القراءة بالعربية لغير الناطقين بها.. بين إتقان المبنى وفهم المعنى
تاريخ النشر: 29th, January 2024 GMT
كيف يتقن بعض الناطقين بغير اللغة العربية القراءة بطلاقة ولا يفهمون كلّ ما يقرؤون؟!
في إطار العمل في مجال تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها يُبهرك بعض الطلبة بمهاراتهم في مجال القراءة، حتى لا يخيّل للسامع أن القارئ عربيّ، إذ يقرؤون بطلاقة ويحقّقون مخارج الحروف بدّقة عالية، ويتنبّه كثير منهم لمواطن الشدة والهمس والنّبر ومواقع الوصل والفصل بين الجمل، وما إلى ذلك من أشكال التلوين الصوتي الذي يبدو حاضرا بقوة في أدائهم.
إذا ما أمعنّا النظر في دقائق الأمر وجدنا أن الفضل في قدرة غير الناطقين بالعربية على القراءة بصحة وسلامة يعود في المقام الأول إلى نظام تشكيل الحروف في اللغة العربية بالحركات المعروفة حاليا من فتحة وضمّة وكسرة، وقد عُني العرب والصّحابة الكرام بهذا الأمر من قبل، وتنبّهوا إلى أهميته لقراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة وتحقيق معانيه بصحة قراءة ألفاظه وسلامتها، لا سيّما بعد انتشار الإسلام وتوسّع الرقعة الجغرافية التي شملها بدثاره واستظلت بظلاله، ودخول كثيرين من غير العرب إلى الإسلام وحاجتهم لقراءة القرآن وفهمه وتدبّر آياته واستيعاب ما جاء به من نظام حياتي قويم.
ولأجل ذلك عُني علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الأمر، ويقال إن أوّل من أوجد تنقيط الحروف هو التابعي الجليل أبو الأسود الدؤلي صاحب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وجاء من بعده تلامذته النّجباء فأكملوا التشكيل والتنقيط أمثال نصر بن عاصم اللّيثي، حتى استقر التنقيط والتشكيل بصورته النهائية في المصحف الشريف على يد عالم اللغة والبلاغة الشهير الخليل بن أحمد الفراهيدي.
ويعود الفضل في قدرة غير الناطقين بالعربية على القراءة بطلاقة بالدرجة الثانية إلى العناية بتحفيظ القرآن الكريم، فقلّما تجد متقنا للقراءة باللغة العربية من المسلمين غير العرب ولا يكون من حفّاظ القرآن الكريم، وقلّما تجد محقّقا لمخارج الحروف وصفاتها من العرب ولا يكون لحفظ القرآن وتلاوته فضل في ذلك، ومن المعلوم أنه إذا ما استقام لسان الطفل في قراءة القرآن وحفظه استقامت لغته، وحسنت مخارجه وأَبان وأعرَب.
إتقان القراءة أولا ثم يأتي الفهممن البدهيّ أن تسبق القراءة عملية الفهم والإدراك، لكنه من غير الطبيعي أن يقتصر الأمر على إتقان القراءة وإغفال وظيفتها الأساسية في تبليغ المعنى وإيصال المغزى وإشعال جذوة الفكر والعقل، فما نفع القراءة إن لم تخاطب العقل وتُخالط النفس؟ وما فائدتها إن لم تتحصل الغاية الأسمى منها؟ فبالقراءة يسمو الإنسان، وبالقراءة يرتقي في سلّم العلم ويدرك جوهر الحياة.
يعطي كثير ممّن يعتني بحفظ القرآن وتحفيظه من المسلمين من العرب وغيرهم الحفظَ عن ظهر غيب مكانةً أهم من الفهم، ويولونه اهتماما أكبر، أو لنقل بعبارة أدق: يهتمون بتحفيظ القرآن وإتقان تلاوته، ويتركون العناية بفهمه للقارئ نفسه، منطلقين من مبدأ حسن الظّن بالقارئ والحافظ غالبا، ظانّين أن من يستعصى عليه الفهم أثناء التلاوة والحفظ سيسأل وإن أراد سيبحث ويقرأ في كتب التفسير، أو سينضم للحلقات والدروس التي تُعنى بتفسير القرآن وشرحه.
بين القراءة وآلية الحفظليتنا وليتهم؛ نحن المسلمين عربا وعجما، نُولي فهم القرآن وتدبّر معانيه عناية مماثلة لحفظه وتحفيظه، فمعظم الجهود تتوجّه نحو الحث على الحفظ وتحفيز الأطفال والناشئة وتشجيعهم عليه، والاحتفاء بقدراتهم على الحفظ والتسميع الغيبي، وإن كان الحافظ لا يَعي كثيرا مما استقرّ في ذاكرته استقرارا مؤقتا ما لم يَتعهّده بالتكرار ويعزِّزه بالمراجعة!
