عندما استنت الولايات المتحدة قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار في عام 1890، ساق السيناتور جون شيرمان المبرر المشهور: «إذا لم نكن لنتحمل ملكا كقوة سياسية، فلا ينبغي لنا أن نتحمل ملكا يحكم إنتاج ونقل وبيع أي من ضروريات الحياة. وإذا لم نكن لنخضع لإمبراطور، فلا ينبغي لنا أن نخضع لمستبد في عالم التجارة، يملك سلطة منع المنافسة وتحديد سعر أي سلعة أساسية».

الهدف الحقيقي من قانون مكافحة الاحتكار إذن هو الحد من القوة الاقتصادية والسياسية المفرطة التي قد تتمتع بها شركات الأعمال. بيد أن التشريع الأصلي اعتبر تقييد التجارة فقط غير قانوني. وقد وجدت المحاكم أن هذا الأمر شديد الغموض، فأرغمت الكونجرس ــ في الأعوام 1914، و1936، و1950 ــ على توضيح ممارسات السوق غير القانونية، ولكن دائما دون الإشارة إلى ممارسة القوة. وعلى هذا ففي الممارسة العملية، كانت سياسة مكافحة الاحتكار تُـسـتَـخـدَم لضمان حرية دخول المنافسين إلى جميع الأسواق. في حين عارض ميلتون فريدمان مكافحة الاحتكار لأنها تخلق البيروقراطية، فإن أغلب المعارضة لها استندت إلى الادعاء بأنها تعاقب الأفضل لكونه الأفضل.

تمكن أهل الاقتصاد والباحثون القانونيون من جامعة شيكاغو، مثل روبرت بورك، من إقناع المحاكم بأن الغرض الحقيقي من قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار كان تعزيز رفاهة المستهلك. المشكلة الوحيدة الوثيقة الصلة بهذا الأمر هي سعر السوق في الأمد القريب ــ وليس قوة السوق. ذلك أن القوة الاحتكارية والممارسات التجارية لا تشكل أهمية كبرى إذا كانت شركة ما هي الأفضل وتقدم منتجات بأسعار وجودة تفيد المستهلكين.

وعلى هذا فقد زعم خبراء الاقتصاد في شيكاغو (بدون أدلة) أن التسعير الجائر المناهض للمنافسة لا يمكن تمييزه عن «المنافسة الشديدة» التي تعود بالفائدة على المستهلكين. وبعد أن بدأت المحكمة العليا ذاتها تستشهد بالأبحاث الأكاديمية من مدرسة شيكاغو كدليل في أحكامها بشأن دعاوى مكافحة الاحتكار، أصبح من النادر أن تُـقام دعاوى التسعير الجائر. بيد أن الادعاء بأن مكافحة الاحتكار تعاقب الأفضل لكونه الأفضل معيب بوضوح. ذلك إن كونك «الأفضل» يتحول في حقيقة الأمر إلى مقارنة فارغة إذا كانت الشركة التي تمتلك التكنولوجيا الأكثر تقدما شركة احتكارية تستحوذ على منافسيها.

ففي نهاية المطاف، لا تتمكن الشركات التي قد تشكل تحديا تنافسيا من الانطلاق أبدا. على نحو مماثل، يشكل التركيز على الأسعار الحالية سياسة معيبة لأنه يعفي الاستراتيجيات الديناميكية التي تستخدمها الشركات لبناء قوة السوق، وهذا في حد ذاته يضر برفاهة المستهلك بمرور الوقت.

في بحث أجرته عام 2017، تقول لينا خان، التي تشغل حاليا منصب رئيس لجنة التجارة الفيدرالية، إن ممارسات شركة أمازون التجارية تنتهك قانون مكافحة الاحتكار لأنها تشمل التسعير الجائر والتكامل الرأسي غير القانوني. لكن إثبات مثل هذه الانتهاكات في المحاكم كان لفترة طويلة مهمة بالغة الصعوبة. في محاولة لاستعادة فعالية سياسة مكافحة الاحتكار، استغلت خان وقتها في لجنة التجارة الفيدرالية لإقامة دعاوى المقصود منها إقناع المحاكم بأنها تبنت تفسيرا معيبا لقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار. ولكن من المرجح أن تكون هذه الاستراتيجية قاصرة. ما نحتاج إليه حقا هو سياسة جديدة أكثر قوة لمكافحة الاحتكار استنادا إلى قانون أعرض.

كما أشرح في كتابي «التكنولوجيا وقوتها السوقية»، يتمثل التحدي الرئيسي الذي يواجه مكافحة الاحتكار في حرص الشركات التي تستعين بتكنولوجيات متقدمة على بناء قوة سوقية قانونية لانتزاع أرباح احتكارية. في حين أن دخول السوق مجاني (على سبيل المثال، يمكن لأي شركة بيع الهواتف الذكية)، لا تستطيع الشركة الوافدة استخدام تكنولوجيا مسجلة الملكية (مثل Apple iPhone). للتنافس في هذه السوق (الهواتف الذكية العالية الجودة)، يتعين عليها أن تخترع تكنولوجيا جديدة وتنتج مُـنـتَـجا متفوقا. لكن هذا أمر بالغ الصعوبة، وأي محاولة ستستفز ردود فعل عدوانية من جانب الشركة القائمة (شركة أبل). ونتيجة لذلك، أصبحت التحديات التنافسية نادرة، وأصبحت قوة السوق راسخة.

