(1)
هل نعيش زمنًا عبثيًا؟
تعلو الأصوات المحتجة كل يوم على أحداث الأقصى الدامية... لكن بلا جدوى من ذلك الاحتجاج. ترتفع أصوات تؤثر الشك - لمجرد الشك - في كل شيء. وهناك أصوات أخرى تجزم بالعبثية فيما يجري. هذه الأصوات ترى أن التمسك بالإيجابية والدفاع عن الأمل هو محض عبث، فترمي بإيمانها في عبثية ترى الوجود وهمًا أو تسلية، وأحيانا تراه هيمنة طاغية لكل اللامعنى.
يقول الخبر: «... واتخذ الأطفال الفلسطينيون هذه الخطوة لوجود العديد من الشهداء الذين لم يتم التعرّف عليهم، وخاصة الذين استشهدوا في المستشفى المعمداني بمدينة غزة الذي شهد مساء الثلاثاء مجزرة مروعة استشهد فيها نحو ٥٠٠ فلسطيني إثر غارة إسرائيلية بحسب حصيلة لوزارة الصحة في القطاع.»
يتمدد الشك ليُعلن قدرته على الحط من العلم والمعرفة. لكن الظروف السياسية والاجتماعية والفلسفية التي دفعت المشككين في اختراع مسرح اللامعقول والقول بعجز اللغة وخواء المعنى تختلف كثيرا عن ظروف هذا العصر، سياسيا واجتماعيا وثقافيا. لقد أدت الحربان العالميتان إلى إحداث شرخ عميق هزّ بنى الحياة، حيث أسهم العلم في اكتشاف القنبلة التي دمرت الحياة في بقاع من العالم (هيروشيما وناجازاكي) اليابانيتين، أما اليوم فإن العالم تخترقه عقول علمية كثيرة، من قيام شخص (هاكر) أو مجموعة (هاكرز) لديهم قدرة لاختراق الثغرات الأمنية في أجهزة الحاسوب وأنظمتها بغض النظر عن أهدافهم. لقد تطورت أساليب التتبع والقرصنة والتلاعب والتجسس، فغدا أصغر طفل في البيت يستطيع بواسطة امتلاك معلومات وبرامج حاسوبية منظمة أن يتخيل قدرته المجنونة على تدمير هذا العالم بضغطة «سر» سوداء على جهازه اللوحي.
لم يتغير الشعور بعبثية الحياة مع تنامي التقدم العلمي وتطور آلياته في جميع جوانب الحياة الاستهلاكية وغيرها. بالرغم من اختلاف الظروف والأسباب للحربين العالميتين ومنشأ اتجاه فلسفي وأدبي وفني في العالم عُرف باللامعقول (العبث تجاوزا)، فإن معطيات حرب الإبادة منذ مائة يوم ويزيد على غزة، تجعل المرء يعيش ذلك الشعور البائس. فالعلم، كل العلم، بأسلحته ورصاصاته وقنابل دباباته تُوجه إلى مكان واحد... عقول الخبراء والاجتماعات الطارئة، والاحتجاجات، والتضامن، والمقاطعة، والدعوات وغير أشكال التضامن توجه أنظار العالم إلى بقعة جغرافية تُقدر مساحتها حوالي ٥٦ كيلومترا مربعًا.
(2)
ما جاء أعلاه في الفقرة الأخيرة يمكن الارتياب فيه وبالتالي هدمه.
ببساطة، تغير شعور الناس في العالم كله بإحساسهم. تقدَم العلم، وتقدَم معه الارتياب في الثوابت واليقينيات والحداثات والديمقراطيات والحريات وقوانين حقوق الإنسان. استطاع الإنسان في آخر مكان على سطح الكرة الأرضية من خلال هاتفه الخلوي أن يتصل بلغات الإحساس والشعور بألم الآخرين، مع الذين يختلفون عنه إلا في وجود المعاناة وتجربة النضال لأجل الكرامة والحرية، أن يختبر قناعاته وأخلاقه ومبادئه وقيمه...
يقول الخبر: «... في موقف تاريخي غير مسبوق، قد يؤدي إلى تغيير مسار الحرب الإسرائيلية على غزة التي تدور رحاها منذ أكثر من مائة يوم، قدمت جنوب إفريقيا دعواها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إياها بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية.»
