إلى جانب الدمار وعدد الشهداء والجرحى الرهيب، بعشرات الآلاف وغالبيتهم من الأطفال والنساء، والظروف المعيشية الصعبة وتفشي الجوع والأمراض وسط السكان المهجرين، فإن من أفظع الفظائع التي يعيشها قطاع غزة جراء العدوان الإسرائيلي المستمر لما يقارب الأربعة أشهر، هي أن تلجأ الكلاب وغيرها من الحيوانات، التي أصابها الجوع أيضا، إلى نهش جثث وأشلاء الشهداء الملقاة على الطرقات، أو تحت ركام المباني المدمرة، وباحات المستشفيات، لعدم القدرة على دفنها نظرا لكثافة القصف الإسرائيلي المتواصل منذ 7 أكتوبر 2023.
ليست هذه الكلاب الضالة، التي تحركها حيوانيتها، وحدها من تنهش جثت الفلسطينيين الأبرياء والمظلومين المحتلين، هناك كلاب "بشرية" في الغرب عموما، وفرنسا خصوصا أكثر شراسة في نهش الفلسطينيين وقضيتهم العادلة بكثير من الحقد.
لوصف كثير من هؤلاء يمكن استعارة صفة "كلاب الحراسة"، التي أطلقها الكاتب الفرنسي بول نيزان في عام 1932، في كتابه الشهير بنفس العنوان "كلاب الحراسة"، والذي استعمله لوصف فلاسفة وكتاب عصره، الذين "يتسترون تحت غطاء الموضوعية الفكرية، لينصبوا أنفسهم حراسا حقيقيين للنظام القائم، ويزعمون التنظير للمثالية دون التفكير في آلام الطبقات المسحوقة، وحتى الإنسانية من حروب ومجاعات".
في حالة المظلمة الفلسطينية والمأساة التي تتعرض لها غزة حاليا، ينطبق وصف "كلاب الحراسة" على العديد من الكتاب والفلاسفة الغربيين، الذين "ينهشون" الضحية الفلسطينية، و"ينبحون" بصوت عال دفاعا عن الظالم الإسرائيلي وتماهيا مع مواقف الأنظمة الغربية في دعمها للكيان الصهيوني وسرديته المتآكلة، المبنية على أساطير دينية (يدينها هؤلاء الفلاسفة والكتاب الغربيين عندما يتعلق بالغرب المسيحي نفسه أو عندما يتعلق الأمر بالمسلمين).
كما يستعمل هؤلاء مظلومية ما تعرض له اليهود في أوروبا، التي يراد للمفارقة تحميلها للفلسطينيين! رغم أن المسؤول عما تعرض له اليهود في أوروبا هي الأنظمة الأوروبية نفسها، بما ارتكبت كثير منها في حق اليهود، سواء من جرائم تطهير وإبادة فظيعة كما فعلت ألمانيا النازية، وتواطؤ عميلتها فرنسا ودول أوروبية أخرى.. أو من معاداة اليهود والتمييز ضدهم من منطلق عرقي ديني، وعدم الترحيب ـ (يشمل هذا الولايات المتحدة الأمريكية) ـ بمنطلق ديني معاد لليهود الهاربين من ألمانيا النازية، وقبلها من مذابح أوروبا الشرقية، ورفض استقبالهم، ودفع الكثير من اليهود للهجرة لفلسطين للتخلص منهم، والتواطؤ في خلق ودعم دولة لهم فيها، على حساب أصحاب الأرض الفلسطينيين، الذين يتواصل قتلهم وتهجيرهم وتشريدهم في غزة، في الضفة الغربية المحتلة كذلك.
المفارقة أن أبرز نموذج لـ "كلاب الحراسة" القدامى في هذا السياق هو الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس الشهير (مواليد 1929 )، الذي انبرى للدفاع عن الحرب الإسرائيلية على غزة وتبريرها، وتأريخ "الوضعية الحالية" كما وصفها، في بيان له مع فلاسفة ألمان آخرين، من هجوم "حماس" على إسرائيل، رغم أن هجوم حماس لم يأت من فراغ، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة، والشعب الفلسطيني يتعرض لاحتلال وتقتيل وتشريد مستمر منذ أكثر من 75 عاما، وخلق دولة إسرائيل وما ترتب عن ذلك من "نكبة" فلسطينية مستمرة من احتلال وتقتيل وتشريد.
