أحمد يحيى الديلمي
من الفضائل التي ترتبت على طوفان الأقصى – الملحمة العظيمة التي خاضها المجاهدون من أبناء فلسطين الأبطال – أنها كشفت الأوراق وأصبح كل شيء واضحاً للعيان سواءً ما يرتبط بدور الدول أو خيانات العملاء في الداخل العربي والإسلامي، وبالأمس القريب نفذت المقاومة الإسلامية عملية مقدسة تمثلت في ضرب قاعدة أمريكية تتوسط الحدود بين الأردن والعراق وسوريا، وأدت إلى مقتل ثلاثة جنود وجرح 25 شخصاً من الأمريكيين.
الدلالة واضحة في هذا الجانب، وتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن أمريكا باتت المهيمنة والمسيطرة والمستعمرة لعدد من الدول العربية بشكل مباشر وما وجود هذه القواعد إلا دليل على هذه الحقيقة، حيث لا يوجد دولة عربية إلا وفيها قاعدة من مصر إلى الأردن إلى سوريا إلى العراق إلى ليبيا… إلخ، أما الخليج فحدث ولا حرج فهي عبارة عن واحة لأمريكا تتحكم فيها كيفما شاءت.
المضحك المبكي معاً أن أمريكا عقب الواقعة قالت إننا سنستمر في المنطقة حتى نُطهرها من الإرهاب، فعلاً أسلوب مضحك وإلا تخيلوا معي من الإرهابي الحقيقي؟ هل من يُدافع عن وطنه وسيادته واستقلاله إرهابي؟! أم من يتمركز بالقواعد رغماً عن أنف الدول ويفرض وجوده عليها بالقوة!! أي إرهاب أعظم من هذا، مع ذلك تقول أمريكا وتتوالى التصريحات من المسؤولين فيها بأنها ستظل في المنطقة لمحاربة الإرهاب، وهي الإرهاب ذاته، كما قلنا عملية طوفان الأقصى فضحت الأمور وعرت أمريكا وربيبتها القاعدة، فهذه القاعدة و داعش كلاهما تتشدقان بالإسلام وتدعيان أنهما تعملان لنصرته وتملآ الدنيا ضجيجاً بأنهما ضد الاحتلال الصهيوني، وها هي الفرصة أتت إليهما لكنهما تنصلتا ولم تحركا ساكناً، ولم تصدرا حتى بيان شجب أو إدانة ضد العدو الصهيوني وما يقترفه من جرائم في حق أبناء فلسطين الجريحة وكأنها معنية فقط بقتل المسلمين وممارسة الاغتيالات، فعن أي إسلام يتحدثون!! إنهم مجرد أدوات صنعتهم أمريكا لكي يبرروا وجودها في المنطقة ويمكنوها من حماية مصالحها كما تدعي، وكلها مصالح مشبوهة طالما أنها تخرج عن نطاق العلاقات الثنائية التي يجب أن تسود بن الدول وتتحول إلى استعمار مباشر، كما هو حال العراق اليوم الذي تحاول مقاومته الباسلة أن تناصر المظلومين في غزة من خلال توجيه ضربات للقواعد الأمريكية في العراق وسوريا وأخيراً في الأردن، وهي في هذه الحالة تحاول أن تضرب عصفورين بحجر، الأول مناصرة أبناء غزة المظلومين والثاني المطالبة بخروج القوات الأمريكية من بغداد، لكن أمريكا وبكل صلافة وعبر الناطق باسم خارجيتها تؤكد أنها لن تخرج من العراق وأن مصالحها لا تزال مهددة، لا أدري من يهدد هذه المصالح!! وما طبيعة هذه المصالح التي تحتاج إلى حراسة دائمة ومباشرة؟!
فعلاً.. لقد تكشفت عورات أمريكا واستطاعت معركة طوفان الأقصى أن تُعري هذه الدولة وعملاءها من العرب والمسلمين وفي المقدمة القاعدة وداعش من هم صنيعتها، من زمن مبكر، وهم الذين مكنوها من الاستمرار والسيطرة بل والتحكم في قرار الشعوب، لكن ما يُثلج الصدر ويضع أكثر من علامة على مستقبل المنطقة أن الشعوب بدأت تتحرك خلافاً لما خططت له أمريكا، فلقد استطاعت أن توجد حُكاماً عملاء ومسؤولين مرتزقة يتبعونها وينفذون أوامرها غير مدركين أن هذا الأمر لن يستمر وأن صحوة الشعوب ستكون مُجلجلة، وهذا ما يحدث الآن في العديد من الدول العربية والإسلامية.
