د.منال رضوان تكتب: ثنائية الروح والجسد في «حاجز رقيق»
تاريخ النشر: 19th, July 2023 GMT
هى المجموعة القصصية الأحدث للكاتبة الصحفية والقاصة والروائية نفيسة عبد الفتاح، فعقب عدة إصدارات، لعل أبرزها رواية «تراب أحمر»، والتى رشحت لكتارا وبوكر، قدمت الكاتبة مجموعتها «حاجز رقيق»، والتى تحتوى على تسع عشرة قصة قصيرة تتمحور فكرتها الرئيسة حول ذلك الخيط الذى يفصل بين عالمين، أو بين حياتين فى إطار تحده الدلالات الصوفية للنظر عبر «حاجز رقيق»، والتقاط الكثير من التفاصيل الحياتية لتوثيقها.
أخبار متعلقة
د. منال رضوان تكتب: دينامية النص فى «كويت بغداد عمَّان» للروائى الأردنى أسيد الحوترى
قصيدتان لـ منال رضوان «شعر»
د. منال رضوان تكتب: مفارقة الوجود والعدم بين خصوصية المكان وثراء اللغة فى «تغريبة القافر»
نفيسة عبدالفتاح
والعنوان هنا كعتبة الولوج الأولى يحمل مفارقة لافتة، فالحاجز لغة، هو الفاصل الذى يفترض فيه العزل والفصل والقطع، وعليه فإن التوتر الدلالى الذى يلفت ذهن القارئ بين كلمتى (حاجز- رقيق) يكرس للفكرة الدالة على إمكانية التماهى فيما بين طبيعتين متضادتين، فتعودان ليلتصقا أو ينفصلا حسبما تستدعى الحال فى كل قصة.
فبين الروح والجسد، أو الموت والحياة، ذلك المادى والشعورى، أو الظاهرى والباطنى، يظل الحاجز بين عالمين لكل منهما سمته واضح الدلالة فى طريق ملآنة بتقاطعات اللحظات الفارقة، مما يؤدى إلى اتساع قوس التلقى لدى القارئ فى كل نص على حدة، فتستطيع أن تتلمس ذلك الحاجز بين حياتين فى قصتها بطعم السكر، أو بين حياة وموت فى قصة استغماية، وتظل المفارقة الكبرى هى تلك التى تضعنا أمام الاختيار الأشد قسوة عندما نفاجأ فى قصة من أقوى قصص المجموعة (نقطة تقاطع) أن الحاجز الرقيق يفصل هذه المرة بين موتين!.
غلاف الكتاب
كما تنوعت أساليب القص فى المجموعة، فيما بين وجود السارد غير المباشر، واستخدام أسلوب السرد المتسلسل تارة أو السرد المتقاطع تارة أخرى، مع وجود مساحة للحوار، فتجدها فى قصة «نقطة تقاطع»، على سبيل المثال، تستخدم أسلوب السرد المتقاطع، فتعود لاستكمال نقطة كانت قد قطعتها بحوار بين امرأتين من شخوص القصة، كما تلجأ لعدة حيل، كالإسقاط والتذكر وسط فصحى اكتفت باستخدامها أثناء السرد فقط، بينما اختارت للحوار اللهجة العامية، مع ملاحظة أن الفصحى لم تفقدها الحميمية بينها وبين القارئ، كذلك لم تؤثر العامية فى سلامة التلقى للنص، وإنما أحدثت ذلك اللون من التناغم والواقعية، ومن اللافت فى اللغة لدى الكاتبة، أنها تحمل ثراءً شديدا فى المفردات وتتميز بذكر التفاصيل لتراكيب فى الفصحى والعامية، سواء بسواء مع المحافظة على التكثيف البنائى بأدواته من إيجاز وحذف إلخ.. مما ساعد على تماسك العمل وعدم خلق ما يجوز تسميته الترهل السردى، كذلك ساهمت اللغة فى خلق حركة للنص أو صنع ذلك النطاق البصرى شديد الدينامية، فالنصوص تحمل صورة أقرب ما تكون لـ Mise-en-scène عن طريق إعداد النص، وحركة الأشخاص، وتفاعلهم مع الحدث، مما يساهم فى خلق الحالة ذاتها من التفاعل لدى القارئ. كذا رسخت لأهمية البعد المادى للشخصية من خلال الأسماء والملامح، وحتى الملابس والألوان واختيار المهن.
