لجريدة عمان:
2025-11-21@00:46:58 GMT

الحكاية وآفاق الذهب الأسود

تاريخ النشر: 30th, January 2024 GMT

تحدّثت سابقا عن البدايات الأولى للدخول في كتابة الرواية في الخليج العربي، وهي بداياتٌ أجمع الباحثون على أنّها محاولاتٌ أولى داخلةٌ في تجارب بدائيّة هي أقرب إلى المواعظ أو التقاط لحظات من التاريخ تُرْوى، ولم تبلغ الرواية في مراحل النشأة الأولى منزلة فنيّة مهمّة، ولذلك، عادة ما لا أتحدّث على هذه التجارب إلّا على سبيل الإشارة إلى النوى الأوَل فحسب، وإلى الانتباه العربيّ إلى ضرورة تغيير وسائط الحكاية، وبداية الخروج عن أشكال القصص القديمة القائمة أساسا على العناية الفائقة باللفظ والصياغة المراعية لمختلف صنوف الجناس والسجع والتوازن في العبارة، فالنثر العربيّ بقي موصولا بالبديع إلى أواسط القرن العشرين، وأحيانا إلى أواخر القرن العشرين في بعض بلاد الخليج العربيّ، فقد تأخّر في منطقة الخليج العربي التخلّص من صنوف الكتابة النثريّة القائمة على البديع، ولذلك فقد تواصلت كتابة المقامات واعتماد النثر الفنّي إلى حدود الثمانينيّات من القرن العشرين، فقد كان الارتباط بالعربيّة والتراث الأدبيّ أقوى بحكم إيمان سكّان أهل الخليج أنّهم الورثة الشرعيّون للجاحظ والحريري وامرئ القيس وأبي تمّام، وغيرهم من رؤوس الأدب العربيّ، وبسببٍ من ذلك شهدت مرحلة النزاع بين حديث الكتابة الأدبيّة وقديمها استدعاءً لثنائيّات، الدخيل والأصيل، الإسلام والكفر، وارتبطت الحداثة في قسم مهمّ من التصوّر المرتبط بالتراث إعادةً واستدعاءً بالخروج عن الملّة، ومخالفة الأصول القبليّة والقوميّة والدينيّة أحيانا، وهو المُحتوى الذي أحْسن إظهاره عبد القدوس الأنصاري في رواية «التوْأم»، ولقد كان لظهور النفط في منطقة الخليج أثرٌ بالغ في تنشيط حركة الرواية وتسريع بلوغها منزلة في أدبنا المُعاصِر.