قد لا يروق هذا القول لكثير من الناس، لكنّ حفظ القرآن الآليّ لا يُثمر في النّفس ما يتركه فهمُه، ولا ينعكس على تصرفات القارئ والحافظ، ولا يترك أثرا في سلوكه وأخلاقه، إذا ما كان محض حفظ وبرمجة ذهنية تعتمد التكرار القائم على الامتلاء بالصفحات ولَفظِها. بل إنّ من خطورة ذلك ما نراه ونسمعه أحيانا من محاكمات أخلاقية تستند إلى أن حافظ القرآن ينبغي أن يكون مثالاً يُحتذى به، ومصباحا منيراً يمشي على الأرض، وذلك صحيح بالمطلق لا اختلاف فيه، لكن إذا ما ارتبط الحفظ بالفهم والاستيعاب والوعي! فإن لم يتحقق ذلك، ولم يجمع حافظ القرآن إلى حفظه وإتقانه فهمَه ووعيه صار مَثار شبهة لا يسيء لنفسه فحسب، بل لما حفظه في ذاكرته حفظا آليا من دون وعي حقيقي يتجلى في نفسه وشخصه.
القراءة بين الرسم الإملائي للحروف والرسم القرآنيوممّا يؤكد آلية عملية الحفظ القرآني وتفريغها من جوهرها الأصلي ما يواجهه متعلمو اللغة العربية من غير الناطقين بها في مجال القراءة، فحين يرون أنّ الرّسم القرآني مختلف نوعا في بعض التفاصيل البسيطة عمّا سواه من الكتب التعليمية التي يعتمدونها لتعلّم قراءة العربية وإتقانها، يقولون: نستطيع أن نقرأ القرآن قراءة جيدة لكن أشكال بعض الحروف في هذه الكتب تبدو مختلفة! وهذا وإن كان صحيحا بدرجة بسيطة غير أنه يدلّ على آلية بحتة في تعلّم القراءة، وكأن اللغة العربية شيء ولغة القرآن الكريم ورسمه شيء آخر!
وفي حقيقة الأمر يتركز الاختلاف بين الرسم الإملائي والرسم القرآني في كون الرسم الإملائي يلتزم بقواعد اللغة في الإملاء والكتابة والتهجئة مع الحركات، في حين ينفرد الرسم القرآني ببعض التفاصيل الخاصة، إذ يُضاف إلى الرسم القرآني علامات تميز بعض الحروف المتشابهة الأشكال، وإشارات تدل على حركات معينة لا تُعتمد في الرسم الإملائي المألوف كالمدود ومواطن الوقف والوصل، كما أنه يخالف بعض القواعد الإملائية في طريقة كتابة بعض الكلمات كحذف حرف أو زيادة آخر أو استبداله بغيره مثل "الصلواة، يأيها، فأوا، رحمت" وغيرها. ويُطلق اسم الرسم العثماني على الرسم القرآني أيضا؛ وسبب ذلك هو أن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه كان أول من أمر بنسخ القرآن وتدوينه، وقد اختُلف في كونه توقيفيا أو اجتهاديا.
لماذا نقرأ؟نقرأ لنشعر بإنسانيّتنا، باختلافنا، بعقولنا، لنتلمّس أفئدتنا…
نقرأ لنعرف وندرك، فنتحرك ونمضي…
نقرأ لتبديد الجهل وتطهير النّفس…
نقرأ لأن المعرفة تراكميّة والقراءة أداتها ووسيلتها…
إذن: هل ينبغي أن ترتبط القراءة بالفهم؟
بالتّأكيد، فالقراءة من دون فهم محض فعلٍ آليّ تتجاذبه الشفاه وتتناوب عليه مخارج الحروف لتأدية وظيفة النطق فحسب!
