الجنود السودانيون الذين ذهبوا للمكسيك (1863 – 1867م): تاريخ عالمي من وادي النيل إلى شمال أمريكا (1 -2)
تاريخ النشر: 29th, January 2024 GMT
The Sudanese Soldiers Who Went to Mexico (1863 – 1867): A Global History from the Nile Valley to North America (1 2)
هيذر شاركي Heather J. Sharkey
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة مختصرة للجزء الأول من مقال عن تاريخ الجنود السودانيين بالجيش المصري الذين ذُهب بهم للمكسيك بين عامي 1863 و1867م، نُشِرَ في الفصل السابع من كتاب صدر عام 2023م بعنوان: "Ordinary Sudan, 1504 - 2019"، وهو يمثل المجلد السادس في سلسلة صدرت تحت عنوان: Africa in Global History.
وقد حظيت قصة الذهاب بالجنود السودانيين إلى المكسيك بالكثير من الكتابات في الدوريات المتخصصة (3،2،1)، ونشر عنها في عام 1995م المؤرخان البريطانيان ريتشارد هيل وبيتر هوق كتاباً بعنوان "فيلق الصفوة الأسودA Black Corps de’ Elite "، صَرَمَا في بحثه قرابة نصف قرن كامل (4). ونشر قبلهما الأمير عمر طوسون (1872 – 1944م) كتاباً باللغة العربية عنوانه: "بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك" في عام 1933م (5).
وتعمل كاتبة هذه المقال هيذر جي. شاركي (1967 - ) أستاذةً في جامعة بنسيلفانيا الأمريكية، ولها عدد من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر، لعل من أهمها كتاب "العيش مع الاستعمار" الذي صدرت ترجمته للعربية في أواخر عام 2023م. وتعمل الكاتبة الآن على تأليف كتاب عن تاريخ الجنود السودانيين في المكسيك، تتناول فيه مواضيع شتى لم تُطْرَق من قبل إلا لِمَاماً.
المترجم
********* *********** ********
1/ مقدمة:
في يناير من عام 1863م أبحرت سفينة فرنسية من الساحل المصري متجهة إلى فيراكروز Veracruz (على خليج المكسيك) وعلى ظهرها 446 جندياً سودانيا، كانوا في الغالب الأعم قد وُلِدُوا ورُبُّوا في السودان، وتم الحاقهم بالجيش المصري بحسبانهم رقيقاً، ومِنْ ثَمَّ، أسلموا وأُعْطُوا أسماءً إسلامية. وبعد نحو أربع سنوات تقريبا (وتحديدا في مارس من عام 1876م) غادر 299 من أولئك الجنود الذين نجوا فيراكروز إلى تولون في فرنسا، ومنها إلى باريس، حيث لقوا التكريم والتشريف من امبراطور فرنسا نابليون الثالث. وأبحروا بعد ذلك إلى ميناء الإسكندرية حيث استقبلهم الخديوي إسماعيل، ومنح قادتهم الأوسمة والنياشين في مأدبة أقامها لهم قبل أن يؤبوا للسودان. وشارك بعض أولئك الجنود لاحقاً في حروب مصر التوسعية على الجبهة الحبشية (الإثيوبية) بشمال – شرق أفريقيا. بينما عمل بعضهم في دارفور والمناطق الاستوائية على النيل الأبيض (التي تشمل الآن جنوب السودان وشمال يوغندا). وقُتِلَ أربعة من قدامى المحاربين في المكسيك مع الجنرال غوردون عند سقوط (فتح) الخرطوم عام 1885م، بينما انضم بعض أولئك الجنود إلى جيش المهدي في حربه ضد الحكم التركي – المصري. وفي عام 1896م، والجيش الإنجليزي – المصري يبدأ هجومه لـ "استرداد" السودان، روي أحد قدماء المحاربين بالمكسيك، واسمه علي جفون، بعض الذكريات عن أيام كتيبته في المكسيك (6). وشكلت تلك الذكريات تاريخا شفاهيا مهما لهذه الدراسة. وتأخذ القصة غير المألوفة لأولئك الجنود التاريخ السوداني إلى ما هو أبعد من وادي النيل وعلاقات البلاد مع القوى الاستعمارية في مصر وبريطانيا؛ في حين أنها تمكننا من تتبع حلقات أطول بين شمال إفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية وغرب آسيا خلال سنوات القرن التاسع عشر. ويضيء لنا هذا "التمرين" شيئاً من تاريخ الرق والعرق وتكوين الجيوش وبناء الامبراطوريات، ويمثل تاريخاً مقارناً للحرب الأهلية والطائفية الدينية. وفي ذات الوقت، تظهر قصة أولئك الجنود كيف أن خدمتهم العسكرية في المكسيك منحتهم فرصاً للترقي في سلك الخدمة العسكرية بالجيش المصري، وجعلتهم في ذات الوقت يشاركون في فصول شكلت تاريخ السودان. وأخيراً، قدمت مهن أولئك الرجال دليلاً على وجود شبكات ربطت بين المكسيك الولايات المتحدة وفرنسا ومصر وبريطانيا من جهة، وبين سودانيين two Sudans – السودان، وجنوب السودان (الذي انفصل عن السودان عام 2011م)، من جهة أخرى.
