أم كلثوم ظاهرة قد تأتي قرون وأجيال ولا تفزر مثل هذا الجمال والكمال الإبداعي ، و رغم مرور أكثر من أربعة عقود على رحيلها , إلا أن بريق صوتها ما زال يزداد لمعانه ، و 49 عاما على رحيل كوكب الشرق أم كلثوم ، وهي متربعة علي عرش الغناء ومكانة إبداعية لم يستطع أحد الاقتراب منها.
فشيئان ثابتان لا يتزحزحان في الشرق الأوسط الأهرامات وأم كلثوم رغم الرحيل ، وصوت إعجازي كان يستطيع أن يغرد لساعات متواصلة في حالة فريدة تعكس حضارة موسيقية عريقة ، وجاء اتساع مساحة جماليات الأداء الصوتي ليفسر القدرة التأثيرية علي كل من يسمعها ، فسكنت بإبداعها الروح والعقل والوجدان.
وتحت راية صوتها توحد الجميع ، فسحر صوتها الرؤساء والأمراء ، العمال والفلاحين الأثرياء والفقراء.
وعندما كان يحين موعد حفلتها الشهرية الخميس الأول من كل شهر منتصف القرن الماضي ، تتوقف الحياة وتخلو الشوارع من المحيط الي الخليج ، في القاهرة كما في الدار البيضاء وتونس وبيروت ودمشق والخرطوم والرياض وبغداد .
الجميع ملتفا حول الأذاعة المصرية أو داخل مسرح الغناء ، انتظارا لإطلالة كوكب الشرق , يفتح الستار وتطل من ورائه الساحرة بحنجرتها الذهبية ، فينتفض الجميع مستمعين وحضور تحية لها ، ثم يأتي الصمت في حرم الجمال جمال .
فعندما تشدو تأسر بأدائها كل فرد على حدة , وتصبح هناك حالة توحد كاملة بين صوتها ومستمعيها ، ويصبح الجميع تحت سيطرة سحرها فى حالة من السبات والتأثر ، بين التنهدات والنشوة تارة والدموع والآهات تارة أخرى .
أنه وهج امرأة فاقت في هيمنتها على الشعوب حدود السيطرة ، وعندما نتذكر حفلتها الشهيرة علي مسرح الأولمبيا بعاصمة النور الفرنسية ، والتي ذهب إيرادها لصالح المجهود الحربي بعد حرب67، و حرص علي حضورها عدد كبيرمن كل الطبقات الأحتماعية والجنسيات والأطياف ، وكان حضور اليهود الشرقيين بأعداد كبيرة لافتا للنظر ، و مثيرا لدهشة مدير مسرح الأوليمبيا ، فبادر بسؤال أحدهم عن سبب وجوده في حفل عائده موجه لدعم الجيش المصري فأجابه إنها أم كلثوم .
صنعت المستحيل بموهبتها الفذة ، وعبقريتها التي كسرت الحواجز الجغرافية والسياسية ، وأصبحت الفنانة الوحيدة التي تستقبل أستقبال الملوك والرؤساء.
ومثلما كان صوتها أستثنائي كان جمهورها علي اختلاف مكانته أستثنائي ، يشبهها بهيئته المميزة وكان يستعد لحضور حفلاتها بالملابس الرسمية ، وكأنها مراسم ملكية فهم في حضرة سيدة الغناء العربي ، صاحبة جزء أصيل من ضمير الأمة.
ويستمر صوت أم كلثوم حالة خاصة جدا ، لم يستطع أحد أن يكتشف سر خلوده ،مثلها مثل الفراعنة نفس الأنبهار نفس الغموض نفس الخلود ،تجلي في صوتها الذي يحمل أبعادا كثيرة تعكس تفرده وتميزه الأسطوري عظمة مصر , وتبقى كوكب الشرق أسطوره وظاهرة لن تتكرر.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: أم کلثوم
إقرأ أيضاً:
ابنة المختطف قسريًا هاشم الهمداني تكتب: سنة في ظلام الزنزانة
أبي المختطف هاشم عبدالله صالح الهمداني: سنة في ظلام الزنزانة الانفرادية
لا أستطيع أن أصدق أن عامًا وأكثر قد مر على اختطاف أبي، هاشم عبد الله الهمداني، دون أن أتمكن من رؤيته أو زيارته ولو لمرة واحدة.
في الثامن من نوفمبر 2023، كنا نعتقد أن سفر أبي من مطار صنعاء سيكون بداية أمل جديد لعلاجه من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم. لكن للأسف، انتهى الأمر إلى مأساة لم تكن تخطر على بال أحد. أبي، الذي أفنى عمره في كفاح الحياة وتحمل مشاقها، اختُطف ظلمًا وعدوانًا دون أن يرتكب أي ذنب. بينما كان يستعد للسفر لتلقي العلاج الذي لم يتوفر في وطنٍ أنهكته الأزمات، اقتادته مجموعة مسلحة من المطار أمام أعين المسافرين، دون أي مبرر قانوني.
