لجريدة عمان:
2025-02-04@17:51:14 GMT

عن داليا طـه.. الشاعرة التي تكتب الشعر بغيابها

تاريخ النشر: 1st, February 2024 GMT

أحيانا ننسى أن هناك شاعرة بهذا الاسم، أحيانا تمتلئ البلاد بهذا الاسم تلعب فينا داليا لعبة حضور ساطع وغياب غريب، لكن المؤكد أنها لا تفتعل ذلك، فهي فنانة في الغياب عن نفسها ذاتها، قال عنها محمود درويش وهي ابنة خمسة عشر عاما بما معناه، بينما كان يجلس في مكتبه داخل مقر مجلة الكرمل برام الله: هذه شاعرة حقيقية لفتت انتباهي، فانتبهوا لها، ولم تخذل داليا توقع محمود، صارت بعد سنوات أحد أهم أصوات الشعر في فلسطين، تكتب الشعر بأقدامها، بغيابها، بيأسها، بطرقها البعيدة الكثيرة، بعجزها العبقري عن سماع كل ما يدب حولها في الطريق، من سيارات وأطفال مدارس، وأصوات باعة المحارم الورقية، وتحايا أصحاب، وحتى دوريات الاحتلال، وتخيلوا شاعرا لا يسمع صوت المدينة يكتب وبشكل مقنع ومكثف عن أصوات أبطال المدينة، وكأنه أصوات المدينة نفسها، هل كانت تخدعنا بصممها؟.

آخر ما كتبت كان مفاجأة نثرية مدهشة: (سكان مدينة ر) عن أصوات وحكايات أبطال المدينة غير المرئيين.

تراها حين تراها، هي لا تراك حين تراك، مهندسة ومشّاءة وشاعرة، لا تهتم إن أنت غضبت أو تذمرت؛ لأنها لـم تنتبه إلى حيّزك الذي شغله مرورك، حين تعبر بالقرب منها أمامها. لا تستغربوا إن نسيت الـمهندسة الـمعمارية أسماءكم، على الرغم من جلسات وأحاديث كثيرة، ذرفتها معكم في «زرياب» أو «سنغريا». هي تجيبكم بصدق تصدقه هي وحدها: والله، لـم أر أحدًا. والله، لا أعرف أحدًا. لكن قصيدتها ترى كل شيء، وتفهم كل شيء، لكنها تتنصّل من كل شيء. قصيدتها ولدت قبلها، وما داليا سوى انفعال قصيدتها، أو زفرتها، في وجه لا منطق الكون. لغتها الشعرية تجميع لشظايا قنبلةٍ، تستعد كل لحظة لانفجار، تعتيم مضيء لشاشة الحواس، تعطيل لعقل الجملة الـمستقر، تكسير لعظم الكلام، تحميم حميم بصابون الفراغ (لفظتها الـمعبودة) لجسدٍ غير قابل للـمس. هكذا أرى لغتها. «حين كنت غيابًا، كان دمي يطفو في النهار، وكنت سماءً غريبةً تحلق في السؤال، حين كنت موجودًا، كان دمي يعرّي الشمس، وكنت دفق الطيور في الجسد». شعلة هي من قبس قصيدتها، الـمهندسة متفوقة في الرياضيات، وخبيرة بدقة الـمسافات وتوزيع كتل الألوان: «من يلوح لي الآن؟ يدي حفنة رمل، كلـما رفعتها نمت في خيال القصيدة، واهتز الـمكان»، لا تعرف داليا كيف تقيس الطريق (على سبيل الـمثال) إلى رام الله التحتا، هل بوحدة قياسنا الـمعروفة والسهلة (الأقدام)؟ أم بالزمن؟ أم بذهنها السائل الـمتموج الـمليء بالطرق الـمبلّلة بدم القمر؟ «ناسية أن الطرق قد اختفت من القصيدة، أمشي إليك بقدمين من غبار، وأنا أنزف دم القمر».