وتمثل قلة المصادر تحدياً كبيراً لدراسة أولئك الجنود. وكان تدخل الفرنسيين (مثل الامبراطور نابليون الثالث) في المكسيك في ستينيات القرن السادس عشر، ومحاولتهم إقامة مملكة حليفة لهم فيها، قد أفضى لإنتاج نحو 300 كتاب باللغات الفرنسية والإنجليزية والاسبانية عن دور الفرنسيين في المكسيك في تلك الفترة، ولم يتطرق أي كتاب إلا نادراً جدا للدور الذي أداه الجنود السودانيون في المكسيك. بينما تعتمد هذه الدراسة كلياً على السجلات العسكرية الفرنسية، التي شملت صوراً ورسومات، وقوائم شرف، وفوق كل ذلك، السجلات الطبية لأولئك الجنود، إضافة لما كُتِبَ عن تاريخ العسكرية المصرية والسودانية، وما حُصِرَ من أوانٍ وأدوات وأسلحة وما إلى ذلك (artifacts) مما يستعمل في الحياة اليومية.
2/ التدخل الفرنسي في المكسيك:
كان دخول فرنسا للمكسيك في عام 1861م هو الدخول الثاني لها. فقد كان ما عُرِفَ بـ "التدخل الأول" أو "الحرب الفرنسية – المكسيكية الأولى" أو "حرب المعجناتPastry War " (7) قد وقعت في عامي 1838 و1839م، بعد نحو عقدين من نيل المكسيك لاستقلالها من إسبانيا، وعقب تعرض المصالح الفرنسية في المكسيك إلى الخطر، وحدوث الكثير من الخلافات السياسية والتغيرات في الأنظمة الحاكم، وشيوع الفوضى والسلب والنهب بالبلاد، وعجز السلطات المحلية عن الحفاظ على الأوضاع الأمنية فيها. وعند غزوها الأول للمكسيك عام 1938م، زعمت فرنسا بأنها إنما تدافع عن مصالح التجار ورجال الأعمال الفرنسيين الذين كان يستهدفهم قطاع الطرق المكسيكيين.
واستخدمت فرنسا في تلك الحرب تكتيكات سبق لها أن استعملتها في الجزائر قبل سنوات. فقد استغلت فرنسا ما عُرِفَ بحادثة "مروحة يد الداي Fly Whisk Incident" (8) التي اعتبرتها فرنسا إهانة لها، وبرَّرَت بها غزو الجزائر. وكان قادة جمهورية المكسيك على علم بأفعال فرنسا في الجزائر وبأطماعها التوسعية فيها. ومع ازدياد سوء العلاقة بين فرنسا والمكسيك، أصر قادة المكسيك على أنه لا ينبغي لفرنسا أن " تعامل المكسيك معاملة "البربر أو الجزائريين الذين كان الفرنسيون يستعدون لتأجيل دفع ديونهم عليهم في شمال أفريقيا". ومن المهم ذكر تلك التفاصيل، إذ أنها تذكرنا بالتشابه التاريخي بين شمال أفريقيا وشمال أمريكا في القرن التاسع عشر، والأدوار التي كان يؤيدها المضاربون، ومن يرغبون في الاستيطان، والتجار، وضباط الجيش، والإداريون المدنيون، في نشر الإمبريالية في العالم. وتمكننا تلك التفاصيل كذلك من إدراك الصلات بين التشابكات العالمية للمغرب العربي ووادي النيل في تلك الفترة؛ بينما تظهر كيف أن اتجاهات ومواقف الفرنسيين تجاه "الكتيبة المصرية السوداء" ربما تكون، في مختلف الظروف والأحول، وبغض النظر عن النتيجة، قد تأثرت بما لاقاهم من الجزائريين.