ومن ناحية أخرى، استطاع الشارع العربي وفي بقاع أخرى ضمن خطوط الطول، ودوائر العرض الوهمية في الكرة الأرضية، أن يعيد الإنسان إلى مخزون ذاكرته، ومعجم ألفاظه، وتراثه الغنائي، وأمثاله وحكم الأجداد، فيدفع إلى عتبات البيوت، وعلى كراسي المقاهي، وفي سيارات «التكاسي»، وفي حافلات النقل، وفي مهرجانات المسرح والسينما والإبداع والمنصات الافتراضية بعض كلمات هذه الأغاني، لتتصدر في يومه المتخم بأخبار النشرات وتزايد عدد الجرحى والقتلى والشهداء:
«يا رفح على خط النار، يا شعلة مجد وإصرار»
أو: «على عهدي على ديني، على أرضي تلاقيني
أنا لأهلي أنا أفديهم
أنا دمي فلسطيني»
أو: «لا تسل عن سلامته... روحه فوق راحته
بدلته همومه كفنًا من وسادته
يرقب الساعة التي بعدها هول ساعته
شاغل فكر من يراه بإطراق هامته
بين جنبيه خافق يتلظّى بغايته
من رأى فحمة الدجى أضرمت من شرارته
حملته جهنم طرفًا من رسالته
هو بالباب واقف... والردى منه خائف
فاهدئي يا عواصف خجلًا من جراءته
صامت لو تكلمَ... لفظ النار والدما
قل لمن عاب صمته خلق الحزم أبكمَ
وأخو الحزم لم تزل يده تسبق الفمَ
لا تلوموه قد رأى منهج الحق مظلما
وبلادًا أحبها... ركنها قد تهدمَ
وخصومًا ببغيهم... ضجت الأرض والسما
مر حين فكاد يقــتله اليأس إنما
هو بالباب واقف والردى منه خائف
فاهدئي يا عواصف خجلًا من جراءته»
(٣)
من مفارقات العبث والارتياب والشك، هذه الحكاية. يروي الكاتب الفرنسي (ألبير كامو) في روايته (الطاعون- ١٩٤٧) قصة رمزية غريبة الأطوار. إذ ينتشر مرض الطاعون في مدينة (وهران) الجزائرية التي نشأ الكاتب فيها وترعرع، فيجد السكان أغلبهم أنهم أمام هلاك سيؤدي إلى حتمية الهلاك، فلا مجال للاختيار، وعندئذ تصل شخصيات الرواية إلى نتيجة واحدة لا ثاني لها هي: أن مواجهة الموت هو القدر النهائي لها.
اليوم، ما يحدث في «غزة العزة»، ليس نهاية حتمية للتاريخ. هو شكل من أشكال إعلان البداية. السياسة تقول شيئا آخر، فتقدم تطمينات متناقضة. إلا أن ما يحدث في «رفح»، على خط النار، هناك خطوط أخرى: البرد والجوع والمرض والهلاك.
ثمة خطوط أخرى نراها، لكننا لا نتكلم عنها، ولا نقترب منها. لكن الواضح خلف هذه الخطوط جميعها: حكايات لم تروَ بعد.
وأخيرا...
عندما قال ألبير كامو: «إن أكثر موت يُعبر عن العبثية ويُمكن تخيله، هو الموت في حادث سيارة!» كان ألبير على حق. سيحلو لنا التندر أو التفكه والاستخفاف بكلام هذا الفيلسوف والكاتب المسرحي والروائي المعروف. قد يُستدرك بالأمثلة الشبيهة الأقرب إلى التبجح؛ فيعلق أحدهم: ماذا يعني أن يموت الإنسان في حادث دَهس سيارة أو انفجار طائرة، أو بقذيفة مدفع! لعل المشيعون لألبير كامو استدركوا بعد زمن وهم يودعون صديقهم وكاتبهم المفضّل ذي السابعة والأربعين عامًا، أن خوفه قد سبقه إلى ذلك، وأن الموت في حادثة للسير لا يُمكن أن تكون ميتة عادية!
لعلّنا إذا تأملنا كلامه بدقة، ومن زاوية غير زاويتنا، سنجده إلى حد ما كان يُعلي درجة الخوف من الخيال، ويخشى من عبث الحداثة القاتلة... من فشل العلم في تقديم الطمأنينة والسلام للإنسانية... مِن بشر رأسماليين جُدد لا يعرفون التَعاطف، ويعيشون في مدينة ميتة خالية إلا من الفئران... بشرٌ أقرب إلى الآلة، تُحركهم «ريموتات» افتراضية وغير افتراضية، بشرٌ بلا جلود ولا عظام...
فإذا استطاع ألبير أن يفهم أقصى ما تخيله خياله، فخاف منه، وتحقق له فلسفيا ووجوديا، فإن تلك المدينة المليئة بالفئران يمكن أن تشير اليوم إلى وجود إنسانية قادرة على مواجهة وعكتها، وأنها قادرة على تعديل قدرها المحتوم.
لقد فتك الوباء بالضحايا في كل المدينة، أجهز على جميع مظاهر الحياة، لكن شخصية الطبيب في الرواية وببساطة آسرة من العُقد الثقافية، والانتماءات الدينية، والمذاهب العقدية؛ حتى لا يتحول الكون والوجود إلى محض خرافة، هو القيام بما يجب عليه فعله، العمل من واقع وظيفته، إننا لسنا في حفلة عيد للعبث.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
حوار مع نيما بصيري «العلم، العلم المضاد، العلم الزائف، الحقيقة»
في هذه المحادثة، يستكشف المنظر النقدي نيما بصيري Nima Bassiri شبح «معاداة العلم» في المخيال السياسي الغربي، وفي الوقت نفسه، كيف يُنظر بشكل متزايد للمقولات الإنسانية «للنقد» و«النظرية النقدية» على أنها متواطئة مع الشكوكية العلمية، وأنها تُقدم لها الدعم الفكري، وبالتالي فهي مسؤولة ليس فقط عن تآكل الحقيقة العلمية، بل عن المبادئ الأساسية للديمقراطية الليبرالية نفسها.
وكما يُجادل بصيري، فإن ضراوة السلوك المناهض للعلم لا يُمكن علاجها من خلال آليات التربية الصحيحة وحدها؛ لأن مثل هذه السلوكيات لا تُعارض طبيعة السلطة العلمية وأنظمة الحقيقة المُحفزة للسلوك التي تستند إليها، بل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بها. إن الاستثمار الأخلاقي والسياسي الراسخ في حرمة قيمة الحقيقة قد لا يقضي فعليًّا على خطر معاداة العلم، بل يُؤججها.
