بوابة الوفد:
2024-11-26@02:12:34 GMT

أم الدنيا.. أم البلاد وغوث العباد

تاريخ النشر: 1st, February 2024 GMT

ليس بعجيب ولا هو عندى بغريب أن يقال إن الشعب المصرى شعب متدين بطبعه، لكنها عبارة قد يقولها العالم وقد يقولها الجاهل الذى لا يعلم مصدرها فى مسار التاريخ ولا مبعثها فى تيار الحضارة، وقد يستوى العلم مع الجهل فى غياب هذا المصدر واختفاء ذلك الباعث الذى يقرّرها كحقيقة واقعة ملموسة لا ينقضها شهود العيان، فتدُّين الشعب المصرى حقيقة ملموسة بين يدى الواقع المشهود، لا نكران فيها ولا خلاف عليها، لكن العالم حين يعلم هذه الحقيقة غير الجاهل حين يرددها دون أن يقف فيها على الفحوى والمعنى والدلالة فى مسار التاريخ.

ومع ذلك؛ فقد يكون الرجل البسيط أصدق شعوراً وأخلص سجيّة وأقدر تبعة من أعلم العلماء فيما يحمله من حبّ لوطنه وقدرة على الذود عنه من كل مكروه، وهو ولا شك يعطينا أبلغ الأدلةً أمثلة ظاهرةً من الواقع المشهود على تلك الوطنية المتجذرة فى أعمق أعماقه وأنفذ طواياه؛ فإن اتصاله بالأرض وعبادته للشمس وتعلقه بنسيم بلاده على الأصالة منذ فجر حضارته الأولى لأمور كلها تؤكد فى المصرى وطنيته المستقرة على الولاء، فما بلغ من بلغ منه إلا وهو متصل بالطين المصري، ولا ولاء له على التحقيق بل الولاء لحكمة البقاء فى قلب التاريخ. 

والإيمان بالروح: فلسفة الأمة المصريّة فى تاريخ الحضارة ممّا لا شك فيه، فالأمة المصريّة من أقدم عصور التاريخ كانت تؤمن بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب وغلبة الخير على الشر وخلود الروح. وهذه مؤهلات الإيمان بالوجود الروحى المُقدّم على الوجود المادي، والذى يُمثّل ركناً أساسياً يشهد على أن الوجود المحدود، وإن طال بصاحبه، لا يستعمل للحقائق الباقية ولا يجيز البقاء فيها بوجه من الوجوه.

ولعلّ هذا السّر هو سبب نشوء الحضارة والإشادة بتأسيس علم المصريات منذ فجر التاريخ، ولم تكن الدنيا تعرف عن الحضارة إذ ذاك شيئاً، ولم يكن يعنيها أن تعرف عن ميادين الفن والدين والثقافة شيئاً قبل أن يعرفها المصريون بقرون طويلة؛ فالمصرى أستاذ الحضارة والثقافة بإطلاق، من حقه أن يفخر بهذا على الدوام، وأن يحفظ تلك الأستاذية فى نفسه مع تقلب الأجيال، وهو أول من نقش المعابد، وأول من علّم الإنسان الكتابة، وأول من أجاد فنون التعبير، وأول من تديّن وأول من تثقف وأول من آمن بالبقاء.

مصر التى تبدو وكأنها مجمع النقائض ومُلتقى الأضداد؛ لهى هى مجلى الحضارة فى بطن التاريخ؛ لأنها مجلى الله فى أرضه. الأرض الوحيدة التى تجلّى الله فيها فكلّم الأنبياء ولم يتجل فى أرض غيرها، هى مصر. ولم يكن العالم كله إذ ذاك قد خرج عن جوف العدم، ولم تكن الدنيا باصرة للشهود العيان، إذ كانت مصر أستاذة الدنيا راقية بثقافتها، مستقرة بهياكلها ومحاريبها، متبتلة فى معابدها وعقائدها الدينية وآدابها وفنونها، قدوة ومثلاً أعلى تعلّم العالم بما تبدعه من ألوان الفنون وصدارة العقائد ونشوء الفلسفات.

