بوابة الوفد:
2025-03-16@05:07:42 GMT

ابن البلد المتخفى فى زى الباشا

تاريخ النشر: 29th, January 2024 GMT

اقتربت من سعيد عبدالغنى كثيرًا فى بداية التسعينيات من القرن الماضى، وبعد فترة ليست بالقصيرة بدأت شخصية هذا الفنان الكبير تنكشف أمامى، فإذا بى وقد كونت فكرة خاطئة عنها، مفادها أنه شخص متعالٍ يتعامل بكبر مع الآخرين، يعيش فى برج عاجى غير مسموح لأحد بأن يقتحم خلوته، فإذا بى أجدنى أنا الذى أخطأت فى حق هذا الإنسان النبيل.

. فهو ابن بلد مصرى حقيقى عاش حياته كلها وسط البسطاء من الناس، حافظ على صداقاته منذ بداية العمر حتى منتهاه، بل إنه حرص على جمع عدد كبير من أهل الفن وكان هدفه الأسمى هو فتح أبواب الرزق لهم دون دعاية أو إعلان، فكان سعيد عبدالغنى ونجوميته تسمح بذلك.. يقوم بتسكين عدد غير قليل من أهل الفن فى كل عمل فنى يشارك فيه.. وفى مسرحية بودى جارد كانت غرفة سعيد عبدالغنى هى الكعبة التي يحج إليها ضيوف المسرح وحتى زملاء سعيد فى المسرحية وعلى رأسهم نجم نجوم عالمنا العربى بأسره عادل إمام، ولم يكن سمير خفاجى يأنس لأحد بقدر ما أنس لاثنين اجتمعت لهما نفس الصفات سعيد عبدالغنى وعزت أبوعوف، وفى المسرح كان سعيد عبدالغنى حريصاً على سعادة كل من حوله، ذلك لأن أى حالة بؤس داخل كواليس المسرح كفيلة بأن تنتقل كما فيروس الكورونا إليه هو شخصياً، ولهذا كان عمال المسرح والبوفيه وما يطلق عليهم فى الوسط الفنى «السكاليه» محط أنظار ورعاية وعناية سعيد عبدالغنى، وكنت أحياناً أتعجب لهول المساعدات التى يقدمها سعيد عبدالغنى لبعض البسطاء، وكان يقرأ دهشتى من نظرات عينى.. ويضحك وهو يقول.. يا كراملة يا صاحبى.. أجمل شىء فى الوجود إنك تخلى الناس اللى حواليك سعداء.. جمهور المسرح جاى علشان يدور على السعادة.. ودافعين دم قلبهم فى التذكرة والمؤلف والمنتج عملوا البدع علشان العمل يطلع مبهج وإحنا المسئولين عن توصيل البهجة.. مش للجهور بس .. لا .. لكل الناس اللى داخل الكيان المسرحى ده.. احنا هنا علشان نسعد كل الناس، ولم يكن سعيد عبدالغنى يغفل حقه هو شخصيا فى السعادة، كيف لا وله من اسمه النصيب الأعظم.. وجدته عاشقاً للطرب القديم الأصيل ويهوى سماعه من شاب رائع الصوت جميل الصفات اسمه سهل يزبك، وهو المطرب الرائع الشهير الآن.. خصص سعيد عبدالغنى يوم فى الأسبوع لكى يسلم أذنيه ومعها أذن شخصى الضعيف لصوت سهيل يزبك وهو يغنى لنا الدرر والجواهر التى تركها لنا الأولون.. وفى مكان شديد الروعة والجمال فى الزمالك كان سعيد عبدالغنى يقصده كل يوم إجازة فى المسرح وهو موجود فى مكان ليس له نظير، والداخل إليه يشعر كأنه فى قصر من قصور أسرة ابن مصر العظيم محمد على.. من حيث التنسيق النادر للخضرة والنباتات والأناقة الرفيعة التى هى سمة المكان، ولم يكن المكان وحده فقط هو الذى جذب شخص سعيد عبدالغنى ولكن صاحبه الحاج نعيم وهو مواطن سورى جاء إلى مصر منذ قديم الزمن، وحدث عشق بينه وبين حى الزمالك الراقى الهادئ.. فقرر أن يبنى مكاناً يليق بهذا الحى ورقيه وبالتبعية أصبح المكان هو محلاً يجتمع فيه أهل الفن والإبداع سمير خفاجى وسمير صبرى وعزت أبوعوف ومحمد أبوداود وحسن مصطفى والعديد من أهل القلم كلهم انتقل إليهم فيروس حب المكان من سعيد عبدالغنى، وقد اسمتعت ذات يوم إلى انتقاد حاد من أحد المقربين لشخصى الضعيف من أهل الفن بحق سعيد عبدالغنى.. وكان الرجل قد تعرض لأزمة صحية طاحنة منعته من الحرية والخروج من المنزل.. وعندما جاءت لحظة مناسبة للبوح.. طرحت على سعيد عبدالغنى آلام صديقنا المشترك وعتابه.. وهنا تغيرت ملامح الوجه الوسيم البشوش وحل محل الابتسامة.. حزن هادئ.. وأخذ نفساً عميقاً ثم قال.. يا رب انت عارف انا بحب هذا الرجل على المستوى الإنسانى والفنى.. وبيننا مساحة من الود لا حدود لها.. وله محبة فى قلبى الكل يعلم بها وانا كما كل انسان فيه عيوب.. ودعنى أقول لك إن أخطر هذه العيوب.. هى عدم القدرة على تحمل صديق عزيز وغالٍ يتألم أو يعانى أو يواجه عجزاً فى متطلباته، من السهولة أن أذهب إليه وأعوده فى مرضه.. ولكن لك أن تتخيل.. أن الصورة التى سوف اراه عليها.. ستظل تلازمنى ليل نهار وتؤرق نومى وتقلب المواجع.. فأقارن بين حاله قبل المرض وبعده، وأظل اعيش هذه المأساة دون توقف.. وبناء عليه أنا أفضل أن أهرب من هذه الحالة، وأن أضحك على نفسى وأوهم نفسى بأن الصديق بخير وعلى ما يرام.. وأنه يمر بوعكة سرعان ما سيعود أفضل مما كان وأظل أحتفظ له بالصورة الجميلة التى تمتعنى وتسعدنى، بالتأكيد صدقت سعيد عبدالغنى لأننى بحق لمست إنساناً بمعنى الكلمة.. اتسع قلبه للجميع وساعد كل من وقع فى طريقه، ولون حياة من حوله بلمسة من الجمال والسعادة كلما استطاع.. أتذكر آخر كلمات سعيد عبدالغنى وهو يعانى الإحساس الأسوأ فى حياته.. عندما منعوه من الكتابة فى محبوبته الأهرام المسائى وكان يحرر صفحة أسبوعية كل يوم ثلاثاء وكان يحرص يوم الاثنين ليلاً على أن نذهب معاً إلى ميدان التحرير لشراء عشرة نسخ من الجريدة ولا يذهب إلى بيته إلا بعد أن يقوم بقراءة الصفحة كاملة.. وكانت السعادة تغمر كيانه بأكمله.. فقد كان رغم الشهرة والنجاح الذى تحقق فى عالم الضوء يشعر بأن المهنة التى خلق من أجلها وأسعدته هى مهنة الصحافة منذ كان مراسلاً عسكرياً فى بدايات حياته وحتى وقعت عليه أنباء صاعقة بأن رئيس التحرير الجديد منع نشر كتاباته وأن الصفحة سوف يتولى تحريرها غيره.. هنا قال سعيد عبدالغنى.. يا أكرم الكارثة فى بلادنا هى الاختيار بين الأفضل.. والمفضول.. اليوم تمر خمس سنوات كاملة على رحيل الفنان الذى يشبه الباشوات فى المظهر وإن سكنه فى حقيقة الأمر ابن بلد مصرى شهم لا مثيل له، رحم الله سعيد عبدالغنى.