نص الحوار:
أموغ ساهو (س): ماذا نعني عندما نتحدث عن السلطة العلمية؟
نيما بصيري (ج): تُعدّ طبيعة السلطة العلمية موضوعًا خلافيًّا في دراسات العلوم وتاريخها. هناك ميل للاعتقاد بأن للعلوم قدرةً على الوصول إلى الحقيقة دون أي تحريف. ولكن، ونتيجةً لهذا الوصول، يُفترض بالناس أن يتصرفوا وفقًا لهذه الحقيقة، بطريقةٍ تُعد عقلانيةً ومقصودة؛ ويُنظر إلى عدم التصرف وفقًا لذلك بعين الريبة، باعتباره تعبيرًا عن انحراف أو شذوذ سلوكي. بعبارةٍ أخرى، يبدو أن مسألة الحقيقة العلمية لا تتعلق بما تقوله ادعاءات الحقيقة المحددة، بل بكيفية تأثير بعض الخطابات العلمية على سلوكياتنا. في نهاية المطاف، لا تتعلق السلطة العلمية بما يقوله العلم، بل بما نفعله نتيجةً له: طاعتنا أو امتثالنا، وما إذا كانت بعض السلوكيات تُعد صحيحةً أم خاطئة، مثل تلقي التطعيم أو الإيمان بتغير المناخ.
ساهو: إذن، العلم ليس مجرد مجموعة من الادعاءات أو الأدوات النظرية، بل هو أشبه بممارسة ثقافية؟
بصيري: هذه الفكرة موجودة بالفعل في الدراسات العلمية، وأنا أتفق بالتأكيد على أن الطريقة التي يُحدث بها العلم آثاره في العالم ليست معرفية بحتة، بل تتعلق أيضًا بممارساتنا وإجراءاتنا وفهمنا المعياري. خلفيتي في العلوم الإنسانية وتاريخ فلسفة العلوم الإنسانية. تاريخيًّا، غالبًا ما انبثقت الأسئلة حول طبيعة العلم، أو حقيقة العلم، من العلوم الفيزيائية، حيث يكون التمييز بين الحقيقة والخطأ أوضح. أما في مجال مثل الطب النفسي، فإن مسألة ما يُعد «صحيحًا» أو «صائبًا» أو «حقيقيًّا» للمرض النفسي، على سبيل المثال، تُعدّ مسألة أكثر صعوبة. يمكننا الحديث عن الحقيقة والزيف فيما يتعلق بقضية تتعلق بالعالم المادي، ولكن عند الانتقال إلى العلوم الإنسانية، ندخل مجالًا أكثر تعقيدًا؛ وهنا، يبدو من الأكثر إثارة للاهتمام التفكير في آثار المعرفة العلمية علينا.
ساهو: يُشدد هذا النهج على الصلة الوثيقة بين نوعين من السلطة التي يدّعيها العلم لنفسه:
- سلطة معرفية من النوع الذي يدّعي أن العلم هو الطريق إلى تكوين معتقدات صحيحة؛
- وشكل من أشكال السلطة الأخلاقية، أو ربما العملية. إحدى طرق فهم موقفك هي القول إن المفهوم المعاصر للسلطة العلمية يدّعي لنفسه نوعًا من الحياد الأخلاقي الذي ينكر مكانته كممارسة؛ إذ يقول: «العلم مجرد وسيلة لتصحيح الأمور»، لكنه يتجاهل حقيقة أنه نوع من الممارسة المتأصلة سياسيًّا.
بصيري: بالتأكيد. إذا كنت تعتقد أن العلم يتمتع بإمكانية الوصول إلى الحقيقة بشكل نقي وغير مغشوش، فقد تنظر إلى بعض أشكال معارضة السلطة العلمية، مثل معارضي اللقاحات، وتعتقد أنهم يرتكبون خطأً، أو غير عقلانيين، أو حتى أغبياء. عندها ستجد صعوبة في فهم هذا السلوك كتعبير مفهوم (حتى وإن كان غير سار) عن المنطق الكامن وراء نظامنا الاجتماعي الحالي. في الولايات المتحدة، على مدى السنوات الخمسين الماضية، أصبح الوصول إلى المعرفة العلمية يتم بشكل متزايد من خلال السوق؛ فالوصول إلى العلوم الطبية والتكنولوجية، على سبيل المثال، يتم شراؤه، وبالتالي يتم تسويقه وتسليعه بشكل كبير. بمجرد إدراكك لهذا، تبدأ في رؤية أن بعض التعبيرات المناهضة للعلم في الواقع تحاكي تسويق العلم؛ يقول الناس «لا» للعلم بنفس الطريقة التي قد يقولون بها «لا» لمنتج معين. لذا، فإن إحدى الطرق التي يمكننا من خلالها فهم هذا السلوك هي كنوع من التفكير الاقتصادي. حيث تبدأ في رؤية التشابه بين هذين الشكلين من السلوك فقط عندما تدمج السلطة العلمية في الممارسات اليومية، بدلًا من اعتبارها شكلًا من أشكال الحقيقة المتعالية التي يمكن من خلالها الحكم على الشخص بأنه إما صحيح أو خاطئ.
ساهو: قد يفسر فلاسفة العلم الذين يتبنون نهجًا واقعيًّا كلامك على أنه ادعاءات اجتماعية تُذيب الحقيقة في شيء عملي، لكن هذا يُفسر كلامك بطريقة عقلانية مُفرطة. في الواقع، أنت لا تُشارك في نقاشات الواقعية/ المناهضة للواقعية إطلاقًا. بل أعتقد أنك تقول إن مشكلة الفكرة السائدة عن الحقيقة العلمية تكمن في أنها تمنعنا من فهم روابطها؛ ليس لأنها تُختزل إلى نوع من آليات السوق أو ما شابه، بل إن هناك شيئًا ما في السلطة العلمية المعاصرة يُخفي هذا الواقع الاجتماعي الذي نحاول الوصول إليه.
