عن داليا طـه.. الشاعرة التي تكتب الشعر بغيابها
تاريخ النشر: 1st, February 2024 GMT
أحيانا ننسى أن هناك شاعرة بهذا الاسم، أحيانا تمتلئ البلاد بهذا الاسم تلعب فينا داليا لعبة حضور ساطع وغياب غريب، لكن المؤكد أنها لا تفتعل ذلك، فهي فنانة في الغياب عن نفسها ذاتها، قال عنها محمود درويش وهي ابنة خمسة عشر عاما بما معناه، بينما كان يجلس في مكتبه داخل مقر مجلة الكرمل برام الله: هذه شاعرة حقيقية لفتت انتباهي، فانتبهوا لها، ولم تخذل داليا توقع محمود، صارت بعد سنوات أحد أهم أصوات الشعر في فلسطين، تكتب الشعر بأقدامها، بغيابها، بيأسها، بطرقها البعيدة الكثيرة، بعجزها العبقري عن سماع كل ما يدب حولها في الطريق، من سيارات وأطفال مدارس، وأصوات باعة المحارم الورقية، وتحايا أصحاب، وحتى دوريات الاحتلال، وتخيلوا شاعرا لا يسمع صوت المدينة يكتب وبشكل مقنع ومكثف عن أصوات أبطال المدينة، وكأنه أصوات المدينة نفسها، هل كانت تخدعنا بصممها؟.
تراها حين تراها، هي لا تراك حين تراك، مهندسة ومشّاءة وشاعرة، لا تهتم إن أنت غضبت أو تذمرت؛ لأنها لـم تنتبه إلى حيّزك الذي شغله مرورك، حين تعبر بالقرب منها أمامها. لا تستغربوا إن نسيت الـمهندسة الـمعمارية أسماءكم، على الرغم من جلسات وأحاديث كثيرة، ذرفتها معكم في «زرياب» أو «سنغريا». هي تجيبكم بصدق تصدقه هي وحدها: والله، لـم أر أحدًا. والله، لا أعرف أحدًا. لكن قصيدتها ترى كل شيء، وتفهم كل شيء، لكنها تتنصّل من كل شيء. قصيدتها ولدت قبلها، وما داليا سوى انفعال قصيدتها، أو زفرتها، في وجه لا منطق الكون. لغتها الشعرية تجميع لشظايا قنبلةٍ، تستعد كل لحظة لانفجار، تعتيم مضيء لشاشة الحواس، تعطيل لعقل الجملة الـمستقر، تكسير لعظم الكلام، تحميم حميم بصابون الفراغ (لفظتها الـمعبودة) لجسدٍ غير قابل للـمس. هكذا أرى لغتها. «حين كنت غيابًا، كان دمي يطفو في النهار، وكنت سماءً غريبةً تحلق في السؤال، حين كنت موجودًا، كان دمي يعرّي الشمس، وكنت دفق الطيور في الجسد». شعلة هي من قبس قصيدتها، الـمهندسة متفوقة في الرياضيات، وخبيرة بدقة الـمسافات وتوزيع كتل الألوان: «من يلوح لي الآن؟ يدي حفنة رمل، كلـما رفعتها نمت في خيال القصيدة، واهتز الـمكان»، لا تعرف داليا كيف تقيس الطريق (على سبيل الـمثال) إلى رام الله التحتا، هل بوحدة قياسنا الـمعروفة والسهلة (الأقدام)؟ أم بالزمن؟ أم بذهنها السائل الـمتموج الـمليء بالطرق الـمبلّلة بدم القمر؟ «ناسية أن الطرق قد اختفت من القصيدة، أمشي إليك بقدمين من غبار، وأنا أنزف دم القمر».
