ناصر أبوعون

 

إذا كانت الأمكنة هي ذاكرة الشعر؛ فإن في هذه القصيدة يتحول الشاعر الأردني سمير القضاة إلى طائر فينيق يصعد نحو ركح الشمس، ليحرق نهاراتها القديمة ويُمطر ماء الحياة على أجداث اللغة ليحيي فينا الشعر بصور شتى، ويقنص أشعتها بقوس قصيدة غجرية،  تنبعث من جحيم الرؤى المتمردة على حالة السيولة التي أغرقت المشهد الشعري، - الذي سقط سهوا من قبل ومن بعد في جُب الاغتراب-؛ ليشعل غربة الروح قناديل بهجة تتأمّل في مستقبل مغاير وتستنهض ثورة شعرية جديدة تضعنا على جادة الطريق.

 

في هذا النص يرسم الأردني سمير القضاة -الذي أناخ ناقة الشعر على عتبة مسقط العامرة وفكّ أوكية القوافي فتفجرت أفلاجا من الموسيقى واندلقت في بحر جمالها المتجدد، ليخرج الشاعر والشعر ممسوسا بجنون العشق. (مسقطُ الرأسِ،حيثُ نولدُ فيها، وأنا مسقطٌ هدَتني السبيلا).


 

في هذا النص صار الشاعر بهلولا يتلو ترانيم صوفية وتعويذة شعر لتهيم الصور  على وجهها لوحة تشكيلية تراود القصائد وتصطاد أفكارا تتشظى أيقونات محبة، تتقافز بين حواف الأمواج بشصِّ الغواية بعد أن أسقط الشاعر روحه عمدا في (بالتة الألوان)، وذوَّبَ وجدانه في ذاكرة ريشة ترش الجمال بساتين بين فواصل التفاعيل؛ فيتخلّق واحات تستضيف البحر على طاولة العشق؛  ويمد يديه نحو سلة أقمار معلقة على (رابية القرم)؛ ليقطف ورد خدودها ويلضم عقدا من لؤلؤ شفاه كوكيبات تترجل على رمل شواطئها ويتشوف لهفة للجّة الحنين، لتكشف عن ساقيها. (جِئتها شاعرًا، لأقضي مُجونًا، ولقد عُدتُ، عاشقًا ضِلّيلا).

 

نرصد في هذه القصيدة تفاعيل بِكر تستعير القداسة من المعجم القرآني ويصبها الشاعر بعد مزجها بعاطفته الجياشة في دنان المعاني التي تتفصّد حبّاتٍ من فضة الوجد على جبين المعشوقة، فيتوهج بدرٌ بين عينيها يُصيّر ليل القصيدة نهارا تخاصمه الغيوم. (بينَ عينيكِ، كرمةٌ من بلادي، تغلبُ البحرَ، والنوى والنخيلا).

 

في هذه القصيدة يمسك الشاعر سمير القضاة بأزمة التراث، ويسوق قوافل العشق إلى مرابع مسقط، ويستحضر أو يحضِّر روح امريء القيس من عالم البرزخ، ويولّد أسطورة حداثوية تخاصم التاريخ وتكون ابنة بارة للقرن الحادي والعشرين وتتصالح مع العالم وتُنافي الصورة السلبية لقوم صالح والتسعة الأشرار الذين بعثوا أشقاهم فعقر الناقة تحت طود التمرد ونحر الفضيلة على مذبح الشيطان. (يا امرئَ القيسِ، قد عقرتُ المطايا، تحتَ أقدامِها، لأشفي الغليلا).

 

وعلى قماشة هذه اللوحة الشعرية الصغيرة المساحة تتولد من صدر الشاعر دفقات من التفاعيل الثرة المكتنزة بالحنين، والتي تنز لهفة تواقة للمحبوب،  وتتنوع جملها الموسيقية ما بين صيحات تتعالى تشدها ألف الإطلاق في القافية على قوس قزحي مغموس في ألوان من الفرحة تتقطر من أسنتها مهرجانات من الألوان الوجدانية وتتوزع موجات تترى من الموسيقى لتشكل في كل مقطع بِساطَ ريح يحمل سنابيد من العشاق، وينزلهم على شاطيء الخليل الفراهيدي، ويهبط بهم واحات من الفرح، ويستدعي من ذاكرة النغم فاصلة تتقافز من مقطع لآخر على تراتيل سورة (المزمل)، وتنقلنا إلى عوالم من التصالح مع الذات والعالم عبر رائعة إيليا أبي ماضي "أيهذا الشاكي وما بك داء" (كلُّ يومٍ يمرُّ، دونَ يديها، سوفَ يُلقي عليَّ، قولاً ثقيلا).

