ماذا وراء إقرار القاهرة نظاما جديدا للتقاضي قبل انتهاء المهلة الدستورية؟
تاريخ النشر: 2nd, February 2024 GMT
سارعت السلطات المصرية إلى إقرار نظام التقاضي الجديد، وتطبيق درجة الاستئناف على أحكام الجنايات لتجنب الوقوع في أزمة دستورية، تهدد صحة إجراءات سجن جميع المحبوسين على ذمة محاكم الجنايات، بعد عشر سنوات من التجاهل منذ إقرار الدستور الجديد في 2014.
ونقل موقع "مدى مصر" المستقل عن قضاة ومحامين، تفويت السلطات المصرية المهلة الدستورية لبناء مقار المحاكم الجديدة، وإعداد كوادر قضائية، وتعيين موظفين معاونين لهم في المهمة القضائية الجديدة، ما يفرغ هذا الإجراء من مضمونه بسبب عدم وجود قضاة ومحاكم جديدة.
في وقت سابق من الشهر الماضي، أصدر رئيس محكمة استئناف القاهرة رئيس مجلس رؤساء محاكم الاستئناف، قرارا بإنشاء 29 دائرة محكمة جنايات مستأنفة جديدة، تطبيقا للتعديلات الأخيرة لأحكام قانون الإجراءات الجنائية، وأصبح التقاضي بموجبها أمام محاكم الجنايات على درجتين.
وكان البرلمان المصري وافق مؤخرا على مشروع قانون مقدم من الحكومة، بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية "استئناف الأحكام الصادرة فى الجنايات، وتم أخذ رأى المجلس على الموافقة نهائيا وقوفا"، وصدق عليه رئيس النظام، عبد الفتاح السيسي، ونشر القرار في الجريدة الرسمية.
تجاوز المهلة الدستورية التي حددها بعشر سنوات حرم عشرات الآلاف من المحبوسين من اللجوء إلى درجة الاستئناف التي تتيح لهم الاستئناف على أحكام محاكم الجنايات منذ 2014، ولكن السلطات المصرية استغلت المهلة في تعطيل العمل بالمادة الدستورية بدلا من المسارعة في تطبيقها.
وكشف النائب الأول السابق لرئيس محكمة النقض، المستشار أحمد عبد، في تصريحات لموقع "مدى مصر"، أن تفويت فرصة إقرار القانون في موعده يعني فتح الباب أمام عدد لا نهائي من الطعون في صحة إجراءات المحبوسين على ذمة محكمة الجنايات وبطلان المحاكمات أمامها وعدم دستورية مواد بقانون الإجراءات الجنائية.
بموجب القانون الجديد، ستعيد محاكم الاستئناف النظر في القضايا من جديد، بعد صدور حكم محكمة الجنايات فيها، على خلاف محكمة النقض التي تختص بالنظر في العيوب القانونية للحكم وليس في موضوع القضية.
القضاء محلك سر
قلل مدير مركز مونتغومري للدراسات القانونية في بنسلفانيا، سعيد عفيفي، من مسارعة الحكومة المصرية إلى تطبيق الاستحقاق الدستوري واعتبره "تصحيح صوري لمنظومة العدالة الغائبة، لقد أتحفنا النظام المصري بهذا التشريع الذي يعطي الحق في درجتي التقاضي الذي لم يكن معمولا به في الجنايات وهذا الأمر كان معيبا ولم يتم تصحيحه، ونحن هنا أمام عملية معقدة ولا معنى لها على أرض الواقع في ظل عدم إعداد الكوادر القضائية بشكل كاف، من ناحية التشريع فالقانون الأصلح للمتهم هو المبدأ العام المعمول به في كل أنحاء العالم ولكن ماذا عن الذين أضيروا من القانون السابق كيف يمكن تصحيح هذه الأخطاء؟".
وتساءل في حديثه لـ"عربي21": "كيف سيتم النظر في أوامر قضائية باطلة دستوريا أصلا هل سيتم التغاضي عن عدم دستوريتها و الدخول في الموضوع و محاولة تصحيح الأخطاء التي تمت بأوامر قضائية جديدة"، مشيرا إلى أن "هناك نقاطا كثيرة تتعلق بشرعية تشكيل هذه الدوائر و تبعيتها القضائية وما هي الجهة التي يمكن الطعن لديها، وهل تم تعديل قانون محكمة النقض حتى يواكب هذا الهراء الذي يدخلنا فيه هذا النظام؟".