بصيري: نعم، وهذا الإخفاء يُؤدي إلى مشاكل مُتعددة. كيف، على سبيل المثال، نتعامل مع مشكلة انعدام الثقة العلمية؟ يميل الكثير من الباحثين الحاليين إلى اعتبار انعدام الثقة العلمية مُعضلة يجب حلها إما من خلال التعاليم الصحيحة أو من خلال نوع من التنظيم التأديبي، والذي يفترض أن من لا يثقون بالعلم إما جاهلون علميًّا أو مُخطئون يجب مراقبة سلوكياتهم. لست متأكدًا من أن هذا التوجه هو الصحيح، لأنه يفترض أن من يثقون بالعلم يفعلون ذلك لأسباب منطقية. مع ذلك، أود أن أقترح أن قدرًا كبيرًا من الثقة العلمية والالتزام بها هو في حد ذاته «غير مدروس» بمعنى أنه معتاد وروتينيّ ومألوف. أثق بالأطباء، لكنني لست متأكدًا مما إذا كان بإمكاني تقديم سبب وجيه لفعل ذلك في البداية، بخلاف أن والديّ علماني الثقة بالأطباء، وهي ممارسة متأصلة اجتماعيًّا. حيث نفقد الكثير من التفاصيل التحليلية إذا أغفلنا هذه السمة المهمة لكيفية تأثير العلم علينا.
ساهو: أنت لا تدّعي أنه لا توجد قصة تبريرية تُروى عن المعرفة العلمية، بل إن هذه هي الطريقة التي تعمل بها الممارسة العلمية.
بصيري: هذا صحيح؛ هذا هو نفس التمييز الذي يُجريه شخص مثل بول فايرابند. لقد اتُّهم باستمرار بمعاداة العلم، لكنه لم يكن كذلك. كان يحاول التمييز بين
1) معنى إنتاج المعرفة العلمية؛
هناك افتراض بأن شيئًا مثل الحقيقة العلمية هو مفهوم ديمقراطي بطبيعته، والعلاقة بين الديمقراطية والحقيقة راسخة في العصر الحديث. ولكن هناك مفارقة هنا يُشير إليها فايرابند وآخرون: إن افتراض الطبيعة الديمقراطية للحقيقة يقوم على فكرة أن الحقيقة عالمية ويمكن للجميع الوصول إليها. ومع ذلك، لا يتمتع الجميع بنفس شكل الوصول إلى الحقيقة العلمية، حيث إن بعض الناس فقط هم من يستطيعون إنتاجها والتحدث عنها بطريقة سلطوية. لذا، فإن الحقيقة في الواقع لها بنية هرمية محدودة للغاية؛ إنها تفترض الديمقراطية ولكنها ليست ديمقراطية، حيث إن فكرة تصويتنا جميعًا على مبدأ علمي تتعارض جذريًّا مع الطريقة التي يعمل بها العلم. من ناحية أخرى، أدرك فايرابند في الواقع، المخاطر المترتبة على المقاومة التافهة للطب على سبيل المثال. لقد أقر، بعد كل شيء، بأهمية أن تكون لدينا أشياء مثل اللقاحات؛ فقد مات ملايين الأشخاص بسبب جائحة، وملايين الوفيات التي لا معنى لها. ولكنك لن تغير آراء أولئك الذين يعارضون اللقاحات، مع ذلك، بإخبارهم أنهم أغبياء أو غير أخلاقيين أو تهديدهم بالغرامات أو إجراءات الشرطة. يجادل فايرابند بأنه لا يمكننا إلا أن نأمل في مواجهة معارضة العلاج الطبي إذا فهمنا أنه ليس العلم في حد ذاته هو ما يعارضه دعاة مكافحة اللقاحات ولكن التسلسل الهرمي الضمني للعلم الذي يدعم تلك الادعاءات العلمية. نعم، يبدو أن معارضي التطعيم يعارضون مزايا العلم، ولكن هذا يرجع فقط إلى أن الصلاحية العلمية يتم فرضها من خلال تسلسل هرمي غير ديمقراطي، وفقًا لفايرابند.
ساهو: إذن، بدلًا من فهم الخطاب العلمي كمجموعة من القضايا التي تُقدم ادعاءات معرفية بحتة، يُفضل فهمه كخطاب حوكمة.
بصيري: نعم. يمكن النظر إلى الأمر بطريقة أخرى على أنه يُروج لادعاءات الحقيقة وفقًا لما يُمكن تسميته بالنموذج القانوني. وهذا منطقي بالطبع، إذ يُعدّ هذا أحد الأساليب العملية التي تُستخدم بها سلطة الدولة. وبعبارة أكثر تفصيلًا، فإن «الخروج» عن الحقيقة لا يعني فقط أن يكون المرء مخطئًا، بل أن يكون نوعًا مُخالفًا وقع في حالة خاطئة ويجب معاقبته إلى حد ما. أعتقد أن هذه هي الطريقة التي تعمل بها السلطة العلمية، ولأنها تعمل بهذه الطريقة -بطريقة قانونية، كهراوة تُعاقب المُخالفين- أعتقد أنها تضمن تقريبًا درجة معينة من المقاومة؛ ليس بالضرورة مقاومة للعلم بحد ذاته، بل للطبيعة شبه القانونية للسلطة التي تستخدم هذا العلم.