أعلنت قوانين مكافحة الاحتكار وقرارات المحكمة العليا أن الأرباح الناجمة عن إبداع تعتبر «بريئة» لأنها تنتج بشكل عفوي، وليس نتيجة لتدبير متعمد لتقييد التجارة. الواقع أن قوة التكنولوجيا السوقية المتراكمة قانونية وغير خاضعة للتنظيم، ليس هذا فحسب؛ بل يدعمها أيضا قانون براءات الاختراع، وهو ما يتعارض بالتالي مع هدف قانون مكافحة الاحتكار الأصلي. المعنى الضمني هنا هو أن لجنة التجارة الفيدرالية لا يمكنها إقامة الدعاوى القضائية إلا ضد الكيفية التي تدير بها الشركات أعمالها، وليس ضد قوتها الاحتكارية الفعلية. لنأخذ على سبيل المثال منصة تحكم الألعاب Xbox من شركة ميكروسوفت، التي كانت حصتها السوقية 13% فقط في عام 2022 وكانت حصتها السوقية من الألعاب أصغر. عرضت ميكروسوفت الاستحواذ على Activision Blizzard مقابل 68 مليار دولار، ولإثبات أنها لا تعتزم منع منصات أخرى من استخدام ألعاب Activision، أعلنت شركة ميكروسوفت أن الألعاب ستكون متاحة على جميع منصات التحكم لمدة عشر سنوات. وبما أن دخول سوق الألعاب الجديدة يظل مجانيا لأي شخص، فبوسع المرء أن يتوقع السماح بهذا الاندماج، نظرا للرأي الذي تتبناه المحاكم حاليا. باستخدام استراتيجية خان، عارضت لجنة التجارة الفيدرالية استحواذ شركة ميكروسوفت، معللة ذلك بضرورة منع إمبراطورية التكنولوجيا التي تبلغ قيمتها 2.7 تريليون دولار من الاستفادة من قوتها الحالية لاكتساب مزيد من القوة. ولكن، كما كان متوقعا، سمحت المحكمة بمواصلة عملية الاندماج. الواقع أن هدف خان الحقيقي من غير الممكن أن يتحقق بالاستعانة بالقوانين القائمة.

إن القوة السوقية التي تمتلكها التكنولوجيا قانونية، وبالتالي لا يمكن الطعن فيها. وبقدر ما هي خطيرة الآن، فإن هذه القوة ستصبح أشد خطورة في عصر الذكاء الاصطناعي.

بسبب افتقارها إلى الأدوات اللازمة للحد من القوة السوقية التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا المهيمنة، فإن أقصى ما قد تتمكن لجنة التجارة الفيدرالية من تحقيقه في قضاياها المعلقة لن يتعدى بضع تغييرات طفيفة في الممارسات التجارية الحالية.

من ناحية أخرى، سوف تستمر القوة السوقية الحالية التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا العملاقة في إحداث تأثير سلبي كبير على الكفاءة الاقتصادية، والنمو، والتفاوت في الدخل، والاستقطاب الاجتماعي. تتطلب معالجة المشكلة على النحو الوافي العودة إلى الهدف الأصلي من سياسة مكافحة الاحتكار، والذي يتلخص في تقييد قوة الشركات. من الأهمية بمكان توسيع القوانين الحالية حتى يصبح تقييد قوة الشركات السوقية هدفا واضحا. وبما أن الهيمنة التكنولوجية هي المصدر الرئيسي لقوة السوق، فإن منع التركز التكنولوجي يجب أن يكون هدفا صريحا لقانون مكافحة الاحتكار. ويجب أن يكون المستوى المسموح به من القوة السوقية متسقا مع المستوى الذي يكفله قانون براءات الاختراع، ويتطلب هذا حظر عدد كبير من الاستراتيجيات التي تستخدمها الشركات لتعزيز وتوسيع قوتها السوقية.

على سبيل المثال، ينبغي للقانون أن يشجع الإبداع ولكن يقيد الاستحواذ على المنافسين أو تكنولوجياتهم؛ وينبغي له أن يعالج قدر الإمكان قابلية التشغيل البيني للأنظمة البيئية الرقمية المرتبطة عبر نظام تشغيل واحد؛ كما ينبغي له أن يمنع الشركات من قمع التكنولوجيات المتفوقة التنافسية. يجب أيضا إصلاح قانون براءات الاختراع ذاته. كثيرا ما تُـمـنَـح البراءات لاختراعات تافهة، لذا فلابد من رفع معايير الموافقة. ويتعين على صناع السياسات أن يعملوا على منع نشوء التكتلات الهرمية من براءات الاختراع المترابطة التي تعمل على إطالة أمد قوة السوق إلى ما هو أبعد كثيرا من مقصد قانون براءات الاختراع. وهذا يتطلب التمييز بين براءة الاختراع الأولية لشيء جديد حقا وبراءة الاختراع الثانوية التي يعتمد وصفها على براءة اختراع أولية.

