الجزيرة:
2025-03-22@23:50:18 GMT

الديمقراطية وثلاثيات عودة الروح

تاريخ النشر: 30th, January 2024 GMT

الديمقراطية وثلاثيات عودة الروح

ما الذي يجعلنا نراهن على أنه ما زال للديمقراطية مستقبل في بلداننا بعد إجهاض ثورات الربيع العربي، خاصة وهي تترنح وتتراجع في عقر دارها وفي أقدم معاقلها؟

السبب هو القانون التاريخي: فشل الديمقراطية هو البساط الأحمر المفروش أمام عودة الاستبداد، وفشل الاستبداد هو البساط الأحمر لعودة الديمقراطية.

أمام مأزق الثورات المضادة وحالة الاستبداد في كل الدول العربية بديهي أنه ما زال للديمقراطية فرص أخرى.

يبقى السؤال: كيف نقنع الأجيال الشابة المعرّضة لإغراءات أيديولوجية متعددة باختيار الحل الديمقراطي، وخاصة كيف نحثّها على استملاك هذا الحل وتطويره بالتعلّم من أخطائنا ومن أخطاء الآخرين.

لفهم أعمق للديمقراطية ولما تتعرّض له من أخطار وما يجب عمله للمحافظة عليها وتطويرها، لخّصت قناعاتي المستمدة من تجربة نصف قرن من العمل السياسي في هذه الثلاثيات.

الحكومات الغربية للدول الاستعمارية القديمة لا تريد لنا الديمقراطية؛ لمعرفتها أنها مصدر قوة، وأنها ستاتي للحكم بقوى وطنية مستقلة عنها سواء كانت إسلامية أو علمانية، ومن ثم سياستها كانت وستبقى دعم الدكتاتوريات التي تخدم مصالحها

الأسباب الثلاثة للتمسك بالديمقراطية

لا أحد قال إن الديمقراطية هي الحل السحري والنهائي لكل مشاكل المجتمع، لكنها بالمقارنة مع بديلها ونقيضها الاستبدادي توفر الحلول الأقل ضررًا وتكلفة لكل مجتمع لثلاثة أسباب.

أولًا: الوقاية من خطورة الحكم الفردي

لا أخطر ولا أكثر غباء بالنسبة لأي شعب من أن يترك مصيره رهن إرادة شخص واحد يمكن أن يكون أحمقَ أو مجنونًا أو غير كفؤ أو يأخذ قرارات هوجاء لا يجادله فيها أحد. نموذجًا؛ ما عاناه الشعب الليبي من القذافي أو ما يعانيه الشعب السوري اليوم وما أكثر الأمثلة. بالنسبة لنا نحن العرب هناك منفعة أخرى، وهي إمكانية قيام اتحاد عربي على غرار الاتحاد الأوروبي؛ لأن ما لم يفهمه القوميون أنه لا وحدة في ظل الحكم الفردي وكل دكتاتور لا يرى في بلده إلا مُلكًا خاصًا لا يمكن أن يفرط فيه، اللهم إلا إذا وُلّي هو على بقية الممالك الأخرى.

ثانيًا: الحفاظ على الاستقرار الحقيقي والأمن الداخلي المستدام

كل المجتمعات بأمسّ الحاجة للأمان والاستقرار. وحدها الديمقراطية من توفر أجود الأصناف، فبخلاف استقرار الاستبداد المبني على إرهاب الدولة وإنكار الأسباب المولدة للعنف، تعالج الديمقراطية العنف المدني بكيفية ذكية عندما تسمح بالتعبير عن الاحتقان، وتنظيم الانتخابات الدورية التي تفرغ ما بداخل المجتمع من توترات، خاصة عندما تسمح بتنظيم التداول السلمي على السلطة، وهو الإجراء الوحيد الذي يمنع الحرب الأهلية ويضمن استقرارًا غير مزيف.

ثالثًا: حفظ وتطوير الكرامة الجماعية والفردية

ما طعم الحياة لشعب في كنف الخوف والمذلة وإشاحة الوجه عن الظلم والقمع واستئثار أقلية فاسدة بالثروة والسلطة والاعتبار حتى ولو حصل على جزء من الكعكة كرشوة مقابل التخلي عن كرامته؟ أي قيم مجتمعية يمكن أن تسود في شعب مسلوب الكرامة محتلّ من طرف دولته يساس كقطيع من الأنعام؟

الأفكار الخاطئة الثلاث التي يجب التخلّص منها أولًا: الديمقراطية أيديولوجيا سقطت نهائيًا نتيجة سياسة المكيالين للحكومات الديمقراطية الغربية

القول بالسقوط الأخلاقيّ والمعنوي للديمقراطية لسقوط الأنظمة الغربية في سياسات لا أخلاقية، مثل دعم الدكتاتوريات العربية ومن قبل دكتاتوريات أميركا الجنوبية، واليوم التغطية على جريمة الإبادة الجماعية في فلسطين، مثل الاحتجاج على الإسلام بسلوك داعش. شيء من المنطق من فضلكم. أعيبوا على من ينتهك القيم انتهاكَه، ولا تعيبوا على القيم وجود منتهكيها.

ثانيًا: الديمقراطية خاصية ثقافية غربية

ما أصبحنا نعرفه أن النظم المجالسية (التي تشكل الديمقراطية الغربية تاريخيًا آخر نسخها وأكثرها تعقيدًا) موجودة عبر التاريخ وجربتها مدن العراق القديم ثلاثة آلاف سنة قبل أثينا. أضف إلى هذا أن أعتى الدكتاتوريات التي عرفها العالم في القرنين الماضيين كانت أوروبية: (ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، اليونان). لا تنسَ أن نضال الشعوب الأوروبية من أجل الديمقراطية لم يتوقف يومًا مفنّدًا وجود أرضية ثقافية وحتى جينات ديمقراطية، وأن هذا النظام مهدد جديًا بصعود اليمين المتطرف، ولا تستغرب أن ترى يومًا بلدانًا أوروبية عريقة في الديمقراطية تتحول إلى نظم استبدادية عربية أو أفريقية.