وقامت حرب أهلية بالمكسيك بين عامي 1858 و1861م حرب أهلية وُصِفَتْ بأنها حركة "من الكريول إلى المستيزو (from creole to mestizo)، وهذا تقسيم عنصري كولونيالي يشير عادة إلى حالة كون الأب إسبانياً والأم فلبينية أو صينية. وكان الكريول (الذين يمثلون النخبة من ذوي الأصول والثقافة الإسبانية، ويؤيدون الملكية، ولهم ارتباط قوي بالتراتبية الكاثوليكية) قد فقدوا السلطة، وظفر بها في عام 1861م الليبراليون من ذوي الأصول الأمريكية المحلية الذين اختلطوا بالإسبان. وبسبب الأزمة الاقتصادية بالبلاد، أقدم الرئيس الليبرالي بينيتو بابلو خواريز على تأجيل سداد ديون بلاده لبريطانيا فرنسا وإسبانيا. فتحالفت تلك الدول مع بعضها وهددت المكسيك بالحرب. وسمحت بريطانيا وإسبانيا أخيراً للمكسيك بتأجيل سداد ديونهما، إلا أن فرنسا (تحت قيادة الامبراطور نابليون الثالث) قررت غزو المكسيك، مظهرةً "دبلوماسية الزوارق الحربية".
وكان نابليون الثالث يحلم بإعادة مجد فرنسا وتوسيع امبراطوريتها في الأمريكيتين، وتعويض بيع فرنسا لولاية لويزيانا إلى الولايات المتحدة، وفقدان هايتي. وكان غاضبا من ضم الولايات المتحدة لتكساس التي كانت جزءاً من المكسيك، وضمها لأراضٍ غدت لاحقاً هي ولايات كالفورنيا وأريزونا ونيو مكسيكو. وكان نايلون الثالث يحلم بتحقيق إنجازات مثل التي حققها عمه نابليون الأول في مصر مثلاً بين عامي 1798و1801م، حين غزا مصر، ليس فقط بالجنود، ولكنه جلب معه في حملته العسكرية عدداً من الخبراء والعلماء (savants) في تخصصات مثل الآثار وعلمي الحيوان والنبات، قاموا بالعديد من الأبحاث والدراسات التي جُمِعَتْ في عشرين مجلدا وصدرت بعنوان "وصف مصر Description de l'Égypte". وكان نابليون الثالث يحلم بتحقيق مثل ذلك "الإنجاز الثقافي" في المكسيك، الغنية بالثروات الزراعية والمعدنية، وبالحضارة والتاريخ العريق. وكان لنابليون مطمع آخر في المكسيك يتمثل في حفر قناة عبر نيكارغوا لتصل بين المحيطين الهادي والأطلسي، وهي قناة قدر أنها ستزيد من نمو التجارة الفرنسية وتمنع المزيد من التوسع الأمريكي، وستجعل من نيكارغوا مركزاً للازدهار يفوق إسطنبول. وكان عام 1861م وقتاً مناسبا لغزو نابليون الثالث للمكسيك وذلك لانشغال الولايات المتحدة حينها بحربها الأهلية، وعدم استطاعتها تنفيذ "مبدأ مونرو"، وهو بيان أعلنه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في رسالة سلّمها للكونغرس الأمريكي في 2 ديسمبر 1823م. وكان "مبدأ مونرو" ينادي بضمان استقلال كل دول نصف الكرة الغربي، وبعدم السماح بتكوين مستعمرات جديدة في الأمريكيتين، بالإضافة إلى عدم السماح للمستعمرات التي كانت قائمة بالتوسع في حدودها (8)، ويشير لضعف احتمال قيام الولايات المتحدة بمساندة العناصر المكسيكية