فرسان الحرية على صهوة منذر بدر حلوم
تاريخ النشر: 30th, January 2024 GMT
قدم الإعلامي الزميل سلام مسافر قراءة في كتاب "فرسان الحرية في الثقافة الروسية" للروائي السوري منذر حلوم، كما لفت إلى عدد من إصداراته الأدبية والفكرية في قضية الحرية والأدب المقاوم.
يقول مسافر:
"لم اقرأ باسترناك ولكن"!
لعل هذه العبارة تلخص الطبيعة الانتهازية لشريحة المثقفين المنصهرين عضويا مع أنظمة القمع والعسف واغتيال الكلمة الحرة.
يقول الروائي السوري منذر حلوم في كتابه الممتع والعميق الصادر مؤخرا (فرسان الحرية في الثقافة الروسية)..
"كانت عبارة (لم أقرأ..) قد نشأت مع حملة (تسميم) الشاعر والروائي الروسي الشهير بوريس باسترناك في وسائل الإعلام (الوطنية).
والتسميم كلمة يستخدمها الروس للتعبير عن حملات السلطة علنا على الكتاب المعارضين. فمع نشر روايته "الدكتور جيفاكو" خارج الاتحاد السوفيتي فُصل باسترناك من اتحاد الكتّاب، وعقدت مؤتمرات وأقيمت ندوات للتشهير به وتسفيه روايته. وكانت كلمات المشاركين فيها، كما مقالات النقاد والكتاب الصحفيين وشهادات العمال والكادحين تبدأ بعبارة "لم اقرأ باسترناك ولكن أستطيع القول…"! وبعدها تأتي عبارات التخوين وأنه تافه أدبيا".
على مدى قرابة 300 صفحة، يأخذنا الكاتب الضليع بالأدب الروسي الدكتور منذر حلوم، وبأسلوب يجمع بين السرد الروائي والاستقراء التاريخي في رحلة الى المناطق المحرمة في الثقافة الروسية المعاصرة، مذ أن فرضت السلطات السوفيتية رقابة قاسية على النتاجات الفكرية والإبداعية ولاحقت المثقفين وزجت بهم في السجون وفي معسكرات الاعتقال واغتالت وأعدمت بعضهم وشردت آلاف العقول؛ تماما مثلما تفعل أنظمة القمع في عالمنا العربي الذي كرس لها الكاتب منذر حلوم أكثر من عمل روائي، يوثق بحرفية عالية للعسف السياسي عربيا.
لقد تصدى عدد محدود جدا من كتّاب العربية، على حد علمي، إلى موضوع الحرية في الثقافة الروسية المعاصرة، وتحديدا خلال الحقبة السوفيتية التي تنوعت في آلية القمع، بدءًا من السنوات الأولى لاستيلاء البلاشفة بزعامة لينين على السلطة في روسيا بعد ثورة اكتوبر 1917 مرورا بالقمع الستاليني ومن ثم مرحلة "ذوبان الجليد" نتيجة نقد تجربة عبادة الفرد في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي وانفتاح خليفة ستالين في زعامة الحزب نيكيتا خروشوف على الأدباء والفنانين ومن ثم النكوص عن سياسة "دع مئة زهرة تتفتح" وعودة هراوة المحاكم وتسليط حفنة مَن كتبة السلطة على رقاب المبدعين الأحرار.
كان الكاتب والمترجم العراقي د. جودت هوشيار، أغنى المكتبة العربية بعدد من المؤلفات القيمة كشفت النقاب للقارئ العربي عن أعمال ومآسي الكتاب والمثقفين في روسيا والاتحاد السوفيتي السابق على يد النظام الشمولي.
ويأتي اليوم كتاب الروائي السوري منذر حلوم، الكاتب والأستاذ الجامعي (دكتوراه في العلوم البيولوجية)، إضافة غنية لتيار كسر المقولات النمطية والجامدة المؤدجلة عن الثقافة السوفيتية.
ترجم منذر حلوم عن الروسية:
"يوم واحد من حياة إيفان دينيسوفيتش"، و"دار ماتريونا"، و"حادثة في محطة كاتشيتوفكا"، لألكسندر سولجينيتسن، صدرت في مجلّد واحد، عن دار المدى عام 1999.
وكذلك قصص من المعتقلات، لفارلام شالاموف، نشرت تحت عنوان "القادم من الجحيم"، عن دار الحصاد.
"فلسفة الأسطورة"، لأليكسي لوسيف، صدرت عن دار الحوار في طبعتين.
كتب منذر حلوم مئات المقالات في الصحافة العربية، من خلال منظور ثقافي وسوسيولوجي عن قضية الحرية والأدب المقاوم .
صدرت لمنذر حلوم عدة روايات منها (كأن شيئا لا يحدث) و(أولاد سكيبة أو خروج الأقدام الحافية). و( قمصان زكريا) و(لا تقتل ريتا) وغيرها. ويأتي كتاب ( فرسان الحرية في الثقافة الروسية) المتوفر في معرض القاهرة الدولي للكتاب حاليا، تتويجا لجهد فكري وإبداعي كرسه الكاتب السوري المقيم في روسيا لتمجيد قيم الحرية والعدالة ومقاومة العسف والاضطهاد.