كانت أمريكا قد منت دولة الكيان الصهيوني باستكمال عملية التطبيع مع الدول العربية وبشرت كثيراً باستكمال العملية مع السعودية رأس الحربة في هذا الجانب، التي جعلت البحرين تبادر إلى التطبيع لتكون مجرد ترمومتر اختبار المشاعر وردات الفعل الشعبية، طبعاً الشعب البحريني مغلوب على أمره ومضطهد وقادة المعارضة الوطنية قابعين في السجون بأحكام زائفة، لكن هذا الأمر لن يطول طالما أن الدم العربي والإسلامي يغلي في العروق وقادر بأن يُحرك المشاعر ويحولوها إلى حالة غضب وصواريخ فتاكة تنتقص من هذا الأمريكي البغيض، وإذا هبت العاصفة فإنها ستأتي على الواطي والعالي، وحينها ستعض أمريكا أصابع الندم وتعرف أنها أخطأت كثيراً عندما أوكلت أمورها إلى قيادات هزيلة دفعتها إلى مواقع القيادة للتحكم في مصائر الشعوب، وحتى الانتفاضات السابقة مثل ما سُمي بالربيع العربي هي التي دبرتها وحاولت أن تحتويها ثم انقلب الأمر عليها، كما هو الحال في اليمن، التي خرجت من القمقم بعد ثورة 21سبتمبر 2014م وأصبحت اليوم رقماً صعباً في المعادلة وفي المواجهة ضد دولة الكيان الصهيوني، ورغم أن أمريكا تراهن كثيراً على قدراتها العسكرية لكنها لا تُدرك أن قدرة الله سبحانه وتعالى هي الأقوى والأكثر فعالية وهي التي ستغير الأمور من حال إلى حال في غمضة عين، والتاريخ مليء بمثل هذه الوقائع، ويبدو أن هذه الدولة قد شاخت وشاخ حُكامها، سواءً بايدن أو ترامب ووصلوا إلى مرحلة الشيخوخة وعدم التفكير السليم، لذلك نجدهم سائرين في الغي يحاولون فرض إرادتهم لتكون فوق إرادة الشعوب ومهيمنة عليها، وهذا ما لم يستمر، وستأتي اللحظة كما قلنا التي تتهاوى فيها هذه الإرادة وتتحول إلى خبر كان.
أخيراً أقول لأبناء جلدتنا من الخونة والمرتزقة والعملاء.. لا تراهنوا كثيراً على أمريكا ولا تستنجدوا بها لتخلصكم من الحوثي – كما تقولون في قنواتكم المأجورة – فهذا الأمر بعيد وتذكروا دائماً القول الشهير (إن الله لا يُساعد من لا يُساعد نفسه) فكيف بكم وأنتم في دول الشتات وفي الفنادق وتطالبون أمريكا بأن تُعيدكم إلى الحكم، كما تدعون، الأمر مستحيل وبعيد أبعد من عين الشمس، والله أسأل أن ينصر الحق ويخذل الباطل وأن يعين المجاهدين الأبطال في غزة ولبنان والعراق وفي بلادنا، لدحر هذا العدو الغاصب المحتل لأرض فلسطين الجريحة قبلة المسلمين الأولى ومسرى الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما بريطانيا فنُكرر ذلك البيت الشعري الذي قاله العلامة الشاعر زيد الموشكي “رحمه الله” في أربعينيات القرن الماضي، عندما جاءت الطائرات تضرب في ذمار، فجادت قريحته بقصيدة طويلة وأهم ما جاء فيها:
يا بريطانيا رويداً رويدا ***إن بطش الإله كان شديدا
وفعلاً خرجت بريطانيا من الأراضي المحتلة في المناطق الجنوبية والشرقية تُجرجر أذيال الخيبة، لكن يبدو أنها لم تتعلم من الدرس وما زالت تحلم بالعودة إلى عدن، وهو حلم مستحيل، وكما يُقال “عشم إبليس في الجنة ” لأن اليمن شب عن الطوق وخرج من تحت الوصاية، أما المناطق الجنوبية والشرقية التي تتواجد فيها الآن بفعل استدعاء الخونة والعملاء لها، فإنها لحظة عابرة وسيعود كل شيء إلى أصله وتتحرر اليمن من كل الخونة والمحتلين الغاصبين، والله من وراء القصد.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: هذا الأمر
إقرأ أيضاً:
أَسْر الفقه السياسي
الطليعة الشحرية
يتميز الفقه السياسي بتفاعله مع واقعة كونه ديناميكيًا وليس جامدًا ومثاليًا مجردًا عن محيطه وصراعاته وأولوياته، ويعول عليه توحيد صفوف الأمة في مواجهة ما يعصف بها من صراعات تهدف إلى هدم رواسيها الأساسية.