أعرف داليا منذ سنين، لكني لا أعرفها أبدا، نصها مثقف بكبرياءٍ قاس، واعتزالية باردة، ومعنى شديد الغور، منطوٍ على لامبالاة اللامعنى، مفعم بالفراغات والنقصان والفجوات. الـمهندسة التي تعلـمت في الجامعة كيف تصنع الدقة في مقاربة الـمسافات بين جدران البيوت وحدائقها، تتعمّد ترك مساحات بيضاء في الـمتن، لتضيّع عين الـمتجرئ على قراءتها، وتجنن قياساته العادية، وتجبره على البحث عن وحدات قياس أخرى: «حين تقول تعالي، آتي كمن يدخل جوقةً ليستضيفه الناي، ثم أخجل مما يظلل ساعدي قرب صمتك، مساءات من فضة، وغيم يسير في النهر، ويحمل الضفاف إلى غيمة تتشكل». كم تشبهها قصيدتها، كأنها وصيفتها في استعراض عرس شغفها في اكتشاف الحياة، أو ساعية بريدها أو مجازها، ثمّة فائض من الاغتراب وصداقة الـعتمة الـمتوردة وغير الـمنتبَه إليها والسفر في الذات، والذهاب إلى سؤال الـ«ما وراء»، الطاغي مخدوشًا بجمالية خاصة وذكية بهموم قشرية للوراء، «العتمة مأخوذة بما حلّ فيها من أقحوان، تنقر على قلبي، كي ننزف معًا شموعًا طويلةً، وتغفو على البلاط كقط تعيس».
لا بيوت في شعر داليا، ثمة خلاء فقط، وبرارٍ، وربما يكون هناك بصيص كوخ، أو مشروع سقف، لكن لا بيت، ولا دفء مزيف أو وهم استقرار، لا إشارات تدل على نبعها، أو تقود إلى شرارة حرائقها، لا أعمدة إنارة تسلط الضوء على مختبرها الشعري، في طرق وعيها، بيوت موصدة مع حديقةٍ صامتةٍ تضج باليفاعة العنيفة والبكارة الـمنتشية. هناك في الحديقة، أو في الحقيقة، تقدم للقادم شبح ضيافة أو كأس ما يزعم أنه ضوء ممتلئ بماء الظلال، أبواب تغني الفراغ بالقرب من أبواب. كلـمتا «الفراغ» و«الدم» تتكرران بشكل لافت في معظم نصوصها، الفراغ حبيب داليا السري، تناديه حين تمتلئ الحياة بالـمعاني الزلقة، تمتص منه نسغ ليلها، و«هيولي» نبضها. الدم عنوان الانفصال، وعلامة الولادات الجديدة التي تولدها داليا نفسها أو قصيدتها، دم على أقدامها وعلى سرّة نصوصها ودم في السؤال: «كأني أنا، كأني أعود، أقيس أمتاري، وكم خطوة نسيت في أمسي، وكم خطوة غابت في هامشي، متسعًا للفراغ وللطريق». هذا هو عالـم داليا، صور وصور وصور، تتجاور متنافرة أو متسقة، فادحة أو هادئة، وهائجة، من يتوقع أن يحصل على معنى مكتمل ومريح هنا، فليرح ذهنه، ويمضِي إلى قناعة مكتملة بأن هذه الـممارسة الشعرية الـمتنكرة حتى عتبة بيتها، والخائنة للعقد التقليدي بين القارئ والـمؤلف لن تكترث لرمية الكتاب، ولا إلى شتيمة متوقعة. في سنة لاحقة صدمت داليا قراءها: لقد قررت أن أتخلى عن الشعر، هربت إلى المسرح، خطفتها الكتابة المسرحية حد الذوبان، أين الشعر يا داليا: الشعر؟ أي شعر؟، آه لو تعرفون معنى المسرح.
وما هي إلا سنوات قليلة، وبعد جولات عالمية في مسارح العالم كتابة وتمثيلا حتى عادت من المسرح منهكة لا معتذرة إلى الشعر، من باب شقيقه النثر، أين الشعر هنا يا مجنونة ؟ إنه داخل النثر، فتش تجده، وظيفتي ليست التنقيب لك عن الشعر، أنا زارعة هواء وبذور ماء، فنحن بقامتك الغبية وفتش.
بعد سنوات ربما بعد دقيقة، هل ستهرب داليا إلى السينما أو التشكيل، لتفتش هناك عن مداخل أخرى للشعر؟ لا شيء غير متوقع في حياة هذه الجميلة.