قرأ العرب المهتمون بتنويعات الثقافة الروسية الحديثة بعيون كتاب غربيين، ما يعرف بالأدب السوفيتي المنشق، بتناول تغطيه روح التحامل السياسي على النظام الشيوعي، أكثر منها الى التحليل الأدبي أو الاستزادة الفكرية، ليصبح القارئ العربي، الذي يفتقر أصلا إلى معرفة واسعة بالأعمال الروائية والقصصية الروسية المعاصرة، أسير تلك التصورات المنحازة؛ فيما يستند كتاب منذر بدر حلوم الى الإعجاب بجمال الأدب الروسي "المنشق" لقيمته الفنية الراقية والذي تجاهلته دور النشر السوفيتية السابقة حين نقلت أعمال الكتاب الناطقين باللغة الروسية إلى العربية مثل دار التقدم ورادوغا وغيرهما، وحرمت القراء العرب من معرفة الوجه الآخر للجماليات الروسية خارج أروقة السلطة أو ما يعرف بالأدب الرسمي، المصطلح الذي يؤشر على قبول الأجهزة الثقافية الحكومية بالمؤلف وبالكتاب مع اختلاف المضامين.
إقرأ المزيد توجيه من بوتين بنشر ترجمات الأدب الروسي الكلاسيكي على منصة إلكترونية خاصةقدم ( فرسان الحرية) وجبة دسمة من المعارف عن مجاهيل الثقافة الروسية وأبطالها وضحاياها وتداعياتها على الثقافة العالمية التي تأثرت وتفاعلت بعمق مع الأدب الملاحق خلف "الستار الحديدي"؛ وحولت قسما كبيرا من القصص والروايات الى أعمال سينمائية ومسرحية حصدت الجوائز وملايين ملايين المشاهدات في العالم.
لا تقف خلف (فرسان الحرية) دوافع سياسية أو أيديولوجية ضيقة، إنما ينطلق في اعتقادنا من محاولة الكاتب السوري تسليط الضوء على مشتركات القمع وملاحقة الكتّاب الأحرار بغض النظر عن الهوية والقومية ولون النظام السياسي؛ يوحدها الطابع الشمولي والتلذذ بإهانة وتعذيب المثقفين.
يشتمل الكتاب على خمسة فصول تبدأ بمقدمة(صاحبة الجلالة الحربة) وتنتهي بـ( دعوة الى العدالة) يراجع فيها المؤلف بعض أعمال دوستويوفسكي وبولغاكوف وشالاموف فيما يشبه الحوار مع المذهب التولستوفي المثير للجدل والقائم على دعوة الكاتب الروسي الإنساني الى مقاومة الشر بفعل المزيد من الخير.
و يخلص حلوم إلى التساؤل: أيكون في رواية(المعلم و مارغريتا) لبولغاكوف دعوة من خلال تحرير الحاكم الظالم بيلاطس في الآخرة، دعوة الى تحرير الحكام الظالمين والصفح عما اقترفوه بحق الداعين إلى الحقيقة من أمثال المعلم ويشوع؟
ويقرر الكاتب: الرواية تقول ليكن القصاص هنا والآن، وهكذا فلا يرضى بولغاكوف بأقل من قتل يهوذا، على الرغم من حرص حاكم اليهودية الظالم بيلاطس على حمايته. فيهوذا يقتل في الرواية على خلاف ما تقول الأناجيل".
نعود فنذكّر بالعبارة الانتهازية الأثيرة التي يضعها منذر حلوم كالمصباح تضيء فهم الروائي السوري لدور خدن الأنظمة الشمولية في الوشاية بالمثقفين والزج بهم في أقبية الموت "لم اقرأ باسترناك ولكن"!
الكتاب يستعرض أعمال وسيرة حياة كتاب وشعراء عاشوا وماتوا في روسيا أو في خارجها، ولم تصل كتاباتهم الى القارئ العربي لأسباب سياسية تعود الى تجاهل دور النشر في الحقبة السوفيتية لأعمال تصنف على أنها معادية، أو لأن الناشرين والمترجمين العرب لم يقدروا القيمة الفنية والفكرية العظيمة لروايات سيجد القارئ العربي أنها تتحدث عنه وإليه أيضا لأن القمع والعسف لا يعرف الحدود ولا الفوارق مادام الجلاد واحدا يتلذذ بتدمير الفكر النير وقتل حامليه.
سلام مسافر
المصدر:RT
المصدر: RT Arabic
كلمات دلالية: الأدب الروسي الثقافة الروسية الثقافة العالمية سلام مسافر معلومات عامة الروائی السوری فی روسیا
إقرأ أيضاً:
لويز غليك في آخر حوار أدبي: الكاتب طالب للمعرفة
تناولت لويز إليزابيث غليك (1943-2023) موضوعات الوهم واليقين والصراع بين الوضوح والشك طيلة مسارها الأدبي، الذي امتد لأكثر من سبعة عقود من امتهان حرفة الشعر، وصولًا إلى تتويجها بجائزة نوبل للآداب سنة 2020، الجائزة التي لم تكبح شغفها في الكتابة والنشر رغم كثرة الأضواء المسلطة ورغم التقدم في العمر؛ إذ أصدرت كتابًا آخر وأخيرًا في زمن وباء كورونا قبل أن يخطفها الموت، لكنها تظل خالدة شعريًا كأحد أعظم الشعراء عبر التاريخ، وهي التي قال عنها الشاعر الأمريكي روبرت هاس مادحًا: «إنها واحدة من أنقى وأكثر الشعراء الغنائيين إتقانًا للكتابة».
