مارك جمال الفائز بجائزة الشيخ حمد: الترجمة تأويل وخريف البطريرك مغامرة شعرية
تاريخ النشر: 30th, January 2024 GMT
نال المترجم المصري مارك جمال (المولود عام 1985) جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في دورتها الأخيرة لعام 2023. وجاء في بيان الجائزة أن مارك نال المركز الأول مكرر، في فئة الترجمة من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية، عن ترجمته لرواية "خريف البطريك" للروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز (1927-2014)، الحاصل على جائزة نوبل في الأدب في عام 1982.
وربما رأت اللجنة ليس فقط جودة الترجمة من قبل مارك، خاصة أن الرواية المعروفة تم ترجمتها سابقا من قبل محمد علي اليوسفي، بل كذلك شجاعة المترجم وصبره، إذ تعتبر هذه الرواية من أصعب روايات صاحب رواية "مئة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا".
وحول نيله لجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، التي تأسست في الدوحة في عام 2015، وتعتبر إحدى أهم الجوائز لدعم المترجمين والترجمات ودور النشر، وعمله الفائز بالجائزة، أجرت الجزيرة نت هذا الحوار مع المترجم المصري مارك جمال، وهو مترجم أدبي مصري مقيم في إسبانيا. أجرى دراسات حرة في الترجمة، وعمل مترجما لدى سفارة البرازيل في القاهرة لعدة سنوات، قبل أن يتفرَّغ لترجمة الأعمال الأدبية عن الإسبانية والبرتغالية. ترشَّح لعدد من الجوائز عن الترجمة، وسبق له نيل جائزة رفاعة الطهطاوي في فئة الشباب عن ترجمة "كهف الأفكار" لـخوسيه كارلوس سوموثا.
وبدأ مارك جمال في نشر ترجماته في عام 2016 مع رواية "سالباتييرَّا" للأرجنتيني بيدرو ميرال، و"عشرون بطاقة باريسية" للدومينيكي فرانك بايس. في حين آخر ترجماته صدرت في عام 2022، وكانت 3 ترجمات، وهي رواية "فيوليتا" للتشيلية إيزابيل الليندي، و"محاضرة في المطر" للمكسيكي خوان بيورو، و"حتى يكون إسمي أنخل غونثالث" للإسباني أنخل غونثالث بالنثيا، ليصبح في رصيده من الترجمات، حتى الآن، 21 كتابا بين الرواية والقصة والشعر والسيرة والمحاضرات.
أرفع جوائز الترجمة ماذا يعني لك الحصول على جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي؟ وكيف ترى أهمية هذه الجائزة في عمل المترجمين وحركة الترجمة؟أشعر بسعادة غامرة، وامتنان عميق، لأنني قد فزتُ بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، التي تُعَدّ من أرفع جوائز الترجمة وأرقاها، لا على مستوى اللغة العربية أو المنطقة فحسب، وإنما على الصعيد الدولي.
وما يُحسَب لجائزة الشيخ حمد أيضا، ضمن أمور كثيرة، أنها تدعم حركة الترجمة بكل أطوارها ومراحلها، بدءا بالفرد، أي المُترجِم، الذي كثيرا ما يُغفل دوره، ولا يُوفَّى حقّه، مع أنه الحلقة الأهم في تلك العملية، وصولا إلى المُؤسَّسات. من شأن جائزة مرموقة كهذه أن تثري حركة الترجمة، وتعطي المترجم دفعة عظيمة وسببا قويًا للمضي قدما والاستمرار في العطاء والإنجاز. والحقّ أن سعادتي مضاعفة، لأنني قد كُرِّمتُ عن ترجمة "خريف البطريرك" بالتحديد، علما أنه أكبر التحدِّيات التي واجهَتني على الإطلاق، والكتاب الأكثر استثنائية بين جميع ما تَرجمت حتى هذه اللحظة.