ويجب أن تُــمـنَـح براءات الاختراع الثانوية لمدة لا تتجاوز نصف مدة براءة الاختراع الأولية. من الأهمية بمكان تعويض المبدعين، ولكن لابد أيضا من صيانة المنافسة وحرية الاختيار من خلال انتهاج سياسة سليمة متوازنة. سوف يكون اقتصاد الولايات المتحدة والديمقراطية الأمريكية أكثر صحة في ظل وجود عدد أكبر من الشركات القوية القادرة على المنافسة. أعتقد أن الكونجرس على استعداد للنظر في تشريع لتقييد قوة السوق الصاعدة في أمريكا. وينبغي للجنة التجارة الفيدرالية أن تعمل مع المشرعين لتحقيق هذه الغاية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لجنة التجارة الفیدرالیة لمکافحة الاحتکار قوة السوق من القوة

إقرأ أيضاً:

خطيب بالأوقاف: الاحتكار جريمة أخلاقية وحرب صريحة مع المجتمع والدين

قال الشيخ الدكتور محمود الأبيدي، خطيب وأحد علماء وزارة الأوقاف، إنه في وقت تتزايد فيه الأزمات الاقتصادية وتضيق الأحوال المعيشية على المواطنين، يظل شبح الاحتكار كواحد من أخطر الظواهر التي تنخر في جسد المجتمع، وتضرب قيم العدالة والرحمة في مقتل، فقد حذرت الشريعة الإسلامية من هذا الفعل المشين، وجعلته من الكبائر التي تفسد حياة الأفراد وتشيع الكراهية بين الناس، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ». 

وأضاف الأبيدي، أن المحتكر لا يعاني فقط من انعدام الضمير، بل هو في حرب صريحة مع المجتمع والدين، مؤكدًا أن المال حين يُجمع دون بركة، يصبح نقمة تهلك صاحبها قبل أن تضر غيره.

دعاء بين السجدتين.. ردد 7 كلمات يفتحها الله عليك فتحا يتعجب منه أهل السموات والأرضهذا الأمر يجعل دعاءك مستجابا وتفتح له أبواب السماء.. اغتنمه

وأشار الى أن من يحتكر السلع الأساسية مثل الغذاء والدواء، إنما يعتدي على حق الفقير والمريض، ويُعرض الأمن المجتمعي لخطر الانهيار.

وسلط الضوء على شخصيات تاريخية ضربت أروع الأمثلة في الكرم والرحمة، مثل الصحابي الجليل عثمان بن عفان، الذي رفض احتكار الطعام زمن المجاعة، وفضّل بيع بضاعته للفقراء بسعر الكلفة، قائلًا: «أربح بها عند الله»، كما استُشهد بسير أعلام من العصر الحديث، أبرزهم الحاج محمود العربي، الذي عرف كيف يوازن بين الربح والتقوى، فترك وراءه إرثًا من المحبة والاحترام.

وأكد أن الاحتكار ليس قضية اقتصادية فقط، بل هو أزمة أخلاقية وسقوط في مستنقع الأنانية والجشع. ومن هنا تأتي دعوة العلماء بضرورة قيام الجهات الرقابية بدورها، ووعي المواطنين بأهمية دعم التجارة النزيهة، ومقاطعة المحتكرين الذين يسعون لمراكمة الأموال على حساب آهات الجائعين والمحرومين.

مقالات مشابهة

  • إنجاز سعودي في جنيف.. جهاز ذكي لعلاج ومتابعة مرضى التصلب المتعدد عن بعد
  • خطيب بالأوقاف: الاحتكار جريمة أخلاقية وحرب صريحة مع المجتمع والدين
  • الصحة النيابية:تعديل لقانون مكافحة المخدرات لحظر المواد التي تدخل في صناعة المخدرات
  • وزير الاستثمار: تعزيز الجهود المشتركة لتسهيل دخول المنتجات المصرية إلى السوق التونسي
  • براءات الاختراع تجعل المغرب يتصدر الابتكار الطبي بالقارة السمراء
  • جوجل تواجه دعوى قضائية بتهمة الاحتكار في بريطانيا
  • مدبولي يتفقد أعمال إنشاء السوق الحضرية بحي أول الإسماعيلية: مشروع متكامل للقضاء على العشوائيات ودعم التجارة المحلية
  • "إيرميس" تصبح أكبر شركة من حيث القيمة السوقية في بورصة باريس
  • حازم المنوفي: قانون العمل الجديد خطوة نحو التوازن والاستقرار في السوق
  • المواد الغذائية بالإسكندرية: قانون العمل الجديد خطوة نحو التوازن والاستقرار في السوق