البيروقراطية المعطلة لصالح الإبادة
تاريخ النشر: 31st, January 2024 GMT
إنه الجمعة، يمنعني الترقُّب من مواصلة النوم. لا أحتاج القهوة للتنبُّه هذا الصباح، إلا أنني أجد يدي دون تفكير، تضع الملعقة والملعقتين قبل إضافة الماء للركوة. ما تزال أمامي ساعات قبل أن يبدأ بث الجلسة. أقرأ المقالات التي تتنبأ بالحكم، أُشاهد تقارير قصيرة حول حصيلة اليوم السابق، أضع الهاتف جانبا.
توصينا مدونات الصحة بأن نتحاشى هواتفنا خلال الساعات الأولى من استيقاظنا؛ حتى لا نُشجع السلوك القهري والإدماني على الهاتف.
لم يبقَ كثيرون حولي ممن يؤمنون بالمؤسسات العالمية الحقوقية والإنسانية. كثيرون صاروا لا يرونها إلا باعتبارها أداة في يد القوى الإمبريالية، تُبرر لها، وترعى مصالحها. لكن -جزء مني على الأقل- لا يرضى بإلقاء الرضيع، في محاولة التخلص من ماء حمامه- كما يذهب المثل.
لكني أتساءل إن كانت أي جهود ستكفي بعد لترميم الثقة بين إنسان الجنوب العالمي، والمؤسسات العالمية. يُمكننا أن نُجادل -ليوم المجادلة- حول أن مفاهيم حقوق الإنسان تستحق الإيمان بها، مهما أُسيء تطبيقها وتفسيرها واستغلالها. وأن الجهد يجب أن يذهب في سبيل محاربة سوء التطبيق هذا، عوض النيل الإطار النظري الذي بُنيت عليه، والتشكيك في نوايا تطويره بالأساس. إلا أن شرخ الثقة من العمق بحيث لم يعد ممكنا ردمه، كما يبدو. فوق هذا لا يبدو أن ثمة من يُشغل بالثقة الضائعة، أو كيف يتم إعادة بنائها.
إنه الجمعة، يوم تاريخي، وإن لم يكن بالتاريخية المرتجاة. يتصادف -يا سبحان الله- مع كشف إسرائيل عن اضطلاع بعض موظفي الأونروا في هجمات السابع من أكتوبر. لا يحتاج الأمر لذكاء، لنرى ما يرجوه الكيان من هذه الخطوة. أولا، النيل -بطريقة ما- من المؤسسة التي أدانته (لكون محكمة العدل الدولية، والأونروا تابعتين للأمم المتحدة). وثانيا والأهم-، لهذه الخطوة سوابق في محاولة تعطيل عمل وإلغاء مؤسسة الأونروا؛ لأنها شهادة حية على التهجير خلال النكبة الفلسطينية الأولى.
والآن لنتوقف لحظة ونتساءل على سبيل الجدل: ماذا لو كانت ادعاءات الاحتلال صحيحة؟ (هذا بالطبع دون التحدث عن حق الفلسطينيين في المقاومة، وكون المليشيات المسلحة جزءا لا يتجزأ من فعل المقاومة) أعني، هل عنى في يوم من الأيام (ولو أن التشبيه ظالم) فساد بعض القضاة نقض مفهوم مؤسسات العدل؟ لم لا يؤخذ الكل بجرم البعض، إلا في حالة الغزاويين!
لا يفاجئنا موضوع قطع التمويل عن الأونروا (لطالما كانت محل استهداف الجيش الإسرائيلي، وخفض الدعم الأمريكي لها كان في الحسبان سابقا) بقدر ما تفاجئنا السرعة الخاطفة التي اختار فيها أهم الممولين ذلك. إذ أن القرار لم يتطلب سوى أيام، ساعات في بعض الحالات. يتوقع المرء أن يُجرى تحقيق حيادي يفصل في صحة الادعاءات قبل اتخاذ قرار يمس حياة الآلاف. قرار يرقى لأن يكون مساهمة في الإبادة. كل من يعيش هنا «تطلع عينه» من بيروقراطية مؤسسات الدولة الألمانية. ثمة إيمان بأن تعقيد عملية اتخاذ القرار يحمينا جميعا من الطامحين في سلطة مطلقة. أسأل نفسي اليوم إن كانت ألمانيا نجحت -كما تظن- في ذلك. أم أن بيروقراطيتها موجهة ضد البعض.