إنما الترجمة تأويل. أما ترجمة الترجمة، فتأويل التأويل. نعم، إنها أول مرة يُترجَم فيها خريف البطريرك عن اللغة الإسبانية، وأول مرة تُنشر فيها أعمال غارسيا ماركيز بصورة شرعية باللغة العربية. وفي رأيي أن "الترجمة عن اللغة الأصلية" دافع وجيه للغاية، لأنها أقدر على التقاط دقائق المعاني ونقلها بصورة أوفى وأقرب إلى روح العمل الأصلي، من دون أن تمرّ من خلال مصفاة اللغة الوسيطة.
ولقد تصادف لي في الوقت الحالي أنني أترجم عملا استثنائيّا عن تاريخ الكتاب والكتابة للإسبانية إيريني باييخو، تقول فيه إن "كل نسخة تنثر في النصّ أخطاء، وهذا أمر واقع مُثبَت. أما نسخة النسخة، فتعيد إنتاج أخطاء النسخة السابقة، وتضيف إليها أخطاء جديدة من محصلتها الخاصة في كل مرة، كانت الكتب المخطوطة تتبدَّل كلّما نُسِخَت، مثلما يجري في تلك اللعبة حيث يتناقل المشاركون قصة واحدة، يرويها كلّ إلى الآخر، حتى نتحقق أنها، إذا تواترت من فم إلى فم، انتهى بها المطاف، وقد تحوَّلَت إلى حكاية مختلفة عن الأصل".
أعتقد أن الصورة في غاية الوضوح والاكتمال، فمهما كان المترجم من البراعة والدقة والأمانة، تفرض عليه الترجمة عن اللغة الوسيطة أن يعيد إنتاج الأخطاء التي وقعت فيها الترجمة الأولى، فضلا عن الأخطاء التي تضيفها الترجمة الثانية. صحيح أن كل جهد في الترجمة محمود، وصحيح أنني أقدّر كبار المترجمين الذين سبقونا إلى تقديم روائع الأدب، ولكني لا أرى بديلا عن الترجمة عن اللغة الأصلية.
قصيدة في عزلة السلطة هل وجدت الطريقة السردية التي يكتب بها غارسيا ماركيز سهلة ومثيرة للمترجم، بغض النظر عن أنها ممتعة؟لنا أن نصف أسلوب هذه الرواية تحديدا بأشياء كثيرة، وإن لم تكُن السهولة ولا اليسر من بينها. فلطالما وُصف هذا العمل بأنه أعقد وأصعب ما كتب غارسيا ماركيز، الذي يقول في معرض حديثه عن خريف البطريرك "أحيانا ما يُجنُّ جنون المترجمين، وهم يحاولون الوقوف على مغزى عبارات لا يكاد يسمعها سائقو سيارات الأجرة في مدينة بارَّانكيَّا (الكولومبية) حتى يدركوا مغزاها ضاحكين". كما نجده، هو نفسه، يصف هذه الرواية بأنها "قصيدة في عزلة السلطة". الأمر الذي يلمسه القارئ بوضوح، مع الأخذ في الاعتبار لغة الكاتب الشعرية الدفَّاقة التي يمثِّل الحفاظُ عليها في ترجمتها العربية، من دون أن تفقد الزخم والرشاقة، تحديّا أبعد ما يكون عن السهولة.
أضف إلى ذلك أبيات الشعر التي حفل بها السرد والموسيقى اللاتينية والأساطير الشعبية والأمثال المتناثرة بين السطور، في غير إشارة صريحة واحدة من المُؤلِّف الذي يقرّ بقوله "إنني قد استعنتُ على كتابة (هذه الرواية) بالكثير من التعابير والأمثال الشعبية من كل أرجاء منطقة الكاريبي". أضف إلى ذلك الإحالات الدينية الكثيرة ومواضع التناصّ بين خريف البطريرك والكتاب المُقدَّس.. أما المتعة في هذه الحالة، فهي مُتعة مُؤجَّلة، يتذوَّقها القارئ الصبور الذي يلملم قطع الأحجية شيئا فشيئا حتى تنكشَّف الصورة المذهلة أمام عينَيْه.