لمّا كان الشاعر اليونانى «هوميروس» ينظم ملحمته «الإلياذة» لم يكن للأمة الرومانيّة وجودٌ على البسيطة، على حين كانت مصر، أستاذة الدنيا، قد أمضت من تاريخها أربعين قرناً تنشئ أدباً وتبدع شعراً وتنظم للناس خُلقاً من طريق الديانة. هى إذن أم الدنيا حقيقة لا مجازاً، من يقولها وهو يعلم تاريخها، يقولها وهو يقدّم حقيقة ولا يقول مجازاً بعيداً عن الحقيقة فى شيء : أم الدنيا واقع فى التاريخ وأصالة بالحقيقة فى سبق الحضارة.

نشأ الدين فى مصر ولم ينشأ فى بلاد غيرها، وسكن المجد مصر قبل أن يكون للعالم وجود. هى إذن أمُّ الدنيا بغير خلاف ولم يستطع أحد كائناً ما كان أو من كان أن يقول غير هذا أو يدّعى غير هذا، لأن الدعوى ممجوجة ممّا لا يقوم عليها دليل تصبح خارج نطاق التاريخ (وللحديث بقيّة).

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: أم البلاد أم الدنيا العالم الشعب المصرى وأول من

إقرأ أيضاً:

بين حاضنتين .. تموضعات التاريخ والمجتمع

يستلزم الحديث أولا النظر إلى مفهوم الحاضنة الاجتماعية، والحاضنة التاريخية في هذه المناقشة فقط، فالمقصود بالحاضنة الاجتماعية هنا: هو القدرة على احتواء أحداث التاريخ، والاستفادة منها، وعدم تجاوز تأثيراتها، وإن ارتبطت هذه الأحداث بزمن معين، وكان له فترة انتهاء، لأن الأحداث لا تموت موتا مطلقا، وإنما تختفي فورتها الآنية في اللحظة الزمنية لحدوثها، في الوقت الذي تسعى الذاكرة الاجتماعية للاحتفاظ بها لأقصى فترة زمنية ممكنة، وتوظيفها توظيفا بنيويا عبر ذات الذاكرة التي تنقلها من عصر إلى عصر من خلال أجيالها المتعاقبة. ومن هنا تواردت وتسلسلت إلينا الأحداث والوقائع التاريخية منذ آلاف السنين، ولا زلنا نرويها، ونتحدث عنها، ونتخذها مثلا، وكأننا الشخوص التي عاشت تفاعلاتها المختلفة؛ حيث نمارس هنا دور «شاهد على العصر» مع أننا لم نعش تلك العصور، ولكننا استسغنا هذه السرديات التي نقلها إلينا من كان قبلنا، لأنها جزء من تكويننا الاجتماعي بكل مفرداته، وبالتالي فهذا الرصيد يعود الفضل في بقائه واستمراره إلى الحاضنة الاجتماعية التي ترى فيه بقاءها، وأصالتها، وهويتها.

وبالتالي فالحاضنة الاجتماعية لن تتنازل عنه قيد أنملة، مع ما تلاقيه من صد للحديث عنه، وانتقاد لبقائه على رأس أهميته كل هذه السنين، خاصة من الفئة التي ترى أن كل ما يشير إلى الماضي، يدفن في مقبرة ماضيه، وما النداء الذي ينادى به بضرورة إعادة قراءة النص، أو المفاهيم المصاحبة لذات الفكرة، إلا صورة ماثلة لهذا الاشتباك وعدم الرضى لاستمرار الحاضنة الاجتماعية على قرارها الذي تعض عليه بالنواجذ، وهذا أمر واضح ومسلم به، والكل يعيش تفاصيله، سمه حوار الأجيال، سمه صراع الأجيال، وارتق به إلى حوار الحضارات، أو صراع الحضارات، كل ذلك مفهوم ومقبول، ومع ذلك يبقى للحاضنة الاجتماعية فضل البقاء والاستمرار، تأصيلا للمقولة المتداولة: «الإنسان لن يكون مقطوعا من شجرة» في كل مراحل نموه واستمراره الاجتماعي المتواصل.