واللافت في البيان التبريري ليورغن هابرماس ومن معه (صدر في 13 نوفمبر الماضي)، أنه تمت الإشارة إلى متلازمة ألمانيا النازية، التي كان والده عضوا في حزبها، وكان يورغن نفسه وهو في الـ 13 من العمر عضوا قياديا حتى في تنظيم شباب الحزب، أو "شباب هتلر" كما كانوا يوصفون!
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في المقابل كان بول نيزان، حينها قد قُتل (في 1940)، وهو في الـ35 من العمر، هو يقاتل الغزو الألماني لفرنسا، بعدما تطوع في الجيش الفرنسي.
وبالحديث عن الفلاسفة والنازية يلفت الكاتب الإيراني حميد دباشي، إلى دعم الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدغر للنظام النازي، و في مقال عنه بعنوان "بفضل غزة، انكشفت الفلسفة الأوروبية باعتبارها مفلسة أخلاقيا" خلص للقول إلى أنه من "نازية هايدغر إلى صهيونية هابرماس، معاناة "الآخر" ليست ذات أهمية كبيرة".
ويبدو غريبا دفاع "كلاب الحراسة" القدامى والجدد وتماهيهم، وتسويقهم للسردية الصهيونية، و"النباح الجديد" الآن هو اختلاق "جبهة حضارية مسيحية ـ يهودية" مزعومة، رغم أن الوقائع والشواهد التاريخية تقول العكس، وإن المذابح التي تعرض لها اليهود في أوروبا وكذلك التمييز حتى في الولايات المتحدة، كان على أساس ديني مسيحي! وأن اليهود فروا من المذابح المسيحية لبلاد المسلمين مثلما هو الشأن مع يهود إسبانيا الذين لجأوا إلى دول المغرب الإسلامي القريبة. والمفارقة هنا هو أن أحد دعاة هذا الحلف الحضاري اليهودي ـ المسيحي ضد الإسلام والمسلمين ينادي به في فرنسا واحد من أبرز "كلاب الحراسة الجدد"، اليهودي من أصول جزائرية إيريك زمور!
و"كلاب الحراسة الجدد"، هو عنوان الكتاب الذي تولد عن كتاب بول نيزان، وأصدره عام 1997، الكاتب الفرنسي سيرج حليمي، مدير تحرير صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" السابق، وقد حوّل حليمي فيه التهمة التي وجهها بول نيزان من الفلاسفة إلى "الإعلاميين والمحللين والخبراء"، الذين أصبحوا هم "كلاب الحراسة الجدد"، وبروزهم خاصة مع الانفجار الإعلامي وتعدد الإذاعات والقنوات التلفزيونية الخاصة المملوكة لرجال أعمال.
ويملأ "نباح" ـ (ونباح بالمناسبة تعني بالفرنسية والإنكليزية كذلك الصراخ!)- هؤلاء القنوات الفرنسية بشكل "كاذب ومثير للاشمئزاز"، دفاعا وتبريرا لإسرائيل، و"نهشا" في الفلسطينيين، كما لفت سيرج حليمي (اليهودي الذي لا يمكن أحد المزايدة عليه هنا)، في مقال له في شهر ديسمبر الماضي في صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" بشأن واحد أبرز هؤلاء، الفيلسوف (كما يحب أن يقدم نفسه) برنارد هنري ليفي.
كلاب الصيد
إذا كان هناك "كلاب حراسة جدد وقدامى" للصهيونية، والأنظمة الغربية الداعمة لها، فإنني أرى أيضا أن هناك نوعا آخر من الكلاب المكلفة بمهمة "الصيد" في المقابل، مجندة مما "يسمى العالم العربي"، كما يحب أن يسميه أحد هؤلاء احتقارا، لكنه لا يتردد في "التستر به" والحديث عنه ومهاجمته، ارتزاقا وبلغة رعاته من "كلاب الحراسة".