بالفعل تعد رواية "خريف البطريرك" من أصعب روايات غارسيا ماركيز لغويا وسرديا وبناء، وكذلك زمنيا وجغرافيا، مبنية على مونولوغات طويلة دون فواصل، لذلك حدثنا عن التحديات التي واجهتك في ترجمتها؟لخريف البطريرك معمار فريد وأسلوب غير مسبوق، إذ تطول الفقرات الخالية من النقط والفواصل، وتتشابك المناظير السردية وتتداخل الأصوات في "مونولوج مُتعدِّد الرواة"، على حدّ قول المُؤلِّف الذي وصف بناء الرواية بأنه "بناء حلزوني يسمح بضغط الزمن وسرد قدر أكبر بكثير من الأشياء، وكأنها مضغوطة في كبسولة". لقد سمح غارسيا ماركيز لنفسه بصنوف الحرية كلها، من حيث بناء الجملة والزمن والجغرافيا والتاريخ إلى آخره، فتراه يصرِّح بقوله إن خريف البطريرك "أوفر كتبي حظا من التجريبيَّة وأكثرها أهميَّة عندي بوصفه مغامرة شعرية".
ولا ننس الأعوام الطوال التي عكف المُؤلِّف خلالها على قراءة كل سير الطغاة العسكريين في أميركا اللاتينية، إذ نجده يقول "إن تجربتي الأصعب، بصفتي كاتبا، كانت الإعداد لـخريف البطريرك، فما يقرب من 10 أعوام قرأتُ كل ما استطعت قراءته عن طغاة أميركا اللاتينية"، وذلك في سبيل البحث عن الإلهام في شخصياتهم ومعرفة كل ما يتَّصل بهم حتى يرسم الدكتاتور العسكري الذي يحمل سماتهم، ويمثّلهم على أكمل وجه.
لم يكتفِ الكاتب بتحطيم قوالب الأدب والسرد واللغة، بل إنه قد تمرَّد حتى على عوالم 100 عام من العزلة، برغم نجاحها الطاغي، وقرَّر أن يكتب رواية أعقد أسلوبا وأصعب لغة وأكثر تجريبية ونخبوية.
لقد اضطُرِرتُ إلى التفرُّغ التام عاما كاملا، أمضيتُه في الترجمة والمراجعة والقراءة والبحث والتنقيب.. حتى وصلت إلى هذه النتيجة. مضيتُ أفتّش عن أصل تلك الإحالات التي ما كان لي أن ألتقطها لولا الاستعانة بالمراجع والرسائل الأكاديمية والاستغراق في البحث وقراءة الأعمال الكاملة للمُؤلّف، وكل ما تيسّر لي الاطلاع عليه من لقاءاته وما كُتب عنه، وذلك في سبيل الوقوف على أدقّ المعاني الغامضة التي زخرَت بها الرواية.
لم أبحث فقط في القواميس والمعاجم، بل كنت أتتبَّع استخدام المُؤلِّف للكلمة الواحدة في مختلف الأعمال، مُفتّشا عن معناها في قاموسه الخاص. غير أنني تردَّدت كثيرا في اتخاذ القرار الملائم: فهل أكشف ما تعمَّد الكاتب إخفاءه، وأفصح عما توخّى كتمانه؟ أم أترك للقارئ وحده تلك المهمة العسيرة؟
لم أدرِ كيف للقارئ أن يكتشف مواطن الغموض، ويلتقط الإشارات الخفية المنتشرة بين طيات النص في غياب الأرضية الثقافية المشتركة. ومضيتُ أتساءل كيف يميِّز القارئ أغنية من كولومبيا أو أسطورة من كوبا أو قصيدة من نيكاراغوا، أو كيف يلمح يوميات الرحلة الاستكشافية الأولى لكريستوفر كولومبوس مختبئةً خلف مشهد إنزال مُشاة المارينز الأميركيين. أُشدّد على أن حديثي لا يعني التسليم بأن "القارئ لا يعلم"، بأية حال من الأحوال، بل إنني أرفض تلك الفكرة رفضا قاطعا. ولكن بُعد الإشارات الثقافية واللغوية والتاريخية والجغرافية التي حفلَت بها الرواية قد يجعل فهمها والوقوف على دقائق تفاصيلها في نسختها العربية أمرا بعيد المنال. وفي النهاية اتَّخذت قراري بأن أوضّح تلك الإحالات في الهوامش ما وسعني ذلك، من دون أن أتدخَّل برأيي، أو أفرض رؤيتي على القارئ الذي يملك حرية تجاوز الهوامش ما رغب في ذلك.
