لجريدة عمان:
2024-12-18@20:50:37 GMT

الفلسفة و«سمارت فون»

تاريخ النشر: 30th, January 2024 GMT

الفلسفة و«سمارت فون»

مرّ زمن طويل على هذا المشهد الذي حدث في منطقة نائية من مناطق اليونان القديمة. يومها، كانت السماء تمطر بغزارة. ومع ذلك، وجد عدد كبير من الغرباء، الجرأة لقطع مسافة طويلة، سيرًا على الأقدام؛ كلّ ذلك لكي يحظوا بمقابلة «الفيلسوف». كانوا يأملون في لقاء عظيم، كما في مواجهة مخيفة؛ وكيف لا؟ فالسمعة التي كان يتمتع بها هيراقليطس، على أنه الرجل «الحكيم» ولا أحد سواه، تغطي جميع أنحاء العالم اليوناني.

بيد أن خيبة أملهم، كانت كبيرة ولا توصف، حين رأوا الفيلسوف متحصنا بمطبخه، حيث تلفه نيران الموقد من أجل التدفئة. هذا ما رواه أرسطو عنه، ومن ثم ديكارت من بعده. جاءت خيبة الأمل، بالطبع، من المكان الذي استقبلوا فيه، إذ كان غاية في التواضع، وهو يتناقض كليّا، مع صورة الفيلسوف، بكون الفلسفة، ليست سوى ممارسة نبيلة للروح.

يمكن أن تجعلك هذه السمعة التي اكتسبتها الفلسفة تبتسم، عند قراءة هذه الحكاية التي وصلت إلينا من أعماق العصور القديمة. لكن معناها لم يفقد أهميته وراهنيته. في واقع الأمر، في مواجهة خيبة أمل ضيوفه، الذين أتوا من بعيد، أخبرهم هيراقليطس، لتهدئتهم، أن « الآلهة موجودة هنا أيضًا»، أي حتى في هذا المكان التافه المخصص لاحتياجات الجسم (الطعام والدفء)، الذي لا يليق بالفيلسوف.

لم يكن ما قاله هيراقليطس مجرد تنازل بسيط، أو استراحة، في نشاط الفيلسوف، بل هي لحظة تملك حقًا بُعدًا فلسفيا كاملا. لننتبه إلى كلمة «أيضًا» التي تفوه بها: الآلهة ليست في المطبخ فقط، بالطبع، ولكنها موجودة هناك أيضًا. في مفرداتنا المعاصرة، يمكننا من دون صعوبة كبيرة تبديل كلمة «آلهة» بعبارة «مجال يستحق الاهتمام بالفلسفة».

بمعنى ما، منذ الأُسس الأولى لهذه الممارسة التي نسميها الفلسفة، كان العادي موجودًا وحاضرا. يجب على الفيلسوف أن يكون متيقظا إلى ما يحيط به، وما يحيط به يشكل حياته اليومية. نحن بعيدون كل البعد عن صورة الرجل الحكيم الذي لا يحلم إلا بأنقى المفاهيم، بالثابت في سماء طاهرة. بل على العكس من ذلك، لا شيء يبدو أكثر انسجاما مع مهمة الفلسفة من الاهتمام بالعالم الحقيقي، الذي في متناول اليد، والذي يشكل طريقتنا في الوجود في العالم كما في وجودنا مع الآخرين. وفي هذا الصدد، يمكننا أن نزعم أن ظهور الهواتف المحمولة، التي أصبحت، من خلال الرقائق وشكل «سمارت فون» المصغر – أي الهواتف الذكية – تشكل شيئا شائعا إلى حدّ رهيب، لذلك هو، بهذا المعنى، يستحق الاهتمام الفلسفي.

