لجريدة عمان:
2025-02-22@13:55:05 GMT

الفلسفة و«سمارت فون»

تاريخ النشر: 30th, January 2024 GMT

الفلسفة و«سمارت فون»

مرّ زمن طويل على هذا المشهد الذي حدث في منطقة نائية من مناطق اليونان القديمة. يومها، كانت السماء تمطر بغزارة. ومع ذلك، وجد عدد كبير من الغرباء، الجرأة لقطع مسافة طويلة، سيرًا على الأقدام؛ كلّ ذلك لكي يحظوا بمقابلة «الفيلسوف». كانوا يأملون في لقاء عظيم، كما في مواجهة مخيفة؛ وكيف لا؟ فالسمعة التي كان يتمتع بها هيراقليطس، على أنه الرجل «الحكيم» ولا أحد سواه، تغطي جميع أنحاء العالم اليوناني.

بيد أن خيبة أملهم، كانت كبيرة ولا توصف، حين رأوا الفيلسوف متحصنا بمطبخه، حيث تلفه نيران الموقد من أجل التدفئة. هذا ما رواه أرسطو عنه، ومن ثم ديكارت من بعده. جاءت خيبة الأمل، بالطبع، من المكان الذي استقبلوا فيه، إذ كان غاية في التواضع، وهو يتناقض كليّا، مع صورة الفيلسوف، بكون الفلسفة، ليست سوى ممارسة نبيلة للروح.

يمكن أن تجعلك هذه السمعة التي اكتسبتها الفلسفة تبتسم، عند قراءة هذه الحكاية التي وصلت إلينا من أعماق العصور القديمة. لكن معناها لم يفقد أهميته وراهنيته. في واقع الأمر، في مواجهة خيبة أمل ضيوفه، الذين أتوا من بعيد، أخبرهم هيراقليطس، لتهدئتهم، أن « الآلهة موجودة هنا أيضًا»، أي حتى في هذا المكان التافه المخصص لاحتياجات الجسم (الطعام والدفء)، الذي لا يليق بالفيلسوف.

لم يكن ما قاله هيراقليطس مجرد تنازل بسيط، أو استراحة، في نشاط الفيلسوف، بل هي لحظة تملك حقًا بُعدًا فلسفيا كاملا. لننتبه إلى كلمة «أيضًا» التي تفوه بها: الآلهة ليست في المطبخ فقط، بالطبع، ولكنها موجودة هناك أيضًا. في مفرداتنا المعاصرة، يمكننا من دون صعوبة كبيرة تبديل كلمة «آلهة» بعبارة «مجال يستحق الاهتمام بالفلسفة».

بمعنى ما، منذ الأُسس الأولى لهذه الممارسة التي نسميها الفلسفة، كان العادي موجودًا وحاضرا. يجب على الفيلسوف أن يكون متيقظا إلى ما يحيط به، وما يحيط به يشكل حياته اليومية. نحن بعيدون كل البعد عن صورة الرجل الحكيم الذي لا يحلم إلا بأنقى المفاهيم، بالثابت في سماء طاهرة. بل على العكس من ذلك، لا شيء يبدو أكثر انسجاما مع مهمة الفلسفة من الاهتمام بالعالم الحقيقي، الذي في متناول اليد، والذي يشكل طريقتنا في الوجود في العالم كما في وجودنا مع الآخرين. وفي هذا الصدد، يمكننا أن نزعم أن ظهور الهواتف المحمولة، التي أصبحت، من خلال الرقائق وشكل «سمارت فون» المصغر – أي الهواتف الذكية – تشكل شيئا شائعا إلى حدّ رهيب، لذلك هو، بهذا المعنى، يستحق الاهتمام الفلسفي.

فكما لاحظ هيغل -ولم يكن مخطئا في ذلك- «إن الفلسفة هي ابنة عصرها»، لذا علينا أن نعترف أن الفلسفة اتخذت المنعطف الرقمي بشكل مثالي، عندما نلاحظ تطور بوابات المعرفة، والمجلات عبر الإنترنت، والأرشيفات الإلكترونية، وحتى تطبيقات الهواتف الذكية، بما أن الغالبية منكم – ثمة يقين في ذلك – تقرأون هذه السطور، في هذه اللحظة بالذات، عبر موقع الصحيفة على الشبكة.

بهذا المعنى، يمكننا ملاحظة التقارب بين الدعم وموضوع الدراسة. فمن ناحية، لا يمكن لفلسفة المألوف أن تتجاهل استخدامًا أصبح يوميًا مثل الهاتف الخلوي. ومن ناحية أخرى، نجد أن الفلسفة (والثقافة بشكل عام) استثمرت هذا الدعم. يوضح لنا هذا التطور كيف ستبقى الفلسفة ممارسة ترافقنا يوميًا.