ولن يُجرى حوار أدبي آخر مع الشاعرة لويز غليك، بعد هذا الذي أجراه معها الشاعر الأمريكي هنري كول، وبسبب علاقة الصداقة كان هنري يسأل لويز كلما التقيا -أو أحدهما يزور الآخر- عن حالتها الصحية والمزاجية طيلة الأشهر الأخيرة من حياتها؛ فظهر هذا الحوار الصادق عن التجربة الأدبية المبهرة للويز بعد أيام قليلة من وفاتها، تتحدث فيه بحميمية عن حرفة الشعر والتدريس وحياتها الخاصة وهواياتها وهواجسها.
***
أعتقد أنك تؤلفين نوعين من الكتب: أحدهما عبارة عن مجموعة قصائد غنائية متباينة، وآخر يرتكز على خصائص النثر مع خيط سردي.
نعم! كما أتنقّل بين أنماط شعرية عدة، إن كتبي تشتغل إما على محور عمودي من اليأس إلى التسامي، أو تتحرك أفقيًا باهتمامات أكثر اجتماعية، وهذا أسلوب ملموس، يمكن الاشتغال عليه في رواية بدلًا من قصيدة، مثلًا يُعتبر «أفيرنو» (2006) كتابًا بشكل عمودي، فيما كتاب «حياة بلدة» (2009) عكسه تمامًا، حيث تجمع الكلمة أشخاصًا من أزمنة مختلفة؛ يعيشون في قرية صغيرة غير معروفة، ولو أن النموذج مبني على قرية (بلينفيلد، فيرمونت)، إذ عشتُ هناك لسنوات، إني أقوم بالاستبدال حفاظًا على قدراتي الإبداعية.
**************************************************************************************************************
من أين جاءت فكرة كتاب كامل بموضوع واحد؟
فكرتُ في الكتب بهذه الطريقة منذ البداية، كنت أكتب قصائد قصيرة، وأردتُ بناء بيئات مختلفة، أردت اقتراحَ جو بدلًا من موضوع أو أجندة، أو تأمل أو بحث بدلًا من موقف، بالطبع في الكتب الأولى لم يكن هذا واضحًا، رغم أني فكرت مليًا في ترتيب القصائد ودلالاتها ومسارها الضمني، لقد أصبح هذا الأسلوب أكثر وضوحًا في كتابي «أراراط» 1990، أتذكر حالما كتبت القصيدة الأولى بكل جملها التقريرية المسطحة، بلا لغة مجازية وبلا صور، كان لا بد من ضمّها في موضوع واحد لضمان نجاح المؤلَّف.
**************************************************************************************************************
ماذا عن كتاب «ليلة مخلصة وفاضلة» 2014؟
كان إنجاز «ليلة مخلصة وفاضلة» تجربة مثيرة، ألّفتهُ على محور أفقي بشقّين، أولًا، كتبت قصيدة طويلة، يتعلق موضوعها بصناعة الفن، الذي أتحسر عليه دائمًا باعتباره موضوعًا مهمًا، رغم أن المتحدث طفلٌ صغير، ما يمنح الكتاب أصالة، حينها اكتشفت قصيدة النثر؛ فلم أدرك شكلها أبدًا حتى قرأت كتاب «شبه غير مرئي» لمارك ستراند، وهو ما حفّزني، إن قصائده النثرية هي الأكثر روعة مما قرأته منذ فترة، ألهمتني، وجعلتني قادرة على كتابة قصائد مشابهة، كان كتابي قد انتهى تقريبًا، لكنه بدا ثقيلًا؛ بحاجة إلى رتوشات، فقال لي صديقٌ: «لمَ لا تقرئين قصص كافكا؟ إنها تشبه قصائد النثر»، وحالما أنهيتها مجددًا، فكرت: آه، لا أعتقد أن هذه القصص مفيدة إلى هذا الحد؛ فيمكنني فعل هذا، وهذا ما فعلته، وكان الأمر ممتعًا.
هل يمكنكِ أن تخبريننا عن أصدقائك؟ وكيف يؤثرون على عملك؟
معظم كتبي مخصصة لأصدقائي، إنهم محور حياتي، أغيّر نمط حياتي من أجل رؤيتهم، إنهم جميعًا أشخاص مختلفون عني تمامًا، وكنت سأصير عاجزة بدونهم -مؤخرًا- اشتريت بيتًا صغيرًا في (فيرمونت)، حيث يعيش أصدقائي القدامى، تعيش أعز أصدقائي الآن على بعد دقيقتين، ولو أني عشت لفترة طويلة في (كامبريدج)، كنت أكشف عما أكتبه لها، والآن استأنفت علاقة صداقتنا بشكل آخر، لقد كانت تنتظر استئنافها في أقرب وقت، هكذا هي صداقاتي مع أشخاص من مدن مختلفة، ربما هناك مسافة في الزمن والجغرافيا، ولكن عندما أعيد رؤيتهم، وكأن الوقت لم يمر،.. أعني يمرّ الكثير من الوقت، وتتغير أشياء كثيرة، لكننا نستأنف محادثات حول الحياة كما في السابق.