الليبرالية. وأخيراً، هناك عامل مهم (لم يلتفت إليه الكثيرون)، وهو عامل الإيدلوجيات العرقية التي أدت دورا في تدخل الفرنسيين في المكسيك، وطلبهم من مصر إرسال جنود سودانيين. فقد كان نابليون الثالث ومستشاروه (من أصحاب الأفكار الكبيرة) يرون أن المكسيكيين هم من عرق أدنى (من البيض)، وهم مثل الأطفال، في حاجة لحكومة ملكية ذات حضارة أوروبية تنقلهم من حالة الفوضى التي سادت في أوساطهم بعد الاستقلال. وكان الفرنسيون في المكسيك يعرفون أنفسهم بمنظور عرقي على أنهم ينتمون إلى "العرق اللاتيني" المرتبط بالشعب المكسيكي لغوياً (كونهم يتحدثون الإسبانية أو الفرنسية) وثقافياً (باعتبارهم من الروم الكاثوليك). واُسْتُخْدِمَتْ تلك الأفكار من أجل تأكيد سيطرة فرنسا على المكسيك (في مقابل سيطرة الأنجلو- ساسكون على بقية شمال أمريكا، وكذلك من أجل تسخير السيطرة الفرنسية لتحقيق "ارتقاء حضاري" في الأمريكيتين؛ إذ كان الفرنسيون بالمكسيك يؤمنون بالتفوق الفرنسي، ويكنون أشد الاحتقار للسكان المكسيكيين. وشكل هذا جزءًا أصيلاً من أركان سياسة فرنسا - تحت حكم نابليون الثالث- التي قامت على أساس عرقي.
ومع غزو الجنود الفرنسيين للمكسيك في ديسمبر من عام 1861م فكر نابليون الثالث في تنصيب ملك كاثوليكي عليها. ووقع اختياره على الأرشيدوق النمساوي فريدينان ماكسميليان، وهو من أقرباء الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا. وقبل الرجل ذلك المنصب في 1863م بعد أن وُعِدَ بتلقي العون العسكري والاقتصادي من فرنسا. وبلغ فريدينان ماكسميليان فيراكروز في يوم 29 مايو 1864م، وبقيت عائلته في مدينة مكسيكو تنعم بحياة شديدة البذخ في قصرها بالمدينة.
غير أن تلك الخطة كانت مجرد وهم. فقد كانت المقاومة للملكية شديدة الضراوة، ولم يحظ ماكسميليان (وحرمه) بأي شعبية تذكر في أوساط السكان، مثلما كان نابليون الثالث يزعم. ولجأ اللبراليون أنصار الجمهورية للهجوم على القوات الفرنسية في سلسلة من المعارك الصغيرة، كان المكسيكيون ينتصرون فيها دوماً وذلك لمعرفتهم بتضاريس المناطق التي كانوا يحاربون فيها. وفي تلك الأثناء ساءت العلاقات بين القوات الفرنسية والقوات البلجيكية والنمساوية التي جاءت للمكسيك مساندةً لماكسميليان، إذ كانت مرتباتهم تقل عن مرتبات الجنود الفرنسيين. ووجد ماكسميليان نفسه مختلفاً في كثير من الأمور مع نابليون الثالث وغلاة المحافظين من النخبة البيضاء في المكسيك. بل ووجد ماكسميليان نفسه يتفق إلى حد ما مع الليبراليين (وعلى رأسهم بنيتو خواريز) في بعض النقاط التي كان من أهمها الإقرار بمزايا الحرية الدينية (حتى للبروتستانت) وقانونية بيع بعض المباني الدينية. وكان ماكسميليان أكثر تعاطفاً مع الأقليات العرقية بالمكسيك من غيره من المحافظين، بل حتى من بعض الليبراليين.