ولم تكتفِ تلك الأيادي الغاشمة بهذا الفعل الشنيع، بل اقتحموا بيتنا في الصباح الباكر دون أي تصريح، وسط صرخات الأطفال وبكاء النساء. كسروا الأبواب، عبثوا بأثاث المنزل، وأخذوا أخي الكبير عمرو دون رحمة. كان المشهد قاسيًا لا يحتمل، حيث لم يحترموا حرمة بيتنا، ولم يراعوا وجود الأطفال والنساء.
مرّت سنة كاملة، وما زال أبي وأخي وأعمامي وأبناء خالاتي وباقي أفراد أسرتي خلف جدران الزنازين الانفرادية، ممنوعين من التواصل معنا أو حتى الاطمئنان على أحوالهم. سنة من الألم والقلق المستمر ونحن نعيش في انتظار لا ينتهي. الطرقات إلى أبواب القضاء أغلقت في وجوهنا، ولم نحصل على أي إجابة تُطمئننا.
لماذا كل هذا؟ إن كان لديهم أي دليل يدين أبي أو أخي عمرو أو باقي أفراد أسرتي، فلماذا لا يقدمونهما لمحاكمة عادلة؟ إن كان ما يدّعونه من اتهامات صحيحًا، فلماذا يخفونهما عن العالم ويمنعوننا من زيارتهما؟ الحقيقة واضحة؛ لا دليل لديهم سوى ظلمهم وجبروتهم.
أبي، الذي سافر لعلاج مرضه، يُترك اليوم في زنزانة انفرادية، محرومًا من أبسط حقوقه، في ظروف لا نعلم مدى قسوتها.
عام كامل وأبي بعيد عني، ليس لأنه اختار الغياب، بل لأنهم سلبوه حريته ووضعوه في زنزانة ضيقة مظلمة، لا ترى الشمس ولا تسمع فيها سوى صوت الوحدة. وهو يعاني من ارتفاع ضغط الدم والسكري. عام كامل ونحن نعيش في ألم لا يوصف، عاجزين عن رؤيته أو سماع صوته، حيث مُنعنا حتى من زيارته.
أتخيل أبي الآن في مكانه، ينظر إلى جدران صامتة كأنها تُشارك في تعذيبه، يحاول أن يحتفظ بعقله وقلبه وسط قسوة العزلة. هل يفتقدنا كما نفتقده؟ هل يتخيلنا حوله ونحن نضحك ونتحدث؟ أم أن الألم قد طغى حتى على الذكريات الجميلة؟
الآن، لا نسمع صوته ولا نرى ابتسامته. فقط نعيش على أطياف الذكريات التي صارت أقسى ما يمكن أن نملكه.
أتساءل كيف يمكن لإنسان أن يتحمل هذا الكم من الظلم؟ أي ذنب ارتكبه أبي ليُعاقب بهذه الطريقة؟ هل لأنه كان شجاعًا، حرًا، رفض أن يخضع؟ أم أن الظلم يقتات على أرواح الشرفاء فقط لأنه قادر؟
وما يكسر قلبي أكثر، أنه لم يعرف حتى الآن أنه أصبح جدًّا لأول حفيد له يحمل اسمه. حفيدته الأولى لابنه البكر عمرو هاشم الهمداني. فرحة عمره التي كان ينتظرها، جاءت إلى الدنيا ولم تستطع رؤيته. لم يتمكن من احتضانها أو حتى سماع صوتها. لا يعرف عن ملامحها شيئًا، لا يعلم كيف تنام وكيف تضحك. تلك الصغيرة، التي كانت ستعيد الحياة إلى قلبه المُتعب، حُرمت منه كما حُرم من كل شيء آخر.
أتساءل: كيف يمضي عليه الوقت وهو محروم من هذه الفرحة؟ كم ليلة مرّت وهو يفكر بنا، ونحن نفكر فيه؟ كم مرة تخيل حفيدته بين ذراعيه، يضمها بحب كما كان يضمنا؟ لكنهم قطعوا هذا الحلم، وحرمونا حتى من إهدائه فرحة بسيطة تخفف عنه ألم الزنزانة.
أصعب ما في الأمر أنهم حرمونا من زيارته، من رؤيته، من الاطمئنان عليه ولو للحظة. كم كنت أحتاج إلى نظرة من عينيه تحمل صبره المعتاد. لكنهم أغلقوا كل السُبل وطرق الوصول إليه.
ومع ذلك، مهما حاولوا كسر روحه، أنا متأكدة أن أبي أقوى من هذا السجن، أقوى من الزنزانة، أقوى من الظلم. سيعود يومًا، وسنمسك أيدينا من جديد. وسيروي لي قصصه عن الصمود كما كان دائمًا يفعل، وسأخبره أنني لم أفقد الأمل أبدًا، أنني كنت أؤمن أنه سيعود مهما طال الانتظار.
نطالب بإطلاق سراح أبي وأخي عمرو وباقي أفراد أسرتي فورًا، لقد ذقنا مرارة الظلم بما فيه الكفاية.