 

يتكيء الشاعر "القضاة" عبر هذا القصيدة على فكرة البساطة،  وإن كان يوظف لغة شعرية بكر في ظاهرها العادي والاعتيادي وفي باطنها رصانة وملكية لم تمسسها الصحافة بسوء،  ولم تستهلكها قنوات التواصل الإلكتروني والورقي،  وتتولد منها شحنات عالية من الطاقة العاطفية تنشطر جزيئات وتتناثر على كامل مساحة النص في صورة متتالية موسيقية تعزفها آلة واحدة في كونشرتو للعشق. (وغليلُ الهوى، لقاءٌ وشوقٌ وعهودٌ، لا تعرفُ التبديلا).

 

أما عهدي بالشاعر سمير القضاة فإننا لم نلتق تماما، إلا عبر مصافحة عابرة بين صفوف النادي الثقافي وكان ليلتها بصحبة أسرته، ولم نجلس بتاتا على طاولة للنقاش التي استبدلناها لاحقا بحوار ثقافي على صفحة الواتس آب نشرته جريدة الرؤية العام المنصرم. وهذا الحوار. (حلُماً كانَ، أو أقلَّ قليلا، بعضَ زيتٍ، وأشعلَ القنديلا).

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ملهمات

ملهمات
حبايبنا
منى عبد الرحيم
حسن الجزولي
----------------------------------------
عندما انفتح ستار المسرح على مصراعيه، أطلت لنا الدرامية القديرة منى عبد الرحيم في مقدمة خشبة المسرح، بينما كانت البلابل في خلفية المسرح، يترنمن بأغنية " حبايبنا" من كلمات الشاعر التيجاني حاج موسى وألحان الموسيقار بشير عباس الذي فاجأ الشاعر حين عودته لتوه من زيارة مدينة مريدي بالجنوب بأنه استطاع وهو هناك الانفعال بنص القصيدة ليضع لها لحنا مناسبا، وقد أحيل اللحن فيما بعد إلى البلابل اللاتي ادينه كأغنية مكتملة جاذبة لاذن المعجبين بهن في أوساط المستمعين . ويكاد هذا العمل أن يكتب ويلحن ويقدم كاغنية مكتملة خلال ١٠ ايام فقط، كما توضح لنا الدرامية الصديقة منى عبد الرحيم .
وكنا قد بذلنا جهدا في تجميع عناصر بداية قصة هذه الأغنية، عند هيام إحدى الشخصيات الفنية المرموقة بالممثلة الواعدة وقتها منى عبد الرحيم وهي تخطو في أول عتبات مسيرتها الدرامية، وذلك عندما التقاها ضمن أول دفعة دارسية بمعهد الموسيقى والمسرح وقتها عام ١٩٦٩.
الدرامية منى عبد الرحيم قدمت عدة أعمال مسرحية، وكانت بداياتها عندما اختارها المخرج عوض محمد عوض مع عمالقة مسرحيين كعوض صديق وعبد الهادي الصديق في أول عمل درامي لها وهي مسرحية " الزوبعة" وفيما بعد اشركها في المسرحية الشهيرة " مدير ليوم واحد" مع عبد الهادي الصديق والتي كتبها السر قدور.
وضمن اهتمامات ملهمتنا منى أنها كاتبة صحفية تعاونت مع عدة صحف ومجلات، وتقول انها كونت ارشيفا ضخما جمع كل مقالاتها وكتاباتها، وتتأسف أنه ضاع عنها مع السرقة والنهب الذي تم لمنزلهم بحي الركابية بام درمان خلال هذا الحرب اللعينة، وهي لم تأسف لكل ما ضاع من أثاث ومتاع وممتلكات تعرضت للنهب، بمثل ما تأسفت لضياع ذاك الارشيف.
و عودة لقصة الأغنية فقد حدث وأن دب خلاف تسبب فيه المحب دون قصد أدى لجفوة من جانب المحبوبة، ما قاد إلى قطيعة افترقا بعدها وسار كل في طريقه، ولكن جرح الفراق ظل غائرا في قلب المحب، لفترة طالت.
