صدق أو لا تصدق.. هذا ما يحدث في أفغانستان الجديدة
تاريخ النشر: 30th, January 2024 GMT
ترسل لنا أفغانستان الجديدة رسالة أمل ملهمة، تدعم إصرار أولئك المقاومين والمناضلين من أجل الحريّة، وترينا كيف أن طريق التغيير يبدأ بطرد الاحتلال.. كما تقدّم لنا كذلك درسًا في خطورة الصور النمطية التي يتمّ بيعها لنا، لإضعاف ثقتنا في الذات، وتقديم الصّديق في صورة عدوّ، والطيّب بوجه شرير.
كنتُ قد أشرت في مقالي السابق إلى هذه الرحلة الأولى من نوعها التي قدّر لي أن أقوم بها إلى كابل في وقت يتصاعد فيه استبسال المقاومة في غزة.
التعامل مع مشكلة صناعة المخدِّرات، والنجاح في تجفيف هذا القطاع بسرعة يعدان أيضًا من أبرز معالم النجاح في تجربة طالبان الجديدة
وسيكون غريبًا أن نعلم أن الموضوعين اللذين يتصدران أولويات الحكومة الحالية (حكومة طالبان)؛ هما: التنمية الاقتصادية، وتوفير بيئة تشجّع على الحد من الهجرة من البلاد. يبدو هذا مدهشًا مقارنة بالأخبار التي اقترنت باسم أفغانستان طوال العقود الماضية، عندما كانت اللغة السائدة في هذا البلد هي لغة الاحتلال والعنف والحرب وعدم الاستقرار، ولم يكن من الوارد أن ينشغل أحد بمثل هذه المواضيع، ولكن -صدق أو لا تصدق- هذا ما أصبح عليه الحال بالفعل عندما انتهى الاحتلال قبل عامَين ونصفٍ.
أولئك المهاجرون غير النظاميين أو اللاجئون الذين يتحركون من بلد إلى آخر – ونرى كثيرين منهم في تركيا- يشكلون عالميًا انطباعًا سلبيًا عن بلادهم المليئة بالمشاكل. ونظامُ طالبان الذي كافح الاحتلال الأميركي طوال 20 عامًا يعتبر نجاحه في طرد ذلك الاحتلال نصرًا مباشرًا وصريحًا للإسلام، ولذلك يعتبرون – كما أدركت خلال الزيارة – أن المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم هي الحفاظ على كرامة هذا الجهاد، ونصاعته وشرفه، وأن يكون أداؤُهم لائقًا بالراية التي يرفعونها، وأكبر اختبار يواجهونه في حالة كهذه هو وقف تدفّق البشر من أفغانستان إلى بلدان أخرى.
ولن يحدث هذا إلا بالتعامل مع الظروف التي تدفع الناس إلى الهجرة، حيث لا توجد فرص عمل، ولا ظروف معيشية مواتية، كما لم يكن هناك – لوقت طويل – وضع سياسي يبعث الأمل في صدور المواطنين الأفغان.
ولا شك أن مشكلة اللجوء والهجرة غير النظامية من أفغانستان لم تبدأ في العامين أو الثلاثة الأخيرة، أي في عهد طالبان. بل على العكس، فإن الاحتلالات المتعاقبة من روسيا وأميركا، والحروب الأهلية التي استمرت 45 عامًا هي التي عرقلت بشكل كبير تشكيل اقتصاد مستقر ومبشر في البلاد، وجعلتها دولة منتجة للاجئين والمهاجرين. واليوم، تحت الإدارة الثانية لطالبان، وللمرة الأولى منذ 45 عامًا، انعكس الحال، فتم إقامة حكومة مستقرة تغطي البلاد بأكملها وتسمح للمرة الأولى بالتفكير في مشكلة التنمية الاقتصادية.
التعامل مع مشكلة صناعة المخدِّرات، والنجاح في تجفيف هذا القطاع بسرعة يعدان أيضًا من أبرز معالم النجاح في تجربة طالبان الجديدة، فعلى مدى عقود من عدم الاستقرار، كانت المخدِّرات أكبر مدخلات الاقتصاد الأفغاني.. يتعيّش عليها عدد كبير من المواطنين، ولا يسعى الاحتلال بصورة جادة لمواجهتها، بل يمكن القول إنه يستفيد منها، فقد كان جزء من تمويل الاحتلال يعتمد على هذه الصناعة، كما أنه كان يستفيد من تزايد نسب الإدمان للحدّ من المقاومة.
عندما طردت طالبان المحتلين من البلاد، أنتجت صور الأشخاص – الذين تشبثوا بعجلات وأجنحة طائرات الشحن الأميركية – انطباعات معقدة حول رغبة المواطنين من الفرار من البلاد. وكانت الفكرة السائدة في وسائل الإعلام الغربية هي أن طالبان ستجعل البلاد غير صالحة للعيش. وتصاعدت التوقعات بأن تسعى إدارة طالبان للانتقام والتقليب في سجلات الماضي، وسيسرع ذلك من وتيرة الهجرة من بلد كان ينتج المهاجرين بالفعل.