تدفعني «وصفات شتوية بعمل جماعي» 2021، القصيدة التي تحمل عنوان كتابك، إلى التساؤل: هل عشت في جماعة أو معتكف؟ وهل كتبت مقاطع هذه القصيدة الطويلة بالترتيب الذي تظهر به؟
كانت (بلينفيلد) الأقرب إليّ بطقسها القاسي، الذي يحول القرية إلى جماعة معزولة، فكل سنة تبدأ عمليات جمع المؤن، ومراقبة احتياجات الآخرين، والتعاون من أجل البقاء قيد الحياة في محنة الشتاء الطويل، والذي صار الآن أقل طولًا بشكل مخيف، عناصر القصيدة من نسج خيالي: جماعة الناس وجمعَ الطحالب وغرس وتنمية النباتات في الأصص على الطريقة اليابانية، والمعلم الصيني، وقد كتبت مقاطع القصيدة خلال فترات متقطعة، على الأرجح بعد سنوات من عدم الكتابة.
**************************************************************************************************************
هل تكتبين كل يوم؟ وهل تؤلفين قصائدك بعد فترة من عيش التجربة؟
لا أتّبع بروتوكولًا أو جدولًا ثابتًا للكتابة، اكتشفت أن هذا الأمر يسبب لي الكثير من القلق، حيث قضيت أيامًا عديدة جالسة أمام آلة كاتبة وقطعة من الورق الأبيض دون كتابة أي شيء، لقد كانت تجربة مهلكة، لذا أكتب عندما تبدأ العبارات في ذهني، أدوّنها، ثم أذهب إلى الآلة الكاتبة.
لا أعتقد أني أكتب خلال فترات انتقالية، ما يحدث لي هو شيء ما يتوقف، شعورٌ بالنهاية، حيث لا أملك شيئًا، أحيانًا أستنفد كل ما لدي، ولا بد من الانتظار إلى أن يمتلئ البئر مجددًا، هذا ما أحكيه لنفسي، ولكن لا تبدو تجربة مُشجعة على الهدوء، بل إنها تجربة من اليأس والخسارة، وشعور بالذعر؛ فالشيء الذي ترغب في القيام به لا يمكنك فعله، لقد مررت بالعديد من هذه الفترات، وما يحدث هو أنه بعد مدة ينبثقُ صوت فعلي باطني، طريقة أخرى للتفكير في تأليف قصيدة، نوع مختلف من الكلام للاستخدام، من الملتبس إلى الشائع، فجأة أسمع سطرًا، لا أسمعه لوحدي عندما أقرأ، فصوتي يميل كليًا إلى الميوعة، فأدرك أني أُرسل شكلًا لرسالةٍ، وأحاول ولوج مسار جديد، وهكذا تتغير الأشياء، لدي أصدقاء، وشعراء رائعون يمارسون طقس الكتابة اليومية استثنائيًا، وهذا لا ينجح معي إطلاقًا.
**************************************************************************************************************
في «أغنية»، القصيدة الجميلة الختامية في «وصفات شتوية بعمل جماعي»، هل «أنت» في القصيدة أنتِ لويز؟
لا! يتغيّر الضمير «أنت» في هذا الكتاب؛ أحيانًا تكون «أنت» أختًا أو صديقة أو رفيقة أو شخصًا في رحلة مع المتحدث، أنت في «أغنية» مختلفة قليلًا عن شخصية الأخت والصديقة والرفيقة، هذا أنت: القارئ أو أي شخص يستمع إلي، في الحلم الذي كان أساس القصيدة، أعتقد «أنت» كانت صديقة جيدة، كنا نتحدث عن الخزف، وأنا أحب الخزف.
**************************************************************************************************************
ما الذي يعجبك في صناعة الخزف؟
أحب الأشياء الجميلة التي تعود بالفائدة، أنا كائنة بيتية، أحب الطبخ، وأحب خدمة المائدة، الأمر الذي يؤدي حتمًا إلى التفكير في صناعة الخزف، أحب المزهريات أيضًا، الخزف الياباني القديم خصوصًا، تجذبني فكرة أن بعض الأشياء الثمينة هشة، عندما انتقلت للمرة الأولى إلى (فيرمونت)، في أواخر العشرينيات من عمري، كانت (كلية غادارد) مزدهرة، درّست فصلًا هناك، وكانت حلقة عمل الشعر أول وظيفة لي، كان هناك الكثير من الأشخاص المثيرين للاهتمام في تلك الفترة، يصنعون فنًا خزفيًا مذهلًا، وكان هناك معلم عظيم، لذلك كنت أقضي وقتًا مطولًا في استوديو الفخار، فتعلمت استخدام العجلة، لست بارعة، لكنني أحببت الجلوس خلفها والشعور بالطين، عندما تمسكه بيديك لتبدع أشكالًا.