ثم، كيف وصل الشمال العالمي إلى مرحلة تُعتبر فيها دولة (أي دولة، دعك من كونها دولة احتلال، تنشر تقريرًا يتهم الشعب الذي تحتله) أكثر مصداقية من الأمم المتحدة؟ ما يجعلنا نُفكر.. لحظة.. هل يفقد الغرب أيضا ثقته في المؤسسات الدولية التي سخرها لمصالحه لوقت طويل!
أما اليوم، فها هي الصحف تتحدث عن احتمالية ارتباط حوالي 10٪ من موظفي الأونروا بميليشيات فلسطينية مسلحة (بالمقاومة بمعنى آخر) حسب تقرير الوول ستريت جورنال. وبناءً على هذا تدعي أن القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، معتمدة على تقارير هيئات على صلة بحماس.
هذا التسفيه بحقوق البشر القضايا العادلة، وبذل أي ثمن لقاء ذلك، حتى وإن كان يُهدد الثقة بالمؤسسات الدولية، يجعلنا نفكر أن ما من وسيلة لمجابهة نظام كهذا عدا خلق قوة مضادة عبر مؤسسات بديلة تنضوي تحتها الدول المعادية للقوى المهيمنة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
غليون لـ عربي21: قرار الجنائية الدولية ضغط قانوني وأخلاقي جديد على الاحتلال
رأى أستاذ علم الاجتماع بجامعة السوربون الدكتور برهان غليون، أن قرار الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير دفاع السابق يوآف غالنت يمثل تطورا مهما لجهة ممارسة مزيد من الضغط القانوني والأخلاقي على دولة الاحتلال وداعميها بضرورة وقف حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني.
وأكد غليون في تصريحات خاصة لـ "عربي21"، أن قرار الجنائية الدولية بحق قادة الاحتلال على الرغم من أهميته القانونية والإنسانية إلا أنه أقل بكثير من حجم الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ولا تزال ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني ثم الآن الشعب اللبناني.
وقال: "يجب أن نعترف أن رد الفعل العالمي على المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين منذ أكثر من عام أضعف بكثير مما كان ينبغي أن تكون عليه.. ومع أنني أعتقد أن هذا القرار مرحب به، ولكنه غير كاف مقارنة مع الكارثة الموجودة.. خصوصا أن ردود الفعل الدولية أيضا حوله كانت ضعيفة، فالأمريكيون رفضوا القرار والأوروبيون صمتوا.. وسيتوقف الأمر من من الدول الموقعة على الجنائية الدولية يمكنها أن تنفذ القرار".
وأضاف: "لا شك أن لهذا القرار تأثير معنوي لا أكثر ولا أقل، لكن لا يجب الرهان على نتائج ملموسة لجهة وقف الحرب أو التأثير على مجرياتها.. هو جزء من الضغط الأخلاقي الذي تقوم به شخصيات عالمية لإدانة الإبادة الجماعية".
وحول تأثير القرار على مسيؤة التطبيع العربية مع الاحتلال، قال غليون: "الدول العربية لن تعيد حساباتها في العلاقة مع دولة الاحتلال أبدا، إنما سوف تخفف من الحماس الذي كانت تبديه بعض الدول، خصوصا الخليجية للتطبيع مع إسرائيل، وهذا ليس بسبب قرار الجنائية الدولية، وإنما لأن التطبيع أصبح من الصعب على دول الخليج أن تذهب فيه، خصوصا أن الشجب الدولي لحرب الإبادة أصبح واضحا وكبيرا".