إذن، فلماذا بدأت من هذه الرواية الصعبة في ترجمة أدب غارسيا ماركيز؟لم يكُن السبب الذي جعلني أتصدَّى لهذه المهمة المستحيلة واضحا أمام عينَيَّ كل الوضوح عندما أعربتُ عن موافقتي. ولكن من حسن حظي أنني قد تعثَّرتُ به في الآونة الأخيرة وأنا أترجم الرواية الساحرة "متاهة بان"، التي تقول الكاتبة (الألمانية) كورنيليا فونكه في ختامها إن "في المهمات المستحيلة شيئا يجعلها عصية على المقاومة. إذ نعرف أننا سوف نندم مدى البقية الباقية من حياتنا ما لم نحاول!". لا عجب أنني أستقي أغلب أجوبتي من الكتب، ولا سيما تلك التي أترجمها، فربما كانت الترجمة عندي تساؤلا، أو وسيلة للتأمُّل في الأسئلة والهواجس.
الكاتب والقارئ يقول غارسيا ماركيز عن علاقته مع الكتب التي يكتبها "التزم بمعيار القارئ نفسه، فأنا حين أفقد اهتمامي بكتاب أنحيه جانبا". ماذا يعني لك هذا المعيار في الترجمة؟أتفق معه كليّا، فلا أشقّ على نفسي من ترجمة نصّ لا يروقني، أو لا يثير اهتمامي. ما يجعلني أحرص كل الحرص على تقديم أعمال أحبّها وأهتمّ بها وأرضى عنها بغض النظر عن اللون الأدبي الذي تنتمي إليه. لهذا أقترح معظم الأعمال التي أترجمها بنفسي، وإلَّا فأطلب من السادة الناشرين مهلة لإبداء رأيي في النص المُقترح، إما بالسلب وإما الإيجاب.
زد على ذلك أنني قد شُغِلتُ طويلا بتساؤل غارسيا ماركيز الذي أنقله من الذاكرة في ما يلي "كيف للقارئ أن يحبّ الكتاب، ويجد فيه متعة ما دام الكاتب نفسه لا يفعل؟ وبالمثل فإنني كثيرا ما تساءلتُ "كيف للقارئ أن يستسيغ لغة النصّ ما لم يتذوَّقها المترجم أولا ويراها ملائمة؟ لهذا أشقّ على نفسي حتى أرضى عن الترجمة (على الأقل في حينه). والحقّ أن الرضى عن النتيجة لا يدوم إلَّا قليلا، ولذا أحرص كل الحرص على أن يكون الرضى عن الجهد المبذول أبقى وأطول عمرا".
لا مانع عندي من حيث المبدأ، مع الأخذ في الاعتبار أن الأستاذ الكبير الراحل صالح علماني قد ترجم أغلب أعمال غارسيا ماركيز، باستثناء رواية خريف البطريرك، وبعض الأعمال التي قد تكون أقل أهمية. أضف إلى ذلك أنني مهتم في هذه اللحظة بتقديم أسماء لم تسبق ترجمتها إلى العربية، أو لم تنَل ما تستحقّ من الشهرة والنجاح على أقل تقدير. ولكن كل شيء وارد.
يُحسَب لترجمتك وضع الحوار الذي دار بين ماركيز وصديقه الصحفي في مقدمة الكتاب، إذ إن هذا الحوار لا يكتفي بشرح أجواء العمل وطريقة كتابة غارسيا ماركيز لخريف البطريرك، بل كذلك يثير القارئ والكاتب لقراءة هذا العمل مثل قصيدة طويلة. هل هناك أسباب أخرى لديك، غير العرف الغربي، في وضع هذا الحوار في مقدمة الكتاب؟ وهل وجد هذا الحوار في طبعات لاحقة لخريف البطريرك؟ أم كان باقتراح منك؟لقد انعكس كل شيء ذكرتُه عن الحيرة التي راودَتني خلال ترجمة الرواية على هذا القرار الذي وجدتُ صعوبة غير قليلة في اتخاذه. فبعد الانتهاء من الترجمة والبحث، مضيتُ أتساءل عن الطريقة المثلى لمشاطرة القارئ تفاصيل تلك الرحلة الغنية، وتسليمه المفاتيح التي لا غنى عنها للدخول إلى عالَم البطريرك المحفوف بالأسرار والمخابئ.
