد متعبة، طعام شحيح، ماء بعيد، علاج مفقود، بكاء متقطع، ترقب مستمر، حشرات وأمراض.
كل يوم نسمع خلق الله من البشر وسط خليط الوجع والدم والقهر واليأس يقولون نحن بخير، وهم في كرب لا يعلمه إلا الله.
وتقدر مساحة المواصي الإجمالية بنحو 12 ألف دونم (الدونم يساوي ألف متر مربع)، وتمثل نحو 3% من مساحة قطاع غزة، وتتكون المنطقة من كثبان رملية، يطلق عليها محلياً “السوافي”، وهي عبارة عن رمال صحراوية بيضاء، تتخللها منخفضات زراعية خصبة غنية بالمياه الجوفية.
وتقسم المواصي إلى منطقتين متصلتين جغرافيا، تتبع إحداهما محافظة خان يونس، وتقع في أقصى الجنوب الغربي من المحافظة، في حين تتبع الثانية محافظة رفح، وتقع في أقصى الشمال الغربي منها.
وتضم المواصي في أغلبها أراضي زراعية أو كثباناً رملية قاحلة، أمّا المناطق السكنية فيها فهي محدودة، إذ لا يوجد فيها أكثر من 100 وحدة السكنية، وهي بالكاد تتسع للقاطنين الأصليين، فضلاً عن افتقار المنطقة للبنى التحتية والشوارع المرصوفة وشبكات الصرف الصحي وخطوط الكهرباء وشبكات الاتصالات والإنترنت.
أوجاع لا تتوقف
أوجاع النازحين في المواصي لا تتوقف، فمنذ أكثر من عام، تحتضن الأرض الرملية خيامًا تحوي نازحين ومهجرين، لا تحميهم من حر الصيف ولا برد الشتاء، إلا أنهم صابرون راضون بقدر الله، آملين أن ينتهي كابوسهم بنصر مؤزر يعوضهم عن ويلات النزوح وترك الديار.
على ناصية شارع روني صالح -أحد أشهر الشوارع في منطقة المواصي- يقف الحاج غانم أبو غانم وعلى محياه كهولة وألم شهور، يقول: منذ عام من الزمن ونحن هنا، نكابد الوجع، ونتعالى على الجراح، ونعيش أوضاعًا قاهرة، بائسة، بالجوع والعطش، والعوز نواجه المحتل.
يتابع أبو غانم ويروي قصة النزوح من منطقة شمال مخيم النصيرات إلى رفح ومن ثم إلى المواصي في خان يونس، يقول: “نحن لا نعرف النوم من البرد، الشوادر مع كل ليلة تزداد بردًا، وكل يوم قصف متواصل في المنطقة التي قالوا إنها آمنة، نحن لا نعيش، والحياة في غلاء دائم، الخيام لا تمنع بردًا ولا حرًا، السقف النايلون كل صباح يغطيه الندى والماء، نسمع صوت البحر الهائج، العريشة تكاد تنخلع من الأرض، وأنا رب أسرة مكونة من 6 أشخاص”.
منطقة «المواصي» التي صُنّفت أنها مناطق آمنة؛ هي شريط ساحلي على شاطئ البحر ضيق لا يصلح للحياة لانعدام مقوماتها.!!
وأكثر النازحين خرجوا لها مضطرين بملابس صيفية خفيفة!!
الآن يواجهون موجات بردٍ قارس مع دخول الشتاء.
أما محمود الحداد فقد نزح ثلاث مرات قبل الوصول إلى المواصي، وفي كل نزوح قصص ألم، ووجع لا تكاد للكلمات أن تصفه، أو حتى الصورة، فالقلوب موجوعة، والانتظار قاتل، لكنه على يقين أن الفرج قادم، وأن الله سيعوضهم بكل جميل.