ساهو: هل تعتقد أن معاداة العلم لها نفس الطابع القانوني؟
بصيري: ربما يكون أفضل سبيل للتفكير في هذا هو من خلال المفهوم الفلسفي الفرنسي «الإبستيم»episteme»، الذي قدمه ميشيل فوكو على نحوٍ شهير. من المثير للاهتمام أنه عندما تُحدد الإبستيم الطريق الصحيح للصدق في لحظة تاريخية معينة، فإنها تُحدد أيضًا الطريق الصحيح للكذب. أي شيء لا يندرج ضمن هذه الإبستيم (نمط المعرفة) ليس صحيحًا ولا خاطئًا، إنه مجرد هراء. لقد بدأتُ أفكر في معاداة العلم على أنها الطريق الصحيح للخطأ في التمسك بالعلم - الطريق الصحيح للعصيان. وبالطريق الصحيح، أعني الطريق الأكثر وضوحًا لنا؛ ويمكننا قياس مدى وضوح المواقف المناهضة للعلم من خلال الغضب الذي تثيره والشعور بالخطورة التي تثيرها. أعتقد أن الالتزام والمقاومة العلمية يشكلان جزءًا لا يتجزأ من نفس مفهوم الحوكمة العلمية، ويرتبطان وفقًا لقرب عميق أو بالأحرى «تناسق» (باستخدام المصطلح الذي روج له باحثا الدراسات العلمية ديفيد بلور وباري بارنز).
ساهو: يؤدي مفهوم الثقة دورًا مهمًّا في قصتك. قد يعتقد المرء، على سبيل المثال، أن خطأ المشككين في اللقاحات هو أنهم يثقون بالأشخاص الخطأ. هذا المفهوم للثقة مشحون أخلاقيًّا للغاية؛ فمن المفترض أن يكون لمن تثق به تداعيات عميقة على شخصيتك وعلى كيفية لومك.
بصيري: نعم، مع أن ما أقترحه هو أن الفرق بين ثقة أتباع العلم وثقة منكريه ليس في شكل الثقة، بل في مضمونها فقط. إذن، هناك ثقة في كلتا الحالتين. تعتمد الأعمال الحالية حول مفهوم الثقة، والتي كُتبت استجابةً لتنامي الحركات المناهضة للعلم في السنوات العشر الماضية، بشكل كبير على تفسير عقلاني للثقة كشكل من أشكال السلوك. ومع ذلك، يُلفت انتباهي أن المبررات التي نميل إلى تطويرها بشأن من نثق به هي في الغالب بأثر رجعي؛ فنحن نُبرر سلوكنا بعد وقوعه. ليس من باب المنطق أن يثق أحدهم بموقع يوتيوب أكثر من طبيب، بل إنهم يثقون به لأسباب خاصة جدًا، أو حتى تعسفية أو متقلبة، ثم يُبررون هذه الثقة فيما بعد. بالنسبة للمجتمعات التي تعرضت للعنف المتقاطع في الممارسة الطبية والحوكمة -المجتمعات السوداء، والمجتمعات الأصلية، والمهاجرون- فإن عدم ثقتهم بالدولة منطقي للغاية. نغفل الكثير عندما نفكر في الثقة من منظور معرفي بحت؛ في الواقع، تُفهم العديد من هذه المقولات التي نعتبرها معرفية على أفضل وجه على أنها تعبيرات أخلاقية وإدارية وعاطفية عن السلوك، لا تعبيرات منطقية.
ساهو: يبدو مفهوم الثقة هذا مشابهًا لفكرة الموافقة في تقاليد العقد الاجتماعي، حيث يُعد الشخص ملتزمًا بنوع مميز من الالتزام عندما يخضع لسلطة الحاكم. وبذلك، يصبح عضوًا في نظام سياسي ذي صلة، وبالتالي يخضع لمجموعة من القوانين، ويصبح شخصًا قانونيًّا. أعتقد أن هذا التشابه ليس عرضيًّا، وأنك تعتبر السلطة العلمية بمثابة عضوية في مجتمع علمي، أي نوعًا من النظام السياسي.
بصيري: هذا صحيح. أود أن أضيف أن الموافقة ليست دائمًا تعبيرًا عقلانيًّا عن الفاعلية؛ ففي بعض النواحي، نُوضع في نطاق الموافقة، ثم نجد أنفسنا إما موافقين أو غير موافقين على الموافقة التي طُلبت منا بالفعل. على الرغم من كتابته بأسلوب مختلف، حذّر سبينوزا من أن «حكم الشخص قد يخضع لحكم شخص آخر بطرق مختلفة، بل تكاد تكون غير معقولة أحيانًا، لدرجة أنه، حتى وإن لم يكن خاضعًا لسيطرة هذا الشخص مباشرةً، فقد يكون معتمدًا عليه لدرجة أنه يُقال إنه يخضع لسلطته إلى هذا الحد». لذا، ثمة مسارٌ من سبينوزا إلى فوكو في فكرة أن هياكل السلطة والقوة تعمل باستمرار، وأن الموافقة أمرٌ قد يحدث لك، وليس شيئًا تفعله.
ساهو: أحد الفروقات بين علاقتنا بالدولة وعلاقتنا بالعلم والخطاب العلمي هو أنه في حالة الدولة، توجد على الأقل، مفردات يُمكننا من خلالها البدء في استنطاق مفهوم الشرعية. ما تُشير إليه في حالة العلم هو وجود نوع مماثل من التعلق، ولكن ليس نوعًا مماثلًا من المفردات النقدية؛ لا يُمكننا استنطاق العلم بنفس الطريقة التي يُمكننا بها استنطاق سلطة الدولة.