داليا طه في سطور
كاتبة وشاعرة، من مواليد رام الله، صدر لها حديثا «سيرة سكان مدينة ر» عن دار الأهلية للنشر والتوزيع. تعمل على كتابين «الكتابة خطيرة» (مجموعة مقالات) و«والآن، تعال أيها الرعب» (ديوان شعري).
داليا طه هي شاعرة وكاتبة مسرح. صدر لها «أقل مجازًا» و«شرفة ولا أحد». ولها في الكتابة المسرحية «ألعاب نارية»، و«كوفية صنع في الصين»، و«لا يوجد أحد بيني وبينك»، و«جوع». عرضت مسرحياتها في كل من المسرح الملكي البريطاني والمسرح الملكي الفلمنكي.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
نجاة عبد الرحمن تكتب: مصر وفرنسا.. شراكة استراتيجية بين الحاضر والمستقبل
في إطار تعزيز العلاقات الثنائية بين مصر وفرنسا، جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القاهرة كخطوة هامة نحو تعزيز التعاون بين البلدين على مختلف الأصعدة. إن العلاقات بين مصر وفرنسا لم تكن مجرد علاقات دبلوماسية فحسب، بل هي شراكة استراتيجية تتسم بالاستمرارية والتطور في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.
مصر قلب المنطقة ومفتاح الاستقرار
تعد مصر، بقيادتها الحكيمة، القوة المركزية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولا يمكن تجاهل دورها المحوري في السعي لتحقيق الاستقرار الإقليمي. فمنذ سنوات، أصبحت مصر عنصر استقرار رئيسي في ظل التقلبات السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة. إن موقفها الثابت في مواجهة الإرهاب والتطرف، إضافة إلى دورها القيادي في القضايا العربية والإفريقية، يجعل منها حليفًا استراتيجيًا بالغ الأهمية بالنسبة لفرنسا وأوروبا بشكل عام.
مصر، وهي عضو مؤسس في العديد من المنظمات الدولية والإقليمية مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي، قد استطاعت أن تظل ركيزة أساسية في تحقيق الاستقرار في المنطقة العربية والإفريقية. كما أن دورها الفعال في الأزمة الليبية يُظهر بوضوح مدى تأثيرها في تحقيق التسويات السلمية والمساعدة في بناء مستقبل مستقر في الجوار القريب. لذا، تمثل مصر بالنسبة لفرنسا جزءًا حيويًا من استراتيجياتها السياسية والأمنية في المنطقة.
إن التحديات التي تواجهها المنطقة، مثل النزاعات المسلحة في الدول المجاورة، وموجات الهجرة غير الشرعية، وأزمة اللاجئين، لا يمكن حلها دون التنسيق الوثيق بين القوى الإقليمية والدولية. في هذا السياق، تُعتبر مصر عنصرًا أساسيًا في تعزيز الحوار والتفاهم بين مختلف الأطراف الفاعلة، وهو ما يعزز قيم السلام والاستقرار في المنطقة.
ماكرون السياسة الواقعية والتعاون الثنائي
زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون لمصر، التي تعد واحدة من أبرز الشركاء في شمال إفريقيا، تحمل في طياتها الكثير من الرسائل السياسية والاقتصادية. يولي ماكرون اهتمامًا بالغًا بتعزيز التعاون مع مصر، وهو ما تجلى في توقيع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية بين البلدين. من خلال هذه الزيارة، يسعى ماكرون إلى تعزيز الاستثمارات الفرنسية في مصر، خاصة في القطاعات الحيوية مثل الطاقة، والنقل، والبنية التحتية.
ماكرون، الذي يتسم بالواقعية في سياسته الخارجية، يدرك أن التعاون مع مصر يتجاوز المصالح الاقتصادية البحتة ليشمل أيضًا التعاون الأمني والتكنولوجي. في مواجهة تهديدات الإرهاب على الصعيدين الإقليمي والعالمي، يعتبر ماكرون أن تعزيز الشراكة مع مصر في مجالات الاستخبارات، مكافحة الإرهاب، وتبادل الخبرات العسكرية يمثل حجر الزاوية في الحفاظ على الأمن الإقليمي والدولي.