كما كان للتصوّرات القبلية المشرقيّة والمغربيّة الأثر البالغ في الإعراض عن هذا النشاط الروائيّ، وسنفصّل ذلك لاحقا. لقد حمل التغيّر الاجتماعي الذي فرضه التمتّع بخيرات النفط في منطقة الخليج نوى لتغيّر ثقافيّ بدا جليّا في حركة المسرح والسينما والشعر والرواية والصحافة، فأموال النفط دفعت إلى تكثيف المؤسّسات التعليميّة والاستثمار في التعليم والثقافة، وتنشيط الصحافة والعمل على بناء سينما خاصّة، ولكنّ الأصل في كلّ ذلك، راجعٌ إلى التعليم أساسا، فالتعليم لم يُسْهم فحسب في ظهور جيل من الكتّاب مطلع على التجارب الروائيّة العربيّة والكونيّة، وعلى دراية بالتاريخ والتراث، بل ساهم في خلْق أجيالٍ قارئة، تُتابِعُ ما يُكتَبُ في الملاحق الثقافيّة من أعمالٍ أدبيّة حادثة، وتُتَابع الحداثة في الكتابة الأدبيّة، هذا الجيل القارئ له أرضيّة معرفيّة قادرة على تبيّن الممجوج من الجديد، والنافع الصالح من الغث البالي، وقد بانت ملامح هذا الجيل قراءةً وإنتاجا في حدود الثمانينيّات من القرن العشرين، وسيتمّ تشكّله وبُروزه في مطلع القرن الحادي والعشرين ليتصدّر الفنّ الخليجي مسرحا وسينما وصحافة وإذاعة منزلة من المشهد الثقافي العربيّ، ومنه تتّخذ الرواية سبيلها إلى التصدّر والدخول بشكل بطيء إلى الساحة العربيّة نقدا واعتبارا، مع عَمَلٍ دؤوب لجيل من كُتّاب الرواية الذين عملوا جاهدين على حكايةِ حكايتهم، حكاية تختلف كما بيّنت ذلك سابقا عن الحكاية العربيّة، هذه الحكاية واجهها مركز شرقيّ قويّ اجتهد في تهميشها، وردّها إلى «رواية الثراء» أو «رواية البترو دولار» أو «رواية الترف». لقد استعمل الروائي الهندي أميتاف غوش مصطلح «البترو مخيّلة» متسائلا عن علّة إعْراض الأدب الغربي عن تصوير «الاشتباك بين الرواية والنفط»، متحدّثا على أنّ من عاشوا مرحلة التحوّل النفطيّ في الخليج العربيّ من الأجانب، عربا وعجما، لم يكتبوا روايات دالّة على عُمق هذا التحوّل الاجتماعيّ، وإنّما آثروا عدم الخوض في ذلك، ومن الأسباب المهمّة التي يذكرها أنّ هؤلاء الأجانب عاشوا في مجتمعات منفصلة هُيّئت لهم، توفّر فيها ما يُشابه مجتمعاتهم، يقول: «بالنتيجة نفهم أنّ ما كُتب عن اشتباك النفط شحيحٌ في كلّ مكان، فهذا الصمت يتعدّى العربيّة والإنجليزيّة. ففي البنغالية مثلا، حيث أدب الرحلات من أبرز الأنواع الأدبيّة، تصدر كلّ عامّ عشرات من كتب الرحلات عن أمريكا وأوروبا والصين، بالإضافة إلى القصص والروايات التي يكتبها المهاجرون عن نيوجرسي وكاليفورنيا وشتّى أجزاء أوروبا، بينما لم تأت المئات المؤلّفة من متحدّثي البنغالية في مملكات النفط بأي نصّ ذي قيمة أدبيّة، أو بقيمة من أيّ نوع حتّى».

ورؤيته فيها من الصواب عينه جانب، وفيها ممّا يُجانب الصواب جوانب، فالنفط لم يكوّن في حدّ ذاته مخيّلة سرديّة، وإنّما المخيّلة السرديّة كامنة في هذه الربوع في حاجة إلى إخراجها إلى النور، وهو الأمر الذي اضطلع به جيل التسعينيّات بشكل فاعل. لقد كانت الرواية عينا راصدة مهمّة لهذا التحوّل التاريخيّ في بنية المجتمع الخليجي، عبر موسوعة فتّحت الأبواب المغلَّقة بإحكامٍ، وأبانت أنّ التخييل في هذه البيئة يحتاج عاملا محفّزا فقط، هذه الموسوعة هي «مدن الملح» التي كتبها الروائيّ المتنازَع عليه، الذي تتشكّل فيه الوحدة العربيّة، منشأً وانتسابا وتحوّلا وحياةً، وهو عبد الرحمن منيف، الكفّة المُوازنة لهيمنة نجيب محفوظ على البساط الروائيّ. لقد كتب منيف الرواية الأساس التي تؤرّخ لتمصير الأمصار، ولتغيّر بنية الإنسان، ولتحوّل المجتمع الخليجي، الرواية المُخيّلة لهذا التحوّل الجذري في بنية الإنسان أوّلا نفسيّا واجتماعيّا وفي بنية المجتمع ثانيا، وفي منزلة الدُوَل ثالثا، هي رواية «مُدن الملح»، هي الموسوعة العربيّة التي كتبها خليجيّ، يمتلك آليّات التخييل، ومفاتيح القراءة العالمة لمقبل المنطقة، فإذا كان النفط هو علّة العلل، فإنّ منيف يمتهن هذه العلّة، وقضّى قسما من حياته عاملا فيها، وتمكّن بمخيّلته الروائيّة من تفحّص التاريخ ومن استشراف المقبل. منيف هو حجر الأساس في رصد ما لم يُرصَد، وسأعتبره من النوى المؤسّسة للرواية في الخليج، انتسابا عرقيّا، وانتسابا روائيّا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القرن العشرین الخلیج العربی ة العربی ة التحو ل

إقرأ أيضاً:

حين ينكمش الإعلام… ويتضخم الفساد! ويُطلب من الأردني أن يصدق رواية بلا رواة!

