صدى البلد:
2025-04-26@13:16:48 GMT

عبد السلام فاروق يكتب: جولة في معرض الكتاب

تاريخ النشر: 31st, January 2024 GMT

منذ أيام تم افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، ذهبت إليه مرتين حتى الآن، وسوف أذهب مرة ثالثة وربما رابعة، مهما كانت المسافة بعيدة..
 أشعر بالألفة وأنا بين الكتب ودور النشر المصرية والعربية، وأحب أن أبحث عن أصحابي القدامي من الشعراء والنقاد فى مصر وغيرها من البلدان التي قمت بزيارتها سابقاً. 
المعرض هذا العام مزدحم بشدة.

فى العام السابق كانت حصيلة الزوار 3.7 مليون زائر وأظنها هذا العام ستتضاعف. تابعت افتتاح المعرض منذ اللحظات الأولي، ورأيت بعيني حجم الإقبال الهائل، وكذلك فى زيارتي الثانية.
لم أر المعرض بعين الصحفي  ، وإنما بعين الزائر المحب. ولي فيه عدة مشاهدات..

التنظيم والخدمات

 رغم الجحافل التي هجمت على أبواب المعرض منذ الساعات الأولي لافتتاحه، انتظمت الحركة داخله وخارجه، بحيث لم تكن ثمة مشكلات أو متاعب فى التجوال أو الراحة أو الخدمات الأساسية. وعلى أبواب القاعات تلحظ شباباً يرتدون أزياء رسمية أنيقة للحفاظ على انتظام الحركة واستتباب الأمن. وفتيات نشيطات على مكاتب الاستقبال لمن يحب الاستفسار عن مكان دار نشر ما. لم أجد حول مكاتب الاستقبال زحاماً، ما يشير لمدي فاعلية الموقع الاليكتروني الذي يحتوي على خريطة للمكان، ومعلومات عن برامج المعرض وفعالياته، وكلها متاحة مجاناً أونلاين.