 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: أهل الفن فيروس الكورونا أهل الفن من أهل

إقرأ أيضاً:

تياترو الحكايات| ملك محمد.. صوت ذهبي حمل راية المسرح الغنائي بعد سيد درويش

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يُعد المسرح بصفته «أبو الفنون»، ساحة تنصهر فيها مختلف أشكال التعبير الإبداعي، حيث يتكامل الأداء الحى مع عناصر السمع والبصر، لتجسيد الأفكار والمشاعر الإنسانية فى تجربة فنية متكاملة، فمن على خشبته، قدم الفنانون أعمالا خالدة تحمل رسائل مجتمعية وثقافية، أسهمت فى تشكيل وعى الأجيال، بفضل فرق مسرحية تركت بصمة لا تُمحى فى تاريخ الإبداع المسرحى المصرى والعربى.

وفى سياق الاحتفاء بهذا الإرث العريق، تسلط «البوابة نيوز» خلال ليالي شهر رمضان المبارك الضوء على نخبة من الفرق المسرحية التى شكلت علامات فارقة في مسيرة المسرح، محليا وعربيا.

وعلى الرغم أن بعضها توقف بعد رحيل مؤسسيه، إلا أن إبداعاته لا تزال شاهدة على زمن من العطاء والتميز، مؤكدة أن المسرح الحقيقى لا يموت، بل يبقى نابضا بإرث رواده ورؤاهم الخالدة.

الفنانة والملحنة ملك محمد

برز اسم الفنانة والملحنة ملك محمد خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، حيث تألقت كمطربة وملحنة موهوبة، بالإضافة إلى إتقانها العزف على العود، اسمها الحقيقى زينب محمد أحمد الجندى، وسرعان ما لفتت أنظار كبار الملحنين، وعلى رأسهم زكريا أحمد، الذى أشاد بجودة صوتها وتميز أدائها، وبعد وفاة سيد درويش عام 1923، حملت ملك محمد راية المسرح الغنائى، لتصبح واحدة من أبرز رموزه فى ذلك العصر.