كما أن تعزيز التعاون الاقتصادي مع مصر يعد خطوة أساسية لتحقيق مصالح فرنسا على المدى الطويل. تعتبر مصر بوابة هامة للنفاذ إلى أسواق إفريقيا الكبرى، وتظل واحدة من الأسواق الواعدة للاستثمارات الأجنبية. من هنا، يعد تعزيز العلاقات الاقتصادية مع مصر وسيلة رئيسية لتحفيز النمو الاقتصادي لفرنسا ودعم الشركات الفرنسية العاملة في المنطقة.
دور مصر في دعم الاستقرار الأوروبي
مصر تلعب دورًا كبيرًا في ضمان الاستقرار في البحر الأبيض المتوسط، مما يجعلها شريكًا رئيسيًا لفرنسا في التعامل مع قضايا الهجرة غير الشرعية، ومكافحة شبكات التهريب. كما تعد مصر حلقة وصل مهمة بين أوروبا وإفريقيا، مما يسهل التعاون في مجالات متعددة، مثل التنمية المستدامة، والبحث العلمي، والابتكار. هذه الجهود المشتركة تهدف إلى إيجاد حلول مستدامة للتحديات العديدة التي تواجهها المنطقة، من خلال التعاون بين مصر والاتحاد الأوروبي.
فيما يتعلق بقضايا الهجرة، تتعاون مصر مع فرنسا والاتحاد الأوروبي بشكل مستمر من خلال تعزيز برامج التدريب، وتوفير الدعم للحد من تدفقات الهجرة غير الشرعية عبر البحر الأبيض المتوسط. كما تساهم مصر في تحسين الوضع الأمني على حدودها، مما يسهم في الحد من نشاطات المهربين والعصابات.
التعاون الثقافي والتعليمي فتح آفاق جديدة
لا تقتصر العلاقات بين مصر وفرنسا على الجوانب السياسية والاقتصادية فحسب، بل تشمل أيضًا التعاون الثقافي والعلمي. من خلال الزيارة، يمكن أن تشهد السنوات القادمة مزيدًا من التعاون في مجالات التعليم، والبحث العلمي، والثقافة. فرنسا، بفضل معاهدها التعليمية والثقافية العريقة، تسعى إلى تعزيز التعاون مع مصر في هذه المجالات، خاصة في ظل التطورات التكنولوجية والعلمية المستمرة التي تشهدها مصر في العقود الأخيرة. كما يمكن أن تفتح هذه الشراكات أفقًا جديدًا للشباب المصري، وتتيح لهم فرصًا تعليمية متميزة في فرنسا.
تتمثل إحدى الفوائد الرئيسية لهذا التعاون الثقافي في تبادل المعرفة والخبرات بين الجامعات والمعاهد العلمية في البلدين. فرنسا لديها تاريخ طويل في مجال التعليم والبحث العلمي، ويمكن لمصر الاستفادة من هذا الرصيد الكبير من خلال التعاون المشترك في مجالات مثل الهندسة، الطب، والابتكار التكنولوجي. كما أن البرامج الثقافية المشتركة ستعزز من فهم ثقافات البلدين، مما يعزز من العلاقات الشعبية بين الشعبين المصري والفرنسي.
أري أن زيارة الرئيس ماكرون لمصر تعكس تقدير فرنسا الكبير لدور مصر المحوري في المنطقة، واعترافًا بأهمية هذه العلاقة الاستراتيجية التي تتجاوز الأبعاد السياسية إلى التعاون الاقتصادي والأمني. وبالرغم من التحديات العالمية والإقليمية التي تواجهها الدول الكبرى، تظل مصر دائمًا عنصر استقرار وقوة مؤثرة في عالم اليوم، وهو ما يعزز مكانتها كداعم رئيسي للاستقرار في الشرق الأوسط وإفريقيا.
هذه الزيارة تشكل نقطة انطلاق جديدة نحو تعزيز العلاقات بين مصر وفرنسا، بما يعود بالفائدة على الشعبين في المستقبل. من خلال تعزيز التعاون في مجالات مختلفة، يظل هذا التحالف قويًا وداعمًا للمصالح المشتركة، ويعكس التزام الطرفين بتطوير شراكة استراتيجية تعود بالنفع على الأجيال القادمة.