**************************************************************************************************************
أتفضلين الكتابة انطلاقًا من أحلامك وعقلك الباطن، كما في «أغنية»، أم تخترعين الأحداث؟ كيف تختارين؟
ليس الاختيار، يتجلى لك شيء ما، وقريحتك مفتوحة لما يمكنك استخدامه، مثلما يدرك الطائر كيفية بناء عش، آه! أحتاج إلى قطعة صغيرة من الشريط الأحمر، ثم يخرج بحثًا عن شريط أحمر، قد لا يعرف الطائر ذلك، لكنه يرى الشريط الأحمر ويعتقدُ: هذا ما أحتاجه! تستخدم ما تصادفه، وتصادف أحلامك بانتظام، لا أجلس على مكتبي وأفكر، أحيانًا أستيقظ مع سطر وأكتبه، وألقي نظرة عليه، وهو غامض مثل الحلم؛ ولا أعرف ماذا يعني، ثم أخترع له سياقًا، وقد أفشل.
أهناك علاقة بين الحقيقة العاطفية والسردية في قصائدك؟ أفكر في استخدامك للأسطورة والحلم مقابل السيرة الذاتية.
لا أفكر في ذلك كحقيقة، بل كحدث حرفي، أرى الحقيقة هي ما يُعاش داخل تجربة، أحيانًا، تعمل انطلاقًا من أشياء حدثت لك في الحياة، لكنك تدرك أنها ستكون أكثر قوة، إذا كان المتحدث شخصًا آخر غيرك، لن تؤدي التجربة الحية المنقولة بدقة إلى أفضل قصيدة ممكنة دائمًا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن استنتاجاتك حول ما عشته، تتوصل إليها قبل أن تبدأ الكتابة فعليًا، ما يجب أن يحدث في طور الكتابة هو اكتشاف شيء ما على الصفحة، إنه الوقت الذي تحدث فيه الصعقة الكهربائية، فتختلق القصص من أجل الوصول إلى اكتشافات ورؤى لم تصل إليها بعد.
**************************************************************************************************************
في العديد من قصائدك، هناك مُعلم بمعرفته الشاسعة وشاعر يبحث عن المعرفة، من أين اكتسبت هذا الأسلوب؟
أنا مدينةٌ بالكثير للأشخاص الذين علموني، منذ المدرسة الابتدائية، لم أكن أتفق مع أقراني غالبًا، وكنت أتفق مع أساتذتي، كنت أرغب في التعلم، فكان من السهل تعليمي، لم أكن مطيعة، ولم أكن متمردة، بالنسبة لي، كانت العلاقة بين المتعلم والمعلم مشحونة دائمًا، لا يقتصر الأمر على نقل المعلم لما يعرفه فقط، والتلميذ ينحني ويشكر، يذكّر الشخص الأصغر سنًا الشخص الأكبر بشراسة شغله، كما يمثلُ رمزًا للعناد والمثابرة، ونوعًا من التعب المهيب، هناك مليون بديل لهذه العلاقة المثيرة.
أحد الأشياء المؤثرة في «وصفات شتوية بعمل جماعي»، استمرارك في طلب المعرفة، وأنت شاعرة بارعة في قمة مستواها.
كل من يكتب هو طالب للمعرفة، تنظر إلى صفحة فارغة وها أنت تبحث، هذا الدور مُسند إلينا وأبدا لا يُزال، أعتقد أن هذه نعمة لا تُصدق، أعني أن تقترب من الثمانين عامًا، ولا زلت تبحث وتبحث، فهذا مذهل.
**************************************************************************************************************
هل يمكنك حكيَ المزيد عن فضولك كطالبة للمعرفة؟
إنه ليس فضولًا أدبيًا إلى حد كبير، بل فضول بشري، كلما قابلت شخصًا، إلا وأريد معرفة الكثير عنه فورًا، ما لا أملكه هو الفضول بشأن الأماكن، أكره السفر لأني أعتمد على طقوس خاصة، كما أشعر دائمًا: حالما تنتهي من شيء ما، فإنك قد خُلِقت منه، خصوصًا إن لم يكن لديك عمل آخر، وأنا دائمًا أعمل على شيء واحد فقط، وأنت فارغ، تتذكر كيف كان الأمر عندما لم تكن كذلك، لذا لا تريد أن تعاني من الفراغ بعدها، تبحث بعض الناس عن ذلك في باطنها، لكني وجدت أن مخزوني الداخلي محدود قليلًا، فوثقت بالعالم ليمنحني شيئًا يمكنني الاستجابة له.