فكَّرتُ في كتابة المُقدِّمة بنفسي. ولكن لما وقوفي وسيطا بين القارئ والكاتب؟ ولماذا أفرض رأيي، الذي يحتمل الخطأ والصواب، على المُتلقّي؟ لماذا لا أترك المُؤلّف يقدِّم الرواية بنفسه ويعرِّف القارئ بأسرارها ومواطن الغموض المتناثرة في أروقتها؟ وهكذا تخيَّرتُ لقاء كنت قد قرأتُه في ما قرأت خلال الترجمة، حيث تطرَّق غارسيا ماركيز إلى بعض مفاتيح الكتاب وأسراره، في مرة من المرات القليلة التي تحدَّث فيها بشيء من الوضوح والاستفاضة عن خريف البطريرك.
لم أُدرِج هذا اللقاء في مقدمة الرواية عملا بالعرف الغربي، كما أنه لم يرِد في طبعات أخرى. بل إنني قد اتَّخذت القرار بعد طول تردُّد وتأمُّل، وبعد أن نخلت جميع ما قرأتُ في هذا السياق، فلم أجد خيرا من المُؤلِّف ليقدِّم روايته بنفسه.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: هذه الروایة فی الترجمة هذا الحوار الترجمة عن عن اللغة ما کان الم ؤل التی ت فی عام
إقرأ أيضاً:
الغازي ومرسي.. جبهة إعلامية صلبة في ملاعب أوروبا تواجه الرواية الإسرائيلية
منذ بدء حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي حملات عديدة للتنديد بجرائم الاحتلال، والتضامن مع الفلسطينيين المنكوبين في القطاع.
وشارك عشرات اللاعبين العرب والمسلمين وآخرون رافضون لما يجري في قطاع غزة، في حملات تدعو إلى وقف العدوان، وفتح المعابر، وتمكين نحو مليوني فلسطيني في القطاع من الحصول على حق الطعام، والعلاج، والسفر.
إلا أن حجم التفاعل مع واحدة من أبشع الحروب التي تُرتكب في العصر الحديث، كان متفاوتاً بين اللاعبين العرب في الملاعب الأوروبية.
وتصدّر النجم المصري محمد صلاح، هدّاف ليفربول الإنجليزي، قائمة المحترفين لكن من الناحية السلبية، حيث كانت مواقفه تجاه العدوان على غزة خجولة، وظهر في فيديو واحد بعد صمت طويل، لكنه لم يصطف صراحة إلى جانب الفلسطينيين الذين فقدوا أكثر من 50 ألف شهيد، وتحدث بعموميات أثارت انتقادات واسعة ضده.
وشارك جلّ اللاعبِين والمشاهير في حملات جماعية مثل "كل العيون على رفح"، ونشروا آيات قرآنية، وأعلام فلسطين، وصوراً لأطفال غزة الجرحى والشهداء، ولكنهم توقفوا تدريجياً عن النشر المتعلق بالحرب على قطاع غزة، لا سيما أن "إنستغرام" و"فيسبوك" حاربا المحتوى الداعم لفلسطين، وقيّدا الوصول إلى الحسابات التي تبنّت القضية.
لكن على الطرف الآخر، برز صوتان جريئان بشكل غير معهود ضد المسلّمات المعمول بها في ملاعب كرة القدم الأوروبية، ورفضا بشكل قاطع تجميل الواقع، وتحدثا صراحة عن إيمانهما بحق الفلسطينيين في كل فلسطين، واعتبرا إسرائيل كياناً محتلاً يقتل المدنيين.