ففى القصة الأولى استغماية تتكلم عن لعبة التخفى من الموت:
(أول أيام العيد لأقارب أبى، وثالثهما لأقارب أمى.
تتحدث أمى مع جدتى بتلطف وحنو:
- يا أمى أنتِ كبرتِ، وصحتكِ لا تتحمل المشقة، ماحدش بقا بيعمل كده، ثلاثة أيام هنا كثير عليكِ.
تجيبها جدتى بصوتها الملىء بالسكينة:
- إنت ماتعرفيش حاجة.. دول بيستنونا، مابينا وبينهم يا حبيبتى لوح قزاز بيشوفونا من غير ما نشوفهم، يعنى ماعيدش على أهلى؟)
وهذه القصة، لفتاة تقص حكايتها فى المقابر، وحسب الموروث الشعبى، تذهب العائلات إلى هناك لقضاء العيد بصحبة موتاهم، لإيمانهم بأن الموتى يشعرون بتلك الزيارة، هنا استخدمت الكاتبة الصوت السردى غير المباشر وحددت زمن القص، بحيث يدور خلال أيام العيد الثلاثة، فاستمرت الصغيرة فى سرد قصتها وفق صيغة الزمن المضارع على طول الخط السردى، ونجد أن حوش المقابر بات مسرحًا للأحداث، لِيُمَّثل محاكاة للعبة الحياة، فهنا الجدة تحاول طهى الطعام، الأم تتحدث مع الخال، والفتاة تلهو مع أقرانها من الصغار وبين يديها نقود العيدية التى ما استطاعت أن تجلب لها السعادة إلا بعد الحيرة والقلق، إذ تأخر بائع غزل البنات عن المجىء.. لكنه أخيرًا قد أتى.
برعت الكاتبة فى استخدام الرمز وتأويله والمتمثل فى عرفة الطفل الصغير الذى يعلم كما يتضح من اسمه حقيقة الموت ويشد يد الفتاة، لتشاهد مراسم إحدى الجنازات، فمثل عرفة الصدمة والحقيقة الوحيدة فى تلك الحياة، التى هى لهو ولعب، لكن مآلها العودة إلى المكان ذاته ولو بعد حين. وقد حاولت الفتاة إفلات يدها من بين أصابعه، لكنه بعد أن سمح لها بالخروج من المكان المختبأة به فى لعبة «الغميضة» تركها تتذوق غزل البنات، لتستسيغ حلاوته ثم باغتها قائلا:
- ماتخافيش.. دفنة إتفرجت على زيها كتير.. تحبى نروح نتفرج؟
وهنا يتخذ عرفة- الرمز- صورة يمكن تأويلها على نحو آخر، فكما مثَّل المعرفة مَثَّل الموت أيضًا:
(يفهم نظرة الفزع فى عينى، أسحب يدى منه، وأركض إلى حضن جدتى التى تشعل الوابور أمام شاهد القبر لتسخن لنا الغذاء).
ويمكن اعتبار أن القصة الثانية بطعم السكر مثلت بهجة العودة إلى الحياة، وتدور الفكرة حول فتاة تعافت من مرض عضال، استلزم عزلها عن أسرتها وحياتها السابقة، مخافة العدوى، وعبر حيلتى التذكر والإسقاط تستخدم الكاتبة الصوت السردى غير المباشر لتقص الفتاة حكايتها فى مونولوج يتأرجح بين الماضى وذكرياته (ذكريات المولد مع قدوم شهر ربيع.. أطباق الحلوى، الأطعمة من أرز ولحم، سرادق الإنشاد)، وبين الحاضر وواقعيته الشديدة من التعافى والرجوع مرة ثانية، لتكتشف الكثير من البهجة والذى لم يفتها، فيمكنها أن تستعيده عقب ستة أشهر من الموت- الحكمى بالعزل- عن طريق شراء عروس المولد بألوانها المبهجة لابنة أخيها الصغيرة، تظل العروس كرمز للحياة بألوانها الصاخبة وسعيها للانطلاق عبر أجنحة مروحية تمكنها من التحليق فى سماء جديدة من الأمل، فنجد المفردات الدالة على الزمن وقد ظهرت بشكل يؤكد حرص ذلك العائد من الموت على الوقت وتقدير قيمته (اجتماعنا تطعيمًا سنويًا- أسبوع واحد- ستة أشهر) لتستخلص الفكرة الرئيسة فى نهاية القصة بأن الحياة وإن كانت تحمل الكثير من الإخفاق، لكن العودة إليها تحمل كل صنوف البهجة:
(كان ذلك ما أبقته أمى من طقس جدى- صافحت جدى، وقبلت الصغار دون خوف عليهم. أكثر ما حرصت عليه فى تلك الليلة كان شراء عروس هدية لابنة أخى الصغيرة.. عروس بطعم السكر، ذات وجنتين ورديتين، وأجنحة مروحية بكل ألوان البهجة)
أما فى قصتها نقطة تقاطع فقد مثلت العبور بين موتين، والسارد هنا المهندسة نهى، التى تصف فى مشهدية بصرية عالية الدقة مراسم الغُسل لعمتها التى توفيت نتيجة حادث أليم، تسمع نهى نحيب زوج عمتها المحب، تشتم رائحة صابون الغُسل، الزيوت العطرية التى تستخدم فى تلك المراسم، تنصت إلى بكاء الجارة الودود حزنا على فراق العمة، كما تشعر بالاشمئزاز من حديث أم منى وأم إبراهيم وسرقتهما لخاتم العمة وعرض السيدة زواج ابنها بمنى أثناء المراسم الجنائزية، بل وندمهما الشديد على العقد الأبيض الذى نسياه فى عنق الباشمهندسة!!.