فكما لاحظ هيغل -ولم يكن مخطئا في ذلك- «إن الفلسفة هي ابنة عصرها»، لذا علينا أن نعترف أن الفلسفة اتخذت المنعطف الرقمي بشكل مثالي، عندما نلاحظ تطور بوابات المعرفة، والمجلات عبر الإنترنت، والأرشيفات الإلكترونية، وحتى تطبيقات الهواتف الذكية، بما أن الغالبية منكم – ثمة يقين في ذلك – تقرأون هذه السطور، في هذه اللحظة بالذات، عبر موقع الصحيفة على الشبكة.

بهذا المعنى، يمكننا ملاحظة التقارب بين الدعم وموضوع الدراسة. فمن ناحية، لا يمكن لفلسفة المألوف أن تتجاهل استخدامًا أصبح يوميًا مثل الهاتف الخلوي. ومن ناحية أخرى، نجد أن الفلسفة (والثقافة بشكل عام) استثمرت هذا الدعم. يوضح لنا هذا التطور كيف ستبقى الفلسفة ممارسة ترافقنا يوميًا.

إنه استخدام عادي بالتأكيد، ولكنه ليس تافهًا، مثلما يصور؛ لأن الهاتف الذكي مليء بمعنى الفلسفة. لا يعني ذلك أننا نريد أن نتهمها بكل الشرور، لكن من الواضح أنها من خلال مكانتها المركزية في حياتنا، تعمل كوسيط بيننا وبين المعلومات. ومن المفارقات أنه كلما أصبح الكائن المادي أرق، أصبح الكائن الرمزي أكثر كثافة، ليصبح الناقل المفضل للمعلومات؛ لأنه خفيف، جوال، قابل للتخصيص، يرافقنا في كل لحظة. من الصباح مع وظيفة المنبه، إلى المساء. إنه المفكرة أيضا، والموسيقى، والمعلومات، ورسائل البريد الإلكتروني، والعلاقات الاجتماعية... الوظائف التي تؤديها هواتفنا متعددة، وتتدخل في إيقاعاتنا واتصالاتنا وتجاربنا العاطفية.

وبالتالي، فإن هذه الأشياء التي من المفترض أن تجعل حياتنا أسهل يمكن أن تسبب لنا العُصاب أيضا، كما يتضح من التأملات حول مفهوم الــ«نو موبايل فوبيا» (no mobile phobia، لا يوجد رهاب المحمول) الذي يميل إلى الانتشار. في الواقع، يبدو أن إمكانية الوصول إليك باستمرار، والتواصل معك، وتلقي التنبيهات ورسائل البريد الإلكتروني والإشعارات تخلق الاعتماد من خلال إفراز مادة الدوبامين (كما يجد العديد من العلماء). وبهذه الطريقة، ثمة إدمان حقيقي جدًا للهواتف الذكية التي ليس لديها ما تحسد عليه من أشكال الإدمان الأخرى.

يبدو مثيرا للاهتمام أن نلاحظ هذه العلاقة المميزة التي لدينا مع هذا الشيء. لقد أصبح تقريبا امتدادا لنا. فقط تقادم التقنيات، يجعل اندماجها المباشر في جسم الإنسان أمرًا غير محتمل، الأمر الذي من شأنه أن يجعلنا «سايبورج» حقيقيين: الحلم القديم الذي يعتز به ما بعد الإنسانين.

إذا أثبتت ممارسة الفلسفة أهميتها في فهم استخدامنا العادي، فذلك أيضًا لأن العادي ليس نقطة بداية في حدّ ذاته. إنه واضح دائمًا، لأن العادي، بحكم التعريف، هو ما هو بديهي. وبالتالي فإن مهمة الفلسفة هي تفسير هذه البنية، وطريقة عملها، خارج حجاب الأدلة.