ثالثًا: الديمقراطية بضاعة تريد الحكومات الغربية تصديرها كغلاف لغزوها الثقافي والسياسي

إنه رأي القائلين بنظرية أن الربيع العربي هو في الواقع ربيع عبريّ صدرته المخابرات الغربية لا يواجهني أحدهم بهذا الرأي إلا وأنفجر ضاحكًا. تمامًا العكس هو الصحيح. الحكومات الغربية للدول الاستعمارية القديمة لا تريد لنا الديمقراطية؛ لمعرفتها أنها مصدر قوة، وأنها ستاتي للحكم بقوى وطنية مستقلة عنها سواء كانت إسلامية أو علمانية، ومن ثم سياستها كانت وستبقى دعم الدكتاتوريات التي تخدم مصالحها. لذلك قلت ورددت دومًا أن الدمقرطة العربية- خلافًا لما وقع في أوروبا الشرقية- لن تكون بدعم الدول الغربية وإنما ضدها. لاحظ أنني قلت الدول ولم أقل المجتمعات المدنية الغربية التي كانت وستبقى فعلًا معنا؛ لأنها في خدمة القيم وليس المصالح، كما هو حال دولها، وأحسن دليل الكم الهائل من المظاهرات في أوروبا وأميركا دعمًا للشعب الفلسطيني بعد العدوان الإسرائيلي الأخير.

 

من أهم حجج الاستبداد ومداخله لتدمير الديمقراطية أنها لا تهتم بقضية العدالة الاجتماعية (غيتي) الآليات الثلاث المختطفة التي يجب استعادتها

تثبت كل التجارب في العالم أن المال السياسي اختطف أهم آليات الديمقراطية وطوّعها لخدمة الأرستقراطيات المخفية على حساب الصالح العام. هذا الاختطاف والتفويض هو سبب نزيف الديمقراطية في كل مكان.

حرية الرأي التي أصبحت حرية التضليل

أصبح معروفًا الدور الهائل الذي لعبه إعلام العار في تدمير التجارب الديمقراطية في العالم العربي حيث ألّب إعلام مأجور وفاسد الشعب على الديمقراطيين والديمقراطية ومهّد لعودة الاستبداد. لكن ما وقع في البلدين شكلٌ كاريكاتوري لظاهرة عامة، وهي تحكم الإعلام المملوك لأقلية في عقول وقلوب الشعوب. هذا الإعلام في فرنسا مثلًا بيد تسعة أشخاص.

التحديات أمام كل الديمقراطيين

أي قوانين رادعة قاصمة للظهر لمنع تملك رجال الأعمال لوسائل الإعلام، أي آليات لمراقبة وفضح التزوير والمزوّرين؟ أي تشجيع للإعلام الاستقصائي الهادف لفضح الإعلام الفاسد؟ أي تربية للناشئة لحمايتهم من التضليل؟ أي تشجيع وحماية لمطلقي الإنذارات؟

حرية التنظّم التي أصبحت حرية خلق الشركات السياسيّة

بعد الثورة في تونس خرج من المجهول نكرات أسسوا أحزابًا ركيكة دون مؤتمر ديمقراطي دون خبرة إلا في تجييش الإعلام الفاسد واللعب على جهل وغرائز المواطنين فحازوا في انتخابات 2014 مقاعدَ أكثر من الأحزاب التي ناضلت عقودًا ضد الاستبداد.

هذه الشركات السياسية التي تسمى خطأ أحزابًا هي المنتفع الكبير من حرية التنظم بلا قيود لديمقراطية بلا مخالب أو أنياب. هل الأمر أحسن في البلدان العريقة في الديمقراطية، حيث تعيش كل الأحزاب السياسية على الدعم الخفي للمال الفاسد؟ طبعًا لا، كل ما في الأمر أننا أمام نفس الظاهرة لكن بحدّة مختلفة حسب البلدان؛ أي تبعية التنظّم السياسي في الديمقراطية لقوى معادية للديمقراطية.

التحديات أمام الديمقراطيين: كيف نمنع الشركات السياسية؟ كيف نمنع الشركات التجارية أن تتحكم في الأحزاب؟  أي قوانين لأحزاب حقيقية؟ كيف يكون تمويلها من المال العام حتى لا تسقط فريسة للمال الفاسد؟

حرية الانتخاب التي أدّت إلى مهرجانات مغامرة ومقامرة

عندما تنظر لما حدث مؤخرًا في بلد متقدم مثل الأرجنتين الذي انتخب مهرجًا خطيرًا سيكلف مروره على السلطة ثمنًا غاليًا، وقبله مجرم حق عام مثل دويرت في الفلبين وقبلهما هتلر في ألمانيا.. إلخ، وربما في نوفمبر المقبل شخص مثل ترامب، يتضح لك كيف تحولت آلية الانتخاب من نعمة إلى نقمة؛ لأنها فقدت بوصلتها. نحن لم نعد أمام آلية مهمتها اختيار الأكثر كفاءة ونزاهة للقيام بوظائف محددة تتطلب مهارات واضحة سواء كان المنصب رئاسة بلدية أو رئاسة جمهورية.

نحن أمام مهرجانات مهمتها الأولى اللعب على نرجسية الناخب بإيهامه أنه صانع الملوك، ونرجسية المنتخب وكأن الانتخابات مسابقة جمال ملكة العالم يجوز أن يفوز فيها باللقب لجمال مظهره وكلامه ووعوده. أما الوظيفة الأساسية للانتخاب- أي اصطفاء الأكثر نزاهة وخبرة في إدارة الشأن العام- فأمر متروك لطاولة القمار.

تصور لو كانت الجامعات والشركات تختار مديريها العامين بمثل هذه التقنية. لكن الشيء غير القابل للتصور مقبول في السياسة والحال إن إدارة دولة وحتى بلدية مدينة متوسطة أكثر صعوبة وتعقيدًا من إدارة أي جامعة وأي شركة.