وصعبت الحياة على الأوروبيين الذين قدموا للمكسيك، ومات الكثير منهم بسبب الأمراض، خاصة الحمي الصفراء (التي ورد أنها أصابت حتى ماكسميليان وزوجه). وسرت نظرية مؤامرة / إشاعة مفادها أن ما حل بالإمبراطور وحرمه هو نتيجة "عمل" من "الهنود" (أي الأمريكيين الأصليين) بالبلاد، الذين أفلحوا في تسميم دماغيهما ببطء وبشكل غير محسوس. وفي الحقيقة كان ماكسميليان قد أصيب بزحار (دوسنطاريا) مزمنة، بينما كانت زوجه قد أصيبت بالاكتئاب وبمرض عقلي.
ولكل تلك الأسباب لم يصب التدخل الفرنسي القصير الأجل في المكسيك أي نجاح يذكر، فهرب منه لمعسكر الليبراليين الكثير من الجنود المكسيكيين (كالجرذان التي تفر من سفينة غارقة، في قولٍ لأحد الكتاب)؛ ولا عجب، فقد كانوا غاضين من عدم صرف مرتباتهم. ومع انسحاب القوات الفرنسية تولى أمر حمايتهم من هجمات الفدائيين المكسيكيين جنود الكتيبة السودانية وجنود جزائريون. وكان الجنود السودانيون هم ضمن آخر القوات التي غادرت المكسيك في مارس عام 1867م، أي قبل ثلاثة أشهر من القبض على ماكسميليان واعدامه رميا بالرصاص. ومع انتهاء ذلك التدخل الفرنسي، أعاد بنيتو خواريز الحكم الجمهوري للمكسيك.
3/ العلم والعرق ووصف الجنود السودانيين
قرر نابليون الثالث، مقتدياً بما قام به عمه نابليون الأول في مصر، إنشاء "هيئة علمية" في المكسيك كجزء من التدخل الفرنسي. وعين فيها عدداً من العلماء والخبراء المدنيين من اللغويين ورسامي الخرائط والجيولوجيين (الذين اهتموا بصورة خاصة بمصادر الذهب والفضة)؛ وشجع أيضا ضباط جيشه على إجراء البحوث، خاصة في مجال الطب. وكانت فكرة جلب جنود سود من مصر إلى المكسيك قد نبعت من تلك البحوث الطبية.
لقد كانت الصحة العامة مسألة استراتيجية مهمة شغلت بال الفرنسيين الغزاة. فمنذ أربعينات القرن السابع عشر ظلت قوى أوروبا الإمبريالية في منطقة البحر الكاريبي الكبرى تواجه معضلة مرضين قاتلين هما الملاريا والحمى الصفراء، وضعا حدودا ايكولوجية على توسعهما. واعتبر البعض أن الحمى الصفراء – بوجه خاص – شكلت بقوة تاريخ الامبراطوريات والثورات في تلك المنطقة. وبحسب ما جاء به كبير الجراحين في الجيش الأمريكي (الذي كان قد عمل في مجال القضاء على الحمى الصفراء في قناة بنما بعد عام 1904م، ونشر عنها كتاباً كاملاً في عام 1915م) فقد عانت الجيوش الفرنسية بصورة كارثية من الحمى الصفراء في الأمريكيتين. وذكر ذلك الجراح أنه في حوالي عام 1803م كان نابليون الأول قد أرسل حملة فرنسية إلى هايتي متجهة للويزيانا قوامها 25,000 جندياً، غير أن تلك الحملة فقدت 22,000 من رجالها دفعة واحدة بسبب إصابتهم بوباء الحمى الصفراء الذي كان قد تفشى في المنطقة.