وأوضح عفيفي: "نحن في تكنوقراط مصر قلنا الهدم وإعادة البناء التشريعي والدستوري هو أفضل طريقة لوضع مصر على الطريق الصحيح بمعنى إلغاء كافة القوانين و إعادة صياغة قوانين بديلة تواكب العصر بعيدا عن هذه الغابة من التشريعات المتشابكة التي جعلت الحياة صعبة في كل مجالاتها، المجتمع في حالة انهيار قانوني و تشريعي غير مسبوق و خصوصا عندما لا تحترم السلطة الدستور الذي وضعته بنفسها و لمصلحتها".
واستدرك: "ولما كان التشريع من اختصاص المجالس النيابية فقد عملت الحكومات منذ يوليو 1952 حتى يومنا هذا على إفساد هذه السلطة الهامة بإدخال الموالين والمحاسيب والطامحين وتمكينهم من جبهة التشريع وتفصيل القوانين على مزاج السلطة وتمرير أية تعديلات تريدها في أي توقيت، ومنذ انقلاب 2013 أصبح توظيف البرلمان والقضاء لخدمة السلطة ومناهضة المواطن هو عنوان المرحلة، على سبيل المثال ثم تم إصدار قرار بقانون بإنشاء محاكم استثنائية لمحاكمة أي شخص يعارض الانقلاب وهذا مخالف للدستور الذي يعطي الحق في إنشاء محاكم في حالة الحرب والكوارث الطبيعية فقط".
إجراء صوري وتجميل شكل النظام
وصف المحامي والناشط الحقوقي، عمرو عبد الهادي، قيام السلطات "بسد الثغرة الدستورية بأنها خطوة صورية ليس الغرض منها تحقيق العدالة أو إتاحة درجة تقاضي جديدة للمساعدة في إرساء نظام قضائي عادل، وهي إجراءات على ورق لن تساعد ولن تفيد في ظل تحكم الجهات الأمنية في مجريات القضاء وتقرير من المتهم ومن البرئ".
واستبعد في تصريحات لـ"عربي21": أن "تحقق تلك الخطوة أي انفراجة حقوقية؛ لأن الأحكام الأساسية في القضايا الهامة تصدر من أمن الدولة وهي في المجمل أحكام مسيسة، لا وجود للدستور والقانون في مصر منذ 2013 كما أنه لا يوجد أي استقلال للقضاء والقضاة منذ ذلك الحين".
وأضاف عبد الهادي "وزاد الطين بله إهدار ثوابت قانونية راسخة قبل 30 يونيو 2013 مثل الحد الأقصى للحبس الاحتياطي كما تم نسف محكمة النقض بهيبتها وأحكامها التي كانت تعد مثل السوابق القانونية في أحكامها، أما التعديل الذي تم الآن هو من قبيل مسكنات للرأي العام وشكليات وتجميل شكل النظام في وقت النظام منهار فيه ويحاول تجاوز هذا الانهيار".
الحبس سيد الأحكام
وخلال الأسبوع الأول من 2024، جددت محكمة الجنايات "إرهاب"، حبس 1148 معتقلا سياسيا مصريا في سجن بدر، خلال جلستين فقط عقدتها يومي 2 و3 كانون الثاني/ يناير الجاري، وذلك عبر الدوائر الإلكترونية.
وقدرت منظمة العفو الدولية في كانون الثاني/ يناير 2021، عدد المعتقلين في مصر بنحو 114 ألف سجين، فيما أكدت أن مسؤولي السجون بمصر يعرِّضون سجناء الرأي وغيرهم من المحتجزين بدواع سياسية للتعذيب ولظروف احتجاز قاسية وغير إنسانية، ويحرمونهم عمدا من الرعاية الصحية عقابا على معارضتهم.