التحديات أمام الديمقراطيين: كيف نحافظ على الانتخابات لكي نرفع من فاعليتها؟ أي شروط يجب أن توضع على كل ترشح لأي وظيفة سياسية؟ أي ضمانات ضد المغامرين والمجانين والشعبويين؟

حتى كل الإجراءات والإصلاحات – التي يجب ألا تتوقف نتيجة تأقلم المال الفاسد -غير كافية إذ يجب الذهاب إلى ما هو أعمق.

الأسس الثلاثة التي يجب إعادة البناء عليها أولًا: الديمقراطية جزء لا يتجزأ من منظومة كاملة لا فصل فيها بين الحرية والعدالة الاجتماعية

من أهم حجج الاستبداد ومداخله لتدمير الديمقراطية أنها لا تهتم بقضية العدالة الاجتماعية. صحيح أن أولوية الديمقراطية في شكلها الليبرالي الغربي الحرية وليست العدالة الاجتماعية؛ لأن النظام صيغ على مقاس الطبقة الوسطى ومصالحها. لكن الديمقراطية ليست فقط جزءًا من الأيديولوجيا الليبرالية. هي أيضًا جزء من أيديولوجيا حقوق الإنسان، وفي هذه الأيديولوجيا جملة الحقوق السياسية المنصوص عليها في الفصول: 19 و20 و21 في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان.

الذي يجب ألا ننساه أبدًا أن لهذا الإعلان فصولًا عديدة من الفصل 22 إلى الفصل 27 تهم كلها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وأنه لا أفضلية فيه لنوع على آخر، والحقوق كلها متكاملة ولا توجد إلا ببعضها بعضًا. أي فائدة من الحرية في غياب العدل وأي عدل في غياب الحرية؟ معنى هذا أنه ليكون لنا ديمقراطية مستدامة يجب تأسيسها على قاعدة الإعلان العالمي، وليس على قاعدة تفكير الليبرالية الغربية خاصة المتوحشة منها.

ثانيًا: منظومة القيم هي أساس النظام الديمقراطي وليست إرادة الشعب المزعومة

الشعب مكذوب عليه عندما يدعي مستبد شعبوي أنه يتكلم باسمه، ومكذوب عليه عندما تدعي أغلبية انتخابية عابرة الكلام باسمه. الواقع أنه لا قدرة لأحد للحديث باسم الشعب والشعب نفسه ليس له إرادة، وإنما إرادات متنافرة تعكس تضارب المصالح والأفكار داخل المجتمع. أضف لهذا أنه حتى ولو عبرت أغلبية مطلقة لسكان بلد عن إرادة احتلال أرض شعب آخر لما كان لهذه الإرادة أي قدسية أو قيمة؛ لأنها تتعارض مع قيم. مما يعني أنه يجب إعادة تأسيس شرعية النظام الديمقراطي لا على إرادة مزعومة متغيرة ناقصة، وإنما على ثوابت تضمن مصلحة الجميع، وهذه الثوابت هي القيم الخاصة بمجتمع ما والقيم المشتركة بين كل المجتمعات، كما وثقها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ثالثًا: لا وجود للشعب المقدس أو المدنس إلا في أوهام المخدوعين أو المخادعين

الموجود سياسيًا من يقبلون التعددية الفكرية والسياسية والدينية والإثنية في المجتمع، ويقبلون بحل الصراعات سلميًا ولا يرضون إلا بحكم القانون والمؤسسات ولا يتخلون عن حقوقهم مهما كان القمع ويضطلعون بواجباتهم دون أي إكراه. هؤلاء الناس هم الذين أسميهم شعب المواطنين، وهم أقلّية في كل المجتمعات.

في المقابل هناك أغلبية أسميها شعب الرعايا وهم من يبحثون عن المستبد العادل ويتخلون عن حقوقهم إذا واجهوا أي خطر ولا يضطلعون بواجباتهم إلا بالقوة.  دورُ الديمقراطية بالتعليم والإعلام والقدوة والقوانين والمحفزات المعنوية والعدالة الاجتماعية، توسيعُ رقعة شعب المواطنين وتقليص رقعة شعب الرعايا، وإلا فإن بقاءها لا يطول. إبان هذه المعركة الدائمة دور الديمقراطيين ليس أن يتشكلوا كنخبة مهمتها قيادة الرعايا، وإنما كرواد يفتحون الطريق لشعب، نخبةُ أغلبيته الساحقة مواطنون لا رعايا.

الأوهام الثلاثة التي يجب نسيانها أولًا: الديمقراطية عندما تتحقق في مجتمع تلغي ما فيه من دكتاتورية

ما تظهره التجربة الغربية أن أيديولوجيا الدكتاتورية وعاداتها لا تختفي من أي ديمقراطية مهما كانت متقدمة وراسخة، وإنما هي تنسحب وراء الستار؛ لأن الأرستقراطيات المخفية التي تحمل هذه الأيديولوجيا جزء ثابت من المجتمعات البشرية. لذلك هي لا تختفي وإنما تتأقلم وتواصل أساسًا عبر المال الفاسد تحكمَها الكلي أو الجزئي في الحياة السياسية.

ثانيًا: الديمقراطية مكسب نهائي للمجتمعات التي حققتها

في أحسن الأحوال هي مثل الصحة التي يتمتع بها الإنسان وهو في أَوْج قواه، لكن مثل هذه الصحة، لا بد لها من عوامل التعهد والحماية والوقاية من الأمراض وإلا فنهايتها مسألة وقت. ومما يعجل في النهاية وهن الآليات وضعف الروح القيمية وشراسة الأرستقراطيات المخفية …وأحيانًا سوء الحظ إذا تزامن كل هذا مع أزمات كبرى مثل: الأوبئة، والحروب أو التغيّرات المناخية، وهي الظروف التي تسود فيها عقلية الغاب وشرعية القوة ولا مجال فيها إلا لموجة استبدادية عارمة.