وفي هكذا أوقات عصيبة يتوجب الالتفاف حول قضية تحرير الأقصى باعتبارها عقيدة وليست أمراً ثانوياً يتطلب السؤال هل التحرير أولوية مذهبية.
وللأسف تنتشر كمية متضاربة من الفتاوى في غير وقتها ولا تتناسب مع المعطيات والصراعات الوجودية المحتدمة. وعلى سيبل الطرح لا الحصر فتوى "عدم جواز الخروج على مرتكب الموبقات"، بينما يضرب البعض المثل بهجرة الرسول إلى المدينة كخيار أمثل لاقتياد الشعب الفلسطيني بالسيرة النبوية، وفي محاولة لتطويع العقل الجمعي وتوجيهه نحو قضايا أكثر عمقاً تطرق البعض إلى قضية "الاستنزاه.." باعتبارها قضية غاية في الأهمية بل أكثر أهمية من أولى القبلتين، فهل يجب علينا أن نثير التساؤل حول وقوع الفقه السياسي تحت أسر الكهنوت السياسي؟
هل وقع هذا العالم تحت براثن كهنوت السلطة المُسيسة واضعًا الفقه السياسي قيد أسر ظلال الخوف من الفتن. فإذا كان لا يجوز الخروج على مرتكب الفواحش والموبقات والمنكرات، فأين يقع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء عند الله حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" (رواه الحاكم وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب".
جَبُلَت فطرة البشر على رفض الظلم والجور وتوجه قصرًا وفق منطق سطحي يحصر الدين في "الاستنزاه ..." كمسألة فارقة وأكثر أهمية من 10 مذابح ارتكبها جيش الاحتلال خلال عام واحد فقط.
والغريب أن تتصدر مجموعة من الأفكار والفتاوى تحث الشعوب على تثبيت بوصلة الوعي الشعبي في اتجاهات تشتت تركيزها، بعيدًا مشاهد المذابح في غزة والقصف في لبنان والمجازر في السودان.
أضحى تضخم تلك الفتاوي الموجهة والتي لا تواكب المشهد الدامي عبئًا يرهق العقل البشري البسيط لأيّ إنسان ذي فطرة سليمة، وتغلق بروح متشائمة المسالك نحو القادم وتغم الأنظار في تطلعها نحو المستقبل.
المحاولات الحثيثة لتدجين الشعوب واضحة ومستهجنة، وقد بدأ الغرب التمرد أمام تعنُّت النخب المتنفذة والتي تتبع منهج القمع وتدجين الشعوب، فلم يعد يصدق الغربي أكذوبة معاداة السامية أو أكذوبة الإرهاب الإسلامي، وقد تجلت صور الرفض الشعبي للانحرافات السياسية والإعلامية في أحداث أمستردام.
ولأن الشعوب تتمتع بقابلية سرعة انتشار العدوى في المرض والشجاعة، فشراراتها قادمة لا محالة، متزامنة مع هبوط أرصدة الثقة لدى الشعوب بالنخب والقيادة السياسية. وبدلًا عن عقد مؤتمر دولي وعالمي يخرج بتصاريح خجولة تطلب من المجتمع الدولي إيقاف المجازر، كان يجب من باب أولى الانضمام إلى الدعوة المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد الكيان المحتل، بل يجب رفع دعوة مشابهة بحق المجازر التي ترتكب في السودان. أين يقف العلماء والفقهاء وفطاحل الأمة من كل المجريات وأحداث القتل والمجازر والمذابح التي ترتكب يوميًا؟
قد يُفهم أن تداعيات الحاجة ومقتضاها يتطلب السكوت، ولكن ما لا يمكن غفرانه هو الانصياع وتجنيد فتاوى لتوجيه الرأي العام والعقل الجمعي الشعبي نحو فسافس الأمور والابتعاد عن عظائمها.