أما الحاضنة التاريخية: فهي غير منكورة، بل متنوعة، وتتضمن تباينات مختلفة، وكل مآلات الأنشطة، والممارسات التي يقوم بها أبناء المجتمع تنضوي تحت الحاضنة التاريخية، فهي الملتحمة على طول خط السير الزمني مع الحاضنة الاجتماعية، والدليل على أن للتاريخ حاضنة قوية، هو ما يشير إليه هذا الكم النوعي، المادي وغير المادي الذي استطاع الإنسان أن يحصده طوال تجربته في الحياة، وظل التاريخ ساعده الأيمن لتوثيق كل صغيرة وكبيرة بذلها الإنسان عبر المساحة الزمنية المتاحة هذه، منذ بدء الخليقة، وإلى يومنا هذا، وما بعده، وفي هذا المكتسب يمكن الخروج بقراءة واسعة عن الإنجازات البشرية المادية وغير المادية أيضا، ومن هذا المكتسب يمكن الخروج بكثير من القناعات، والمواقف، والرؤى، فالتاريخ حفظ كل ذلك، ورصده رصدا متواترا، لا لبس فيه ببعديه المادي وغير المادي، تبقى فقط همة المجتمع الإنساني لكي يغرس فيه أدواته من البحث والتقصي، والتمعن، والتمحيص، فهناك؛ أيضا؛ الكثير مما حُمِّلَ التاريخ فوق ما يحتمل، خاصة عندما تتجاوز الأقوال -وليس الأفعال- المنطق «حدث العاقل بما يعقل» وإن كان في هذه الأقوال ما يذهب كله إلى التمجيد، بالأشخاص على وجه الخصوص، واحتساب ما لم يفعلوه على أنهم فعلوه، وهذه إشكالية كبيرة وموضوعية في كتابة التاريخ، وأمانة كبيرة تقع على عاتق كتاب التاريخ في كل عصر، فالمسألة ليست محصورة بزمنها الآني، بل تنتقل عبر الأجيال «الحاضنة الاجتماعية» مدعومة بأعمار هذه الأجيال «الحاضنة الزمنية» فتتوافق هنا الحاضنتان، ولا تتباينان في حجم المسؤولية، وعلى الإنسان الفرد أن يعي هذه الحقيقة، حتى في التفاصيل الصغيرة من حياتها، فحياته هي انعكاس لمستوى جميع أفراد حاضنته الاجتماعية، ولعل الهوية هنا تلعب دورا محوريا، خاصة من حيث التأصيل، وتلعب مفردات الهوية الدور الأكبر في هذا الاتجاه من حيث مستوى التنوع الذي تعيشه المجتمعات، لتحتكم على أصالتها أكثر وأكثر، والناس عموما يعبرون عن مجتمعاتهم من خلال مفردات هوياتهم، والتي لا تنقطع إطلاقا عن مجريات حياتهم اليومية، فهم ملتحمون معها وبها إلى درجة الاندماج المطلق، الذي يقاس عليه درجة تفوق هذا المجتمع عن غيره، في قدرته على المحافظة على أصالته وتجذره؛ والتجذر هنا هو الحمولة الزمنية التي يسجلها التاريخ.

من ضمن الأسئلة التي يمكن أن تطرح في العلاقة بين الحاضنتين، لتجلية الصورة عن الوقوع في مأزق التباين بينهما، ولتأكيد الفهم على مسألة التوافق والتكامل بينهما أيضا، لشدة التماس بين الوظائف المسنودة إلى كل منهما: ومن ذلك، أيهما متقدم على الآخر، هل الحاضنة التاريخية أم الحاضنة الاجتماعية، هذا من حيث النشأة؟ وأيهما أكثر تأثيرا في مجريات الآخر؛ التاريخية أم الاجتماعية؛ هذا من حيث التفاعل؟ ومع التسليم بأن الإنسان هو الفاعل في أحداث كليهما، فما هو المسوغ الذي يتكئ عليه لكي يجازف بتكرار أحداث التاريخ عبر مقولة: «من ينكر التاريخ، يجازف بتكراره» هذا من حيث الفهم؟ والتكرار هنا هو العودة الدائمة إلى المربع الأول، وكأن ما تم تحقيقه أو إنجازه يذهب في غياهب النسيان، أم أن الحاضنة التاريخية من تعاني من الشتات، هذا من حيث الإهمال؟ نعم، التاريخ يعطي اتساع المساحة الزمنية للبذل والعطاء، ولكن يبقى للحاضنة الاجتماعية القول الفصل في أحياء هذه المساحة، وإشعالها اشتغالا وتفاعلا وتأثيرا، والحرص على الاستفادة من كل موطئ قدم للتاريخ، وهل يمكن أن نقرأ تضادية معينة بين الطرفين: التاريخ والاجتماع هذا من حيث الدلالة؟ والتضادية هنا تذهب إلى أن المساحة الزمنية تظل دائما ضيقة لاستيعاب تفاعلات المجتمع، بينما يرى آخرون أن تفاعلات المجتمع غير قادرة على ملأ فراغ هذه المساحة التي يتيحها الزمن للإنسان، وتعكس الصورة برمتها حالة من المراوحة بين الطرفين، ولكنها تصل ختاما إلى أن كلا الطرفين (الحاضنة التاريخية/ الحاضنة الاجتماعية) يؤسسان منطلقات حياة الناس، ويصلان بها إلى مصاف التميز، ويبقى على الإنسان (الفرد/ المجموع) أن يكون حاضرا بفعله وتأثيره في تفاعلات الحاضنتين.