المسارح المفتوحة فارغة يستخدمها الناس كمقاعد للجلوس بين العروض، والموسيقي المصرية والأنغام والأغاني تنبعث من مكبرات الصوت. ثم تبدأ الفرق المسرحية عملها فى الظهيرة، ويبدأ الأطفال والشباب فى التجمع حول خشبة المسرح يستطلعون الاستعدادات التي تجري لتحضير العروض. والبداية بعروض السيرك الخفيفة ثم الأراجوز وبعض فرق الغناء البسيطة. ضحكات الأطفال، وتفاعل الأهالي يشير لمدي استمتاعهم بتلك العروض.
 قلما تجد مكاناً لتستريح إلا على مقاعد المطاعم والكافيهات؛ إذ أن المجالس العامة تمتلئ عن آخرها منذ الساعات الأولي للصباح. رغم أن القاعات نفسها مزدحمة ! وتظل الجحافل فى إقبالها على المعرض حتي يقترب العصر. حيث يبدأ بعض الزوار فى رحلة العودة. لكن تظل الساحات والقاعات مكدسة رغم كل شئ.
خيمة شباب الغد
فوجئت بما حدث مع القاعة الخامسة، حيث تغير مكانها هذا العام..
تعودنا فى السنوات السابقة أنها فى نهاية المعرض قرب بوابته الأخيرة. ثم اكتشفت أنها انتقلت إلى جهة البوابة الأولي، وتم إنشاء خيمة كبيرة لاستيعاب دور النشر الخاصة بالملخصات الدراسية وكتب الأطفال، وفيها ساحة محدودة لممارسة أنشطة الأطفال، كالرسم والتلوين وغيرها من الأنشطة اليدوية. الهيئة العامة للكتاب لها مكان للمعروضات فى قاعة الأطفال تلك.
في القاعة الأولي جناح كامل للهيئة على يسار الداخلين. تعجبت من كثافة الإقبال على جناح الهيئة ولم أستطع الولوج من شدة الزحام. وهكذا كان الحال فى الجناح الموازي له وهو المخصص لمعروضات هيئة قصور الثقافة. 
بدأت أتنقل فى القاعة عسي أن يقل الزحام فى نهاية جولتي بالقاعة،. وجدت زحام الشباب على بعض دور النشر الخاصة، ويبدو أنهم يفضلون قراءة الروايات، خاصةً تلك الروايات ذات العناوين الغريبة والأغلفة المخيفة!
فى القاعة الثانية مكان فى بهو القاعة مخصص لكتب هيئة الكتاب القديمة، والإقبال شديد رغم تواضع الخدمات وضيق المساحة. الأسعار فى هذه القاعة رمزية جداً، ولهذا تنفذ الكتب بسرعة عجيبة. لم أشأ أن أبدأ فى الشراء وإلا وجدت نفسي تورطت فى حمل أثقال الكتب، وإذا بدأت فى شراء الكتب فلن أنتهي، كما لم أحب فكرة مزاحمة الجمهور الذي ملأ المكان.
فى القاعة الثالثة المخصصة للضيوف العرب، وقاعات العرض المخصصة للوزارات والأزهر تجولت قليلاً..لاحظت إلى جوار قاعة وزارة الدفاع معروضات خاصة بإنتاج المحاربين القدامي، وهي منتجات فنية غاية فى الجمال، وأسعارها فى المتناول. وعلى بعد خطوات وجدت قاعة جميلة مخصصة لمعروضات منتقاة من أفضل منتجات الهيئة العامة للكتاب هذا العام. وهى قاعة مخصصة للعرض دون البيع.
جلسة استرخاء
لا أعلم كم استغرقت جولتي من الساعات، وأنا لم أفعل شيئاً سوى الفرجة على الكتب. ولم ألتقِ إلا بالدكتور أحمد بهي الدين رئيس هيئة الكتاب . الزحام رهيب، وقد تفقد رفيقك بسهولة فى زحام كهذا. آثرت العودة والبحث عن مكان أجلس فيه فوجدت كل أماكن الجلوس مشغولة من نظرة واحدة بعيدة، فاتجهت نحو المنطقة الجانبية المخصصة للمطاعم والكافيهات، وأحضرت لنفسي قهوة وجلست على أقرب مقعد.
 أقدامي بها ألم لم أشعر به سابقاً، فقط عندما جلست! أتوق إلى التدخين وقد أقلعت عنه بأمر الطبيب. على البعد سيارات فارهة لم أتبين من خرج منها، لكن واضح أنهم متجهين نحو قاعة الندوات فى الدور الثاني. هناك حركة من المراسلين فى الساحات أو الداخلين للقاعات، هذه مذيعة ومخرج ومصور بجوار نافورة الميدان، التغطية الإعلامية للمعرض تجري على قدم وساق. أتممت شرب القهوة وكنت أفكر فى الانصراف والعودة فى يوم آخر. ونفذت القرار.
زيارة ثانية مثمرة
 فى زيارتي الثانية المبكرة استطعت الدخول لجناح هيئة الكتاب، واستمتعت وأنا أقرأ الأغلفة. مستواها هذا العام ممتاز، سواء من حيث التنوع أو الجاذبية أو السعر. وفهمت سبب الإقبال على معروضات الهيئة. والناس لديها حاسة تذوق عالية.
 تكررت مشاهدتي تلك أمام معروضات قصور الثقافة، العناوين أفضل والطبعة أجمل والأسعار أقل. أستطيع القول دون انتظار نهاية المعرض أن الكتب الأكثر مبيعاً هي من معروضات الهيئة ثم قصور الثقافة. هذا ما شاهدته من جولاتي القصيرة السريعة، وقد تأتي الإحصاءات النهائية تعارض هذا الرأي.
يبدو أن مسألة ارتفاع الأسعار تمثل مشكلة هذا العام. وقفت أمام معروضات لدار نشر عربية تعاني ندرة الإقبال. سألت عن سعر كتاب رائع الطباعة والمحتوي، قيل أن سعره أربعمائة جنيه، لاحظت إحباطاً فى نبرة البائعة كأنها تعلم أني لن أشتريه، لأن كل من سبقوني سألوا عن السعر ثم انصرفوا دون شراء. الأوراق والأحبار أسعارها تضاعفت عدة مرات خلال عام. تلك مشكلة إقليمية وعالمية  لا فى مصر وحدها.
لو كانت عندي نصيحة فهى أن ينتهز الناس الفرصة قبل نهاية المعرض لشراء ما يريدون من كتب، فالعام القادم ستكون الأسعار مختلفة تمام الإختلاف!
الآن قبل الغد
تلك النصيحة للمسارعة بالشراء لم أقلها من عندي. إنما نصحني بها أحد الباعة فى جناح قصور الثقافة فقال: (اشترِ اليوم قبل الغد، الكتب لدينا تنفد بسرعة) سألت شخصاً آخر فأكد المعلومة وأضاف: (كنت هنا بالأمس وهناك منضدة اختفت بما كان عليها من كتب، هناك كتب سعر الواحد منها جنيه واحد. حتي سور الأزبكية ليست فيه مثل تلك الأسعار!)
 كنت مقتصداً فى سيري هذه المرة، تعلمت من زيارتي الأولي ألا أفرط فى المشي، وإلا فسيصيب أقدامي ما أصابها من آلام استمرت يوماً وليلة. لم يعد السن يسمح بما كان يتيحه عنفوان الشباب.
 جلسة الاسترخاء والاستمتاع طالت قليلاً هذه المرة. والسبب أنني وجدت مكاناً للجلوس أمام المسرح وشاهدت بعض عروضه. حولي فى كل مكان عائلات استوطنت فى أماكن الجلوس وربما جاءوا لهذا الغرض فقط، غرض الجلوس والاستمتاع بالشمس، كثير منهم ليس معهم مشتروات من المعرض، بل معهم أطفال يذهبون من حين لآخر إما حول المسرح أو إلى الملاهي ذات الأجر الزهيد.
 تذكرت أن بعض الحدائق مغلقة للتطوير، وهذا سر من أسرار الزحام الشديد هذا العام؛ فالناس انتظرت طويلاً حتي وجدت متنفساً بديلاً عن الحدائق التي أغلقت، فما إن جاءت إجازة نصف العام حتي ساق الأطفال آباءهم للمعرض لا رغبة فى شراء كتب، وإنما للتنزه والاستمتاع بالجلوس فى ساحات المعرض الفسيحة. وربما لالتقاط صور بجوار نافورة أو تمثال أو حديقة أو فرقة من فرق المسرح.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: قصور الثقافة هذا العام