لذا فإن الأمر يتعلق بألا نترك الهاتف الذكي يعمي أنفسنا، مع المخاطرة باتباع مثال يوناني آخر، طاليس، الذي سقط في بئر بينما كان مستغرقًا في أفكاره الأكثر تجريدًا. إن الإحراج والجهل بالعالم أصبحا أسطوريين من خلال ضحك الخادم التراقي، والذي أصبح منذ ذلك الحين تجسيدًا للفطرة السليمة الواقعية التي افتتحت الفصل الأول بين الحكمة الفلسفية والفطرة السليمة العادية. لقد كافحت الفلسفة طويلا، وتراجعت إلى كرامتها الفكرية لتحمي نفسها من هذا الضحك الخبيث الذي يستمر في الجريان كلما تحدثنا عن الفلسفة، ليوصم طابع الفلسفة الاكتفائي فيما يتعلق بالعالم.

لنحذر من أن نصبح مثل طاليس، من خلال استشارة الفلسفة على هواتفنا الذكية، بينما نحن نستمر في المشي، قد نتعرض لخطر الاصطدام بالمارة والأعمدة، فيما نكون مستغرقين بشيء ما.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

إبراهيم نجم: علينا أن نصدِّر الإسلام الصحيح الذي هو مصدر أمن واستقرار للإنسانية

قال الدكتور إبراهيم نجم، الأمين العام لدُور وهيئات الإفتاء في العالم إن هناك اتفاق بين علماء السياسة والتاريخ على أن القرن التاسع عشر هو قرن بريطانيا العظمى، كما كان هناك اتفاق أيضًا بين علماء التاريخ والسياسة على أن القرن العشرين هو قرن الولايات المتحدة، أما القرن الحادي والعشرين فهناك عدة مدارس تصنِّفه، حيث ترى مدرسة منها أن هذا القرن سيكون لأمريكا أيضًا، بينما هناك مدرسة أخرى تقول إنه للتنين الصيني، فيما ترى مدارس أخرى أن القرن الحادي والعشرين هو قرن الإسلام.

وأضاف الدكتور إبراهيم نجم خلال كلمته في ختام أعمال الجلسة الختامية من الندوة الدولية الأولى لدار الإفتاء المصرية التي انعقدت بمناسبة اليوم العالمي للإفتاء: يجب أن أشير إلى موسوعة مهمة صدرت في أوائل هذا القرن، وهي موسوعة عن الإسلام والعالم الإسلامي، وبها ما يقرب من 500 مقال عن الإسلام والمسلمين، حيث أشار إلى الفقرة الأولى من هذه الموسوعة الضخمة التي تقول إن هناك عددًا متزايدًا من العلماء والمفكرين أعلنوا أن القرن الحادي والعشرين سيكون عصر الإسلام، موضحًا أن هذا المعنى قد يكون إيجابيًّا وقد يحمل في طياته ظلالًا سلبية.

وتابع الأمين العام لدُور وهيئات الإفتاء في العالم: هذا المعنى الأخير هو ما أشارت إليه هذه الموسوعة، واصطفاها الكاتب المحرر لها مما يقرب من 500 كاتب، موضحًا أن هذه الفقرة تشير إلى كيف يرانا الآخر، قائلًا: إن الآخر يرانا مصدر قلق، فهم قلقون من الإسلام، كما يرى الآخر أنه لا يوجد إسلام واحد، بل هناك عدَّة نسخ من الإسلام، وهذا ما أكده الكاتب في مقدمة الموسوعة حول وجود العديد من التفسيرات للإسلام، مثل: الإسلام الوهابي والإسلام الشيعي والإسلام الحداثي.

كما لفت الدكتور إبراهيم نجم النظر إلى أنَّ كاتب الموسوعة أكَّد أيضًا أنَّ القرن هو قرن الإسلام، نظرًا لما يمثله الإسلام من مصدر قلق للعالم، مشيرًا إلى أن عكس القلق هو الأمن، ومن ثَمَّ على عاتقنا جميعًا -خاصة العلماء والمفتين- أن نصدِّر الإسلام الصحيح الذى هو مصدر أمن واستقرار للإنسانية جمعاء.