"كلاب الصيد" هذه المنتقاة بعناية ورعاية وبمقابل مادي ودعائي كبير، وإن كان فيها أيضا من النباح التطوعي المزايد والمجاني، لا تقل نهشا في الفلسطينيين والقضية الفلسطينية. ويراد لكلاب الصيد هذه أن تكون لها "شرعية الانتماء العربي ولو إسميا، وإن هي في الحقيقة صفة "عربي الخدمة" (كما يقول التعبير الفرنسي)، و كذلك مزاعم "التنظير للمثالية" باستعارة تعبير بول نيزان.
مهمة هؤلاء هي "الصيد" و"التصيد" لصالح الأسياد من "كلاب الحراسة"، أنفسهم، الذين يرعونهم في المقابل في صحفهم ومجلاتهم ودور نشرهم، وفي الدعاية والترويج لهم وتلميعهم، وحتى في منح الجنسية!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطينيين الحرب احتلال احتلال فلسطين رأي حرب مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
ما الذي يريده هؤلاء الناس؟
تتباين النظم الاقتصادية بين تحكم الدولة المركزي في الاقتصاد وترك السوق يعمل بحرية تامة، وهما نظامان متناقضان تمامًا. تتيح السوق الحرة للأقوياء أن يصبحوا أكثر قوة، ولهذا يدعو الاقتصاديون المؤيدون للتدخل الحكومي إلى دور للدولة يحد من هذا التفاوت لضبط النظام الاقتصادي. غير أن هذا الرأي يقوم على فرضية أن الدولة تبني هيكلًا اقتصاديًا عادلًا، ولا تعزز الظلم أو تمنح امتيازات لفئة معينة، وهي فرضية نادرًا ما تتحقق في الواقع.
في غياب آليات رقابية وتوازن فعالة، تميل السلطات العامة التي تمتلك القوة إلى تكييف القوانين لصالحها، مما يؤدي إلى تراجع الفائدة العامة بدلًا من تعزيزها. من هذا المنطلق، يرى الاقتصاديون المؤيدون لحرية السوق أن هذا النموذج ليس مثاليًا، لكنه يظل الخيار الأفضل مقارنة بالبدائل الأخرى.
ضبابية الفصل بين الدولة والحكومة
في الدول التي تتدخل فيها الدولة بقوة في الاقتصاد، من الضروري وجود آليات رقابة فعالة، وهو ما يمكن ملاحظته في دول شمال أوروبا، حيث يتمتع المواطنون بوعي مدني عالٍ، ويتابعون بدقة كيفية إنفاق الضرائب التي يدفعونها، كما يمتلكون آليات مساءلة للحكومات تمتد إلى ما بعد الانتخابات.
لكن في الدول النامية، مثل تركيا، سرعان ما يتلاشى هذا النظام، إذ يصبح الحد الفاصل بين الدولة والحكومة غير واضح. بمرور الوقت، تتحول مؤسسات الدولة إلى أدوات تستخدمها الأحزاب الحاكمة لضمان بقائها في السلطة، مما يؤدي إلى تآكل تدريجي للبنية المؤسسية. ونتيجة لذلك، يزداد التفاوت الاقتصادي، حيث تصبح الانتخابات وسيلة للبقاء في الحكم بدلًا من أن تكون أداة للتنمية.
تُستخدم المساعدات الاجتماعية خلال الفترات الانتخابية لكسب تأييد الفئات الفقيرة، بينما تموَّل هذه السياسات عبر الضرائب المفروضة على الطبقة الوسطى المتعلمة. وفي ظل هذا الواقع، يلجأ العديد من الشباب المؤهلين أكاديميًا إلى الهجرة بحثًا عن فرص أفضل، فيما يشهد من يبقى داخل البلاد كيف يتم تفكيك القوى التي يمكنها تحقيق التوازن في النظام.
تآكل الديمقراطية من الداخل
اقرأ أيضاالمقيمين والقادمين إلى تركيا.. تنبيهات هامة بشأن الطقس خلال…
الخميس 03 أبريل 2025عندما تُختزل الديمقراطية في صناديق الاقتراع فقط، فإن ذلك يُسهّل على السلطة الحاكمة تقليل المحاسبة بين الفترات الانتخابية، ما يتيح إدارة أكثر استبدادية وغموضًا. ومع ذلك، فإن العناصر الأساسية لأي ديمقراطية سليمة—مثل الفصل بين السلطات، والإعلام المستقل، ومنظمات المجتمع المدني، والبيروقراطية النزيهة—يتم تهميشها تدريجيًا.