حين ينكمش #الإعلام… ويتضخم #الفساد! ويُطلب من #الأردني أن يصدق #رواية بلا #رواة!

بقلم: الأستاذ الدكتور محمد تركي بني سلامة

إذا كان جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله يقلق، ولكنه لا يخشى إلا الله، فإن الأردنيين من حقهم—بل من واجبهم—أن يقلقوا. وأن لا يخافوا. فالأردن الحر الأبي لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يقبل أن تُدار شؤون دولته في العتمة، بينما يواجه أبناؤه الضباب وحدهم، ويتخبطون في ظلال روايات مبتورة، وصمت رسمي مُطبِق.

نحن اليوم أمام مشهد يوجع كل من يحمل الأردن في قلبه. وطنٌ تتكاثر فيه الأسئلة، وتتعالى فيه الهمسات، ويملأ فضاءه القلق… بينما الإعلام الذي يفترض أن يكون صوت الدولة ونافذتها إلى الحقيقة يقف مثل تلميذ خائف في الصف، يتهيّب من رفع إصبعه، ويخشى قول كلمة حق أكثر مما يخشى الفاسدين أنفسهم. إعلام مرتجف، متردد، متلعثم… إعلام يختبئ خلف البيانات الجوفاء، ويهرب من الأسئلة الحقيقية، وكأن الوطن لا يستحق رواية صادقة.

مقالات ذات صلة الروابدة في ديوان العبيدات 2025/11/19

في الأيام الماضية، اهتزّت البلاد على وقع قضية الاستثمار وما رافقها من تساؤلات. والفضيحة ليست في الأسئلة بحد ذاتها، بل في غياب الإجابات. الجميع يعرف أن الصين تستثمر في كل مكان، بل تستثمر في “تويّة أفريقيا”، وفي دول لا ماء فيها ولا كهرباء. لكنها—ويا للعجب—ابتعدت عن الاستثمار في الأردن! لماذا؟ من يجيب؟ الإعلام الرسمي غائب، وكأن القضية تحدث في كوكب آخر.

الإجابة جاءت من الناس… من إعلام المواطن، لا إعلام الوطن. مشروع العطارات كما تردد، كان سيجلب مليارات للصين، وسبعة مليارات للأردن، لكن جزءًا كبيرًا من تلك الأموال كان سيذهب لجيوب من “رتبوا الصفقة وغنائمها”. ولولا تدخل الجهات الأمنية، لكان الأردن اليوم غارقًا في كارثة مالية. ومع ذلك لم يخرج مسؤول واحد ليصارح الأردنيين.
ضاعت فرصة… وضاعت مليارات… وضاعت ثقة.

وفي السياق ذاته، تردد أن المستثمر الأردني زياد المناصير—وهو من أكبر المستثمرين وأكثرهم تأثيرًا في قطاع الطاقة—تعرض لضغوط وإشكالات في مسار أعماله. وإذا كان رجل أعمال بحجم المناصير يواجه عراقيل من النوع الذي جرى الحديث عنه، فكيف لمستثمر صغير أو متوسط؟ وكيف سيأتي مستثمر أجنبي إذا كان المستثمر الأردني نفسه لا يشعر بالأمان في وطنه؟
إنها رسالة قاسية ومؤلمة، تقول إن بيئة الاستثمار في الأردن ليست طاردة فحسب، بل مختنقة بصراعات المصالح والنفوذ.

وهنا يحضرني سرٌ رواه لي صديق قديم كان قريبًا من الملك الحسين رحمه الله، وشاهدًا على ما لا يراه عامة الناس. قال لي يومًا: “يا دكتور محمد… الفساد في الأردن أكبر مما تتخيل. حتى رئيس الوزراء—صاحب الولاية العامة—لا يستطيع مواجهته. محاولته تشبه من يريد تكنيس ملعب كرة قدم بفرشاة أسنان!”
تلك الجملة تلخص عقودًا من الألم الوطني، وتوضح أن الولاية العامة ليست سوى نص جميل في الدستور، لكنه في الواقع مُفرغ من جوهره.