وكان طبيب الأمراض المدارية العسكري الفرنسي جان - بابتيست فوزييه قد أدى دوراً مهماً في البحث العلمي عن ذلك المرض ومكافحته في فرنسا في منتصف امبراطورية سنوات القرن الثامن عشر. وبعثت السلطات الفرنسية بذلك الطبيب من الصين إلى فيراكروز في 1862م ليدير مستشفاها العسكري بعد أن مات مديرها الأول متأثرا بالحمى الصفراء. وما أن بدأ فوزييه عمله الجديد حتى أصيب هو نفسه بذات المرض، غير أنه نجا من الموت، وعاد ليعالج مرضاه العديدين. واكتشف فوزييه أنه لا يزال يكابد من أجل فهم بعض الحقائق الأولية عن أسباب ذلك المرض ونتائجه، وما هي معدلات الوفاة بسببه؟ وهل بالإمكان السيطرة عليه؟ وهل نشأ من هذه المنطقة عفوياً أم أنه جُلب إليها من خارجها. وربط العلماء لاحقاً بين الحمى الصفراء وبين أفريقيا، بحسبانها هي مصدر المرض الذي كان الأهالي يطلقون عليه " القَيء الأسود El vómito de negro". غير أنه لم يكن معروفاً في زمن جان - بابتيست فوزييه أن البعوض هو من ينقل ذلك المرض، إلى أن اكتشف علماء يعملون في كوبا عام 1900م أن ناقل ذلك المرض هو البعوض المسمى علمياً Aedes aegypti (الذي ينقل أيضا حمى الضنك وحمى زيكا Zika) (9). وعد بعض العلماء مؤخراً أن تلك البعوضة هي "أخطر حيوان قاتل للبشر في العالم". وكانت لذلك الطبيب العسكري أيضاً موهبة الرسم والتلوين بألوان الماء. وقد وُجدت بالفعل في السجلات الطبية لمرضاه رسومات مائية (وكانت stylized، أي منمطة ولا تعكس الواقع) لوجوه بعض جنود الكتيبة السودانية بفيراكروز.
لقد غذت نوعية ذلك التفكير العنصري في البحث الطبي، عند فوزييه وزملائه، وبطرق عديدة، محاولات تفسير سبب جلب أولئك الجنود السودانيين للقتال في المكسيك. ووزع كبير المسؤولين بالجيش الفرنسي في المكسيك (على العاملين بالقطاع الطبي) قائمة بتعليمات طبية أورد فيها الأعراق المختلفة التي يضمها جيشه (شملت بعض الأوربيين من غير الفرنسيين، وسكان أمريكا الأصليين indigène، والكريول creoles (10)، ومختلطي الأعراق)؛ وكيف أن لكل عرق من هؤلاء قدرات واستعدادات مَرَضِيّة pathological aptitudes معينة. وضرب لهم ذلك المسؤول مثلاً بالأوروبيين الذين يقعون فريسة سهلة للأمراض في الفصل الحار بفيراكروز، بينما يتمتع الزنوج بحماية تامة منه. ولا تزال بعض الدوائر العلمية والطبية تؤمن بأن للشعوب السوداء مناعة سَلِيقِيَّة المنشأ (innate immunity)، وهي نظرية قديمة نسبياً، رفضها غالب علماء العصر الحديث، إلا أنه لم يتم دحضها تماماً إلى الآن. غير أن الكثير من الأطباء والعلماء الفرنسيين قبلوا نظرية مناعة السود السَلِيقِيَّة المنشأ، وأن الجنود الأفارقة سيقاومون الحمى الصفراء التي أهلكت الكثير من أفراد الجيش الفرنسي. لذا اتصلوا بخديوي مصر سعيد باشا في عام 1863م وطلبوا منه أن يعيرهم ثلاث كتائب من "بلاد السودان" (جنوب مصر) الذي كان محمد علي باشا قد سيطر عليه منذ 1820م. غير أن الخديوي سعيد باشا أرسل لهم كتيبة واحدة. وكان الخديوي قد استجاب – جزئياً – لطلب الفرنسيين تقديراً لهم، ولرغبته في الحفاظ على علاقته بالفرنسيين، وخلق توازن بين نفوذهم ونفوذ البريطانيين في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. وكان يأمل أيضا في أن يكتسب جنود جيشه من السودان تدريباً على الطرق العسكرية الفرنسية الحديثة، التي ستساعد الجيش المصري لاحقاً في حروبه.