ثالثًا: الديمقراطية نهاية التاريخ والقدر الحتمي لكل الشعوب

لا يوجد طريق واحد تسير عليه كل الشعوب حتى ولو بسرعة مختلفة. هناك شعوب لن تعرف أبدًا الديمقراطية وشعوب ستجربها في مرحلة تاريخية لتضيعها ولو بعد قرون، وأخرى ستعيد لها ألقها وتحملها إلى أعلى وأبعد مستوياتها. ذلك لأن الديمقراطية هي مؤشر على تقدم هذا الشعب أو ذاك، وخاصة على ما بذل من جهد وقدّم من تضحيات للتمتع بها أطول وقت ممكن.

الخلاصة: بعد إفشال ثورات الربيع العربي وعودة الاستبداد بقوة فمن الممكن أن زمن التيه سيتواصل، وأننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة من الاستبداد إلى الفوضى، ومن الفوضى إلى الاستبداد.

لكنْ ثمة طريق ثالث هو الذي يجب أن نأخذه ونصب عينينا أهداف ثلاثة:

بناء دولة القانون والمؤسسات على أنقاض دولة الفرد والعصابات. خلق شعب من المواطنين على أنقاض شعب الرعايا. بناء اتحاد الشعوب العربية الحرة على أنقاض الممالك الديكتاتورية.

وحدها هذه الثلاثية قادرة على أن تعيد هذه الأمة المنكوبة لساحة التاريخ لتكون من صانعيه لا من ضحاياه. نكون أو لا نكون.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ا الدیمقراطیة التی یجب ثالث ا ثانی ا على أن

إقرأ أيضاً:

تأملات في النظرية الديمقراطية عند راشد الغنوشي.. قراءة في كتاب

الكتاب: حول المسلم الديمقراطي مقالات وحوارات
المؤلف: أندريه مارتش
ترجمة: كوناتان روايت وأندريه مارتش
دار النشر: منشورات جامعة أكسفورد
سنة النشر: 2023
عدد الصفحات: 242


استأثرت كتابات مؤسسي الحركات الإسلامية بقدر كبير من الاهتمام البحثي، وغطت الدراسات مسارات تنظيماتهم، وتطور سلوكهم السياسي، وخطابهم الفكري والإعلامي، وتم التركيز أكثر على تفسير السلوك السياسي. لكن قلما، تم دراسة علاقة تطور إيديولوجية التنظيمات بكسبهم في مجال السياسة، فغالبا، ما كان يتم الجنوح لتفسير أثر المشاركة السياسية أو الاندماج في النسق السياسي في تغيير أطروحات الإسلاميين الفكرية، أي دراسة المظهر البراغماتي في فكر الإسلاميين، وكيف يتكيفون لخدمة مواقع سياسية، ولم يكن من دأب هذه الدراسات منذ أن كتب صمويل هنغتنتون ورولز عن تأثيرات المشاركة في الفكر السياسي للتنظيمات المندمجة في الحقل السياسي، أن تطرح فرضية تطور إيديولوجية فكرية بالحفاظ على نسقها الناظم، ولا تتآكل مع مسارات الاندماج السياسي، وإنما تعدل فكرتها بالنظر إلى أن افتقاد الواقع السياسي للقواعد التي تسمح بذلك، وأن الأولوية لبناء تلك القواعد التي تسمح بتداول نسقها الفكري الأصلي.

يندرج كتاب الباحث الأمريكي "أندريه ماترش": "حول المسلم الديمقراطي"، ضمن هذا الجهد النظري الذي يسعى إلى استقراء تطور النظرية الديمقراطية عند راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة، ومحاولة تفسير تحولاتها في سياقات متعددة، سواء قبل الثورة، أو اثناءها أو اثناء ترتيب مراحل الانتقال الديمقراطي، أو حتى بعد الانقلاب على الديمقراطية، وتنطلق أطروحة الكتاب، بالأساس من بحث تحول النظرية الديمقراطية عند الغنوشي من إطارها المثالي (الكامل)  إلى النظرية الديمقراطية المسلمة التي بنت قواعدها النظرية على التعددية، الإجماع، القانون، ذلك الثالوث الذي خرج عن براديغم الديمقراطية المثالية.

وتكمن أهمية الكتاب، في طبيعته، من حيث كونه يجمع بين عشرة مقالات وخطب ومقابلات وحوارات كان المؤلف قد نشرها بين عامي 2005 و2012، تتناول قضايا الحرية والديمقراطية والتعددية ومصادر الإلهام المتنوعة للفكر الإسلامي، إضافة إلى سلسلة حوارات أجراها المؤلف مع الشيخ راشد الغنوشي حول مجموعة واسعة من الموضوعات، بدءا من سيرته الذاتية، وصولا إلى العلاقة من التزاماته الإيديولوجية (الأطروحة الفكرية) وبين التوجه نحو الديمقراطية، كما تكمن أهميته من جهة أخرى إلى طبيعة الباحث، المعروف بخبرته في دراسة الإسلاميين.

وتبين مقدمة الكتاب، التي استغرقت حوالي 31 صفحة، وزن الباحث، إذ حرص على أن يؤطر هذه الوثائق المقدمة أصلا للقارئ الأجنبي، بمقدمة قدم فيها إسهامه النظري في تفسير تحول راشد الغنوشي من الأطروحة التقليدية المثالية إلى الديمقراطية المسلمة، بمناقشة عدة نماذج تفسيرية (صمويل هنغتنتون ورولز، أوليفي روا، وآصف بيات في أطروحة ما بعد الإسلاميين).

مفارقة انقلاب قيس سعيد ونضج فكرة الغنوشي حل الديمقراطية

يذكر الباحث سياق حواراته بالشيخ راشد الغنوشي، أي ما بين 2021 و2022، وتحديدا قبل خمسة أشهر من الانقلاب الذي قام به قيس سعيد على المؤسسات السياسية بتونس، ويشير إلى ملاحظة مفارقة، تتعلق تطور فكر راشد الغنوشي، والذي بدل أن يتجه إلى التطرف، بفعل إجراءات قمعية قام بها النظام لإنهاء المستقبل السياسي لحركة النهضة.