وفي ختام كلمته أكد الدكتور نجم أنَّ الإسلام علَّمنا التفاؤل في أحلك الظروف، وأن هناك نقطة ضوء، قائلًا: "وهنا لا أتكلم كلامًا وعظيًّا، ولكن أتكلم عن مشروع فكري يمثِّل نقطة ضوء للعالم، حتى نصدِّر للعالم أن الإسلام مصدر أمن واستقرار، ونقطة الضوء هنا هي "مصر الأزهر" إذا أردنا أن نصدِّر إسلامًا صحيحًا، ونحن نعلم أنه لا توجد نسخ أو إصدارات أخرى من الإسلام الصحيح، وهذا ما تعلَّمناه ودرسناه في الأزهر الشريف.

وأكد أن العالم كله محتاج إلى هذه البارقة، ومن ثَمَّ علينا أن نصدر هذه النسخة من الإسلام الصحيح، النسخة التي تجمع بين الفهم الدقيق للنصوص الشرعية، وفهم الواقع وإيجاد علوم الآلة لتنزيل النص الشرعي على الواقع المتغير، مشددًا على أن هذه صناعة لا نجدها إلا في الأزهر الشريف.

وأردف: لا يجب أن أتحدث عن دار الإفتاء المصرية بدون أن أتحدث عن الأزهر الشريف، كما لا يجب أن أتحدث عن الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم بدون التحدث عن دار الإفتاء المصرية، مشيرًا إلى أن اليوم يوافق السادس عشر من ديسمبر 2024، وأمس كنا قد احتفلنا بمرور 9 سنوات على إنشاء الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، واليوم دخلت الأمانة العامة عامَها العاشر، فالحمد لله على هذا الفضل والكرم.

وفي الختام، استعرض الدكتور نجم بعض إنجازات الأمانة العامة خلال السنوات الماضية، وعلى رأسها جمعها العلماء والمفتين على طاولة واحدة، باعتبارها المنصة الوحيدة التي جمعت المفتين في كيان واحد في بلد الأزهر الشريف "مصر"، مشيرًا إلى أنَّ مصر هي البلد المؤهلة لقيادة هذه القاطرة في هذا الوقت العصيب من تاريخ الأمة الإسلامية، قائلًا: "كلنا أمل في فضيلة الأستاذ الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية، في قيادة مستقبل باهر للأمانة العامة ولدار الإفتاء، وقيادة هذه القاطرة إلى بر الأمان، وأن نصدر تحت قيادته أمنًا واستقرارًا للعالم.

اقرأ أيضاًإبراهيم نجم: التعاون بين دار الإفتاء والجمعية الفلسفية المصرية «منصة حوارية غنية بالأفكار»

إبراهيم نجم: «الإفتاء المصرية» لها دَورها الريادي في نشر الفكر الوسطي ومواجهة التطرف

بإجماع الآراء.. التجديد للدكتور إبراهيم نجم أمينا عاما لدور وهيئات الإفتاء في العالم

مقالات مشابهة

  • أشرف صبحي: فخورون بالقدرات التي يمتلكها 6650 كشاف بمراكز شباب الجمهورية
  • ما الذي يجعل الإنسان سعيدا؟
  • دويّ قويّ تسبّب بحالة من الهلع... ما الذي حصل؟
  • الكونغو.. حل لغز المرض الغامض الذي قتل 143 شخصا
  • الفيلسوف كارل بوبر.. لماذا لم يفهم الناس أفكاره؟
  • ما الذي يحدث في المنطقة ؟
  • خالد نبهان.. الشهيد المبتسم الذي سلبه الاحتلال روح الروح
  • مفهوم الكرامة الإنسانية في الفلسفة والأديان
  • إبراهيم نجم: علينا أن نصدِّر الإسلام الصحيح الذي هو مصدر أمن واستقرار للإنسانية
  • الذي سيحدث للتمرد في مدني ليس مجرد هزيمة .. فلم رعب