**************************************************************************************************************
هل يمكنكِ التحدث عن دور البستنة في حياتك؟
لم أعد أمارس البستنة كثيرًا، ولكني أحببت النباتات طوال حياتي، ولو أني لا أنتمي إلى عائلة بستانيين. في أواخر سن المراهقة، طلبتُ من والدتي امتلاك بقعة في حديقتنا الخلفية. فبدأت في الزراعة، وحققت نجاحًا مبهرًا. كانت التربة جيدة جدًا مع أشعة شمس دافئة في (لونج آيلاند). لاحقًا، عندما انتقلت إلى (فيرمونت)، بدأت البستنة. ولأني أطبخ، استحال العثور على أشياء كثيرة في المتاجر، وكان لابد من الحصول على الجرجير والخس وتوابل الطهي. كان لي ولزوجي بيت رائع تحيطه أرض شاسعة، فقمنا بزراعة الخضروات، ثم توسعنا في زراعة الزهور. اطلعت كثيرا على دلائل البستنة فقط طيلة عامين، حتى اعتقدت أن حياتي كشاعرة قد انتهت. ثم كتبت «السوسن الطائش» 1992، وهو كتاب حيث للزهور لغة. وأدركت لاحقا أن الكثير من النثر الشعري من خلال دلائل البستنة حدثَ في قصائد. إنها أحد أقرب المؤلفات إلى قلبي. وقد علمني ذلك المؤلف أنه يجب عليك السماح لنفسك القيام بهواجسك. لا يمكنك أن تقرر أنها ليست أدبية بما فيه الكفاية، أو ليست راقية. أعني، لم أدفع بنفسي إلى الاطلاع على تلك الدلائل، لكن كان ذلك كل ما استطعت التركيز عليه. وأدركت لاحقًا أنها كانت محفزا لكتاب جميل.
في الآونة الأخيرة، كنت أشاهد الكثير من البرامج التلفزيونية، وأنا متأكدة من أنها ستؤثر على عملي.. لا أعلم، لكن النقطة المهمة هي أني لا أشعر بخيار آخر. يجب أن تثق في هذا الدافع في نفسك، لأن عملك سيخرج من خلال ما يمتصّك. ولن ينبثق من الأشياء التي تقرر أن عليها استيعابك.
**************************************************************************************************************
قلتِ بعد كتابة «أغنية»: أن «لديك كتابًا وليس كومة أوراق»! ما الذي جعل هذه القصيدة تأخذ شكل كتاب؟
قبل كتابة «أغنية»، كتبت مجموعة من القصائد الغنائية التي بدت غير متطابقة، رغم تشابهها. كيف أنها غير متطابقة ومتشابهة؟ لقد احتلت جميعها نفس المكانة، وبدت مُملة. كانت مليئة بالحزن واليأس، وساخرة أحيانا. لقد ماتت أختي، وبالتالي فإن «وصفات شتوية بعمل جماعي» برمته هو كتاب حداد، تزامن مع (داء فيروس كورونا)، الذي أصبح نوعًا من الحداد المُهول لنا جميعًا، ضدا في الحياة التي اعتدنا عيْشها، والتي لم نكن نعيشها، والتي لم نعد نعيشها. فبدت «أغنية» ترفرف مثل أجنحة. أعتقد: أن موضوعها هو سبب عدم وضع علامات الترقيم في النهاية، فهناك الكثير من الهواء في النص، والكثير من الارتفاع فوق حالة الطوارئ. أدركت فورا أنها ستكون القصيدة الأخيرة في كتاب عن التعلق بالحياة وانتصار البقاء، لكن ليس فرحة بنصر، لقد صعدنا الجبل وما زلنا قيد الحياة، رُغم أن أقدامنا تنزف، هناك فكرة الاستمرار في الوجود بعد تحمل أشياء رهيبة، الاستمرار في الوجود هو الاستمرار في الأمل؛ إنه إنجاز إنساني استثنائي.
**************************************************************************************************************
هل قرأت الشعر وأنت فتاة صغيرة؟
الغريب في سؤالك هو عبارة (فتاة صغيرة)! لم أشعر بأني كذلك. لم أكن صبيًا بالتأكيد. شعرت أني كينونة واحدة غير مسبوقة، بعقل مثل الضوء الذي يضعه عامل منجم على رأسه. كانت المراهقة، عندما حدثت، صدمة؛ وجدت نفسي مقيدة بجنسي فجأة، وقد رفضت هذا ضمنيا.
قرأت مسرحيات شكسبير، وكذلك أغاني «البراءة والتجربة» لويليام بليك. كانت في كتب صغيرة الحجم، ربما في بيت جدتي، حيث قضيت أنا وأختي وأبناء الأعمام الكثير من الوقت. ربما هذه الذكرى غير دقيقة، فلم تكن جدتي قارئة. لكن، أعلم أني شعرت حينها بأن هذه الأصوات من قبيلتي، هؤلاء الشعراء هم ناسٌ تمنيت التحدث إليهم.
**************************************************************************************************************
حدثيني عن أساتذتك في الشعر.