يسجل الباحث كيف حقق الغنوشي في مسار تطور فكره نحو الديمقراطية تراكما مهما وبشكل طبيعي، وذلك على مدى العشر السنوات الأخيرة، حيث كان دائما يشغل مركز التوسط في صفقات الائتلاف بين الأحزاب المتعارضة أيديولوجيا، وبرزت نظريته السياسية، والدور الذي تخيله لشعب ديمقراطي فاعل ومنخرط ومتداول. وخلافا للنظريات الإسلامية التقليدية التي حصرت القانون في الشريعة، وأناطتها بنظر الفقهاء، تصور الغنوشي أن تطبيق الشريعة الإسلامية عملية تداولية عامة لا تقتصر على الخبراء فحسب، بل تشمل أيضا المواطنين العاديين. هذا قبل أن ينتهي به المسار إلى الاعتقاد بأن إجماع النخبة هو الضابط الأساسي ضد الاستبداد وهو الطريق المعبد دائنا للعودة إلى الديمقراطية.

يسجل الباحث نجاح النخب في تونس على مدى السنوات التي أعقبت الثورة التونسية في تحقيق توافق دستوري، لكن مع بقاء الانقسامات الأيديولوجية العميقة وانعدام الثقة بين النخب، وتجييش المجتمع ضد الإسلاميين بالدعاية الإعلامية.يفسر الباحث ذلك إلى التجربة غير المألوفة للانتقال إلى الديمقراطية في تونس، والتي بنيت أساسا على توافق النخب، ولم تكن مثل مصر مثلا، موجهة من قبل جهة ذات سيادة فعلية كالقوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية، ولا الاحتلال الاستعماري.

يسجل الباحث نجاح النخب في تونس على مدى السنوات التي أعقبت الثورة التونسية في تحقيق توافق دستوري، لكن مع بقاء الانقسامات الأيديولوجية العميقة وانعدام الثقة بين النخب، وتجييش المجتمع ضد الإسلاميين بالدعاية الإعلامية.

ويلفت المؤلف الانتباه إلى مفارقة أخرى، فبينما يحتفى بحركة النهضة بوصفها تمثل التيار المعتدل في الإسلاميين، ظلت في مخيال التونسيين تشكل امتدادا للإخوان المسلمين، لا تختلف عن أطروحتهم الفكرية في شيء، وبحكم كونها الأكثر شعبية، وفي الآن ذاته، المكروهة لدى الكثيرين، فقد كانت حملات خصومها السياسيين من قوى النظام القديم تتأسس على فوبيا النهضة.

ويرى الباحث أن الكثير من التوتر الذي ابتليت به الديمقراطية التونسية بين عامي 2011 و2021 يعود بالأساس إلى للمنافسة بين النخب، وتحديدا مقاومة أي مسعى للمساءلة عن الفساد المالي والقمع السياسي في ظل نظام بن علي، وأن ذلك زكى واقع تعميق الخلاف الإيديولوجي من جهة وانعدام الثقة بين النخب في الجهة المقابلة مع أن الانقسامات العرقية والطائفية لم يكن لها محل في المجتمع التونسي.

ويشير الباحث إلى ملاحظة مهمة بخصوص الديمقراطية التونسية، فعدم وجود أغلبية ساحقة من التونسيين متمحورة حول رؤية موحدة لما سيكون عليه النظام بعد الثورة حسب ما أفادت به نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية والمحلية بعد عام 2014، هو الذي فسر التنافس بين النخب، والتوافق على نظام دستوري يوزع السلطة بين الرئيس ورئيس الوزراء، وأن هذه الآفة السياسية، هي التي جعلت الحفاظ على الديمقراطية التونسية منوطا بالتوافقات والائتلافات بين النخب (نموذج علاقة العمل التي نشأت بين الغنوشي والرئيس الباجي قائد السبسي)، إذ كانت الأزمات تحل بشكل دائم بأغلبية ضئيلة على أساس توافق النخب، هذا قبل أن  تزحف الشعبوية على الحكم وتنهي الحكم الديمقراطي من خلال تعليق مؤسساته.

في هذه الظرفية المحكومة بعودة الاستبداد يكشف الباحث جزءا مما دار بينه وبين راشد الغنوشي الذي أعرب له بتفاؤل حذر عن أمله في العودة إلى الحكم الدستوري من خلال مزيج من إجماع النخبة والاحتجاج الشعبي، بيد أن السيناريو الذي رسم المرحلة ما بعد هذا اللقاء سار في الاتجاه المعاكس، أي مزيد من ترسيخ حكمه الاستبدادي (استفتاء 25 يوليو/ 2022 على الدستور رئاسي، أُقر بنسبة مشاركة ضئيلة بلغت 30.5%). وكشف الباحث أيضا، أن تفاؤل الغنوشي لم يكن يمنعه من الشعور مع اقتراب نهاية مسيرته السياسية، وهو في سن الثمانين، أن النموذج الاستبدادي، يتجه إلى تجريم النهضة، واستئصالها على الطريقة السابقة (طريقة بن علي) بما يشكل نهاية مأساوية لمسار الغنوشي السياسي، بعد أن قضى عمره الفكري والسياسي يؤصل لمعادلة "أمن العلمانية من الإسلام، وأمن الإسلام من العلمانية".

ويلاحظ الباحث أنه على الرغم من عشر سنوات الماضية التي قامت فيها النهضة بدور فعال كمركز لصناعة التوافقات، فإنها لم تستطع أن تعزز ثقة النخب فيها، ولا أن تمحو صورة "رهاب الإسلاميين" والتهديد الذي يشكلونه لمكاسب العلمانية والنسوية، تلك الصورة التي تصنعها الدولة وترسخها في أذهان التونسيين.