ورب قائل يقول إن العوام من البشر لا شأن لهم بما يحدث حولهم؛ فالحياة تعصر كل ابن آدم وتلقيه في دوامتها وعليهم الاكتفاء والسعي إلى الخلود ولتتحقق العدالة في الآخرة.
نعم قد يبدو للوهلة الأولى أنَّه لا شأن لنا بمن يُذبح ويُحرق ويجوع في غزة ولا بمن يُقصف بيته ومدرسته وتُحرق خيمته في سوريا ولبنان والسودان، ولكن بعد طول تفكير ألم يقل الله تعالى في مُحكم تنزيله "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الحجرات: 10).
ما لنا نرى الإخوة يكتفون بمتابعة حصار وتجويع أهل غزة وبعد سنةٍ من المجازر والمذابح تعالت الأصوات والخطط لحل الدولتين، أيّ منطق عجيب وغريب هذا، لن يفيد تدليس وتغير المصطلحات والمسميات أحداً بشيءّ غير الكيان المحتل. إن قبول حّل الدولتين يُعطي شرعية لكيان استعماري استيطاني توسعي، وسيسمح لأي دولة أخرى بتطبيق ذات المنهجية دون رادع، فماذا يمنع إسرائيل عن التوسع والاستيطان مستقبلاً على حساب جيرانها؟ من المخزي ألا يُطلب إيقاف جريمة تجويع شعب أعزل.
إن لنّا في أمريكا أُسوة يا أولي الألباب، فبعد أن قام الاتحاد السوفيتي السابق بحصار برلين الغربية في يونيو 1948، قامت أمريكا وبريطانيا بأكبر إنزال جوي في التاريخ لفك الحصار المفروض على برلين الغربية، وذلك في مبادرة "برلين إيرلايف" (حياة برلين الجوية) أطلقها "لوسيوس دي كلاي" أمد أبناء برلين المهددين بالجوع بالمواد الغذائية والطاقة.
يضرب تحالف الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي والكهنوت الديني بجذورها عميقًا في التاريخ، وهي عملية تراكمية؛ حيث يمهد الكهنوت السياسي عبر التاريخ إلى توحُّش وتكديس الثروات في يد فئات ونخب قليلة مهمتها ترسيخ الاستبداد وانتهاك الحريات، ولأنها عملية تكدس وتراكم الضغط فبالتالي ستولد انفجارًا ثوريًا دمويًا.
وفي التاريخ القريب عندما تاجرت الكنسية بالدين وتحالفت مع الإقطاعيين المستعبدين وفرضت على العلماء جملة أفكار موحدة لا تناقض ولا تخالف الكنسية واستغلت الجانب الروحي للإنسان لتثبيطه عن ردع الظلم فأصدرت له صكوك الغفران. خلقت بذلك طودا عظيما من الجور حطمته الثورات الدموية التي حملت شعار "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس".
ولفهم المخاض الذي تمر به الشعوب اليوم علينا الاسترشاد بنظرية الفيلسوف الهولندي جوهان هويزينغا في كتابه "خريف العصور الوسطى" قوله إن أوروبا وفي نهاية العصر الوسيط كانت تتغذى على جملة أفكار مرهقة لا تلهم الإنسان الأوربي وأصبحت عبّا ثقيلًا على عقله وشكلت عائقًا وسدًا منيعًا لأيّ تطور، وما كان للأوروبي أن يتخلص من جملة تلك الأفكار إلا بثورة تصحيح أعادت تعريف الإنسان أخلاقيًا وقانونيًا.
تستدعي الحاجة اليوم إلى تصحيح جملة أفكار ومسارات فكرية شكلت عبئا أخل بالميزان الأخلاقي والفقهي، إن التوغل في طريق الكبح وإضفاء الشرعية على الاستبداد واستباحة الدماء والأعراض، وتبرير الظلم والجور وتسويغ مسميات ومصطلحات لا تقبلها الفطرة السوية ما هي لا عملية بناء ذاكرة تشرع الظلم وتزين الخنوع والاستلام.
رابط مختصر