إقرأ أيضاً:

أحمد عبد الوهاب يكتب: اللغة العربية بين العولمة والهوية "تحديات وحلول"

ذات يوم، دُعيتُ إلى الغداء في أحد المطاعم العربية الشهيرة. استوقفني على الطاولة المجاورة مشهدٌ لعائلة عربية تتحدث اللغة الإنجليزية، تتخللها بعض الكلمات العربية الواضحة. 
قال أحد الأطفال لوالدته بالإنجليزية: "Mom، can I please have some sweets?" 
ابتسمت الأم وردت كذلك بالإنجليزية: "Wait، habibi، after lunch."  

رغم عملي في مؤسسة تعليمية أجنبية، أثار هذا المشهد تساؤلاتٍ: لماذا تُفضَّل الإنجليزية داخل أسرة عربية، داخل مطعم عربي دون ضرورة واضحة؟ وإلى أي مدى يؤثر هذا النمط اللغوي على انتماء الأبناء وهويتهم الثقافية؟

اللغة بين التحدي والانتماء

تشير التجارب الميدانية إلى أن غالبية الأطفال العرب في المدارس الأجنبية في مصر ودول الخليج يفضلون الحديث بالإنجليزية في حياتهم اليومية. ومع هيمنة المحتوى الرقمي الأجنبي، أصبحت الإنجليزية جزءًا من نسيج يومهم، أحيانًا على حساب لغتهم الأم. لكن المشكلة أعمق من ذلك؛ فاللغة ليست  مجرد وسيلة تواصل، بل وعاء للفكر والثقافة والهوية، ومفتاح لفهم الذات والآخر.