ومع كل هذه التحولات الدراماتيكية، يكشف الباحث بأن الحوارات التي أجراها مع الغنوشي ما بين عامي 2021 و2022، لم تسحب التفاؤل من تفكيره ونفسيته، مع أن الغنوشي اعتقل مع حلول موعد طباعة الكتاب (أبريل 2023) وهو يواجه تهما جنائية عريضة، لإنهاء مساره السياس ومسيرة حركته.
سردية النهضة: خارطة تحول الديمقراطية في فكر الغنوشي

استعرض الباحث حياة الشيخ الغنوشي، منذ ولادته إلى تأسيسيه للجماعة الإسلامية ثم الاتجاه الإسلامي، وعلاقة حركته بنظام ابن علي، وكيف شكلت انتخابات 1989 المحلية التي حققت فيها النهضة نتائج مبهرة، منعطفا في تغيير التعاطي مع حركة النهضة، وتبني نهج الاستئصال،  وفترة المنفى التي قضاها في لندن، والتي أثمرت  عددا من أعماله التي بسط فيها نظريته السياسية، وفي مقدمتها كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، وكيف أدار رئاسة النهضة من المنفى، وأصبح عضوا بارزا في المجال العام الإسلامي العالمي، وبرز كشخصية مؤثرة في النقاشات الدولية حول الديمقراطية والتعددية وإعادة تفسير الشريعة الإسلامية بما يتناسب مع الظروف المعاصرة. ثم ينعطف إلى استقراء سيرته بعد الثورة، وكيف قادت حركته دينامية سياسية انتهت بتحقيق نتائج مهمة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011، ويركز الباحث على هذه اللحظة، ويجعلها محطة لدراسة الشكل الذي تفاعلت بها النظرية السياسية للغنوشي مع تحولات الواقع.

يلاحظ الباحث أنه على الرغم من مرور حوالي ثلاث سنوات مليئة بسلسلة من الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية، فإن النخب التونسية نجحت في التوصل إلى اعتماد دستور جديد للبلاد في يناير 2014، ويعتبر أن طول هذه المدة (ثلاث سنوات) لتحقيق التوافق بين النخب هو مؤشر على الانقسامات السياسية والأيديولوجية العميقة في تونس، كما أنها تشكل في الآن ذاته، شهادة على قدرة النخب السياسية على خلق نظام سياسي جديد من خلال المساومة السياسية وحدها.

ولتفسير عدم صمود ثمرات هذا التوافق مع انقلاب قيس سعيد، يرى الباحث أن العملية لم تكتمل، وأنه لو أنشئت المحكمة الدستورية التي اختلفت النخب السياسية حول مرشحيها، لما تمكن قيس السعيد من تعليق العمل بالدستور.

يشير الباحث إلى محورية الدور الذي قامت به النهضة في عملية التفاوض الانتقالية التي نجحت في الخروج بدستور لا يعكس رؤية النهضة السياسية والإيديولوجية، حتى تحيرت أحزاب المعارضة في سبب تنازل النهضة بهذا القدر في القضايا الهوياتية والمرجعية في الدستور (لم تدافع عن مرجعية الشريعة في الدستور)، ويعزو الباحث اللغز في ذلك ليس إلى مصلحة براغماتية للنهضة في دعم هذا النظام الدستوري الجديد، لأن مثل هذه النزعة البراغماتية قد ترتد إلى نكوص داخل مكونات النهضة من جراء  تناقض السلوك السياسي مع الأطروحة المبدئية،  وإنما يعود إلى تحول فكري أصيل يرتبط أساسا بنضج النظرية الديمقراطية عند النهضة، وأن ذلك هو ما جعل النهضة تتخذ قرارا في مؤتمرها العاشر عام 2016، بتجاوز تصنيف حزبها ضمن مسمى الإسلام السياسي، وتعريف نفسه بوصفه "ديمقراطيا مسلما".

يلاحظ الباحث أنه على الرغم من عشر سنوات الماضية التي قامت فيها النهضة بدور فعال كمركز لصناعة التوافقات، فإنها لم تستطع أن تعزز ثقة النخب فيها، ولا أن تمحو صورة "رهاب الإسلاميين" والتهديد الذي يشكلونه لمكاسب العلمانية والنسوية، تلك الصورة التي تصنعها الدولة وترسخها في أذهان التونسيين.يعتقد الباحث أن اختزال هذا التحول في البراغماتية، أو التسوية، أو "الاعتدال" لا يقدم تفسيرا لهذا التحول، ويرى أن هناك شيئا مميزا في حالة النهضة ما بعد 2011، فان تختار التكيف أو التعاون مع نظام سياسي ليس من صنعها هذا شيء، وبين أن تقوم النهضة بدور توليفي من أجل تأسيس النموذج الديمقراطي فهذا شيء آخر.

ماذا تبقى من الديمقراطية الإسلامية عند الغنوشي؟

يطرح الباحث تساؤلا مهما، يقول فيه، إذا كان دستور 2014 يعكس القليل مما كان ينظر إليه على أنه ديمقراطية إسلامية، فما هي القوة المتبقية لتلك النظرية المثالية للغنوشي، وما هو الدفاع النظري الأكثر تطورا عن النظام الجديد من منظور عقائدي؟

تستدعي الإجابة عن السؤال إعادة تقليب المتن الفكري للشيخ راشد الغنوشي، وكيف يمكن التعامل معها، خصوصا، وأنه كتب عن النظرية الديمقراطية المسلمة وبشكل خاص عن السيادة والقانون والشرعية في فترات مختلفة، وتعد تباينت كتاباته بين الأكاديمية (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) وبين مقالات فكرية وأخرى سياسية كتبها تعليقا على الأحداث.

ويرى الباحث أن مقترب المصلحة الحزبية والتكيف مع تحولات الواقع السياسي لا يمكن أن يفسر كل هذه الأعمال، وأن أعماله تمثل محاولات لتقديم النظرية المثالية الأكثر إقناعا للحكومة الإسلامية في هذا السياق التاريخي. في حين، وعلى النقيض من ذلك، اكتسب جزء من خطابه السياسي خلال اللحظات التأسيسية المتفاوض عليها وبعدها طابعا ارتجاليا وغير منهجي ومؤقت.