واللاعبان هما أنور الغازي، لاعب منتخب هولندا السابق، والذي ينشط حالياً في صفوف كارديف سيتي الإنجليزي، إضافة إلى النجم المصري سام مرسي، قائد فريق إيبسويتش تاون الإنجليزي.
"لغة الشجاعة"
ولد أنور الغازي في مدينة باريندريخت غربي هولندا لأبوين مغربيين مهاجرين، فيما وُلد سام مرسي (سامي مرسي) لأب مصري وأم إنجليزية في وولفرهامبتون بإنجلترا. اللاعبان الاثنان لا يتحدثان اللغة العربية على الإطلاق.
وبرغم ذلك، شكّل الغازي ومرسي جبهة إعلامية قوية ضد الرواية الإسرائيلية والسردية التي يتبناها الإعلام الغربي، إذ لم يقتصر نشاطهما على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث قاما بتنظيم مباراة خيرية لدعم أطفال غزة، استطاعا خلالها جلب عدد من كبار نجوم كرة القدم.
ففي مطلع حزيران/ يونيو من العام الماضي، نظم النجمان الغازي ومرسي مباراة خيرية بالتعاون مع جمعية "نجوم سبورتس" المعنية بالاهتمام النفسي باللاعبين المسلمين في بريطانيا.
وأعرب الغازي عن فخره بتنظيم هذا الحدث، مؤكداً التزامه بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين، بينما أشاد سام مرسي بالروح الإنسانية للمبادرة، مشدداً على أهمية التضامن مع أطفال غزة.
As the world watches on ???????????? https://t.co/ANwVaNuDb3 — Sam Morsy (@sammorsy08) October 14, 2024
وقال ناشطون إن الغازي ومرسي، اللذين وُلدا وترعرعا بعيداً عن الشرق الأوسط والمنطقة العربية، أثبتا أن التمسك بالمبادئ غير مرتبط بالضرورة بمكان النشأة أو الظروف المحيطة.
معركة طويلة
دوّن أنور الغازي اسمه في سجلات التاريخ الرياضي، بسبب تمسكه بمبادئه، وخوضه معركة قانونية طويلة ضد فريقه السابق ماينز الألماني.
الغازي، الذي سخّر حسابه للحديث عن الجرائم الإسرائيلية في القطاع، واجه حرباً معلنة ضده من قبل إدارة ناديه السابق ماينز الذي كان يلعب في صفوفه عند بدء العدوان على غزة.
وأطلق الغازي عبارته الشهيرة بعد أيام من العدوان قائلاً: "من النهر إلى البحر، ستتحرر فلسطين"، وهو ما دفع النادي الألماني إلى مطالبته بالتراجع عن العبارة والاعتذار.
زعم النادي لاحقاً أنه طوى الخلاف بعد اعتذار داخلي قدّمه الغازي، إلا أن المفاجأة كانت بتكذيب النجم صاحب الـ30 عاماً لمسؤولي النادي، وإصراره على تبني السردية الفلسطينية، وهو ما دفع "ماينز" إلى فسخ عقده.
نقل الغازي معركته مع "ماينز" من الإعلام إلى القضاء، ونجح في استصدار حكم لصالحه من محكمة العمل الألمانية، التي اعتبرت أن فسخ عقده غير قانوني.
وحكمت المحكمة على ماينز بدفع 1.7 مليون يورو كحقوق متأخرة للغازي، الذي استثمر القرار وأعلن عن تبرعه بنصف مليون يورو لصالح أطفال غزة.
وقال الغازي في بيان تاريخي: "شكراً لنادي ماينز لأنني قررت التبرع بـنصف مليون يورو لأطفال غزة. شكراً لنادي ماينز على محاولتكم إسكاتي، لأنه بسبب ذلك أصبح صوتي أعلى لنصرة المظلومين في غزة".
وانضم الغازي لاحقاً إلى نادي كارديف سيتي الإنجليزي، المملوك لرجل الأعمال الماليزي فنسنت تان، والذي يضم في صفوفه عدداً من اللاعبين المسلمين، حيث قال الغازي لمجلة "ذا أثلتيك" إنه اختار النادي لأنه شعر بالترحيب، ولأنه يستطيع التعبير عما بداخله بأريحية.