 

اكتساب اللغة... لا مجرد تعلمها

لسنا بحاجة إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية كمادة دراسية جامدة، بل إلى أن يكتسبوها كما يكتسب الطفل لغته الأولى: بالتعرّض الطبيعي، والمشاركة، والتفاعل. فالاكتساب لا يبدأ من السبورة، بل من الحياة. وكثير من أبنائنا العرب في المدارس الأجنبية – رغم خلفياتهم – يُعاملون كمتعلمين للغة لا كمكتسبين لها، وكأن اللغة غريبة عنهم، لا امتداد لهويتهم. ولكي تصبح العربية حيّة في وجدانهم، لا بد أن تعيش في تفاصيل يومهم: أن يتنفسوها لا يحفظوها، أن يتذوقوها في المسرحيات، يستخدموها في الألعاب، ويعبّروا بها عن أفكارهم ومشاعرهم. حينها، تتحوّل العربية من "مادة دراسية"... إلى "أسلوب حياة".

الأسرة: الحاضنة الأولى للغة 

يظن بعض الآباء – خطأً – أن الحديث مع أبنائهم بلغة أجنبية دليل على الرقي الثقافي ووسيلة لدعم مستقبلهم الأكاديمي. ويواكب هذا الاعتقاد عزوف متزايد من الأطفال عن المحتوى العربي، الذي يفتقر في كثير من الأحيان إلى التشويق والخيال مقارنةً بما تعرضه اللغات الأخرى. غير أن الأسرة تبقى المؤسسة اللغوية الأولى، والحاضنة الأصيلة لهوية الطفل. عندما يُستبدل الحديث في البيت بلغة أجنبية، فكأننا نهمس للطفل: "لغتك الأم ليست أولوية"، وهنا تبدأ الفجوة في الاتساع، وتضعف الصلة باللغة تدريجيًا. لذا، علينا أن نعيد توعية الأهل بأهمية لغتهم، ونرشدهم إلى سبل عملية تعزز استخدامها في البيت: مثل القراءة المشتركة، واللعب، والأناشيد، والبرامج المشوقة بالعربية. فالعربية ليست مجرد لغة، بل نبض وهوية. ويبدأ اكتسابها حين تصبح جزءًا من حياة الطفل اليومية: من دفء البيت، وحكايات الجدات، وأغاني الطفولة.

 

المعلم: قدوة لغوية داخل الصف

كم من معلّمٍ كان سببًا في تعلّقنا بلغةٍ أو مادة؟ فالمعلم ليس ناقلًا للمعلومة فحسب، بل قدوة حيّة تعكس جمال اللغة وأصالتها. وحين يُتقن أداءه ويمنحه شيئًا من الشغف والإحساس، تتحوّل اللغة العربية في أعين طلابه من "واجب" إلى "رغبة"، ومن "مادة دراسية" إلى "شغف يومي".
من هنا تأتي أهمية تمكين المعلمين وتدريبهم على أساليب تفاعلية حديثة تُحبّبهم في اللغة، وتربطهم بها وجدانًا وفكرًا.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل التحديات الواقعية: فكثرة المهام الإدارية والصفية الملقاة على كاهل معلمي اللغة العربية كثيرًا ما تعيقهم عن تقديم حصة متميزة بشكل مستمر.
لذا، فإن إعادة النظر في عدد الحصص، وتخصيص وقت كافٍ للتحضير والإبداع، لم يعد ترفًا، بل ضرورة لتعليمٍ حيّ، عميق، مبدع.

المجتمع: بيئة داعمة أو منفّرة

كي يتحقّق الاكتساب الحقيقي للغة، لا بد من بيئة عربية نابضة تُجسّد حضور اللغة في تفاصيل الحياة اليومية في اللافتات، ووسائل النقل، والمرافق العامة.

 وتُعدّ المؤسسات الثقافية – مثل قصور الثقافة، أندية القراءة، ومنصات الخطابة – ركائز أساسية في بناء الوعي اللغوي والثقافي لدى الناشئة.  غير أن تفعيل هذه المؤسسات بفعالية يتطلّب أنشطة موجهة للأطفال واليافعين، تراعي اهتماماتهم وأعمارهم، وتُقدَّم بلغة فصيحة جذابة تدمج بين المتعة والمعرفة.  ويمكن لعروض الأفلام العربية الراقية، تليها أنشطة مثل النقاش، التمثيل، أو إعادة الكتابة، أن تُسهم في هذا المسار. ومن الضروري أن تتحوّل هذه المؤسسات إلى فضاءات حيّة لا تشجع فقط على القراءة ولكن كذلك على التفكير النقدي، والكتابة الإبداعية، والتعبير عن الذات. حينها، تصبح هذه المرافق منصات حياة تنبض باللغة والانتماء، لا مجرد فضاءات ثقافية مقيدة.