وبناء على ذلك، اتجه قصد الباحث في كتابه إلى استقراء الملامح الأيديولوجية لفكرة "الديمقراطية المسلمة"، مقارنة بالنظرية الإسلامية المثالية التي طورت في العقود التي سبقت ثورة 2011، وبحث مدى اختلاف الأيديولوجية غير المثالية الطوباوية عن النظرية المثالية السابقة، ورصد نوع الالتزام الأخلاقي أو الإجماع الذي يدعم الالتزام بشيء مثل النظام الدستوري لعام 2014 في تونس بوصف هذا النظام كان في حقيقته ثمرة تفاوض ديمقراطي حر. ويرى الباحث أن الإجابة عن هذه الأسئلة تفترض ابتداء بسط رؤية الغنوشي للنظام السياسي الإسلامي قبل عرض ملامح الديمقراطية الإسلامية.

الديمقراطية الإسلامية كنظرية مثالية

يرى الباحث ان كتاب الغنوشي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" يمثل المتن المؤسس لفكرة الديمقراطية الإسلامية كنظرية مثالية سعت إلى مواءمة مبدأ السيادة الإلهية مع مبدأ الشعب كمصدر لجميع السلطات السياسية والضابط النهائي ضد الاستبداد والطغيان.

ومع سعي الغنوشي في هذه الرؤية إلى تأصيل مبدأ الحريات العامة الواسعة وحقوق غير المسلمين والأحزاب غير الإسلامية في المشاركة في الحياة السياسية، فإنها في نظر الباحث تختلف تمامًا عن تأييد نظام ديمقراطي تعددي متماسك بدستور يفصل ويوازن بين السلطات السياسي.

تقوم رؤية الغنوشي للنظام الديمقراطي على وحدة أخلاقية ودينية راسخة داخل الشعب، حيث يهيمن الإسلام دون قمع أو إقصاء تام للرؤى أو أساليب الحياة الأخرى. لا يمكن فهم توجه الغنوشي والنهضة الرسمي نحو أيديولوجية "الديمقراطية الإسلامية" المتميزة إلا من خلال دراسة معالم فكرة "الديمقراطية الإسلامية".

ويرى الكاتب أن هذه النظرية مهمة لالتزاماتها الديمقراطية، نظرًا للتردد الذي يبديه العديد من المفكرين الإسلاميين المعاصرين تجاه الديمقراطية.  لكنه يعتبرها نظرية مثالية لكيفية تمكين شعب مسلم ملتزم دينيًا من الحكم الذاتي الكامل.

يستخدم الغنوشي الأساس الميتافيزيقي للسيادة الإلهية والخلافة العالمية للتمييز بين المناهج الإسلامية للحرية وحقوق الإنسان، والمفاهيم "الغربية" التي يعتبرها مبنية على على نوع من الإرادة البشرية التعسفية التي لا أساس لها. ويرى الباحث أن الغنوشي يضع مشروعه حول شخصية محددة للغاية تسعى إلى الكمال في رؤيته للسياسة وفن الحكم، وأن الديمقراطية تقوم على الوحدة الأخلاقية، فالشعب في تصور الغنوشي ليست له صلاحيات كاملة في تعيين وعزل الحكام وأجهزة الحكم فحسب، بل أيضا صلاحيات واسعة في تصميم النظام السياسي نفسه وتفويضه. ولكن، في المقابل، يعتبر في نفس الكتاب أن تفويض السلطة للحكومة هو عقد لتطبيق الشريعة الإسلامية وحماية الصالح العام. ويعتبر الباحث أن جميع النقاط الأخرى قابلة للتفاوض، لكن هذا يُشكل قيدا كبيرا على التعددية الديمقراطية.

يرى الباحث ان كتاب الغنوشي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" يمثل المتن المؤسس لفكرة الديمقراطية الإسلامية كنظرية مثالية سعت إلى مواءمة مبدأ السيادة الإلهية مع مبدأ الشعب كمصدر لجميع السلطات السياسية والضابط النهائي ضد الاستبداد والطغيان.وقد اجتهد الباحث في بسط الأصول اللاهوتية لنظرية الغنوشي لقضية الديمقراطية والسيادة للشعب، وسجل وجود نقاط توتر كثيرة بين النظرية المثالية للديمقراطية الإسلامية ونظرية الديمقراطية التعددية الليبرالية.

ويخلص الباحث إلى أن نظرية الغنوشي المثالية قبل عام 2011 كانت ديمقراطية منظمة حول تأييد جماعي مشترك لمفهوم الخير، وعقيدة شاملة، وأنها كانت في الجوهر تمثل رؤية لنظام سياسي طهراني قائم على المساواة والديمقراطية الجذرية، حيث يُبنى مفهوم الشخص على الأنثروبولوجيا اللاهوتية لخلافة الله الشاملة للبشرية.

التعددية، الإجماع، القانون.. "الديمقراطية المسلمة" كنظرية غير مثالية

يسجل الباحث لحظة التحول في فكر النهضة، أي لحظة تخلي مؤتمر النهضة عن تسمية الحركة بالإسلام السياسي ووصف الحزب بكونه ديمقراطي مسلم، وكيف حرصت وثائق الحزب أن تعتبر أن "الإسلام السياسي لا يعبر عن جوهر هويته الراهنة، ولا يعكس جوهر رؤيته المستقبلية.  وان عمل النهضة يندرج في إطار سعي أصيل لتكوين تيار عريض من الديمقراطيين المسلمين الذين يرفضون أي تناقض بين قيم الإسلام وقيم الحداثة".

وقد اشتغل الباحث على كتابات الغنوشي لفهم هذا التحول، واستعرض التحول في أفكاره منذ كتاباته الأولى، واعتبر أن الاهتمام الراسخ بالحرية والمجتمع المدني، والذي سبق ثورة الياسمين والتوجه الرسمي نحو "الديمقراطية المسلمة"، شكل نقطة البداية والإطار الأساسي لفهم أيديولوجية الديمقراطية المسلمة. لكنه يرى أن الفترة التأسيسية 2011-2014 تمثل الإطار الذي تطورت فيه نظريته للديمقراطية المسلمة.