وقالت "الجبهة المصرية لحقوق الإنسان"، في تقريرها في 2023، إن "دوائر الإرهاب في محكمة بدر راجعت أكثر من 25 ألف أمر بتجديد الحبس الاحتياطي في 2022، معظمها يغطي قضايا تتعلق بالنشاط السياسي، وأيد القضاة جميع أوامر الحبس، باستثناء 1.4 بالمئة فقط.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية المصرية القضاء مصر القضاء توصيات المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة محکمة النقض
إقرأ أيضاً:
على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (13 – 20)
"لن يستطيعَ أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لم تَكُنْ مُنحنياً"
مارتن لوثر كينج
النور حمد
تلوُّن النظام الإخواني
لقد أجبرت الضغوط الشديدة التي واجهها نظام الترابي/البشير في السودان، منذ بداية التسعينات، على التلون وإلى اكتساب مهاراتٍ للبقاء جعلته يمسك بالسلطة، حتى الآن، لستةٍ وثلاثين عاما. هذه الحقيقة ينبغي، في تقديري المتواضع، أن تكون حاضرةً في ذهن القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في محاولة إيجاد نهاية للحرب البشعة الجارية الآن في السودان. كما ينبغي، أيضا، أن تكون حاضرةً في ذهن النظام المصري، الذي اتخذ من بقايا النظام الإخواني حليفًا له. وما من شك أن الأطماع التاريخية في السودان أعمت النظام المصري من أن يرى بوضوحٍ كافٍ خطورة بقايا هذا النظام الإخواني السوداني المتَّسم بالتلوُّن والمكر والغدر. ولا أدرى إلى أي مدىً سوف تصطحب القوى الدولية والإقليمية في تقديراتها هذه الطبيعة المراوغة الماكرة لهذا النظام الإخواني الكليبتوقراطي، وإلى أي مدى سيتذكر النظام المصري، الذي يحاول حاليًا احتكار ملف الأزمة السودانية، تجاربه المريرة مع نظام الترابي/البشير. فهل يا ترى نسي النظام المصري الصراعات الدموية بين الدولة المصرية وتنظيم الإخوان المسلمين وتفرعاته، منذ اغتيال بطرس غالي باشا، وأحمد ماهر باشا، وأحمد الخازندار، ومحمود فهمي النقراشي، ومحمد حسين الذهبي، ويوسف السباعي، وأنور السادات، ورفعت المحجوب، وفرج فودة؟ هذا، إلى جانب العديد من محاولاتوالاغتيال الفاشلة. ومن الهجمات الإرهابية على كنائس المواطنين من الطائفة المسيحية القبطية، والهجمات الإرهابية على أوتوبيسات السياح الأجانب .
لقد استضاف نظام الترابي/البشير، في فترة التسعينات من القرن الماضي، عتاة الإرهابيين الدوليين من عيار أسامة بن لادن والثعلب كارلوس. كما قام بمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. إلى جانب ذلك، فتح النظام الباب للمتطرفين الإسلاميين من جميع إنحاء العالم، لدخول السودان، ومنحهم جوازات سفر سودانية. كما كان له دورٌ في التفجير الأول في برج التجارة الدولية في نيويورك، وفي تفجيرات السفارات الأمريكية في شرق أفريقيا، وفي حادثة تفجير المدمرة كول على سواحل اليمن. ومنذ بداية التسعينات، ناصب هذ النظام الإخواني دول الخليج العربية العداء وفتح أبواقه الإعلامية ضدها ودعا إلى الإطاحة بها. وحين غزا صدام حسين الكويت وقف مع الغازي المعتدي، فجرى تصنيفه حينها ضمن ما سُميت "دول الضد". كل تلك الأمور وضعت النظام الإخواني السوداني في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وجرى توقيع عقوباتٍ قاسيةٍ عليه. المؤسف أن النظام المصري استثمر في تلك العقوبات فقام بتأييدها، بغرض تعطيل السودان عن النهوض حتى يبقى تحت الهيمنة المصرية المستدامة. ولهذا السبب كَرِهَ النظام المصري حكومة الدكتور حمدوك وعمل على إبعادها من السلطة لأنها نجحت في إخراج السودان من أسر العقوبات، كما أعلنت أنها ستوقف تصدير السودان مواده الخام السودانية قبل أن تجري معالجتها لإضفاء القيمة المضافة عليها.