التحقت ببرنامج الدراسات العامة للكتابة في جامعة (كولومبيا) مع مجموعة من الناس. كانت أول أستاذة لي شاعرة تدعى (ليوني آدامز)، وهي امرأة مثقفة. لم أكن أحب قصائدها، لكنها كانت تعرف الكثير، وكانت قارئة جيدة. كانت تدرِّس قصائد مختلفة عن شعرها، وحكيمة في التعامل معها. تأتي بقصائد لكتاب شباب وتطالب بالانتباه إليهم. ذات مرة، أحضرت قصيدة للشاعر (جيمس رايت)، قرأتها لنا، ورأت أنها قصيدة سيئة، فيما اعتقدتُ أنها أجمل ما سمعت على الإطلاق، أدركت حينها أني وليوني انفصلنا، فلم أكن أرغب في الدراسة عند شخص يعتقد أن هذه القصيدة فظيعة؛ إذ أردت كتابة قصائد مثلها. ثم درست عند الشاعر (ستانلي كونيتز) لسنوات. كان برنامج كتابة الماجستير في الفنون الجميلة قد بدأ للتو آنذاك، وطلب مني ستانلي الالتحاق كطالبة خاصة، رُغم عدم حصولي على شهادة جامعية. كانت طريقته ترتكز على تعليم كيفية إدارة القصيدة. إذا أحضرت نصا بالكثير من السطور الجيدة وواحد سيئ، لم يكن يقول: عمل رائع. كان ينظر إلى القصيدة ويقول، هذا لا يعمل، مشيرًا إلى نقطة الضعف. كان يشير إلى السطر الذي كنت أعرف سرا أنه محاولة متقاطعة لسطر آخر، وكنت أتفق معه دائمًا. كنت أراجع وأريه المسودة الجديدة، وكان هناك شيء خاطئ، لذلك كنت أراجعها مرة أخرى. لقد تعلمت منه الصبر، فلا يمكنك أن تفرض القصيدة على الآخرين. كنت دائما على استعداد لفعل ما يقترحهُ.
ودرست فصلا دراسيا عند الشاعرة (أدريان ريتش)، التي كانت قد بدأت للتو في التعبير عن آرائها السياسية. ولم يكن معروفا توجهها الجنسي. كانت طريقتها في تدريس ورشة الشعر هي أن نجلس جميعا حول طاولة ونقرأ قصائدنا، وكانت تقول إما «أحبها» أو «لا أحبها». لم أكن أكتب كثيرا، لكني شعرت أنها كانت تخدعنا. لقد حصلتْ على تعليم رصين، وكانت تتمتع بعقلية متذمرة، وهو ما كانت تأسف عليه، لذلك لم تسمح لنا بالوصول إلى مستواها التعليمي. إن عبارة (أحببتها) لم تكن مفيدة، والعديد من القصائد التي أُعجبتْ بها لم تكن كذلك. لم أتعلم شيئًا منها تقريبا، وشعرت أني خارجة عن الفصل تمامًا.
كونت صداقة كانت مهمة، مع كاتب يُدعى (هيو سيدمان)، والذي ما زلت أعتقد أن كتابه الأول هو أحد الكتب العظيمة التي نشرها شخص من جيلي، كتاب «جمع الأدلة»، الفائز بسلسلة (يال للشعراء الشباب) سنة 1969. لقد تعلمت الكثير منه.
**************************************************************************************************************
كيف تحكمين على أن «جمع الأدلة» كتاب رائع؟
يصعب الرد تجريديا، يجب أن يكون كتابه أمامي لأظهر قصيدة وأعلق. يظل «جمع الأدلة» مؤلفا طموحا، وسطر تلو الآخر جميل وذكي. دائمًا، يتجه عقل سيدمان إلى مكان لم يتجه إليه عقلي. يفاجئني في كل سطر، وأعتقد أن الأشكال التي يصنعها لا تصدق، عاطفية ومليئة بيأس شبابي، الذي يبدو وكأنه يأتي من عقل شيخ معمِّر. في رأيي، لم يكتب سيدمان كتابًا يقترب من عظمة كتابه الأول.
**************************************************************************************************************
أنا فضولي بشأن أسلوب تدريسك.
نناقش بعمق ثلاث قصائد خلال ساعتين. أقوم بتدريس طلبة الجامعة غالبا. يقرؤون كتابًا في الأسبوع يختارونه من قائمة رئيسية أقدمها لهم مسبقا. عليهم كتابة استجابة نقدية لما يقرؤونه، وأراقب كيف يتغيّر عملهم. أحب تجاوز الأشياء التشخيصية المبكرة في الحصة. إذا كانت الورشة مفيدة، فلا تكتف بذكر الخطأ، عليك التفكير في استراتيجيات بديلة، حيث يمكن استخدامها لإعادة دخول القصيدة والتعامل مع نقط الضعف فيها. أحيانا، ترى احتمالات نحوية معينة، مثل تحويل بناء الجملة: بحيث تستخدم حرف عطف بدلا من حرف جر، أو تضع فاصلة منقوطة في مكان النقطة، وتلزم الجملة بالاستمرار. ودائما، هناك شيء واحد يمكنك القيام به، إذا كنت عالقا، وهو طرح سؤال في القصيدة؛ فالسؤال يغيّر آليتها.
**************************************************************************************************************
هل تجدين صعوبة في تقييم عملك؟ كيف تقررين متى تنتهي من مراجعته؟
أعرض مسوداتي على أشخاص آخرين، أريهم أشياء عالقة فيها. ثم أحاول الكشف عن المسودة كاملة، ولكني أدرك غالبا أن القصيدة ليست جيدة كما أتمنى. عادةً، عندما أعرض القصيدة على شخص ما، أكون قد وصلت إلى نهاية أفكاري الممكنة. قد يقول لي أحد الأصدقاء: «هنا تكمُنُ المشكلة»، رغم اعتقادي أنها تكمن في مكان آخر. أو قد يقول إنها تطول أكثر مما ينبغي، فيشير إلى مكان ما لأقطعها، أو ربما لا تطول بما يكفي. إذا اتفقت، وما أسمعه منطقي، فإني أعيد المراجعة. إذا قال شخص ما: «أعد كتابة هذه الجملة»، أو «بحاجة إلى مقطع آخر»، فإني أحاول القيام بذلك.