 

 

 

الإعلام... كلمة السر 

الإعلام الرقمي العربي، لا سيما الموجّه للأطفال واليافعين، يتحمّل اليوم مسؤولية كبيرة في تشكيل الذائقة اللغوية. غير أن المحتوى المتوفّر غالبًا ما يكون محدودًا، أو ضعيف الجاذبية. نحتاج محتوى عربيًا يواكب عقل الجيل الرقمي، ويحترم ذكاءه، ويخاطبه بلغة متوازنة تجمع بين الفصاحة والحداثة، والعمق والجاذبية.

أدوات الذكاء الاصطناعي واللغة العربية 

وفي هذا الإطار، يشكّل الذكاء الاصطناعي – مثل ChatGPT – فرصة ثمينة لدعم تعلّم اللغة العربية بأساليب تفاعلية حديثة تناسب طلاب اليوم. لكن ينبغي التعامل مع هذه الأدوات بوعي تربوي وثقافي، فهي رغم قدراتها، لم تُصمَّم في بيئة عربية، وبالتالي فهي بحاجة إلى توجيه دقيق ومراجعة نقدية.
إن مسؤوليتنا الجماعية اليوم هي أن نُسهم في برمجة مستقبل لغتنا وهويتنا الرقمية، لا أن نكتفي بالاستهلاك الخاضع لمعادلات الآخرين.

 

من رياض الأطفال إلى البحث العلمي: نحو سياسة لغوية عربية شاملة

لا ينبغي أن يبقى دعم اللغة العربية حبيس المبادرات الفردية أو الموسمية، بل لا بد من تبني سياسة لغوية شاملة ومستدامة، تُترجم إلى قرارات واضحة تعزّز مكانة العربية في التعليم، والتواصل، والإنتاج المعرفي.
ويُعدّ قرار إلزام المدارس الخاصة في دبي والشارقة بتعليم العربية في مرحلة رياض الأطفال نموذجًا رائدًا لهذا التوجه؛ إذ يبدأ من العام الدراسي المقبل في الإمارتين تطبيق تأسيس لغوي مكثف يشمل جميع الأطفال، بصرف النظر عن لغتهم الأم. وهذه خطوة كبيرة للغاية لتمكين العربية بين أجيالنا سيظهر أثرها في السنوات القادمة. وهنا لا بد من توجيه الشكر لهيئة المعرفة والتنمية البشرية في دبي، وهيئة الشارقة للتعليم الخاص، على جهودهما الرائدة في هذا المجال. حيث نلاحظ فلسفتهم الجديدة إلى تبنّي رؤية تطويرية شاملة لتعليم اللغة العربية، تشمل دعم المعلمين، ومتابعة الأنشطة الثقافية والتراثية المتنوعة داخل المدارس. هذا التوجه الجديد يعكس قناعة عميقة بأن النهوض باللغة لا يتحقق بالرقابة فقط، بل بالشراكة الفاعلة، والرؤية الاستراتيجية، والمتابعة المستمرة. ويبدو جليًا أن هذا النموذج في طريقه إلى أن يشكّل توجهًا وطنيًا شاملً داخل الإمارات بالكامل. وأرجو أن يمتد ليكون أساسًا لتجربة لغوية عربية رائدة في عموم الوطن العربي.

 


وكما أن غرس اللغة في وجدان الطفل هو أول الطريق، فإن ترسيخها في عقل الباحث يمثل نقطة الذروة.
لذا، يجب أن تشمل السياسة اللغوية منظومة البحث العلمي والتعليم العالي، عبر خطوات عملية، منها:

إلزام المجلات العلمية بنشر ملخصات عربية للأبحاث المكتوبة بلغةٍ أجنبيةٍ.تشجيع الباحثين على الكتابة بالعربية.إنشاء مراكز للترجمة العلمية.تعزيز الشراكات بين الجامعات ومجامع اللغة.إدراج مهارات الكتابة الأكاديمية باللغة العربية ضمن مناهج ضمن الدراسات العليا. 