تمكن النظام الإخواني في السودان من إرخاء القبضة الاقتصادية الخانقة عليه، بالاتجاه إلى كندا، حيث دخلت شركة تاليسمان الكندية إلى السودان. لكنها، سرعان ما باعت أسهمها إلى أحد فروع شركة أويل آند ناتشورال قاس كوربوريشن الهندية، مقابل 720 مليون دولارًا أمريكيا. ويبدو أن ذلك حدث نتيجة لضغوطٍ من الحكومة الكندية، التي رأت أن عائدات النفط في السودان تذهب لإزكاء الحرب. (راجع: موقع قناة CBC على الرابط: https://shorturl.at/r8kmR). عقب ذلك، دخلت، كلٌّ من الصين وماليزيا في صناعة البترول السودانية لينجح النظام الإخواني، رغم المقاطعات، في استخراج البترول، الذي طالما تعثر استخراجه. في نهاية عقد التسعينات أطاح عمر البشير بالدكتور حسن الترابي صاحب فكرة الانقلاب الذي أتى بالبشير إلى السلطة. غير أن النظام الإخواني لم يغيِّر جلده، إذ استمر في حربه الدينية الجهادية في جنوب السودان. بل، وأضاف إليها حربًا أخرى في دارفور اتسمت بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية. كما قوَّى النظام صلته بإيران بل وأصبح وسيطًا لإرسال الأسلحة الإيرانية إلى منظمة حماس في غزة عبر بدو صحراء سيناء، الأمر الذي جرَّ إسرائيل إلى تنفيذ غارتين جويتين داخل السودان.
التعاون مع سي آي آيه
تحت وطأة الضغوط الدولية والعقوبات الاقتصادية أخذ النظام الإخواني يخطب ود الغرب مقدمًا استعداده لتقديم ملفات الإرهابيين الذين سبق أن استقطبهم وتعاون معهم. فأرسلت وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) طائرةً خاصةً إلى مدير الاستخبارات السودانية، صلاح قوش، لكي يأخذ معه كل ملفات الإرهابيين الذين تعامل معهم نظامه. وقد كانت تلك محاولةً من النظام للخروج من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، ومن ثم، رفع العقوبات عنه. قدم صلاح قوش ما طلب منه في خيانةٍ قبيحةٍ لجميع من سبق أن استقطبهم واستخدمهم من الإرهابيين. غير أن المخابرات الأمريكية استحلبت منه كل ما تريد، ولم يحصل منها على شيء نظير ما قدمه لها. وقد كشف موقع ويكيليكس عن محضر لقاءٍ جرى بين وفد من أعضاء لجنة العلاقات الخارجية واللجنة الفرعية لأفريقيا في مجلس الشيوخ الأميركي، ورئيس جهاز الأمن والمخابرات السوداني السابق صلاح عبد الله قوش. وقد أشارت البرقية رقم 09KHARTOUM698، المرسلة من السفارة الأميركية في الخرطوم لرئاستها في واشنطن بتاريخ 28/5/2009م، إلى أن صلاح قوش أعرب عن خيبة أمله لدي لقائه بالسناتور الجمهوري من ولاية جورجيا، جوني آزياكسون، والسناتور الجمهوري من ولاية تينسي، بوب كريكر. وبحسب البرقية، أرجع قوش خيبة أمله إلى أنه تعاون مع وكالة المخابرات الأميركية (CIA)، طيلة التسع سنوات الماضيه، قائلاً إن هذا التعاون لم يثمر في رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وأردف قائلاً: "خلال التسعة سنوات الماضية نجحنا في إنقاذ حياة أعدادٍ كبيرةٍ من الأميركان في الإقليم وفي الشرق الأوسط، بسبب تعاوننا مع وكالة المخابرات الأميركية". وأكد قوش للوفد الأميركي أن عليهم أن يدركوا أن السودان يدفع "ثمناً باهظاً"، بسبب تعاونه مع المخابرات الأميركية في مكافحة الإرهاب. وأنه شخصيًا يدفع ثمنًا لذلك التعاون. وقال إن أعضاء الحزب الحاكم، المؤتمر الوطني أصبحوا ينعتونه بعميل أميركا. والإسلاميون يسمونه "الكافر" جراء تعاونه مع الأمريكيين. ووصف قوش، وفقًا لتلك البرقية، السياسة الأميركية بقصر النظر، وأنها متأثرةٌ بأجندة مجموعات الضغط مثال، "إنقاذ دارفور". (راجع: موقع ويكيليكس، على الرابط: https://shorturl.at/Y96R7). وفي أغسطس 2019 بلغ سوء معاملة أمريكا لصلاح قوش ورصفائه محمد عطا المولى وطه عثمان الحسين أن وقعت عليهم عقوبات تضمنت منعهم من دخول أمريكا. (راجع: صحيفة سودان تربيون على الرابط: https://shorturl.at/kHcGa).