فى هذه القصة لجأت الكاتبة لمفارقة تمثلت فى الصوت السردى غير المباشر الذى نكتشف أنه لسيدة شابة توفيت مع عمتها وتقص حكايتها أثناء انتظار دورها فى الغُسل الذى مثل برمزه محاولة للاعتراف بالخطايا والتطهر.
هذه المفاجأة مثلت الانفتاح للنص، مما ساهم فى اتساع أفق الانتظار لدى المتلقى، ووسط هذه التفاصيل الشديدة الوطأة لوصف مراسم الموت نجد الكاتبة تجرنا جرًا مرة أخرى للواقع المرير بسوداويته ووقاحته، حيث حديث السيدتين، لتتيقن نهى التى حولت أموال زوجها إلى حسابها، لضمان عدم تخليه عنها أن الأموال لم تعد لها أى قيمة فى مقابل أن يسامحها رجلها الذى أحبته بكل كيانها، ويعود الزوج ليجثو أمامها باكيًا ويعترف بخطبته لأخرى وإن كان لم يحب غير نهى، تلك الساردة لحكايتها والتى تشعر فى تلك اللحظة فقط بالموت إثر اعتراف الزوج بالخيانة!.
والقصة كتبت وفق أسلوب السرد المتقاطع، بحيث تتحدث نهى عن عمتها، ثم تتكلم المرأة سارقة الحلى، وتعود الساردة لقص أجزاء أخرى من حكايتها، فهذا الزخم من ذكر للتفاصيل ووجود مساحة للحوار وتعددية صوتية تمثلت فى: الساردة، الزوج، النسوة فى العزاء، ولم تتجاوز القصة الثلاث صفحات، فأوردت القاصة كل هذه التقنيات وجمعت بينها فى تناغم واحترافية عالية، تؤكد تمكنها الشديد من أدواتها.
(صمت.. صمت!
وأخيرًا صوت دون صورة.. صرير، ووقع أقدام، وأصوات نساء ثم تدفق ماء.. يبدو أنه صنبور!
- أأحلم؟!
أنا داخل الأمر، وخارجه.. أبتسم إذ يساورنى الظن أن حلمى هذا داخل حمام للسيدات، يتحدثن عن صابون، ولوف، وزيوت عطور، ودرجة حرارة الماء، و.. إدخال المقربين قبل البدء).
وفى نهاية تلك القراءة لمجموعة عامرة بالتفاصيل وثراء المفردات الدالة على بيئة كل قصة على حدة، أثق أن نفيسة عبد الفتاح مازال فى جعبتها الكثير من تفاصيل ومفردات شديدة الخصوصية تحمل «دقات نثرية» يمكنها إن وصلت بداخلها إلى مرحلة الاختمار أن يكون الجديد بمثابة ديوانها النثرى الأول، ليحمل عبق الذكريات ببهجتها وأنينها، خاصة أن الروح الشعرية بدت واضحة فى تراكيب مثل (يحتضننى إلى دفء العالم- يضحك فيتضاعف نور وجهه- صرير ووقع أقدام وأصوات نساء)، فمن ذا الذى يعرف الخطوة التالية عقب التطلع إلى الحياة عبر الحاجز الرقيق.