وبحكم علاقة الشاعر تيجاني حاج موسى بكليهما والصداقة التي ربطته بهما، فقد حاول اصلاح ذات البين ولكنه فشل تماما، وقد انطبعت التجربة الفاشلة بين صديقيه عميقا داخل إحساسه المرهف كشاعر، فكتب قصيدة حبايبنا من وحي الخصام الذي وقع بين صديقه وصديقته .
وفي إفادته لي حول قصة القصيدة، إبان لي الصديق تيجاني بأن بعض المواقف الحياتية تجبر الشاعر احيانا على تبن مشاعر الآخر كصديق وتدفعه للتعبير عنها شعرا. وهكذا ولدت قصيدة "حبايبنا" لتصير اغنية ذائعة الصيت .
تقول منى أن الشاعر التيجاني كان قريبا منها وقد ربطت بينهما علاقة اخوية وهو بمثابة صديق خلال حياتها، درجة أن " عيالها" كانوا يعتقدون أنه شقيقها أما وابا، وتشير إلى أنها هي من عرفت زوجها الموسيقار الراحل محمد سراج الدين بالشاعر التيجاني حيث كونوا مع بعض الأصدقاء شلة ربطتهم علاقات حميمة وراسخة أنتجت اغنية " والله ايام يا زمان" التي كتبها تيجاني من وحي ذكريات ورحلات شهيرة قامت بها الشلة إلى نيالا وجبل مرة ومناطق أخرى وغناها الفنان الراحل مصطفى سيداحمد الذي زاملهم في تلك الرحلات.د
وتقول منى إن زوجها الذي ارتبطت به فيما بعد كان يعلم بالعلاقة العاطفية التي أنتجت اغنية حبايبنا بحكم علاقته الوطيدة بينها وبين الحبيب السابق.
الجدير بالذكر أن هناك عدة أغنيات عاطفية أخرى شهيرة كتبت فيها كملهمة لتلك الاغنيات، ومع أنها قد سمتها لنا ولكنها طلبت الا تتم الإشارة لها ضمن هذا التوثيق، مشيرة إلى أن أنجالها يعلمون بتفاصيل تلك الأغنيات العاطفية.
علما أنها أنجبت من زوجها الراحل محمد سراج الدين بتاتا وبنين، وقد حمل جلهم جينات ابداع الأسرة، فإلى جانب كل من " رحيق الكبرى كطبيبة بيطرية والمتخصصة في مجال سباقات الخيول وقدرتها على التحمل نجد رامز المتخصص في إدارة الأعمال إلى جانب تركيزه على الجانب الموسيقي ثم وضاح مهندس الاتصالات ومغني الراب والتأليف الموسيقي واخيرا رؤى خريجة علوم الكمبيوتر والعاملة في مجال التصميم "، مما يشير إلى أن ملهمتنا منى عبد الرحيم تنتمي بأنجالها لأسرة مبدعة، حيث شقيقها هو الجيتاريست المعروف شاكر عبد الرحيم ثم السينمائي الموهوب صلاح عبد الرحيم،
تختتم لنا منى افاداتها حول شخصيتها كملهمة بأن كل ذلك جرى فترة الشباب، وذهب كل لحال سبيله، أسسوا الاسر والعوائل وانجبوا الصبيان والصبايا وقد صاروا رجالا ونساء، وقد كان كل ذلك بمثابة ماضي جميل، ولكل ماضيه.  

مقالات مشابهة

  • نتنياهو يفقد أعصابه في المحكمة.. ويصرخ: جعلوا حياتي بائسة
  • نتنياهو يفقد أعصابه ويصرخ في وجه القضاة أثناء محاكمته
  • نتنياهو يصرخ في وجه القضاة خلال جلسة محاكمته الـ 17
  • ملهمات
  • هل يستفز محمد رمضان الجمهور؟.. أحمد التهامي يوضح
  • خالد سرحان يرد على اتهام مسلسل المداح بالترويج للسحر
  • دعوة من رابطة قدامى القضاة إلى جميع قضاة لبنان.. هذا ما جاء فيها
  • وزير العدل يهاجم نادي قضاة المغرب رافضا "تدخل القضاة في التشريع"
  • البعثة الأممية: القوي أكد لـ”تيته” استعداد القضاة لدعم الانتخابات
  • أحمد الفيشاوي: جربت كل أنواع المخدرات بمحض إرادتي