********** ************ ***********
إحالات مرجعية
1/ https://shorturl.at/foG38
2/ https://shorturl.at/juEYZ
3/ https://shorturl.at/jltT6
4/ https://shorturl.at/nuxC4
5/ كتاب عمر طوسون مبذول في موقع هنداوي: https://www.hindawi.org/books/16820202/
6/ يمكن النظر في ترجمة مقال "مذكرات جندي سوداني (علي أفندي جفون)" https://shorturl.at/szGNZ
7/ للمزيد عن "حرب المعجنات"، يمكن النظر في هذا الرابط: https://shorturl.at/sHKQ5
8/ https://shorturl.at/ajkLM . ويمكن الاطلاع على المزيد عن ذلك المبدأ في موقع المعرفة https://rb.gy/a3iwko
9/ المصدر هو ورقة علمية تجدها في هذا الرابط: https://shorturl.at/cmJK9
10/ الكرويل هم أوربيون أصلهم أوروبي (معظمهم فرنسي أو إسباني)، أو من أصل أفريقي ولدوا في جزر الهند الغربية أو أجزاء من أمريكا جزر الهند الغربية، أو أجزاء من أمريكا الفرنسية أو الإسبانية (وبالتالي تم تجنيسهم في تلك المناطق وليس في موطن الوالدين). https://shorturl.at/cmHQ8
alibadreldin@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی الأمریکیتین التدخل الفرنسی الجیش المصری فی المکسیک ذلک المرض الکثیر من التی کان الذی کان فقد کان فی تلک غیر أن فی عام
إقرأ أيضاً:
تحديات كبيرة يواجهها السودانيون في ليبيا
ليبيا – أكد تقرير إخباري نشره “راديو دبنقا الدولي” السوداني الناطق بالإنجليزية استمرار مواجهة السودانيين المتواجدين على الأراضي الليبية العديد من التحديات.
التقرير الذي تابعته وترجمت المهم من مضامينه الخبرية صحيفة المرصد نقل عن رئيس منظمة الحد من الهجرة والعودة الطوعية للجاليات السودانية مالك الديجاوي تأكيده أن العديد من اللاجئين السودانيين يقومون برحلات محفوفة بالمخاطر عبر مدينتي طبرق والكفرة على طول الحدود الجنوبية لليبيا مع السودان.
ووفقًا للتقرير لا تظهر أي علامات على تراجع الصراع في السودان فيما تقدر مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين وصول أكثر من 100 ألف سوداني إلى ليبيا منذ أبريل من العام 2023، ناقلًا عن الديجاوي قوله أن هؤلاء يواجهون الاستغلال من قبل المهربين والابتزاز المالي.
وتابع الديجاوي أنه بذل جهودا لإطلاق مبادرة بهدف معالجة هذه الأضرار إلا أن التقدم توقف بسبب عدم الاعتراف الرسمي بجمعيات المجتمع السوداني متطرقا لمسألة الوصول إلى التعليم والإمدادات الشتوية الأساسية إذ باتت تحديًا أيضًا فالعديد من الأطفال لا يملكون وثائق لدخول المدارس في ليبيا.
وتحدث الديجاوي عن مواجهة الأسر في مدينة الكفرة صعوبات مالية ما يحتم مسارعة المنظمات الإنسانية إلى توفير الإمدادات الشتوية، مشيرًا لحواجز قانونية بضمنها الرسوم المرتفعة لاستخراج جوازات السفر السودانية إذ يكلف الواحد منها نحو 200 دولار ما جعل العديد من السودانيين بلا وثائق.
وشدد الديجاوي على أهمية خفض الرسوم وتسريع العمليات البيروقراطية لدعم اللاجئين مع الحاجة إلى خلق الاستقرار في السودان، متطرقًا لتحديات كبيرة أخرى تواجهها الأسر السودانية في الاندماج في المجتمع الليبي، ناقلاً عن أم نورين الناشطة السابقة في مجال حقوق الإنسان وجهة نظرها بالخصوص.
وقالت أم نورين إن الاختلافات الثقافية تؤدي إلى التنمر وانعدام مستقبل مستقر لأطفالها مشيرة لفرارها وأسرتها إلى ليبيا حيث الكفاح من أجل إيجاد الاستقرار مبدية في الوقت ذاته تذمرها من احتجاز ابنها ذو الـ14 عامًا في مدينة بنغازي لمجرد محاولته العمل لدعم الأسرة على حد زعمها.
ترجمة المرصد – خاص