وبهذا النهج، تتحوّل العربية إلى لغة إنتاج معرفي لا حفظ تراث فقط، وتستعيد دورها الحضاري في العلم والفكر. ولنا في إرثنا ما يُلهم، وفي تجاربنا الراهنة ما يُبشّر بانطلاقة جديدة تبدأ من الحرف الأول، وتمتد إلى آفاق الابتكار.

 

نماذج مضيئة: مبادرات تُحتذى

رغم التحديات التي تواجه اللغة العربية في العصر الرقمي، هناك مبادرات تُضيء الطريق، وتمنحنا أملًا حقيقيًا في استعادة حضورها. منها:

مبادرة "كلّمني عربي "لأبناء المصريين في الخارج.مشروع "القراءة في المرافق الحيوية "برعاية مركز أبوظبي للغة العربية.مبادرة "بالعربي" بدبي  التي تحتفي باللغة على المنصات الاجتماعية.

هذه النماذج تفتح آفاقًا جديدة لحضور العربية في الحياة اليومية، وتُثبت أن العمل الثقافي المؤسسي قادر على إحياء اللغة في الوجدان العام. لكنها لن  تزدهر إلا بتكامل الجهود، وتفعيل الدعم المجتمعي والرسمي. وحسبنا أنها تمثل بدايات واعدة، فكما تُنبئ قطرات الغيث الأولى بالمطر، تُبشّر هذه المبادرات بمستقبل لغوي أكثر إشراقًا وتأثيرًا.

 

بين الهوية والانفتاح: التوازن الذكي

تعلّم اللغات والانفتاح على الثقافات ضرورة، لكن دون أن نتنازل عن جذورنا.
العربية هي الأصل الذي ننطلق منه نحو العالم، لا العكس. تأمّلوا تجربة ألمانيا أو فرنسا: تتقن شعوبها الإنجليزية، لكنها لا تضعها فوق لغتها الأم. ذلك هو التوازن الذكي الذي نطمح إليه: أن ننفتح... دون أ ننسى من نحن.

في زمن العولمة، تبقى العربية قلب هويتنا النابض، وجسرنا نحو الماضي والمستقبل.
اجعلوها حاضرة في منازلكم، نابضة في مدارسكم، مرئية في شوارعكم، وفعالة في فضاءاتكم الرقمية.
حين نحترم لغتنا، نمنح أبناءنا جذورًا قوية تعينهم على الطيران عاليًا دون أن يفقدوا الاتجاه. إلى كل ولي أمر، ومعلم، وإعلامي، وصانع محتوىٍ: لغتنا ليست فقط ما كنّا... بل ما يمكن أن نكون.
لغتنا... هويتنا... مسؤوليتنا جميعًا.

مقالات مشابهة

  • وفود من أفغانستان والسعودية والإمارات تشارك لأول مرة في معرض “إينوبروم – آسيا الوسطى” بطشقند
  • في ثاني أيام معرض الكتاب 2025.. إقبال واسع وفعاليات تحتفي بالثقافة
  • خطبة الجمعة من سيناء.. شرف الله أرض الفيروز وجعلها موطنا لهؤلاء الأنبياء.. وخصها بثمار لا تصلح في مكان غيرها.. فيديو
  • هيئة الكتاب تحتفل بأعياد الربيع في مركز الشروق الثقافي بفعاليات مبهجة تجمع بين الفن والتعليم
  • هيئة الكتاب تحتفل بأعياد الربيع في مركز الشروق الثقافي
  • من مقلب قمامة إلى معلم سياحي.. المهندس علاء فاروق يروي قصة المتحف الزراعي |فيديو
  • معارض الكتب.. الكلمة التي تبني وطنا
  • أحمد عبد الوهاب يكتب: اللغة العربية بين العولمة والهوية "تحديات وحلول"
  • غدًا.. صباح مسقط يشرق بافتتاح الدورة الـ 29 لمعرض الكتاب
  • "صحار الإسلامي" يرعى "معرض الحج والعمرة"