البداية الفنية والتأثر بمنيرة المهدية

بدأت محمد مشوارها الفنى وهى طفلة عام 1912، حيث كانت تغنى فى الأفراح، مقلدة أصوات المطربات المشهورات آنذاك، وخاصة منيرة المهدية، التي كانت شديدة الإعجاب بها، حسبما ذكر المؤرخ المسرحي الدكتور عمرو دوارة، فدفعها شغفها بالموسيقى إلى دراسة أصول الغناء على يد كبار الملحنين، مثل إبراهيم القبانى، عبده قطر، زكريا أحمد، كما تعلمت العزف على العود على يد الموسيقار محمد القصبجى.

الانطلاق فى المسرح الغنائى

بفضل موهبتها، انضمت إلى فرقة «أولاد عكاشة» عام 1925، حيث قدمت الطقاطيق والأدوار الغنائية بين فصول المسرحيات، وسرعان ما انتقلت بين عدة فرق مسرحية، منها: فرقة «الجزايرلى»، فرقة «فوزى منيب» فى 1926.

ثم انضمت إلى فرقة أمين صدقي كمطربة وممثلة، وشاركت في أعمال مثل «الكونت زقزوق» و«عصافير الجنة»، ثم عادت إلى تختها لتغنى الطقاطيق بكازينو «البسفور» بالقاهرة، وأحيت حفلات خيرية.

نجاح وتألق وسط كبار الأدباء

حظيت محمد بإعجاب نخبة من الشخصيات البارزة، مثل شاعر النيل حافظ إبراهيم، الدكتور محجوب ثابت، محمود شاكر باشا، الشيخ عبدالعزيز البشرى، وأمير الشعراء أحمد شوقى، الذى منحها فرصة غناء أشعاره، حتى استطاعت أن تحمل بمفردها راية المسرح الغنائى خلال فترة الأربعينيات.

تأسيس فرقة «أوبرا ملك» والمسرح الغنائى

استطاعت محمد أن تؤسس فرقتها الخاصة «أوبرا ملك»، التى قدمت أكثر من 30 عملا مسرحيا غنائيا خلال الأربعينيات والخمسينيات، ومن أبرز أعمالها: «الطابور الأول»، «ماسية»، فى 1940، «بترفلاي»، «عروس النيل» فى 1941، «بنت بغداد» فى 1942، «سفينة الغجر» فى 1943، «بنت السلطان» 1944، «الطابور الخامس» فى 1945، «فاوست»، «كيد النسا» فى 1946، «نصرة» فى 1948، «بنت الحطاب» فى 1949، «فتاة من بورسعيد» 1957، «نور العيون» 1958، وغيرها من الأعمال.

التعاون مع كبار الممثلين والمخرجين

عملت ملك محمد مع مجموعة من أهم الممثلين، مثل إحسان الجزايرلي، محمد توفيق، عبدالبديع العربي، حسين صدقي، يحيى شاهين، صلاح نظمي، صلاح منصور، عايدة كامل، حسن يوسف، وغيرهم. كما تعاونت مع كبار المخرجين، ومنهم زكي طليمات، السيد بدير، نور الدمرداش، عبدالعليم خطاب، وغيرهم.

إرث فنى خالد

على مدار مسيرتها الفنية، أثبتت ملك محمد أنها ليست مجرد مطربة، بل كانت ملحنة بارعة، وعازفة عود متمكنة، ورائدة فى المسرح الغنائى، حيث واصلت حمل شعلة هذا الفن بعد رحيل سيد درويش، ورغم مرور الزمن، لا تزال أعمالها علامة بارزة فى تاريخ المسرح الغنائى المصرى.

 

 

مقالات مشابهة

  • شاهيناز : بحب صوت أصالة وسميرة سعيد .. فيديو
  • خميس بن سعيد الشقصي
  • الأربعاء.. حدوتة ومسرحية مع سيد رجب
  • مؤسس «الحضرة»: تأثرت بالشيخ النقشبندي ونقلت الإنشاد من المسجد إلى المسرح (فيديو)
  • تألق محمود الليثي بحفل كامل العدد
  • وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين خلال مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية أسعد الشيباني: الشعب السوري عانى مثلنا من سياسات حزب البعث وكان في نضال مستمر للتخلص من النظام الشمولي ونظام الفرد الواحد
  • جحيم وسط البلد.. سر نشوب حريق معامل الصحة.. ومن أين بدأ؟
  • الغامدي: سعيد بالفوز مع الاتحاد ومستقبلي بيد الإدارة
  • تياترو الحكايات| ملك محمد.. صوت ذهبي حمل راية المسرح الغنائي بعد سيد درويش
  • المعاينة الأولية: ماس كهربى وراء حريق المعامل المركزية لوزارة الصحة