View this post on Instagram A post shared by Anwar El Ghazi (@elghazi21)
"المبادئ تُحترم"
لم يكتفِ النجم المصري سام مرسي بالتصريح بموقفه الصارم تجاه حرب الإبادة في غزة، إذ أظهر موقفاً مماثلاً تجاه رفض ارتداء شارة "المثليين" في الدوري الإنجليزي "راينبو ليسز".
وفي الجولة المخصصة لدعم المثليين في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، رفض مرسي ارتداء شارة ألوان قوس قزح، ليكون الوحيد بين 20 قائداً لأفرقة الدوري لا يرتدي الشارة.
واللافت أن نادي إيبسويتش تاون احترم قرار مرسي ومبادئه، وقال في بيان إنه يدعم "المساواة"، لكنه "يحترم قرار القائد سام مرسي الذي اختار عدم ارتداء شارة القيادة الملونة بسبب معتقداته الدينية".
مواقف جريئة
شارك بعض اللاعبين منشورات جريئة كلّفت بعضهم ثمناً باهظاً، إذ انتقد النجم المغربي حكيم زياش حكومة بلده بشكل علني بسبب تطبيعها مع الاحتلال الإسرائيلي.
وكان موقف زياش متقدماً عن جلّ اللاعبين العرب في أوروبا، ونشر عن انتهاكات وجرائم جيش الاحتلال في الضفة الغربية أيضاً.
كما تصدر النجم المصري أحمد حسن "كوكا" وسائل التواصل الاجتماعي بنشر فيديوهات وتصريحات تدين العدوان على غزة، وهاجم الإعلام الغربي الذي فبرك الحقائق، وتغاضى عن جرائم الاحتلال، قائلا إنه يعيش في أوروبا منذ 11 عاما، معتبرا الغرب يريد إنكار أن الإرهابيين الحقيقيين هم جيش الاحتلال الإسرائيلي.
أما اللاعب الذي دفع الثمن الأكبر بسبب موقفه من الحرب على غزة، فهو النجم الجزائري يوسف عطال، لاعب نادي نيس الفرنسي سابقاً.
وبسبب مشاركته فيديو للداعية الفلسطيني محمود الحسنات تضمّن "دعاءً على اليهود"، طُرد عطال من ناديه ومن فرنسا بالكامل، وحُكم عليه بالسجن لمدة ثمانية أشهر مع وقف التنفيذ، وغرامة قدرها 45 ألف يورو.
ورغم اعتذار عطال وحذفه الفيديو، إلا أن القضاء الفرنسي ثبّت الحكم ضده، علماً أن ناديه الحالي السد القطري أعلن تضامنه التام معه.
لا يزال اللاعب الدولي الجزائري يوسف عطال يواجه تداعيات منشوره التضامني مع القضية الفلسطـ ـينية بعد أحداث السابع من أكتوبر، حيث إنه يواجه خطر السجن النافذ في #فرنسا ، في انتظار النطق بالحكم النهائي نهاية شهر أبريل الجاري.
تعود وقائع القضية إلى 12 أكتوبر 2023، حينما قام عطال، الذي… pic.twitter.com/R3nmIzSUW5 — عربي21 (@Arabi21News) April 3, 2025
ومن أبرز اللاعبين المتضامنين مع قطاع غزة، النجم المصري محمد النني، الذي يضع علم فلسطين كصورة شخصية لحسابه، وشاعت أنباء عن دخوله في مواجهة مع زميله السابق في أرسنال الإنجليزي، اللاعب الأوكراني ألكسندر زينتشنكو الداعم للاحتلال، قبل انتقاله إلى الجزيرة الإماراتي الصيف الماضي.
وكان النجم المغربي نصير مزراوي قد تعرّض لضغوطات كبيرة من قبل إدارة ناديه السابق بايرن ميونيخ، بسبب نشره آيات قرآنية تم تفسيرها على أنها تؤيد المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وتعرّض مزراوي لتحقيق داخلي من إدارة النادي التي لم تجد حرجاً في التعبير عن دعمها المطلق لإسرائيل، وهو ما أدى إلى توتر العلاقة بينه وبين النادي، الذي باعه لاحقاً إلى مانشستر يونايتد الإنجليزي.