ومجلس النواب يتحمل نصيبًا ثقيلًا من المسؤولية. فهو الذي يشرّع القوانين ويمتلك القدرة على الرقابة، لكنه اختار الطريق الأسهل: منح المسؤول سلطات دون مساءلة، وترك الفساد دون تجريم حقيقي. وهكذا تحولت المناصب إلى مكاسب، والمواقع العامة إلى مزارع خاصة، بينما المواطن يشاهد مسرحًا عبثيًا لا نهاية له.

ولا يكتمل الحديث عن الفساد دون الوقوف عند ملف الطاقة. هذا الملف الذي أثقل اقتصاد الأردن لعقود، وتحول إلى منصة ضخمة لشبكات مصالح متغلغلة. ملف الطاقة ليس مجرد أرقام على ورق، بل شبكة معقدة من العقود، والمصالح، والاتفاقيات الثقيلة التي توارثتها الحكومات. وما جرى في مشروع العطارات، وما واجهه المستثمر زياد المناصير، ليس إلا صورة صغيرة من لوحة كبيرة تُظهر كيف تحول هذا القطاع إلى حقل ألغام يمنع الإصلاح ويغذي الاحتكار ويُبقي الدولة رهينة لشبكات النفوذ.

إننا نعيش اليوم لحظة وطنية تتطلب المكاشفة قبل العلاج، والمصارحة قبل الإصلاح. فسمعة الأردن ليست ملكًا لحكومة أو جهة، بل هي رأس مال كل أردني شريف. واستعادة الثقة لن تتحقق بالصمت، ولا بالترقيع، بل بالمصارحة: كيف تُدار الدولة؟ من يعرقل؟ من يستفيد؟ ومن يدفع الثمن؟

أما الإعلام الرسمي، فما زال يعيش في زمن “إخفاء الخبر السيئ”، وكأن الحقائق تختفي إذا لم تُذكر. بينما الحقيقة أن وسائل التواصل الاجتماعي، بإمكانات بسيطة، تهزم إعلام الدولة بإمكاناته الضخمة، لأنها تقول ما يخشاه الإعلام الرسمي: الحقيقة.

بئس الإعلام الذي يخشى قول الحق.
وبئس الإعلام الذي يسكت حين يجب أن يصرخ.
وبئس الإعلام الذي يختبئ خلف نصف رواية، بينما الوطن يبحث عن روايته كاملة.

الأردن أكبر من الشائعات، وأكبر من الفاسدين، وأكبر من المتنفذين.
لكنه أصغر من أن يتحمل صمتًا رسميًا طويلًا كهذا.

حفظ الله الأردن،
وحفظ قائده الذي لا يخشى إلا الله،
وأعاد للدولة هيبتها…
وللإعلام جرأته…
وللمواطن ثقته بوطنه قبل كل شيء.

مقالات مشابهة

  • أسواق المال العالمية تتذبذب.. ضغط الدولار يحدّ من الذهب بينما النفط يرتفع!
  • جامعة الخليج العربي تستضيف اجتماع عمداء القبول والتسجيل بجامعات ومؤسسات التعليم العالي بدول مجلس التعاون
  • تراجع أسعار الذهب وارتفاع النفط عالميًا
  • إيران تفرج عن ناقلة النفط تالارا بعد احتجازها 5 أيام في مياه الخليج
  • نادي الأدب بقصر ثقافة طنطا يناقش رواية «الوقوف على عتبات الأمس»
  • جامعة الجزائر 2 تستضيف الروائي أمين الزاوي في ندوة فكرية
  • الذهب يرتفع مع ترقب بيانات أميركية والنفط يتراجع
  • حين ينكمش الإعلام… ويتضخم الفساد! ويُطلب من الأردني أن يصدق رواية بلا رواة!
  • ارتفاع المخزونات الأمريكية يهبط بأسعار النفط.. وصعود الذهب بالمعاملات الفورية اليوم
  • الذهب والنفط يخسران بسبب توقعات خفض الفائدة وانحسار مخاوف الإمدادات