بصيري: نعم، هذا صحيح تمامًا. يُمكنك استنطاق العلم، لكنك تُخاطر بأن تُوصف بمُناصرٍ لمُعاداة العلم وغير عقلاني. هذه هي وجهة نظر فايرابند تحديدًا؛ فهو لا يقول إنه يجب علينا أن نقول «لا» للعلم، بل إن اتخاذ مثل هذا الموقف النقدي فيما يتعلق بالعلوم أمرٌ صعبٌ للغاية ومحفوفٌ بالمخاطر.
حتى مسألة التمييز بين النقد الدقيق والمدروس للعلم والمعارضة الأكثر صبيانيةً، ومعارضةً عمياءً للسلطة العلمية هي في حد ذاتها مسألةٌ محظورة؛ فالأولى تميل إلى الانهيار في الثانية. هذا تحديدًا ما نراه في مختلف الانتقادات الموجهة لمفكرين يُسمون ما بعد البنيويين، مثل جاك دريدا وفوكو، اللذين يُتهمان بالنسبية وتأجيج نيران إنكار العلم (وكلاهما وجهتا نظر خاطئتان تمامًا في مواجهة هذين المفكرين). وقد شهدنا مؤخرًا أيضًا قدرًا لا بأس به من التراجع والتعديل والإنكار في مجال الدراسات العلمية لبعض الأفكار المبكرة والجذرية في هذا المجال (مثل أعمال فايرابند، أو كتابات بلور وبارنز). لذا، حتى الانتقادات الدقيقة والمنهجية للعلم وسلطته تُعتبر محفوفة بالمخاطر، ومُبالغًا في تضخيمها، ومُهاجمة بشدة.
ساهو: عندما نفكر في نموذج العلم، وخاصةً في أمريكا والمملكة المتحدة، نجد تسلسلًا هرميًا، تترأسه العلوم الفيزيائية (وخاصةً الفيزياء). غالبًا ما لا تتمتع الموضوعات التي تُناقش في المجال العام بعمومية الفيزياء، وليست حتى نظريةً بحتة؛ بل هي تخصصات تطبيقية في السياسات العامة، والطب، وما شابه. الطب ليس تخصصًا تنبؤيًا بحتًا؛ بل هو تخصص تدخلي في جوهره. السلطة العلمية التي تُدّعى في النقاشات العامة هي سلطة فيزياء الكم، على سبيل المثال، ولكن التخصصات المعنية غالبًا ما تكون علومًا تطبيقية.
بصيري: هذه نقطة مهمة ذات أهمية بالغة في التراث الفرنسي لفلسفة العلم. يجادل جورج كانغيلهم بأن علوم الحياة تنفصل عن العلوم الفيزيائية بسبب هذا الاختلاف الجوهري بين العالم العضوي وغير العضوي. يتمتع عالم الفيزياء والعلوم الطبيعية الأخرى بقدرة رياضية، وشرعية لا وجود لها فيما يتعلق بما يمكن تسميته علوم الحياة، وفي نهاية المطاف، العلوم الإنسانية. مع أننا قد نطمح لاكتشاف قوانين ومبادئ تنطبق على سلوك البشر أو كيفية عمل الفيروسات، إلا أن هذه ليست بالضرورة الطريقة التي تبدو بها هذه القوانين وكأنها تعمل. في الواقع، تصبح هذه المجالات عرضة للتسييس. لهذا السبب، كان شخص مثل فوكو مهتمًا جدًا بالطب النفسي وعلم الجنس، على سبيل المثال؛ فهما دائمًا أكثر عرضة للاستغلال كتعبير عن المنطق الاجتماعي، بطريقة لا يمكن للفيزياء أن تكون عليها تمامًا. نقطة أخرى تجدر الإشارة إليها هنا هي أنه فيما يتعلق بمسألة الحوكمة، قد يكون ما نعرفه عن الكون المادي معرفة مفيدة، لكن ما نعتقد أننا نعرفه عن طبيعة الطبيعة البشرية يثبت صحته في تطبيقات سياسية أكثر مباشرة.