أعرف داليا منذ سنين، لكني لا أعرفها أبدا، نصها مثقف بكبرياءٍ قاس، واعتزالية باردة، ومعنى شديد الغور، منطوٍ على لامبالاة اللامعنى، مفعم بالفراغات والنقصان والفجوات. الـمهندسة التي تعلـمت في الجامعة كيف تصنع الدقة في مقاربة الـمسافات بين جدران البيوت وحدائقها، تتعمّد ترك مساحات بيضاء في الـمتن، لتضيّع عين الـمتجرئ على قراءتها، وتجنن قياساته العادية، وتجبره على البحث عن وحدات قياس أخرى: «حين تقول تعالي، آتي كمن يدخل جوقةً ليستضيفه الناي، ثم أخجل مما يظلل ساعدي قرب صمتك، مساءات من فضة، وغيم يسير في النهر، ويحمل الضفاف إلى غيمة تتشكل». كم تشبهها قصيدتها، كأنها وصيفتها في استعراض عرس شغفها في اكتشاف الحياة، أو ساعية بريدها أو مجازها، ثمّة فائض من الاغتراب وصداقة الـعتمة الـمتوردة وغير الـمنتبَه إليها والسفر في الذات، والذهاب إلى سؤال الـ«ما وراء»، الطاغي مخدوشًا بجمالية خاصة وذكية بهموم قشرية للوراء، «العتمة مأخوذة بما حلّ فيها من أقحوان، تنقر على قلبي، كي ننزف معًا شموعًا طويلةً، وتغفو على البلاط كقط تعيس».

لا بيوت في شعر داليا، ثمة خلاء فقط، وبرارٍ، وربما يكون هناك بصيص كوخ، أو مشروع سقف، لكن لا بيت، ولا دفء مزيف أو وهم استقرار، لا إشارات تدل على نبعها، أو تقود إلى شرارة حرائقها، لا أعمدة إنارة تسلط الضوء على مختبرها الشعري، في طرق وعيها، بيوت موصدة مع حديقةٍ صامتةٍ تضج باليفاعة العنيفة والبكارة الـمنتشية. هناك في الحديقة، أو في الحقيقة، تقدم للقادم شبح ضيافة أو كأس ما يزعم أنه ضوء ممتلئ بماء الظلال، أبواب تغني الفراغ بالقرب من أبواب. كلـمتا «الفراغ» و«الدم» تتكرران بشكل لافت في معظم نصوصها، الفراغ حبيب داليا السري، تناديه حين تمتلئ الحياة بالـمعاني الزلقة، تمتص منه نسغ ليلها، و«هيولي» نبضها. الدم عنوان الانفصال، وعلامة الولادات الجديدة التي تولدها داليا نفسها أو قصيدتها، دم على أقدامها وعلى سرّة نصوصها ودم في السؤال: «كأني أنا، كأني أعود، أقيس أمتاري، وكم خطوة نسيت في أمسي، وكم خطوة غابت في هامشي، متسعًا للفراغ وللطريق». هذا هو عالـم داليا، صور وصور وصور، تتجاور متنافرة أو متسقة، فادحة أو هادئة، وهائجة، من يتوقع أن يحصل على معنى مكتمل ومريح هنا، فليرح ذهنه، ويمضِي إلى قناعة مكتملة بأن هذه الـممارسة الشعرية الـمتنكرة حتى عتبة بيتها، والخائنة للعقد التقليدي بين القارئ والـمؤلف لن تكترث لرمية الكتاب، ولا إلى شتيمة متوقعة. في سنة لاحقة صدمت داليا قراءها: لقد قررت أن أتخلى عن الشعر، هربت إلى المسرح، خطفتها الكتابة المسرحية حد الذوبان، أين الشعر يا داليا: الشعر؟ أي شعر؟، آه لو تعرفون معنى المسرح.

وما هي إلا سنوات قليلة، وبعد جولات عالمية في مسارح العالم كتابة وتمثيلا حتى عادت من المسرح منهكة لا معتذرة إلى الشعر، من باب شقيقه النثر، أين الشعر هنا يا مجنونة ؟ إنه داخل النثر، فتش تجده، وظيفتي ليست التنقيب لك عن الشعر، أنا زارعة هواء وبذور ماء، فنحن بقامتك الغبية وفتش.

بعد سنوات ربما بعد دقيقة، هل ستهرب داليا إلى السينما أو التشكيل، لتفتش هناك عن مداخل أخرى للشعر؟ لا شيء غير متوقع في حياة هذه الجميلة.

داليا طه في سطور

كاتبة وشاعرة، من مواليد رام الله، صدر لها حديثا «سيرة سكان مدينة ر» عن دار الأهلية للنشر والتوزيع. تعمل على كتابين «الكتابة خطيرة» (مجموعة مقالات) و«والآن، تعال أيها الرعب» (ديوان شعري).