إنه استخدام عادي بالتأكيد، ولكنه ليس تافهًا، مثلما يصور؛ لأن الهاتف الذكي مليء بمعنى الفلسفة. لا يعني ذلك أننا نريد أن نتهمها بكل الشرور، لكن من الواضح أنها من خلال مكانتها المركزية في حياتنا، تعمل كوسيط بيننا وبين المعلومات. ومن المفارقات أنه كلما أصبح الكائن المادي أرق، أصبح الكائن الرمزي أكثر كثافة، ليصبح الناقل المفضل للمعلومات؛ لأنه خفيف، جوال، قابل للتخصيص، يرافقنا في كل لحظة. من الصباح مع وظيفة المنبه، إلى المساء. إنه المفكرة أيضا، والموسيقى، والمعلومات، ورسائل البريد الإلكتروني، والعلاقات الاجتماعية... الوظائف التي تؤديها هواتفنا متعددة، وتتدخل في إيقاعاتنا واتصالاتنا وتجاربنا العاطفية.

وبالتالي، فإن هذه الأشياء التي من المفترض أن تجعل حياتنا أسهل يمكن أن تسبب لنا العُصاب أيضا، كما يتضح من التأملات حول مفهوم الــ«نو موبايل فوبيا» (no mobile phobia، لا يوجد رهاب المحمول) الذي يميل إلى الانتشار. في الواقع، يبدو أن إمكانية الوصول إليك باستمرار، والتواصل معك، وتلقي التنبيهات ورسائل البريد الإلكتروني والإشعارات تخلق الاعتماد من خلال إفراز مادة الدوبامين (كما يجد العديد من العلماء). وبهذه الطريقة، ثمة إدمان حقيقي جدًا للهواتف الذكية التي ليس لديها ما تحسد عليه من أشكال الإدمان الأخرى.

يبدو مثيرا للاهتمام أن نلاحظ هذه العلاقة المميزة التي لدينا مع هذا الشيء. لقد أصبح تقريبا امتدادا لنا. فقط تقادم التقنيات، يجعل اندماجها المباشر في جسم الإنسان أمرًا غير محتمل، الأمر الذي من شأنه أن يجعلنا «سايبورج» حقيقيين: الحلم القديم الذي يعتز به ما بعد الإنسانين.

إذا أثبتت ممارسة الفلسفة أهميتها في فهم استخدامنا العادي، فذلك أيضًا لأن العادي ليس نقطة بداية في حدّ ذاته. إنه واضح دائمًا، لأن العادي، بحكم التعريف، هو ما هو بديهي. وبالتالي فإن مهمة الفلسفة هي تفسير هذه البنية، وطريقة عملها، خارج حجاب الأدلة.

لذا فإن الأمر يتعلق بألا نترك الهاتف الذكي يعمي أنفسنا، مع المخاطرة باتباع مثال يوناني آخر، طاليس، الذي سقط في بئر بينما كان مستغرقًا في أفكاره الأكثر تجريدًا. إن الإحراج والجهل بالعالم أصبحا أسطوريين من خلال ضحك الخادم التراقي، والذي أصبح منذ ذلك الحين تجسيدًا للفطرة السليمة الواقعية التي افتتحت الفصل الأول بين الحكمة الفلسفية والفطرة السليمة العادية. لقد كافحت الفلسفة طويلا، وتراجعت إلى كرامتها الفكرية لتحمي نفسها من هذا الضحك الخبيث الذي يستمر في الجريان كلما تحدثنا عن الفلسفة، ليوصم طابع الفلسفة الاكتفائي فيما يتعلق بالعالم.

لنحذر من أن نصبح مثل طاليس، من خلال استشارة الفلسفة على هواتفنا الذكية، بينما نحن نستمر في المشي، قد نتعرض لخطر الاصطدام بالمارة والأعمدة، فيما نكون مستغرقين بشيء ما.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

محمد رضا «معلم السينما» الذي أضحك الأجيال

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تحل اليوم الجمعة، ذكرى وفاة الفنان محمد رضا، الذي يعد أحد أبرز نجوم الكوميديا في تاريخ السينما والمسرح المصري، والذي استطاع أن يضفي على الشاشة روحًا فريدة تجمع بين الدعابة والإنسانية، تاركًا بصمة خالدة في قلوب الجماهير بأدواره المميزة وشخصيته المحبوبة.

بداياته متواضعة لكنها مشبعة بالحماس

في الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1921 ولد محمد رضا في بيئة بسيطة بمدينة أسيوط، حيث نما في أجواء تنضح بالثقافة الشعبية والتراث المصري، وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي واجهها في طفولته، حملته شغفه بالفن إلى السعي وراء تحقيق أحلامه، فكانت بداياته متواضعة لكنها مشبعة بالحماس والتصميم على الوصول إلى القمة.

درس محمد رضا الهندسة في البداية قبل أن يتحول إلى عالم التمثيل، فلم يكن الطريق إلى الشهرة مفروشًا بالورود، فقد بدأ مسيرته بتجارب فنية متعددة قبل أن يتجه رسميًا إلى عالم المسرح والسينما، التحاقه بالمعهد العالي للفنون المسرحية كان خطوة فاصلة، حيث تدرب وتعلم أصول الأداء المسرحي الذي مهد له الفرصة لتطوير أسلوبه الفريد، فقد استغل كل فرصة صغيرة ليثبت موهبته، ما أكسبه ثقة مخرجي الأفلام والمسارح في تلك الحقبة الذهبية للفن المصري.