الفريق، صلاح قوش المطلع بدقة على تعاون النظام الإخواني السوداني مع الجماعات الإرهابية والذي ذهب إلى أمريكا، كما ذكرنا، لكي يقدم لها المعلومات نظير أن ترفع أمريكا العقوبات عن النظام، هو الآن، كما سبق أن ذكرنا، ضيفٌ على مصر وجهاز مخابراتها. وكما سبق أن أشرنا أن هذا واحدًا من أبلغ الأدلة على هزال الدولة السودانية وعلى حالة الضعة والهوان التي أوصلها إليها النظام الإخواني. حيث أصبح لجوء رئيس جهاز المخابرات إلى دولةٍ جارةٍ لها مطامع في الهيمنة عليه وعلى موارده، أمرًا لا يرفع حاجب الدهشة. لقد استخدمت المخابرات المصرية الفريق صلاح قوش في كل المؤامرات التي أدت إلى انقلاب 25 أكتوبر 2023، الذي قوض الفترة الانتقالية وأطاح بحكومة عبد الله حمدوك، وقفل الطريق أمام التحول الديمقراطي. كما استخدمت كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة الفريق طه عثمان الحسين، في مرحلةٍ ما، لنفس الغرض.
مناورة طرد الإيرانيين
قبل ثلاثة أعوامٍ فقط من سقوط نظام المشير عمر البشير، خرج وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور، بصورةٍ مفاجئةٍ، على قناة الجزيرة ليؤكد أن السودان قد قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران على خلفية التدخلات الإيرانية في المنطقة على أسسٍ طائفية، وبسبب اعتداءاتها على سفارة وقنصلية السعودية في طهران. وفي وقتٍ سابقٍ لهذا التصريح، كانت وكالة الأنباء السعودية قد أوردت أن مدير عام مكاتب الرئيس السوداني عمر البشير، الفريق طه عثمان الحسين، أبلغ هاتفيًا، وبصورةٍ شخصية، ولي العهد السعودي أن الخرطوم قررت طرد السفير الإيراني، ومعه كامل البعثة الدبلوماسية. وأنها قامت إلى جانب ذلك باستدعاء السفير السوداني من إيران. وأكد طه لولي العهد السعودي إدانة السودان لتدخلات طهران في المنطقة، وإهمالها حماية السفارة والقنصلية السعوديتين في إيران. كما أعرب عن وقوف السودان مع السعودية في مواجهة الإرهاب وتنفيذ كافة الإجراءات الرادعة له، ونسبت "الجزيرة نت" ذلك الخبر إلى وكالة الأنباء السعودية. (راجع: موقع "الجزيرة نت"، على الرابط: https://shorturl.at/jyxQT). وقد جرى طرد إيران من السودان، بعد فترةٍ طويلةٍ من التعاون، كان النظام السوداني قد سمح لها فيها بالدفع للمد الشيعي للتغلغل في السودان. فنشأت الحسينيات والمراكز الثفافية الإيرانية، وانتشرت المطبوعات الشيعية، وغير ذلك مما تفعله إيران عادةً في نشر نسختها من الإسلام السياسي في مختلف الدول. وقد تبع طرد الإيرانيين انخراط النظام السوداني بالجنود في ما سميت "معركة الحزم"، التي شنها التحالف الخليجي على الحوثيين في اليمن. الأمر الذي جعل النظام السوداني منخرطًا عسكريًّا في مواجهة إيران ممثلةً في الحوثيين في اليمن.