هنا؛ أيضا جانب متعلق بذات المسألة أو الفهم، وهو أن ما يحدث في المسألة التاريخية من تفاوت نسبي في شأن التدوين، وفي تجاوز الأحداث، وفي تهجينها، وفي التحايل على أكثرها، هو نوع من التلاعب الذي يحدثه الإنسان، ويتجاوز من خلاله المنطق، حيث تذهب به العاطفة إلى المآلات غير المتوقعة منه كمؤرخ، وكراصد للحقيقة، وكشاهد على عصر لن يشاهده من بعده؛ لطول أزمنة التاريخ، أكثر مما تقع عينه على آثاره، ومحتوياته، وقد تصل إليه مشوهة، وهو يقرأ ما كتب عن تاريخ أصبح شيئا من الماضي، وكتابة التاريخ هي نوع من المجازفة غير محمودة العواقب، في أغلبها، لأن الكاتب لن يكون صادقا، وأمينا، وحياديا، بالقدر الذي يتوقعه منه الآخرون لعوامل اجتماعية، وأغلبها ومطامع ذاتية، وذلك فإن مجمل كتاب الحاضنة التاريخية واقعون في هذا المأزق، وهذا لا ينفي أن هناك رجالا صدقوا ما عاهدوا عليه أنفسهم، بأن يكونوا منصفين، وصادقين، وحراسا أوفياء على أمانتهم التي يحملونها عن طيب خاطر، وهؤلاء كثير منهم أيضا؛ واجهوا في حاضنتهم الاجتماعية الكثير من الصعاب، والطرد من رضى المجتمع من حولهم فـ «الدهر لا يبتغي إلا مادحا ملقا؛ يتغنى بالهوى فوه» وهذا إشكالية موضوعية في الحاضنة الاجتماعية، تتأثر بها الحاضنة التاريخية.

تتبلور عقدة هذه المسألة أكثر في أن الإنسان واقع بين فكي كماشة، فلا الزمن يعطيه صك برهان لكي يكتب ما يريد، ولا المجتمع يعطيه هذا الصك ليعيش كما يريد، وللخروج من هذه العقدة «الإشكالية» أن يكون صادقا صادقا، ويكفيه ذلك.

مقالات مشابهة

  • حرم رئيس جمهورية كولومبيا تزور المتحف المصري الكبير ومتحف الحضارة -(صور)
  • «اللهم اكفني شر الدنيا وما فيها».. دعاء الصباح اليوم الإثنين 25-11-2024
  • يواجهون أكبر ظاهرة نزوح في العالم.. ماذا يحدث داخل السودان الآن؟
  • بين حاضنتين .. تموضعات التاريخ والمجتمع
  • النمو الصاروخي لثروة إيلون ماسك يعيده إلى قمة أثرياء العالم ليصبح أغنى شخص في التاريخ
  • بسبب "عندي سؤال".. بوسي تتصدر التريند
  • عبادة تُنير وجهك في الدنيا ويوم القيامة.. انتهز الفرصة
  • وفاة عصمت رشيد صاحب أغنية ليه بتشكي من الدنيا يا الورد
  • دعاء الهداية للنفس والغير.. اللهم ذكِّرنا بأن الدنيا زائلة
  • منظمة دولية: السودان يمضي نحو “الانهيار الشامل”