ثقافة منال رضوان رواية تراب أحمر سور الأزبكيةالمصدر: المصري اليوم
كلمات دلالية: شكاوى المواطنين ثقافة الکثیر من
إقرأ أيضاً:
تاريخهم فى الملاعب لا يُذكر.. أنصاف لاعبين يتنمرون على الكرة النسائية!!
فى مشهد يعكس غياب الوعى الرياضى، يتجرأ بعض اللاعبين محدودى التاريخ فى الملاعب على مهاجمة كرة القدم النسائية فى مصر، فى محاولة للنيل من هذه الرياضة التى تشهد تطورًا كبيرًا فى الآونة الأخيرة، هذه التصرفات تقلل من قيمة اللعبة وتؤثر سلبيًا على عزيمة اللاعبات، بل تسيء إلى روح المنافسة واحترام التطور الرياضيين، فكرة القدم النسائية ليست مجرد لعبة، بل رمز للإصرار والطموح الذى يستحق الدعم، وليس التنمر ممن لم يتركوا بصمة تُذكر فى عالم الكرة.
وبالرغم من التطور الذى شهدته كرة القدم النسائية فى الآونة الأخيرة، بمشاركة الأهلى والزمالك لأول مرة فى تاريخ اللعبة التى انطلقت عام ١٩٩٩، الأمر الذى ساهم فى زيادة عدد المتابعين نظرًا للشعبية الجارفة التى يمتلكها القطبين، إلا أن هناك بعض الأشخاص الذين مازالوا يرفضون فكرة ممارسة النساء لهذه الرياضية، مبررين ذلك بأنها ترتبط بالعنف والالتحامات والخشونة، وهى أمور تتناقض، حسب رأيهم، مع الصفات التقليدية المرتبطة بالنساء مثل الأنوثة والرقة، على الرغم من النجاح الذى تحقق خلال المواسم الماضية، مثل تنظيم دورى متكامل، وتفوق بعض الأندية، ووجود لاعبات ومدربين يستحقون التكريم، إلا أنه مع كل خطأ يحدث فى المباريات، يظهر البعض لرفع لافتات التهكم مثل المرأة مكانها المطبخ.
وتسببت تصريحات أحمد بلال، لاعب الأهلى الأسبق، التى أثارت استياء وغضبًا واسعًا بين العديد من اللاعبات والمشجعين للكرة النسائية، إذ كتب «بلال» عبر حسابه الشخصى على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»: «كرة نسائية إيه اللى بيلعبوها فى مصر.. دا الستات مبيعرفوش يطبخوا.. هيعرفوا يلعبوا؟»، وبعد هجوم واسع من متابعى الكرة النسائية، اضطر لحذف المنشور بعد دقائق من نشره، تصريحات أحمد بلال دفعت النجوم والمسئولين للرد عليه، وقال شادى محمد مدير جهاز كرة القدم النسائية: «للأسف وسائل التواصل الاجتماعى تستخدم النجوم بشكل خاطئ، وتقلل منهم ولا بد أن ينتبه النجم أو المسئول لكل كلمة يكتبها أو يقولها، وما يتردد من مقولة إن الست مكانها المطبخ وغيرها من الأقاويل هى دعابة غير لائقة ومصر فيها ستات وبنات كتير بـ ١٠٠ راجل، وتحملن مسئوليات كبيرة فى تنشئة وتربية أبطال ومهندسين وأطباء وعلماء، هناك لاعبة فى الأهلى عمرها ١٥ سنة وتتولى رعاية أسرتها البسيطة، كم امرأة تحملت مسئولية أولادها بعد وفاة زوجها ووصلت بهم لأعلى مكانة ممكنة؟».
واستشهدت دينا الرفاعى عضو مجلس إدارة اتحاد الكرة والمشرفة على كرة القدم النسائية، بالإنجازا التاريخى الذى يحققه فريق مسار «توت عنخ أمون» سابقًا، الذى فرض نفسه على الساحة الإفريقية بقوة، بعدما تأهل للدور نصف النهائى لبطولة دورى أبطال إفريقيا، ليصبح أول فريق مصرى يصل إلى هذا الدور، ومازال لديه الأمل والطموح فى بلوغ النهائى والمنافسة على اللقب، ليسطر تاريخًا جديدًا لكرة القدم النسائية.