ولكن ما حدث كان غير ذلك، إذ أعلنت إدارة طالبان عفوًا عامًا فور توليها السلطة، قائلة إنه لن يتم ملاحقة أي شخص بسبب علاقته بالنظام القديم ما لم يكن قد انتهك حقوق الإنسان. وحتى هذه اللحظة، ما زالوا ملتزمين بهذا الوعد. وساهم هذا في إيقاف هذا التسارع في معدلات الهجرة.
لم يكتفِ المسؤولون بهذا العفو الذي يَطال من هم داخل البلاد، فخلال الأشهر الأخيرة، تبحث حكومة طالبان عودة العديد من الأفغان – الذين هاجروا سابقًا إلى باكستان – إلى بلادهم. وبهذا الرشد تواجه طالبان أحد أكبر التحديات التي تواجهها في أفغانستان، عاملة على خلق الظروف التي تحفظ مواطنيها داخل البلاد، وتأمين السلام والهدوء الاجتماعي إلى حد كبير.
الخطوة التالية هي تطوير البلاد لتصبح مكانًا أفضل للعيش، بحيث لا يحتاج المواطنون للهجرة إلى أماكن أخرى، وذلك عبر تحقيق شروط التنمية الاقتصادية.
وَفقًا للوزراء الذين تحدثنا معهم، هناك جهود جادّة جارية لتحقيق هذا الهدف. لم تقم إدارة الولايات المتحدة الأميركيّة التي دامت 20 عامًا بأي استثمارات في البنية التحتية، أو المنشآت الصناعية أو في خلق موارد اقتصادية للناس. والإدارة الجديدة تعمل بجد للقيام بهذه الاستثمارات، وتعوّل بشكل خاص على التعاون الاستثماري مع الدول الإسلامية.
أفغانستان تقدم فرصًا جيدة جدًا للمستثمرين في مجالات الطاقة، بناء البنية التحتية، المعادن، الزراعة، ورأس المال البشري. لديها بالفعل سكان شباب، مجتهدون، ماهرون، سريعو التعلم ولا يتهربون من الصعوبات.
كما أن لديها أراضي واسعة عالية الجودة تصلح للزراعة. ويمكن جعل البلاد مركز جذب للمستثمرين الدوليين في مجال النسيج أو الصناعات التي تحتاج إلى العمالة الكثيفة، وذلك من خلال حملة ترويجية تعرض أفغانستان كدولة فرص.
وقريبًا قد يأتي مستثمرو تلك الصناعات إلى أفغانستان، كما يذهبون إلى الصين، الهند، بنغلاديش وباكستان، وحتى مصر. وسيكون ذلك خطوة للتنمية الاقتصادية وطريقة فعّالة لمنع الهجرة من مركز البلاد.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
عمليات التبريد أبرز التحديات لمحاصيل أفغانستان الزراعة
في سهول ولاية غزني شرقي أفغانستان، تُقطف سنويا آلاف الأطنان من التفاح والعنب، لكن قليلا منها فقط يصل إلى الأسواق العالمية بجودة مناسبة، ويُعزى ذلك بشكل أساسي إلى غياب مستودعات التبريد. وفي بلد يعتمد فيه أكثر من 80% من سكان المناطق الريفية على الزراعة كمصدر رزق، يشكّل هذا النقص أكثر من مجرد خلل لوجستي، فهو عائق اقتصادي كبير يُهدِر فرصا تصديرية ثمينة ويزيد من اعتماد البلاد على جيرانها.
ويُعتبر القطاع الزراعي أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد الأفغاني، إذ يشكّل نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر فرص العمل لنحو 40% من السكان، ويعتمد عليه أكثر من 4 أخماس سكان الأرياف لتأمين قوت يومهم، حسب تقارير دولية.
ورغم هذه الأهمية، يواجه القطاع تحديات كبيرة، من أبرزها ضعف الاستثمار، وغياب التقنيات الحديثة، لا سيما سلاسل التبريد. وتُفاقم الأوضاع السياسية والأمنية الهشة من صعوبة تطوير هذا القطاع الحيوي.
واقع الزراعة في ظل حكومة طالبانومنذ سيطرة حركة طالبان على السلطة في أغسطس/آب 2021، شهد القطاع الزراعي تراجعا ملحوظا في الدعم الحكومي، إلى جانب تقلّص الاستثمارات الخارجية.
ويشير مزارعون إلى تزايد الصعوبات في الحصول على المستلزمات الزراعية والوصول إلى البنية التحتية الأساسية، لا سيما مستودعات التبريد. وعلى الرغم من استمرار مساهمة الزراعة بنسبة تفوق 30% في الناتج المحلي، فإن نقص شبكات التخزين يؤدي إلى هدر كبير في المحاصيل وتراجع فرص التصدير.
إعلانوتعد مستودعات التبريد ضرورة ملحة للحد من الفاقد في ظل هذه الظروف، إذ يُفقد جزء كبير من المحاصيل الزراعية، خاصة الفواكه والخضروات، قبل أن تصل إلى الأسواق.