فيلم 30 يوم في السجن 

انتقل محمد رضا إلى الشاشة الكبيرة في فترة ازدهار السينما المصرية، وسرعان ما أصبح رمزًا للكوميديا الراقية، فقد شارك في أكثر من 300 عمل فني، منها أفلام أصبحت من كلاسيكيات السينما مثل: «30 يوم في السجن»، الذي جمعه مع كبار نجوم عصره أمثال فريد شوقي، أبو بكر عزت، نوال أبو الفتوح، مديحة كامل، ميمي شكيب، وثلاثي أضواء المسرح سمير غانم وجورج سيدهم والضيف أحمد، والعمل من إخراج نيازي مصطفى، «حكاية بنت اسمها محمود»، «سفاح النساء»، «البحث عن فضيحة»، «رضا بوند» و«السكرية»، حيث برع في تقديم الأدوار التي جمعت بين الفكاهة والدراما، كما أبدع على خشبة المسرح في أعمال مثل «زقاق المدق» التي خلدت صورة الممثل الماهر والمرح.

اشتهر محمد رضا بأداء شخصية «المعلم» في العديد من الأفلام والمسرحيات، حتى أصبحت أيقونة راسخة في ذاكرة الجمهور، فلم يكن مجرد ممثل كوميدي، بل امتلك قدرة على تقديم الكوميديا الراقية الممزوجة بالعمق الإنساني، ما جعله واحدًا من أكثر الممثلين شعبية في السينما المصرية.

لم يكن محمد رضا فقط فنانًا على الشاشة، بل كان شخصية ذات حضور كاريزمي استثنائي، فقد امتلك حسًا فكاهيًا يعتمد على السخرية الراقية والذكاء في المواقف، مما جعله محبوبًا من قبل جماهير واسعة، إضافة إلى قدرته على التفاعل مع المواقف الاجتماعية والسياسية في عصره، دون المساس بجوهر الكوميديا، أكسبته احترام وإعجاب مختلف فئات المجتمع، فكان يتميز بإيماءاته المميزة، وتوقيته الكوميدي الذي خلق له مكانة خاصة بين زملائه وفي قلوب محبيه.

فيلم البحث عن فضيحة 

تجاوز تقدير محمد رضا كونه مجرد ممثل، فقد أصبح رمزًا ثقافيًا يمثل روح الدعابة المصرية وقدرتها على تخطي صعوبات الحياة بابتسامة، وقد عبر الكثير من الفنانين والمثقفين عن امتنانهم لمساهماته التي فتحت آفاقًا جديدة في تقديم الفن الكوميدي بطريقة راقية وإنسانية، فكانت لمساته الفنية تعكس حالة اجتماعية واجتماعية مر عليها المجتمع المصري، مما جعل أعماله وثائق ثقافية تعبر عن روح عصرها.

على الرغم من رحيل الفنان محمد رضا في 21 فبراير عام 1995، إلا أن إرثه الفني لا يزال حيًا، فقد ترك خلفه مجموعة ضخمة من الأعمال التي تدرس في معاهد الفنون ويستشهد بها في حلقات النقاش السينمائي، لذا يعد دوره في تشكيل الوجدان الجماهيري وابتكار صيغة الكوميديا المصرية من العوامل التي أسهمت في استمرار تأثيره على الأجيال الجديدة، وتعاد عرض أعماله القديمة في قنوات التلفزيون السينمائي والمهرجانات الفنية، ما يؤكد مكانته كواحد من أعمدة الكوميديا في مصر والعالم العربي.

 

مقالات مشابهة

  • قصة المعلم الإسباني الذي وقع في حب السعودية .. فيديو
  • سرّ جديد عن اغتيال نصرالله.. من الذي خطط لذلك؟
  • محمد رضا «معلم السينما» الذي أضحك الأجيال
  • مدير غرفة التجارة الأمريكية للشرق الأوسط تشيد بالتطور الذي يشهده الاقتصاد المصري
  • الرئيس الأمريكي يؤكد أهمية الاستثمارات التي تولد عوائد مالية خلال كلمته في النسخة الثالثة لقمة الأولوية بميامي
  • المسبحي: محمد علي ياسر نفذ مئات المشروعات التي أحدثت نقلة نوعية في المهرة
  • ما نوع القنابل التي عرضتها المقاومة خلال تسليم جثث الأسرى الإسرائيليين؟
  • الدرعاني: الدعم الذي تحظى به الجامعات السعودية يُحفزها لتحقيق ريادة الفكر العلمي والاقتصاد المعرفي وصناعة الفرص الاستثمارية
  • وفاة حكومة دار عطاوة الوهمية
  • ما الذي يدور في عقل ترامب؟