بما أن أسلوبي يتغير، فإني لا أعرف حقًا إذا كنت أكتب ببراعة أم بفظاعة. كل قدراتي النقدية موجهة نحو نوع معين من الشعر. إذا بدأت في كتابة نوع مختلف، فلن أمتلك جهازًا نقديًا، وأحتاج إلى شخص ليؤكد عملي. مثل تربية الأبناء، كيف تتفاهم مع رضيع، وأخيرًا تدرك أنك أم أو أب لرضيع يبلغ من العمر عشرة أشهر، ثم فجأة يبلغ عامين، وأنت إطلاقا بلا مهارات. وبعد فترة، تكتسب أشياء معينة. أحيانا، كنت أبالغ في تقدير قصائدي، فأنت تريد أن كل ما تكتبه رائع دائمًا.
**************************************************************************************************************
هل تشعرين بالضغط لشرح قصائدك؟
لا. حالما أنشر كتابا، تبدأ أراء الناس. قد لا يعجبك ما يقولونه، حتى لو أكدوا ما فعلته. قد تقرأ ما يقولونه وتفكر: أهذا ما كتبته؟ فرغم المدح، تشعر بالرعب مما يعتقدون أنك كتبته، أنت لست خائفا من قولهم، بل خائف من صحة قولهم، وكيف لك أن تعرف؟ يا له من قلق. أعتقد أنه بمجرد وضع شيء ما في كتاب أو على صفحة، فإن حقك في التعليق عليه ينتهي. يحتوي مضمون النص على تعليقاتك، تظهر في كتاب مع شهادتك وموافقتك، وليس هناك ما يمكنك إضافته. أقول لطلابي الشغوفين بشرح عملهم، «كما تعلمون، عندما تموتون، لا يمكنكم التجول وشرح إنجازاتكم؛ ذلك يجب أن يوجد على الصفحة». إنه مثل تسجيل قطعة موسيقية. عليك أن تقدمها بشكل صحيح، حتى يتمكن قائد فرقة موسيقية لا يعرفك من عزفها، فقط باتباع تعليماتك. تريد أن تسجل القصيدة في كل عقل كما وضعتها في عقلك، وتكتشف أن هذا لا يحدث أبدًا.
**************************************************************************************************************
هل تكتبين قصيدة وتضعينها جانبًا، ثم تشتغلين على أخرى، أم تشتغلين على واحدة فقط؟
أحيانًا، قد تستغرق القصيدة وقتًا طويلا، وفي مرحلة ما أشعر باليأس منها، لذلك قد تصبح جزءًا من شيء آخر، لكني عادةً أكتب قصيدة واحدة فقط، وكل ما أفكر فيه يصبح جزءًا منها. أحب ذلك عندما يكون هناك تباين بين العناصر، لأنه يمنع القصيدة من أن تصير رصاصة مباشرة من رأسي إلى الصفحة.
**************************************************************************************************************
رغم أنك تتحدثين عن فترات صمت طويلة، فإن مختاراتك الشعرية 1962-2012 الصادرة سنة (2012) تملأ ما يقرب من سبعمائة صفحة، وقد نشرت كتابين منذئذ. ألا تصابين أبدًا بالجمود؟
أكره هذا النوع من المفردات، فمن المفترض أن هناك طلاقا مثلا. لا أستخدم كلمة جمود، لأني أعتقد من الضروري أن تصمت أحيانا، وتدع الحياة تحدثُ لك، وتسمح لطريقة وجودك في العالم أن تتغيّر حتى يكون لديك ذات مختلفة تكتب منها، وأخبار مختلفة ترويها من تلك المساحة. أشعر بالحزن غالبا عندما لا أكتب. وفي هذه الحالة أيضا أشعر بنشوة؛ لأني لست مضطرة لمحاولة الكتابة مجددا، لكن حقيقة أني لست سعيدة لا تعني أنه باستطاعتي وضع حد لذلك. أعتقد إنها مِحنة يجب أن أعيشها. أشعر ببعض التقوى إزاء هذا الأمر. فأنا أحتفظ بسجلات لما أكتبه، وقد بدأت القيام بذلك في الستينيات، وأستطيع أن أرى في مذكراتي أن هناك سنوات لم أكتب فيها شيئا، حيث كنت أضع علامة (X) لكل شهر، وحالما أكتب نصا، يبدو تماماً عن آخر ما كتبته. لا أعتقد أني كنت لأتمكن من الوصول إلى هذا المستوى، وأنا مشغولة بالعمل لأعوام؛ بل أعتقد أني وصلت لأني صمتت وانتظرت.
**************************************************************************************************************
عن (باريس ريفيو -عدد 246، شتاء 2023)