داليا طه هي شاعرة وكاتبة مسرح. صدر لها «أقل مجازًا» و«شرفة ولا أحد». ولها في الكتابة المسرحية «ألعاب نارية»، و«كوفية صنع في الصين»، و«لا يوجد أحد بيني وبينك»، و«جوع». عرضت مسرحياتها في كل من المسرح الملكي البريطاني والمسرح الملكي الفلمنكي.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

كريمة أبو العينين تكتب : قبلة الحياة ورصاصة الرحمة

الحديث عن ماسبيرو ذلك العملاق لن ينتهى ، وبما اننا من اهله فنحن ادرى بشعابه وطرقه وممراته بل ودهاليزه . فى ماسبيرو قلعة الاعلام الاقدم فى منطقة الشرق الاوسط كلها ، ذلك العملاق كان حلما يأتينا فى يقظتنا قبل غفوتنا ، فقد كان المسعى والمقصد منذ اكثر من ربع قرن مضوا ، فمن مدرجات كلية الاعلام بجامعة القاهرة وبالتحديد من مبنى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية حيث كنا فى واحدة من ادوارها نتلقى علومنا على ايدى جهابذة الاعلام لانه لم تكن قد بدأت الدولة بالفعل فى اقامة مبنى منفصل لكلية الاعلام موطنى التعليمى الجامعى الاول . 

سنوات كلية الاعلام كانت بالنسبة لنا نافذة للتمنى والتطلع الى مستقبل اعلامى نتمكن من خلاله من تطبيق مادرسناه نظريا الى واقعى عملى اعلامى . اول دخولى للمبنى العتيق كان فى عامى الجامعى الثالث وعقب اختيارى لقسم الاذاعة والتلفزيون ليكون محور التخصص والدراسة ، وقد كان نجاحى فى الاختبار لدخول هذا القسم بمثابة نقطة الانطلاق نحو المزيد من الامانى والاحلام التى رسخها لى المرحوم الاعلامى الخلوق الاستاذ محمود سلطان والذى بارك اختيارى واشاد بى ، بل وتنبأ لى بمستقبل اعلامى مبهر على حد توقعه لى والذى جعلنى اطير فرحا بما قاله فى لجنة الاختيار التى كانت تضم استاذتى العظماء . 

ودخلت بعدها ماسبيرو كتدريب مقدم من كليتى الى هناك ، اذكر اننى كنت على وضوء لانى كنت اعتبر ماسبيرو حرما لايجب دخوله الا على وضوء ، دخلت صرح ماسبيرو وانا فى حالة ممزوجة من القلق والانبهار ، خطوت خطوات انظر فى كل الاتجاهات فى وقت واحد ؛ وبداخلى شعور بأننى فزت فوزا عظيما ، فى اول ايام التدريب كان حظى جميلا وربما كان هذا الحظ الجميل هو الاغرب من نوعه فقد قيل لى ان من ستدربنى هى الاستاذة هالة الحديدى وماادراك ماهالة فهى سيدة صارمة حازمة لاتجامل ولا تتفاوت فى صغيرة او كبيرة ، كل من حولى كان مشفقا على ويحاولون ان يجعلونى اطلب من القائمين على التدريب ادراجى مع مجموعة اخرى يكون مدربها حنونا بالمتدربين مثل المرحوم فاروق شوشة الاعلامى الكبير ، استعنت  بالله ورضيت بنصيبى كعادتى ؛ ودخلت استوديو التدريب ، وفى "الكونترول روم"  كما يسمونها جلست الاستاذه الكبيرة المقام والقيمة وانا فى المقابل فى الاستوديو بداخلى ألف شعور ومشاعر ؛ ولكنى كنت منبهرة بها وبرباطة جأشها ونظرتها الواثقة وصوتها المميز المتميز ، قالت لى عرفينى على نفسك ؛ أجبتها بابتسامة عريضة وقلب يخفق ، عاشقة ماسبيرو انا،  واتطلع ان يضمنى اليه واصبح واحدة من مريديه وساكنيه ، ضحكت وقالت : انتى قد خطوتى خطوة قافزة فى بحر الاعلام . وطوال اسبوعين من التدريب كانت خطوط حياتى ترتسم وتتشابك وتتسابق حتى انتهيت من دراستى وحصلت  على بكالوريوس الاعلام قسم اذاعة وتلفزيون ويتحقق حلمى واتسلم وظيفتى كمحرر مترجم فى الاخبار المسموعة وبالتحديد فى الشرق الاوسط وتستقبلنى استاذتى الرائعة انصاف رياض نموذج للجمال الخلقى والمعنوى ، سنوات قضيتها مع اسرة الاخبار ومع عمالقة الاذاعة على راسهم ايناس جوهر وصديقة حياتى ودلال الشاطر وطه الحديرى مع الاحتفاظ بالالقاب والمسميات ، ومن الشرق الاوسط الى البرنامج العام المنبع لصناعة الاخبار والنشرات والتعليقات.