يعاني الحداد وفق حديثه لمراسلنا من صعوبة بالغة للحياة: “لا طعام ولا طحين، وأنا رجل مريض أحتاج لعلاج، وليس لدي ما أقدمه لنفسي ولا لأولادي، وحينما أمطرت السماء قبل أيام غرقت الخيمة، ولا أدري ما الذي تخبئه الأيام المقبلة لنا؟!”
الحاجة جملات أم لشهيدتين، استشهدتا في شمال قطاع غزة، دون أن يعطيها الاحتلال أي حق في وداع قبل الرحيل تقول: “يقولون المواصي هي الآمنة، أو هي منطقة المساعدات، ومنذ أن أتينا لم نر نومًا أو طعامًا، لا طحين يوزع، ولا أمان فالقصف اشتد كثيرًا في كل ناحية، وقبل أيام قصفوا المنطقة واستيقظ الأولاد من نومهم مفزوعين، يركضون في كل مكان دون هدف!”.
لا تنسى الحاجة جملات ما حرمت منه قبل أشهر: “استشهدت بناتي وأنا بعيدة عنهن، لقد دفنوهم في الشمال، ولم أرَ أيًا منهن، لكني دائمًا أقول، الحمد لله، لقد كرّمنا الله بهن”.
ثبات وصبر
وتعرف منطقة المواصي إلى جانب قصص النازحين حكايتها الخاصة، حكاية ثبات وانتظار وصبر، وهي المنطقة التي تحملت رجس الاستيطان في سنوات طويلة مضت، حيث بنت إسرائيل مستوطنات قطاع غزة على أراضيها بعد الاحتلال في عام 1967م، وأقامت مجمع مستوطنات غوش قطيف، وصار الفلسطينيون في غزة محاطون بحوالي 14 مستوطنة.
لكنها أيضًا تحفظ جميل مقاوميها، وتذكر جيدًا عام 2005 ذلك اليوم الذي غادر فيه آخر مستوطن من الأرض البراح الواسعة، لتصبح ملكًا لأصحابها، ثم ها هي تدخل تحديًا جديدًا، بعدما رفع الغزي شعار (أكون أو لا أكون) في وجه المحتل الذي يريد إعادة السنوات إلى الوراء، ولكن أهل قطاع غزة يحفظون الدرس جيدًا.
في منطقة المواصي، أناس مظلومون، مقهورون، لكنهم صامدون صابرون، راضون، وهم على يقين أن تعبهم وصبرهم لن يضيع هباءً، وهم المتيقنون بعودة إلى ديارهم ومنازلهم وثم إلى الأرض المحتلة عام 48م.
وبقيت المواصي منطقة هادئة خالية من السكان، حتى فتحت ذراعيها لشعبها الذي نزح قسرًا وفرارًا من نار الحرب الهمجية، وهي التي كانت سلة الغذاء لقطاع غزة، وبعدها أصبحت مدينة للنزوح ونسج قصص الألم والبطولة، وحتى أصبحت منطقة روت بالدماء.
يقول النازح محمود صافي إنه يتذكر الغارة التي ضربت المواصي في يوليو وراح ضحيتها قرابة 100 شهيد.
في واحدة فقط من الخيام الـ 20 التي استطاع الدفاع المدني انتشال أصحابها في مجزرة المواصي، وجدوا مشهدًا مأساويًا.
في خيمة بعرض 2 متر وطول 2 متر مدفونة تحت التراب، وجد الدفاع المدني ستة فرشات، واحدة بجانب الأخرى. كان الأب، أحمد فوجو، ينام بجوار زوجته، وعلى الفرشات الأربعة المتبقية أولاده.
وأضاف لمراسلنا أن هذه المجزرة ليست الوحيدة، بل إن الطائرات الحربية والمدافع الصهيونية تقصف مناطق المواصي بين الفينة والأخرى، ملاحقة النازحين في مناطق ادعت إسرائيل زورًا وبهتانًا أنها آمنة.