ساهو: ما نوع الإصلاحات التي تقترحها للعلم؟
بصيري: هذا سؤال صعب، ولا أستطيع الإجابة عليه بالكامل. أعتقد أن هناك جانبًا مهمًا في اقتراح فايرابند، وهو أن العلم ليس سوى شكل من أشكال الحياة، ولا ينبغي اعتباره الآلية السائدة في صنع الحقيقة. للعلم قيمٌ مهمة، على سبيل المثال، يجب أن نطور لقاحات، وأن نطور بنىً تحتية تقنية، لكن القول بأنه الشكل الوحيد للحياة، وأن كل ما لا يدخل فيه هو خطأ، لن يُنشئ المجتمع الديمقراطي والعادل الذي ننشده. يقترح فايرابند أيضًا أنه إذا أصبح العلم مجرد شكل من أشكال الحياة، فسيؤدي ذلك إلى مزيد من الامتثال العلمي. أريد أن أسأل: ماذا يعني تصور المعرفة العلمية والحقيقة منعزلتين عن ضرورات الحكم، منفصلتين عن السلطة القضائية؟ يُظهر لنا تاريخ العلم مدى زوال المفاهيم السابقة للحقيقة العلمية، والحقيقة بشكل عام. ما هي الأشكال الأخرى لصنع الحقيقة؟ بطريقة غريبة - وهذا ما يقوله فايرابند أيضًا - لا يحتاج العلم إلى الحقيقة ليعمل. الحقيقة هي مُكمّل قوة يُضاف إلى ما كان ليكون لولا ذلك مجموعة من المعارف والممارسات القابلة للتطبيق والتنفيذ. نعتقد أن الحقيقة هي ما يضمن فعالية التجربة أو إمكانية تكرارها أو صحة ادعاء المعرفة؛ نقول إن التجربة تنجح لأنها صحيحة. لكنني لا أعتقد أن الحقيقة، أو أي مبدأ واقعي، هو ما يُؤسس لجدوى التجربة أو ادعاء المعرفة. ليست التجربة هي ما تُثبّت الحقيقة، بل سلوكي تجاه التجربة أو ادعاء المعرفة هو ما تسعى الحقيقة إلى السيطرة عليه. بمعنى آخر، الحقيقة لا تحكم الواقع العلمي للعالم؛ إنها تحكم سلوكي تجاه ذلك الواقع المزعوم. يجب أن أقبل نتائج التجربة أو صحة ادعاء المعرفة لأنها صحيحة؛ هكذا تعمل الحقيقة. وهذا لا يقتصر على نطاق الحوكمة العلمية، إذ إن هذا الشعور بالحقيقة هو ما يُؤسِّس ادعاءات المعرفة السياسية، وكذلك العلمية. ولكن ما معنى أن نتخيل المعرفة والممارسات العلمية منزوعةً من هذا التعلق بالحقيقة؟ أعتقد أن هناك قلقًا من أن العلم بدون الحقيقة يتعثر؛ لكنني أتفق مع فايرابند هنا في اقتراحه بأنه ربما، بدون الحقيقة، قد يزدهر العلم بطرق لم نكن لنتخيلها بعد.
ساهو: هناك قصة أخرى قد ترويها، وهي أن السلطة العلمية تملأ فراغًا نتج عن الشك الأخلاقي في السياسة الليبرالية. فالليبرالية مشبعة بالشك في أي خطاب سياسي متين وغني بالقيم، مما يخلق فجوة في المجال العام، يملأها العلم.
بصيري: أتفق تمامًا. فالعلم يملأ جزئيًا الفراغ الناتج عن غياب أخلاقيات عامة في عالم يزداد علمانية. فعندما تتراجع الأخلاقيات العامة الدينية في الغرب العلماني، لا بد من استبدالها بأساليب أخرى للحكم على القيم الأخلاقية. وهذا موضوع أتناوله في كتابي «الجنون والمغامرةMadness and Enterprise، 2024». ما هي النماذج التي نستخدمها عادةً عند محاولة حل المعضلات الاجتماعية والأخلاقية اليوم؟ من ناحية، غالبًا ما نلجأ إلى النماذج القانونية ونفترض أن القانون بمثابة نظير للعدالة الأخلاقية - وهذا بالطبع جوهر التقليد الليبرالي، وإن كان ينطوي على إشكاليات محتملة خاصة به، والتي لخصها المنظر الثقافي فالتر بنيامين في مقالته المهمة عام ١٩٢١ «نقد العنف». ونحن نستخدم أيضًا نماذج مستمدة من العلوم الإنسانية ــ وخاصة الاقتصاد والطب النفسي ــ لنفترض أن السلوك الأخلاقي السليم هو في الوقت نفسه صحي ومفيد للمجتمع، وفقًا لبعض المعايير الاقتصادية المجردة.
ساهو: هل أنت متعاطف مع الموقف المناهض للعلموية؟
بصيري: أحاول ألا أتحدث كثيرًا عن العلموية. حتى أقوى أشكال التمسك بالعلموية ليست بالضرورة علمية. العلموية هي قول أحدهم: «أعتقد أنه يجب علينا الحصول على اللقاحات، وأعتقد أيضًا أن المنطق العلمي يجب أن يكون هو المنطق الذي نتخيل به كل شيء آخر». لكن لماذا نعتقد أن العلموية خطيرة؟ إذا كنا نعتقد أن الإفراط في التمادي العلمي مشكلة، فما الذي نريد حمايته؟ على سبيل المثال، كان الاقتصادي فريدريك هايك مناهضًا للعلموية لأنه عارض صياغة قواعد السلوك الاجتماعي بشكل مفرط في نماذج رياضية للفعل. تتطلب فكرته عن السوق الليبرالية الجديدة وجود روح لا تُوصف في الفعل البشري قادرة على إنتاج ابتكارات سوقية عفوية. هذا القرب من التفكير الليبرالي الجديد المبكر هو ما يجعلني أشك في تبني موقف مناهض للعلموية بقوة. ولكن أيضًا، أعتقد أن مسألة العلموية تغفل عن جوهر الموضوع. إذا تجاوز العلم حدوده، فإنه لا يفعل ذلك تفسيريًا، بل إداريًا - إنه تجاوزٌ للحكم. أعتقد أن هذا نوعٌ مختلفٌ من التجاوز، وربما نرغب في إعادة النظر في معنى العلموية تحديدًا.
