لله درك يا أبا ذي يزن
تاريخ النشر: 29th, January 2024 GMT
د. أحمد بن علي العمري
تذكرت مشهداً للسلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وكأني أراه الآن، على الرغم من أنَّه حدث في السنة الأولى من بداية النهضة العُمانية عام 1970م، عندما وقف أمام مجسم لخارطة العالم وهو يقول "أريد أن أرى سفارة لسلطنة عُمان في كل بلد من العالم"، ومع أنَّ العمل الداخلي والبنى الأساسية كان شغله الشاغل، إلّا أنه- طيب الله ثراه- لم يغفل الجانب الخارجي فقد انتهج نهج الاعتدال والثوابت والمبادئ والقيم الراسخة.
سياسة عُمان الثابتة تقوم على عدم التدخل في شؤون الغير وعدم السماح للغير بالتدخل في الشأن العُماني، وعلى هذا يمكن قياس كل الأحداث الخارجية، فعندما وقّعت مصر اتفاقية السلام، قطع الجميع العلاقات معها؛ بل ونقلوا مقر جامعة الدول العربية إلى تونس، إلّا أن عُمان أبقت وبكل رسوخ على علاقتها مع الشقيقة مصر، فلا يمكن أن تفرض عُمان على مصر أو أي بلد آخر في العالم مع من تتعامل وكيف تتخذ قراراتها، المهم أن حبل الود يبقى ممدودًا ودون أي انقطاع.
هكذا مضت السنون، وفي كل حدث تُثبت عُمان موقفها الثابت الراسخ المعتدل، مثل موقفها من الحرب العراقية الإيرانية ثم الغزو العراقي للكويت وأخيرًا حرب اليمن.
الآن وبعد رحيل السلطان قابوس- طيب الله ثراه- ها هو حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- قائد النهضة المتجددة، يؤكد نفس التوجه ونفس الثوابت منذ الخطاب الأول بمناسبة تولي مقاليد الحكم، وهو الذي توسم فيه السلطان الراحل الخير والحكمة وأوصى به لتولي مقاليد الحكم من بعده.
الموقف الشهم النبيل من سلطنة عُمان تجاه أحداث غزة، وغيرها من المواقف الشامخة، تدفعنا أن نقول للسلطان الراحل- طيب الله ثراه- نمْ قرير العين في جنان الخلد إن شاء الله؛ فسلطنة عُمان وشعبها الأبي في أيدٍ أمينة حكيمة صادقة، كما إن علاقات عُمان ممتدة مع كل دول العالم، ولا يوجد للعُماني أعداء على وجه الكرة الأرضية. وما الزيارات التي يقوم بها جلالة السلطان بين الحين والآخر إلّا تأكيد ومواصلة لهذا التوجه، كما إن إعادة هيكلة الجهاز الإداري وتطبيق قواعد الحوكمة والمتابعة والتدقيق وتثبيت نهج العمل المؤسسي الناظر للآفاق البعيدة وتقليص الدين العام وإنشاء المجلس الأعلى للقضاء برئاسة جلالته لضمان استقلالية السلطة القضائية، وإعادة صياغة النظام الأساسي لمجلس عُمان، ثم منظومة الحماية الاجتماعية بمنافعها المتعددة، وتوحيد صناديق التقاعد والإعفاءات بين الحين والآخر عن بعض المعسرين والمضي بخطوات واثقة على مسار رؤية عُمان 2040.. كل هذه الإنجازات العظيمة حدثت في خلال 4 سنوات فقط، وهي مدة زمنية قصيرة جدًا؛ الأمر الذي يؤشر ويدل ويؤكد أن سلطنة عُمان ينتظرها مستقبل باهر وزاهر بإذن رب العالمين.
نعم إنه خير الخلف لخير السلف.. حفظ الله عُمان وسلطانها وشعبها.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
غزة.. أسرار الصمود والثبات
سالم البادي (أبو معن)
بعد يومين من وقف إطلاق النَّار في غزة، تتباين المشاعر بين الفرح بإنهاء حرب ضروس طويلة الأمد، والخوف من عودة استمرار الحرب الصهيونية على قطاع غزة، ويترقب سكان القطاع استكمال مراحل الاتفاق بحذر بالغ، مع أمل في استمرار حالة الهدوء الذي ساد القطاع.
لا شك أنَّ اتفاق وقف إطلاق النَّار جاء بعد الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني العظيم ومقاومته الباسلة في قطاع غزة، على مدار أكثر من خمسة عشر شهرا. لقد مرت أيام قاسية وأسابيع مؤلمة وشهور طاحنة على قطاع غزة، وهي تحمل معها رياح عاتية من الحزن والأسى، وألم الوجع والفقد، مخلفة وراءها الدمار في كل شبر من أرض غزة الأبية الشامخة الصامدة.
وامتدت يد الإرهاب الصهيوني المحتل لتنزِع الحياة من أنفس بريئة كل ما يعنيها في الحياة أن تحيا ببساطة وفي سلام، وترفع قلوبها نحو السماء لتذكر اسم الله. فهل هناك جريمة أبشع وأقذر من جرائم الإرهاب الصهيوني؟
ما جرى في قطاع غزة من أحداث وأهوال، ليست مجرد حرب واعتداء وجرائم صهيونية ضد الشعب الفلسطيني الشقيق، وإن كان هذا أمرًا عظيمًا وحدثًا فارقًا، لذا لا أكون مبالغًا إن قلت إنَّ "طوفان الأقصى" جاء ليكشف ويُسقط الأقنعة الزائفة المخادعة في عالمنا المعاصر، جاء ليظهر ويكشف حقيقة الصهيونية الكاذبة التي كانت تسوق لنفسها بأنها "حمامة سلام".