لكن، في أثناء هذه الحرب الدائرة الآن، أعاد النظام الإخواني السوداني، الذي يجلس على رأسه حاليًا الفريق عبد الفتاح البرهان محل الرئيس المخلوع عمر البشير، العلاقات الدبلوماسية مع إيران. وأخذت الأسلحة الإيرانية تتدفق على السودان، وعلى رأسها الطائرات المسيرة. (راجع: موقع "سكاي نيوز عربية على الرابط: https://tinyurl.com/3aynrmm5). الشاهد أن كل هذه التقلُّبات تجعل المرء يتساءل: من أين تأتي الثقة في هذا النظام لدى من يتحالفون معه؟ وعلى رأس هولاء في الوقت الراهن النظام المصري. لقد أعلنت مصر أنها خسرت 7 مليارات دولار بسبب اعتداءات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، الأمر الذي خفض حركة النقل عبر قناة السويس. وقد أصبح ميناء بورتسودان في فترة ما مزارًا للسفن الإيرانية، وهو أمرٌ يهدِّد أمن كلٍّ من مصر والسعودية. وتعلم مصر أن نظام الحركة الإسلامية السودانية، سواءً في فترة الرئيس المخلوع عمر البشير، أو الفريق عبد الفتاح البرهان الذي فرض نفسه على السوانيين بالقوة، لا ينفك يدور في الفلك الإيراني.
رغم كل ما سبق ذكره، راهنت مصر على الفريق عبد الفتاح البرهان، فقط لأنها وجدت فيه من الخضوع والانبطاح ما لم تجده في حاكمٍ عسكريٍّ سودانيٍّ قبله، متجاهلةً كل مخاطر الاعتماد على شخصٍ طبيعته الأصلية المكر والغدر وتقلُّب المواقف وتناقضاتها. فالرجل قد عاش لعقودٍ ضمن بنية نظامٍ طبعه التقلُّب والمكر والغدر فانطبع بطابعه، وليس له من ذلك فكاكٌ قط. وينطبق هذا على السعوديين الذين لا ينفكون يتعرضون للدغات النظام الإخواني في السودان، كل حينٍ وآخر. ومن الغريب أن قناة "العربية الحدث" التي تمولها السعودية يسيطر على مكتبها في الخرطوم المنتمون إلى حزب الرئيس المخلوع عمر البشير، المؤتمر الوطني، والتي ما انفكت توظف تقاريرها غير المهنية المرسلة إلى القناة لخدمة أجندة النظام الإخواني في السودان، ثم لا تجد استغرابًا أو مساءلةً من رئاسة القناة. بل، يبدو أنها تجد منها المباركة والتشجيع. باختصارٍ شديد، هذا النظام الذي ترأسه الرئيس المخلوع عمر البشير لثلاثين عامًا وورثه منه الفريق عبد الفتاح البرهان نظامٌ ذئبيٌّ ثعبانيٌّ لا تتغير طبيعته أبدًا، ولسوف يقوم بلدغ حليفه، طال الزمن أم قصر. ولسوف يلدغ الفريق البرهان كلَّا من مصر والسعودية، إن هما سارتا معه بنفس الصورة الجارية معه اليوم. باختصارٍ شديدٍ، من تلوث بدنس الإخوان المسلمين، لن يستطيع تطهير نفسه حتى تواريه ظلمة القبر.
تقسيم السودان في صالح مصر
منذ أن قبلت حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير بانفصال الجنوب، بعد خمسة عشر سنة من الحرب مع حركة العقيد جون قرنق، طرح القيادي الإسلاموي، ووزير المالية السابق عبد الرحيم حمدي في عام 2005، فكرة تقسيم السودان. وهي الخطة التي أخذ السودانيون يشيرون إليها بـ "مثلث حمدي". أحسَّت ما تسمى "الحركة الإسلامية" أن عددًا من أقاليم السودان تقف بطبيعتها الثقافية عاملاً معيقًا لإنشاء "دولة إسلامية" تهيمن فيها الثقافة العربية وحدها. فالتنوع العرقي والديني والثقافي هو في نظرهم ما يجعل البلاد غير مستقرة بصورةٍ تمكنهم من أقامة النموذج "الإسلامي" الذي يودونه. لذلك، جاءت فكرة "مثلث حمدي" التي اقترح فيها الوزير الأسبق عبد الرحيم حمدي، فصل عددٍ من أجزاء السودان، تشمل جنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، ودارفور. وذلك لكي تقوم دولةٌ "إسلاميةٌ" في المثلث الجغرافي المنحصر بين دُنقلا وسِنَّار والأُبَيِّض. وقد برر حمدي الفكرة بعدم الانسجام الثقافي لتلك الأقاليم مع المثلث الذي يرى أنه متجانس ثقافيا. ويرى حمدي، أيضا، أن هذه الأقاليم التي ينبغي التخلص منها تعيق الاستثمار ويصعب مع وجودها حدوث أي تنميةٍ مستدامةٍ، لكونها تتسبب في دوام القلاقل وعدم الاستقرار. وقد نفى حمدي في لقاء صحفي هذه المزاعم، لكن ما جرى في الواقع منذ انفصال الجنوب، وما يجري الآن لا يزال يؤكد هذا المنحى.