ساهو: يبدو أن البعض، وخاصةً في الولايات المتحدة، يعتبرون معاداة العلم شكلاً من أشكال الممارسة السياسية الإيجابية، أي سياسة تحررية تتخذ موقفًا ضد العلم الكبير. هل تعتقد أن هناك أي إمكانات سياسية في الحركة المناهضة للعلم؟
بصيري: عندما نربط العلم بالحوكمة، كما حدث في الولايات المتحدة، ستكون هناك دائمًا أشكال من المقاومة. وهذا يؤكد وجهة نظر فايرابند القائلة بأنه إذا جعلت العلم شكلًا من أشكال الحياة من بين أشكال أخرى، فإنك تقلل من هيمنته على النظام السياسي، ومن المرجح أن يمتثل المزيد من الناس لأن مسألة الطاعة أو المقاومة لم تعد ذات صلة بالعلم. لا أعرف أي نوع من البرامج الإيجابية يمكن فصله عن الحركة المناهضة للعلم، ولكن مهما بلغت خطورتها، فإن السلوكيات المناهضة للعلم ليست غير عقلانية، لأن سلوكها مفهوم. كما أشرتُ سابقًا، ما أراه مثيرًا للاهتمام، وما أعتقد أن العديد من هذه الأشكال من السلوكيات المناهضة للعلم تُظهره لنا - وهي في معظمها أشكالٌ مبتذلة وطائشة وصبيانية - هو أننا لا نملك في الواقع ممارسةً ثاقبةً ودقيقةً لنقد العلم اليوم. أي شكل من أشكال المقاومة (غير المتخصصة) يُنظر إليه على أنه تجاوزٌ للحدود، وكما ذكرتُ، فقد تجنب العديد من باحثي الدراسات العلمية المواقفَ السابقة والأكثر تطرفًا في هذا المجال - وهو نوعٌ من عقلية «لقد تجاوزنا الحدود». قد يتساءل البعض الآن، ولكن لماذا نحتاج إلى نقدٍ دقيقٍ للعلم اليوم؟ ألا يُعدّ هذا موقفًا سياسيًا محفوفًا بالمخاطر؟ أجيب على ذلك بأنه إذا لم يكن هناك سبيلٌ للمقاومة، فهذه إشارةٌ إلى أن العلم ليس «حقيقةً»، بل فرضٌ مُفرط. هذا ما قصده فايرابند عندما وصف العلم بوقاحةٍ بأنه «طغيان»؛ يجب أن يُتيح كل شيءٍ إمكانيةَ المقاومة؛ لأن هذه هي السمة المميزة للديمقراطية. ليس لدينا خيار ديمقراطي لمعارضة العلم، مما يُشير إلى طبيعة العلم غير الديمقراطية. وننتهي إلى مفارقة من نوع ما: الحقيقة (العلمية) ضرورية للديمقراطية، ما دام الشخص العادي غير مسموح له أو غير قادر على معارضة الحقيقة (العلمية).
ساهو: هل يأخذ ناشرو العلوم الزائفة العلم على محمل الجد أكثر من الحركة المناهضة له؟ إنهم على الأقل يحاولون العمل ضمن تقاليد العلم.
بصيري: تكمن الصعوبة في مصطلح «العلوم الزائفة» في أنه قد يعني أشياءً كثيرة مختلفة. على سبيل المثال، يُشير كارل بوبر إلى التحليل النفسي على أنه علم زائف؛ لأنه لا يتمتع بقابلية التكذيب الصارمة التي يتمتع بها البرنامج العلمي التجريبي. ومع ذلك، يُمكن قول الشيء نفسه عن الطب بشكل عام؛ فكثير من الأبحاث الطبية، من تجارب فعالية اللقاحات إلى العلاجات النفسية التجريبية، لا تتمتع بالضرورة بهذه الصفة القابلة للتكذيب. الطب ليس دائمًا علمًا تجريبيًا قابلًا للتكذيب بدقة. في بعض الأحيان، لا يُمكن التأكد من فعالية العلاج إلا من خلال ما إذا كانت الأعراض تبدو في انحسار؛ وغالبًا ما تُحدد القرارات بأثر رجعي لطبيعة المرض بناءً على استجابة المريض لشكل من أشكال العلاج الطبي بدلاً من آخر. أحاول تجنب التصنيف المصطلحي للأشياء باعتبارها «علمًا زائفًا» أو غير ذلك وأفضل استخدام مصطلح «معاداة العلم» لأنني أريد أن أفكر في مقاومة السلطة العلمية.
ساهو: تتجلى القوة الأخلاقية للسلطة العلمية جليةً عند استخدام العلم للدفاع عن آراء عنصرية أو معادية للنساء، مثل الإشارة إلى وجود صلة علمية بين العرق والذكاء. ماذا تقول روايتك عن هذه الأنواع من الحالات؟
بصيري: في مثل هذه الحالات، يُجمع الجميع على أننا لا نتعامل مع علم، بل مجرد عنصرية متخفية في زيّ المعرفة المتخصصة (وهي ليست كذلك). لا أركز على مثل هذه الحالات، فحتى العلوم المؤسسية الجيدة والسليمة لا تزال متواطئة بعمق مع أشكال من العنصرية الهيكلية. كما نعلم، فإن معدلات وفيات النساء السود في مجال الطب الإنجابي مرتفعة بشكل مرعب. لا يوجد تفسير آخر سوى وجود أشكال ضمنية من العنصرية الهيكلية قيد التطبيق. يمكننا قول الشيء نفسه عن كل شكل من أشكال الطب تقريبًا، وخاصة الطب النفسي. الطب التقليدي، رغمًا عنه، قد يعمل بطرق مدمرة، ولهذا الغرض، أود أن أُولي هذا الأمر اهتمامًا بدلًا من النظر إلى حالات قد لا تُعتبر علمًا في المقام الأول.
علي بن سليمان الرواحي كاتب ومترجم عماني