التفاح والعنب مثالان بارزان على ذلك، إذ تُرسل الكميات المنتجة إلى باكستان، حيث تُخزن وتُعالج ثم يعاد تصديرها تحت اسم باكستان.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن أفغانستان تخسر بذلك فوائد تصديرية كان يمكن أن تعزز اقتصادها الهش. يقول أحد التجار في ولاية غزني للجزيرة نت إن "المنتجات التي ننتجها الآن غير معيارية ولا يقبلها أي بلد، ولكن إذا تمكنا من معالجتها وتنظيفها بشكل صحيح، سيكون من الممكن تصديرها إلى الدول الأوروبية".
تحديات إضافية تواجه المزارعين في أفغانستان، إذ لا تقتصر التحديات على التخزين فقط، فالمزارعون يواجهون أيضا صعوبات في النقل نتيجة رداءة الطرق، إلى جانب الرسوم الجمركية المرتفعة التي تُضعف من تنافسية المنتجات الأفغانية.
كما أن القطاع الزراعي يفتقر إلى خدمات الإرشاد الزراعي والدعم الفني، مما يؤثر سلبا على كفاءة المزارعين ويزيد من حجم خسائرهم. ورغم هذه العقبات، تبذل الحكومة الأفغانية جهودا لتحسين الوضع، مستفيدة من الدعم المقدم من دول مثل الصين التي تساهم في مشاريع مستودعات التبريد.
وتُعد ولاية غزني من أبرز المناطق الزراعية في البلاد، وتنتج مجموعة متنوعة من المحاصيل مثل التفاح والعنب والمشمش، بالإضافة إلى القمح والشعير، غير أن غياب مستودعات التبريد فيها يجعل تصدير هذه المحاصيل إلى الخارج أمرا بالغ الصعوبة.
ويشير المزارعون في غزني إلى أن منتجاتهم تُنقل إلى باكستان ليُعاد تخزينها وتصديرها من هناك، الأمر الذي يؤدي إلى حرمان أفغانستان من عائدات تصديرها المجدية.
إعلانمن جهته، يوضح ذلك سعيد الله أندر -وهو مزارع محلي في مديرية أندر- بقوله: "نحن نزرع التفاح والعنب والمشمش، ولكن بسبب النقص في المستودعات، يتم تدمير جزء كبير من المحاصيل قبل أن نتمكن من تصديرها. لو كانت لدينا مستودعات تبريد، لتمكنا من تصدير محاصيلنا إلى الأسواق الأوروبية، وكان ذلك سينعكس بشكل إيجابي على دخلنا".
واستجابة لهذه التحديات، أطلقت الحكومة المحلية في غزني مشاريع تهدف إلى إنشاء مستودعات تبريد حديثة.
وأوضح محمد زكريا هوتك، المتحدث باسم مديرية الزراعة والري، أن هذه المبادرات تسعى إلى تحسين جودة المنتجات الزراعية من خلال تخزينها وفق معايير مهنية، بما يسهم في تقليل الفاقد وتعزيز فرص التصدير.
دور الصين في بناء مستودعات التبريدوفي إطار دعم البنية التحتية الزراعية، تلعب الصين دورا محوريا من خلال المساهمة في بناء مستودعات تبريد معيارية.
وتشمل هذه المشاريع إنشاء 3 مستودعات في ولايات كابل، وتخار، وبدخشان، بسعة إجمالية تبلغ 1500 طن. كما تم الانتهاء من مستودع إضافي بسعة 500 طن في ولاية ميدان وردك.
وتُعد هذه الخطوات جزءا من حزمة مساعدات صينية تهدف إلى تقليل الهدر وتعزيز القدرات التصديرية للمنتجات الزراعية الأفغانية.
وتتواصل جهود الحكومة الأفغانية لتطوير مستودعات التبريد في هذا المجال بالتوازي مع المبادرات الدولية. وأكد مصباح الدين مستعين، المتحدث باسم وزارة الزراعة والري والرعاية الحيوانية، أن بناء هذه المستودعات سيساهم في حفظ الفواكه والخضروات لفترات أطول، مما يقلل من الخسائر ويُعزز من تنافسية المنتجات الزراعية في الأسواق الإقليمية والعالمية.
التبريد ليس رفاهية في بلد يواجه أزمات معقدة، قد تبدو مستودعات التبريد تفصيلا بسيطا، لكنها في الواقع أحد المفاتيح الأساسية لتحسين الاقتصاد الزراعي. من دونها، ستظل المحاصيل عرضة للتلف، والمزارعون عاجزين عن الوصول إلى الأسواق الخارجية.
لذا، فإن الاستثمار في البنية التحتية التخزينية، إلى جانب توفير الدعم التقني والمالي، يُعد ضرورة حيوية لتحويل الزراعة الأفغانية إلى قطاع منتج ومنافس. ويبقى السؤال المطروح: هل تملك الحكومة وشركاؤها الدوليون رؤية شاملة تُمكّن من إنقاذ هذا القطاع المحوري؟