نقلة نوعية بكل ماتحمله الكلمة من معانى فعالم البرنامج العام مختلف كثيرا عن الشرق الاوسط وقد كان ، المزيد من الخبرات والاكثر من المعلمين الاساتذة الكبار على راسهم المرحومة الاستاذة زينب صالح والاستاذ احمد الرزاز والكثير ممن خانتنى الذاكرة ولم استطع ذكرهم ، اما استوديو البرنامج العام فهنا دنيا اخرى وعمالقة اكبر لن اذكرهم خوفا من نسيان احدهم فيلقى على اللوم والعتاب . 

مدرسة متكاملة الاركان نهلت من بحرها على مدى عقدين من الزمان ليحول القدر بين استكمالى العيش فى بيتى الاول فى ماسبيرو لاسباب خارجة عن ارادتى وربما لان القدر يفتح لى بابا اخر ازيد منه من علمى وخبراتى وكان انتقالى الى قطاع الاخبار المرئى واستقرارى فى الادارة المركزية للبرامج الاخبارية وفيها التقى بمزيد من اهل العلم وصناعة المحتوى الاخبارى ولاول مرة ووجها لوجه اتعامل مع عظماء قراءة النشرات زينب سويدان وصلاح الدين مصطفى وصلاح حاتم  وصفاء حجازى  والكثير من العملاقة فى عالم الاخبار .. 

سنوات العمل كانت مزيجا من الفخر والافتخار بالانتماء الى هذا الصرح الذى لايوجد له مثيل ، وفجأة وبدون مقدمات تغيرت الدنيا واصبح مبناى العظيم يهاجم من كل صوب وحدب ويلقى علينا بعبارات اللوم والتقصير وتهب علينا ريح العواصف تتحدث عن تطوير وتغيير ، ونحن ابناء مكة اصبحنا ننتظر وننظر عواقب التطوير ، ومن مرحلة الى اخرى وابناء ماسبيرو يتطلعون الى قُبلة الحياة التى تعيد الى قِبلتهم وجهتها وحياتهم دنيتها ؛ والخوف كل الخوف من رصاصة الرحمة التى روج لها الكثير وتحدثوا عن نهاية ماسبيرو ، واخرين روجوا لبيعه ، واخرين لتحويله الى مبنى فندقى والكثير من الحكى والكلام . ونحن الان على اعتاب مرحلة جديدة تؤكد مفرداتها ان ماسبيرو مقبل على نقلة كبيرة يجلى خلالها ماعلق به من شوائب وغياهب جعلته يطالب بتغيير نحو الافضل والاستعانة بكوادره الذين لايوجد مثيلا لهم فى المنطقة كافة ، ماسبيرو قلعة الاعلام وحصن الميديا كلها كفيل بابناءه ان يعيد امجاد وصولات وجولات اعلامية غيرت وجه منطقة الشرق الاوسط وكانت داعما فى الشدائد ومصفقا فى الافراح والنجاحات . 

الى ماسبيرو الف سلام والى من فيه كل التحايا والتقدير اقول قولى هذا مع الاعتذار لان شهادتى مجروحة ولكنى فى هوا ماسبيرو عاشقة ولحبه حافظة وكيف لا وهو بيتى الثانى الذى عشت فيه عمرا وخطوت فيه اولى خطوات الاعلام ؛ وكبرت فيه ولم اكبر عليه ، وعرفت فيه الاشاوس وايضا ذقت فيه مر التعامل  ممزوجا بحلو العمل .. ماسبيرو سيبقى بقاء مصر لانه واجهتها ووجهة اعلامها الوطنى الحر الأبى .. سلام على ماسبيرو سلام …وعلى اهله العظام ..

مقالات مشابهة

  • نهى زكريا تكتب: إيه الجمال ده يا مصريين
  • شيخة الجابري تكتب: الأسرة في عام المجتمع
  • داليا عبدالرحيم تنعى الدكتور سامي عبدالعزيز عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة
  • نجاة عبد الرحمن تكتب: من طرف خفي ( 46 )
  • حنان البدري تكتب: من واشنطن
  • منى أحمد تكتب: قيثارة السماء الخالدة
  • أميرة البيلي: لا ألتفت للأراء الهدامة.. وأتقبل النقد دون تجريح
  • إلهام أبو الفتح تكتب: ولا شبر من أرض مصر .. فيديو
  • إلهام أبو الفتح تكتب: ولا شبر من أرض مصر
  • كريمة أبو العينين تكتب : قبلة الحياة ورصاصة الرحمة