فصل الجنوب وغيره من الأقاليم
بعد اتفاقية نيفاشا في عام 2005 ودخول الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق شريكًا في الحكم لفترة السنوات الخمس السابقة لاستفتاء تقرير المصير الذي نصت عليه الاتفاقية، عمل نظام عمر البشير بكل سبيلٍ ممكنٍ ليجعل خيار الوحدة بالنسبة للجنوبيين في الاستفتاء القادم خيارًا غير جاذب. وبالفعل، جرى الاستفتاء في نهاية فترة شراكة الحكم بين الطرفين، واختار الجنوبيون بنسبة بلغت 99%، الانفصال عن جمهورية السودان. وقد قام خال الرئيس عمر البشير، المرحوم الطيب مصطفى، مالك صحيفة "الصيحة"، ذات الخط التحريري المتطرف، بذبح ثورٍ أسود احتفاءً بانفصال الجنوب. وأيضًا، ما أن اختار الجنوبيون الانفصال، قال الرئيس المخلوع عمر البشير: إن حقبة تطبيق الشريعة الإسلامية "المدغمسة"، أي الملتبسة وغير الواضحة والصريحة، قد ولَّت وحانت الفرصة لحكومته لتطبيق الشريعة الإسلامية الصريحة. كل ذلك يؤكد أن ما تسمى الحركة الإسلامية السودانية لا تمانع قط من تقليص مساحة السودان لإقامة ما يعتقدون خطأ أنه كيانٌ متجانسٌ ثقافيًا يمكن أن يقوم فيه نموذج مستقر للدولة "الإسلامية" النموذجية، المتوهمة، التي طالما حلمت بها قوى الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي.
هذا التصور الإخواني المتمثل في تقليص السودان يصب في النظام المصري لكونه يمكنه من الهيمنة على الجزء الشمالي من السودان، الذي سوف يصبح من جراء الانقسامات، أضعف من أن يحمي نفسه. ولن يجد سندًا إلا من مصر التي ستتقايضه الحماية بالخضوع الكامل لها. وقد أوضحت الفترة التي سيطر فيها الفريق البرهان على مقاليد الأمور في السودان منذ انقلابه على حكومة حمدوك الشرعية في 25 أكتوبر 2021، هذا المنحى. أيضًا، أخذ هذا التصور صيغةً جديدةً، أبدلت المرتكز من الإسلام إلى العنصر. وهي النعرة الجديدة المسماة "دولة النهر والبحر"، التي يدعو لها عبد الرحمن عمسيب. والغريب أن قوى الثورة التي لم توافق على ميثاق نيروبي التأسيسي وعلى تشكيل حكومة في المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع، أخذت تقول إن ميثاق نيروبي التأسيسي وما يتبعه من إعلان حكومة سيقود إلى تقسيم السودان. وفات على هؤلاء أن خطة تقسيم السودان معتمدةٌ أصلاً لدى الحركة الإسلامية منذ عقود، وأن تنفيذها يجري على مراحل وفقًا لمسارات الأمور على أرض الواقع. وعقب هذه الحرب التي يتعذر فيها الحسم العسكري، فإن خيار الانفصالات لدى الإسلامويين سوف يصبح، من الناحية العملية، هو الخيار المُحبَّذ والمُرجَّح لديهم. ولسوف يسقط شمال السودان، من تلقاء نفسه كالثمرة الناضجة، في الفك المصري الفاغر، المتلهف لالتهامه منذ فجر التاريخ.
(يتواصل)
elnourh@gmail.com