وأضاف: "لهذا فتأثير حرب الإبادة والموقف الدولي الرافض لها هو الأكثر تأثيرا وليس نتيجة قرار الجنائية.. بلدان عربية كانت قاب قوسين أو أدنى من إعلان تطبيع علاقاتها مع الاحتلال بسهولة الآن صارت أمامها صعوبات كثيرة، وربما بإمكانها أن تشترط حلولا للقضية الفلسطينية قبل أي خطوة تطبيع".
وأشار غليون إلى أن حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من عام، أعادت وضع المسألة الفلسطينية على الطاولة الدولية كأحد القضايا الرئيسية التي لا يمكن تجاوزها..
وقال: "لقد كانت الأنظمة العربية تغض النظر على الحرب في البداية على اعتبار أنها كانت معادية لحماس والتيارات الإسلامية الراديكالية، اليوم تجاوز الأمر قصة حماس والإسلام السياسي إلى القضية الفلسطينية نفسها، ولم يعد بإمكان الأنظمة العربية الصمت عما يجري في فلسطين، لأن استمرار الحرب وتصفية القضية الفلسطينية ستجعلهم في صراع مقبل مع شعوبهم، وهذا أيضا نتيجة بشاعة حرب الإبادة كما قلت، وأيضا بسبب انتفاض الرأي العام العالمي ضد الظلم".
وأضاف: "يمكن القول إن المقاومة الفلسطينية بصمودها أعادت طرح القضية الفلسطينية على العالم والعرب بعدما كانت هناك تصريحات بدفنها، وأن فلسطين انتهت.. ما جرى أنه تم تأكيد القضية الفلسطينية، وأنه لا يمكن تجاوزها، وهناك قطاعات واسعة من الرأي العام الدولي بما فيها اليهودي اكتشفت الطبيعة العنصرية للكيان، وقطاعات كبيرة متمسكة بحل عادل للقضية الفلسطينية.. اليوم الكسب الذي حصل هو اعتراف دولي واسع من الرأي العام الدولي بعدالة قضية فلسطين.. وهذا هو ما جعل الجنائية تتخذ هذا القرار والأمم المتحدة تتحدث عن ضرورة التوصل إلى حل لها".
لكن غليون أشار إلى أن هذا الوضع زاد من تعقيد الصراع في ظل التحالف القوي بين إسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، وقال: "اليوم إسرائيل في أزمة وأمريكا في أزمة والمنظمات الدولية في أزمة، ولا أحد يقدم حلا، لأن الحل بيد حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة لا تعترف بالحقوق الفلسطينية مقابل اعتراف متزايد وواسع لدى جزء كبير من الرأي العام العالمي، لكن التحالف الإسرائيلي ـ الأمريكي والغربي يجعل من الصعب التجاوب مع الرأي العام الدولي الضاغط من أجل الاعتراف بالحقوق الفلسطينية".
وأضاف: "الاعتراف بفلسطين كبير جدا، وشروط تحقيق العدالة لفلسطين أصبحت أكثر تعقيدا.. لهذا أعتقد أن الدول العربية معنية بالعمل من أجل الضغط لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، وخصوصا دول الخليج ومصر، كيف تتصرف للرد على هذا التحدي؟ هذا ما سنحتاج لبعض الوقت كي نرى تجلياته على الأرض"، وفق تعبيره.
وأمس الخميس، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال دوليتين بحق نتنياهو وغالانت، بتهم تتعلق بـ"ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية" خلال حرب الإبادة المتواصلة على غزة منذ 412 يوما.
وقالت المحكمة، في بيان عبر حسابها على منصة إكس، إن "الغرفة التمهيدية الأولى (بها) رفضت الطعون التي تقدمت بها إسرائيل بشأن الاختصاص القضائي، وأصدرت مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت".
وفي 20 مايو/ أيار الماضي، طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت لمسؤوليتهما عن "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية" ارتكبها الجيش الإسرائيلي بغزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
كما طلب خان مرة أخرى في أغسطس/ آب الماضي، من المحكمة سرعة إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت.
وبدعم أمريكي ترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، إبادة جماعية بغزة خلفت أكثر من 148 ألف قتيل وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
وتواصل إسرائيل مجازرها متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بإنهائها فورا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية وتحسين الوضع الإنساني الكارثي بغزة.