ويقارن الباحث بين الكتابات التي قرأ فيها الغنوشي وثيقة المدنية المنورة قبل 2011 وبعدها، ويرى أن الكتابات التي أعقبت الثورة، تذهب إلى أبعد مدى في موضوع الحرية، إذ تؤكد على أن درس وثيقة المدينة المنورة لتونس ما بعد الثورة هو أن الحكم الإسلامي تأسس أصلا في ظل ظروف تعددية جذرية، حيث لا يمكن افتراض وجود إرادة أو هدف مشترك بين "المواطنين". ويعتبر أن دروس الوثيقة، تونسيا، تعني تأسيس نظام سياسي تعددي حيث المواطنة (وليس الدين) هي المبدأ الأساسي للحقوق والواجبات. وهكذا، تصبح السابقة الأبرز للوثيقة الإطار الشامل والمشرع لقبول الديمقراطية التعددية، وتكون الآلية الأساسية للنظام السياسي في هذا النموذج هي التعاقد، لا التكوين الأخلاقي.

يستخدم الغنوشي هذا الفهم لوثيقة المدينة المنورة ليس فقط للدفاع عن مفهوم محدود للسياسة وتبرير التعاون السياسي مع الأحزاب غير الإسلامية، بل أيضا للدفاع عن نموذج توافقي واسع للسياسة التأسيسية.

ويلتفت الباحث إلى ملحظ مهم في نظرية الغنوشي، فهو أنه لا يدافع عن هذه الحلول باعتبارها تنازلات ضرورية بالنظر إلى توازن القوى، أو "أفضل ما يمكن الحصول عليه"، أو كخيار سياسي بحت لإعطاء الأولوية للاستقرار على الأهداف الحزبية، بل إنه يطرح وجهة نظر مفادها أن التوافق في حد ذاته مبدأ أسمى من مبادئ الشرعية، لا سيما في المراحل التأسيسية.

كيف نفكر في الديمقراطية المسلمة؟

يطرح الباحث سؤال مهما ستعلق بالكيفية التي ينبغي للمنظرين السياسيين (وعلماء الاجتماع) فهم التحول إلى أيديولوجية الديمقراطية المسلمة. يقترح الباحث ثلاثة احتمالات:

ـ الأول، أنها تحولات إيديولوجية تحت ضغط الضرورة السياسية. ويستعين في تفسير هذا الاحتمال بنظريات تفسير اعتدال الأحزاب (الحوافز الانتخابية، تأثير القمع الحكومي، التفاعل مع الأحزاب والحركات السياسية الأخرى، وتأثير العديد من نشطاء الحزب الذين يعيشون في المنفى في الديمقراطيات الليبرالية).

ـ الثاني، وقد استلهمه من نظريات رولز بشأن كيفية تعامل العقائد الشاملة مع حقيقة الخلاف الأخلاقي العميق عند دخولها عالم السياسة الديمقراطية، إذ يعتقد رولز أنه بمجرد أن تدخل الجماعات السياسية في النقاش العام، إلى جانب جماعات أخرى لا تشاركها عقيدتها الشاملة، فمن المنطقي أن تخرج من الدائرة الضيقة لآرائها الخاصة لتطوير مفاهيم سياسية تُمكّنها من شرح وتبرير سياساتها المفضلة أمام جمهور أوسع، وذلك لتشكيل أغلبية.

ـ الاحتمال الثالث، وهو الذي ركبه الباحث انطلاقا من الاحتمالين السابقين. ويرى أنه لا ينبغي اعتبار التحول إلى "الديمقراطية المسلمة" محطةً على الطريق نحو العلمانية الكاملة أو إجماعا رولزيا متداخلًا، حيث يوجد التزام مبدئي بعدم المطالبة بالقوانين على أساس العقيدة الدينية. بل يمكن اعتباره في المقام الأول استجابةً للظروف السياسية الأساسية (الخلاف والصراع)، وتفضيلًا لتسوية دستورية سلمية، يُمكن للأحزاب من خلالها النضال من أجل آرائها وبرامجها الخاصة. ويسجل الباحث أن هذا يختلف عن النظرية الإسلامية المثالية التقليدية في أنه لا يُنظر لنظام سياسي إسلامي شامل منذ البداية، بل يفترض وجود عالم السياسة القائم بالفعل. كما أنها لا تتخلى عن السعي لتحقيق الأهداف الدينية في السياسة، ولكن اختيارها للأولويات قد يكون أكثر سياقية، وارتجالية، ويحدده الحكم السياسي في ظل الظروف المتغيرة.

مقالات مشابهة

  • من جولة محافظ إدلب محمد عبد الرحمن في بلدات كفرنبل وحاس وكفروما للاطلاع على الواقع الخدمي فيها، والتعرف على الاحتياجات التي تسهّل عودة الأهالي إليها
  • حين تكتب الروح لتجد نفسها
  • محافظ الغربية لعمال النظافة: أنتم الأيدي التي تصنع الجمال في شوارع مدننا
  • في مدح المصطفى| الإنشاد الديني في مصر.. رحلة الروح عبر أنغام المداحين.. من طوبار إلى التهامي.. أصوات مصرية تضيء السماء
  • شرطة دبي توزع وجبات الإفطار على بحارة السفن الخشبية
  • ابن الفارض سلطان العاشقين وشاعر التصوف أنشودة حب لاتنتهى.. زهد الدنيا واعتزل الناس وتماهى مع المحبوب وعاش قيد الروح
  • الكونغو الديمقراطية: ثوران بركان نيامولاجيرا.. ولا يوجد خطر مباشر على السكان
  • وساطة قطر تحيي آمال التوصل إلى حل بين رواندا والكونغو الديمقراطية
  • ترحيب دولي بالوساطة القطرية التي جمعت الكونغو الديمقراطية ورواندا
  • تأملات في النظرية الديمقراطية عند راشد الغنوشي.. قراءة في كتاب