ونشر نجوم كرة القدم الجزائريون رياض محرز، وإسماعيل بن ناصر، وآخرون مثل الألماني التركي مسعود أوزيل، والفرنسيين كريم بنزيما، وبول بوغبا، صوراً تعبّر عن تضامنهم مع قطاع غزة بشكل متقطع طيلة شهور الحرب الماضية.
ماكلين وفرض الواقع
عند النظر إلى مواقف سام مرسي وأنور الغازي، وإجبار أنديتهما وجماهير الكرة الأوروبية على احترام مبادئهما، تعود الذاكرة إلى قصة اللاعب الإيرلندي الشمالي جيمس ماكلين، الذي لعب لسنوات طويلة في الملاعب الإنجليزية.
ماكلين، الذي نشأ في منطقة كريجان، التي كانت مركزاً للتوترات الطائفية والصراع بين الكاثوليك (الساعين لتوحيد إيرلندا) والبروتستانت (المؤيدين للبقاء ضمن بريطانيا)، كان يرفض بشكل قاطع ارتداء "زهرة الخشخاش"، قائلاً إن الخشخاش لا يرمز فقط لضحايا الحربين العالميتين، بل يشمل جميع الصراعات التي شاركت فيها بريطانيا، بما في ذلك "الاضطرابات" في إيرلندا الشمالية.
ويقول ماكلين إنه يعتقد أن ارتداء "زهرة الخشخاش" سيكون بمثابة "عدم احترام" للمدنيين الأبرياء الذين قُتلوا على يد الجيش البريطاني، خاصة في مذبحة الأحد الدامي عام 1972، عندما أطلق جنود بريطانيون النار على متظاهرين مدنيين في ديري، مما أسفر عن مقتل 13 شخصاً.
وخلال تنقله بين أندية سندرلاند، وويغان أتلتيك، وويست بروميتش ألبيون، وستوك سيتي، وريكسهام، رفض ماكلين ارتداء "زهرة الخشخاش"، والتي يضعها اللاعبون في تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام.
وبعد تعرضه لانتقادات لاذعة من قبل روابط جماهير الأندية البريطانية التي لعب بها، قال ماكلين في رسالة تاريخية: "لدي احترام كامل لمن قاتلوا وماتوا في الحربين العالميتين، لكن الخشخاش يُستخدم لتذكّر ضحايا صراعات أخرى منذ عام 1945، وهنا تبدأ المشكلة بالنسبة لي. بالنسبة لأشخاص من إيرلندا الشمالية مثلي، وخاصة من ديري، مسرح مذبحة الأحد الدامي عام 1972، فإن الخشخاش يعني شيئاً مختلفاً تماماً. ارتداؤه سيكون بمثابة عدم احترام للأبرياء الذين فقدوا حياتهم في الاضطرابات، وخاصة في الأحد الدامي".
واللافت أن ماكلين يرفض أيضاً الوقوف دقيقة صمت على أرواح جنود الجيش البريطاني في مناسبات تأبينهم، وبرغم ذلك لم تصدر أي عقوبة ضده.
وعلى غرار مرسي والغازي، قال ماكلين في تصريح سابق إن العديد من زملائه الإيرلنديين يؤيدون ما يقوم به، لكنهم لا يجرؤون على فعل ذلك خوفاً من ردات الفعل.
Massive respect for James McClean … a man who has the courage of his convictions and who refuses to be bullied by the “poppy police”. ???????????????? pic.twitter.com/IIetC7Kp59
— Séamus.1798????????☠️ (@1057Seamus) November 9, 2024James McClean is known for his principled stance on not wearing the poppy on his football kit during the annual Remembrance Day period in the UK. McClean, from Derry, Ireland, cites his reasons as being rooted in the history of the Bloody Sunday massacre in 1972, where British… pic.twitter.com/VtjWu22mHi
— The Extreme Football Enthusiast (@ExtremeFootbal4) June 19, 2024