أظهرت هذه "الحرب الضروس" ثبات ورباط وقوة إيمان الفئة المؤمنة الصادقة المُخلصة المدافعة عن حريتها وكرامتها ودينها وعرضها وأرضها، وأثبتت للعالم بصمودها أنها لن تتخلى عن وطنها وستدافع بكل ما أوتيت من قوة ولآخر نفس فيها، قال تعالى: " وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ "(الأنفال: 60).
أمة ضربت أروع معاني الصمود والثبات والكفاح والمقاومة والجهاد فكانت مع الله وكان الله معها، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (الأنفال: 45).
لقد حولت المقاومة الفلسطينية مسار التاريخ، وأعطت دروسًا في التصدي للمحتل ولقنته درسا لن ينساه ولن تنساه الشعوب الحُرَّة.
وما جرى على أرض غزة هو نموذج نضالي وملحمة كبرى تجلت فيها كل معالم الإيمان، وارتسمت فيها صورة الإسلام الحقيقية، في الرضا والصبر والثبات والرباط، والعزة والأنفة، والإباء واليقين، وتجسدت فيها كل معاني العقيدة الإيمانية.
إن أرض غزة صارت اليوم محط أنظار شعوب العالم بثبات أهلها وصمودهم، فقد قدمت فصائل المقاومة الفلسطينية للعالم مثالًا حيًا في الإيمان الصادق، والأخلاق الإنسانية وأدب المعاملة، يرمقه العالم من بعيد بإكبار وإجلال، وجعل الرامقين في حالة ذهول وشرود ذهني سلبهم عقولهم.
أحداث غزة جعلت العالم كله من أقصاه إلى أقصاه ينظرون لهذه المشاهد وهم في حالة من الدهشة والذهول والإعجاب وهم يتساءلون: ما هذا الشعب العجيب؟ هل هؤلاء بشر مثلنا؟ وما هذه القوة الإيمانية التي يحملونها في صدورهم من صغار وكبار ونساء وشيوخ؟ وما الدافع أو السر الذي جعلهم يتحملون ويصبرون على كل هذا الكم الهائل من القتل والدمار والحرق والتعذيب والمجازر؟ ما السر في رفع معنوياتهم النفسية أثناء الحرب، رغم عظم الفقد وكبر الرزء ووحشة الحياة؟ ما سر صمود هؤلاء المقاومين المجاهدين المرابطين في ثغورهم؟ كيف استطاعوا أن يقفوا أمام أقوى وأعظم وأشرس الجيوش في العالم؟ هل هذا هو الشعب الذي كانوا يعُده الغرب وأمريكا والصهاينة إرهابيا قبل السابع من أكتوبر؟ هل هؤلاء الفلسطينيين إرهابيون كما يزعم الصهاينة؟
إنَّ ما رآه العالم في قطاع غزة من صبر وثبات، وقوة وبأس، وإيمان ويقين، وصمود وتحد، لا يمكن أبدًا أن يصدر عن إرهاب ولا من مخربين كما يزعم الصهاينة المحتلون! وإنما يصدر عن شعب استثنائي في تاريخنا المعاصر، ولا يمكن أن يصدر هذا عن شعب مجرد من كل مقومات الحياة، بل لابد من وجود سبب آخر وباعث مختلف ودافع آخر. إنه سر الإسلام وباعث الإيمان!
خلال هذه الحرب الضروس أخذت شعوب العالم تبحث عن سر هذا الإيمان، ويقرؤون عن ديننا الإسلامي.. أي دين هذا؟ هل يمكن لهذا الدين أن يوجه الناس لهذه السلوكيات، ويفضي بهم إلى هذا الطريق في الحياة؟
وبفضل الله العظيم قد شاهدنا العشرات والمئات؛ بل الآلاف من الناس من جميع بقاع الأرض يدخلون في الإسلام بما رأوه من رضا رغم الفقد، ومن ثبات رغم الفزع، ومن صبر رغم الجزع، ومن إيمان رغم وجود ما يؤدي للإلحاد!
إن ما جرى أمام العالم من حسن معاملة المقاومة الراقية الأخلاقية والإنسانية لأسرى العدو الصهيوني ليُمثل صورة إنسانية سامية باهرة مبهرة من أخلاق وسمات ديننا الإسلامي الحنيف الذي استمدت منه فصائل المقاومة الفلسطينية هذه الأخلاق العالية، وتلك الصورة الراقية في التعامل من خلال أوامر وتعاليم الإسلام العظيم، واتباعاً لسيرة نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فتجسد واقعا عمليا في خلق فصائل المقاومة المجاهدين، مما كان له تداعيات إيجابية انعكست على هؤلاء الأسرى أنفسهم، وعلى من يتابعون هذه المشاهد في العالم.
كما كان له تأثير واضح في المجتمع الصهيوني المُحتل نفسه، مما جعل حكومة العدو تُستفَز منه وتُنكره؛ بل وتمنع الأسرى من تصريحاتهم أمام وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ولكنها رغم ذاك نسفت صور أخلاقيات المقاومة الفلسطينية عبر الإعلام كل أكاذيبه الإعلامية القذرة.
وأخيرًا.. إنَّ معركة "طوفان الأقصى" أبرزت وأعادت ملف القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد، وأحيته في نفوس الأجيال الجديدة.
رابط مختصر