ما جدوى أن نقرأ من دون أن نفهم؟ ما الغاية من قراءة الكتب والمُطوّلات إن لم تترك أثرا حقيقيا لدى القارئ؟
أريد أن أقرأ بطلاقة، فهل من سبيل؟
اعتدنا في مجال التّدريس أن نحفّز الطلّاب على القراءة الجهرية بانتظام للوصول بهم إلى القراءة بصحّة وسلامة وسرعة، وكثيرا ما نلفت انتباههم ونقول لهم حذار حذار من القراءة الصامتة من دون تحريك الشّفاه، فالعقل يلعب لعبته ويوهم القارئ بقدرته على القراءة بطلاقة حين يقرأ قراءة صامتة في خلده، فإذا ما أراد أن يجهر بصوته تعثّر وتبعثرت الحروف وتداخلت الحركات أمام عينيه، لذلك لا حلَّ ولا طريق للقراءة بطلاقة سوى القراءة باستمرار وانتظام وبصوت مرتفع، ولن يحتاج الأمر وقتا طويلاً حتّى يتقن المثابر ويصل إلى غايته.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: اللغة العربیة القرآن الکریم على القراءة فی مجال إذا ما من دون
إقرأ أيضاً:
المجتمع وفهم الفنّ
آخر تحديث: 21 نونبر 2024 - 11:05 صخضير الزيدي من المناسب القول إن الفنون الإنسانيَّة ذات صلة وارتباط مع المجتمعات، ولكن يبدو أن التخلف وتجارب الاستهلاك جعلت من الفنّ مهمشاً ومنسياً، بل لا يمكن أن نذكر له قيمة إلا ما ندر فما الذي طرأ على المجتمع ليوسع من استهلاكه لكل شيء بينما يتجاهل فهم رسالة الفنّ؟لا نجد تأثيراً للفن في واقعنا اليوم، هذا ما نلمسه عن كثب والأمر طبعا يمكن أن نعده انتكاسة خطيرة، ولكي نكون منصفين يمكن أن نستدل على سنوات سابقة كانت للفنون الإنسانيّة قيمة في محافل الحياة، فالرسم والمسرح والسينما بقيت أكثر حضوراً في مراحل الستينيات والسبعينيات ويومها كانت الأفكار السياسية والثورية متوهجة. وقدم الفنّ التشكيلي في مرحلة من تاريخنا المعاصر تصورات حقيقية لامست العاطفة والوجدان والذاكرة معا والتقى التشكيل مع المسرح والفوتوغراف والسينما في نقطة التقاء بانت فيها المعايير الجمالية على طبيعتها وتماسها المباشر مع الإنسان، بل لا يكاد تدخل مكانا إلا وهناك لمسات في التصميم والديكور والرواج للفن المباشر ومع هذا كله ثمة التقاء وأواصر قوية بين الفن والمجتمع، فهل يمكن إعادة ما تأسس ذات يوم وتبدد الآن؟ كل شيء وارد لو ترسخت مفاهيم الجمال وقيمها الفكرية أمام انظارنا ولكن تبدو المسألة اليوم أكثر بعداً عن هذا التصور فالحروب وطاقة الاستهلاك وعدم الترويج للفن وخيبة الظن به كمقوم ومحفز للتأثير الإنسانيّ، إضافة إلى الفوضى في فهم الغالب من فنون ما بعد الحداثة كلها أسباب تأخذ مكانتها ولكن ما الدور الذي يمكن أن يؤديه المثقف والسياسي والفنان لإحياء الفنون وعدها علامة فارقة في بنية المجتمعات. إن المبدأ الاساسي للفن المعاصر أن يثير الجمال ويرسخ الأفكار وتكون له احاطة بتراث الإنسانيّة والتعبير المستمر والمباشر عن ما يشعر به المرء جراء الانتكاسات المتلاحقة، فالذي يتحقق في الفنّ من طرح مواضيع حساسة لا بد من التذكير به، والتأكيد عليه وقد رأينا كيف وظف الفنانون الغرب انتكاسات الحروب التي عاشوا منذ مطلع القرن المنصرم، وحفز ذلك على أن تكون وقائع الحروب في الذاكرة مع اختلاف الكثير من الآراء التي قيلت وقتها والحقيقة المؤلمة التي نعيشها في وقتنا إننا لم نجد من توظيف الفن للكثير من المعطيات ذات الحساسية التي نتلمسها في الواقع اليومي والاجتماعي. وهذا يعد خيبة أمل لمن يعي أن للفن مكانته وتأثيره في أنفسنا والسؤال المطروح الآن هل يفي الفن بالغرض المطلوب امام هول صدمة الحروب والتهجير، وحتى الاقتتال الطائفي الذي حدث في مجتمعاتنا العربية، الفن رسالة حب وجمال وإخلاص فردي يتبناه الفنان ويود من خلاله أن يمثل شروط بقائه ورصانته وحتى وجوده بيننا، ولكن ما يحدث في المجتمعات شيء لا يمكن أن يرتبط مع الفنّ لغياب الذائقة وهوس الفرد بأشياء الكترونية وانشغاله بما يحفز على الاستهلاك أكثر من الانتاج بينما تقف الفنون الإنسانية عاجزة عن التعرض، لكل تلك الأخطاء التي نرتكبها حينما ننسى الجمال الحقيقي الذي يبده الفنّ من خلال اتقان الحرفة وأدواتها وبث جماليات العمل سواء كان رسما أو نحتاً أو سينما أو مسرحاً جاداً. ما الحل لكي نعي الفنّ ونطوره؟ في اعتقادي المتواضع أن الدرس الأكاديمي والدروس التعليمية وتزويد المتلقي عبر شاشات التلفزة بنقل وقائع المسرح والفنّ التشكيلي والفوتوغرافي وأحياء المعارض والنشاط المدرسي وبقاء فكرة الجمال راسخة في الجيل الجديد تبدي تأثيرا في نفوسنا، ولكي نتعرف على تمثيل كل ذلك لابد من متابعة يومية أو اسبوعية. واجد أن قدرة المعرفة ونقل صورتها بالشكل التام كفيل بإحياء فهم الفن مع التركيز على وصف الأفكار بواقعيتها، وبما أن قيمة المجتمعات المتحضرة يجيء من التقارب بين الفنّ والإنسان والمحاكاة اليومية المدروسة، وتوظيف قدرة الفرد على أحياء صور الجمال والتعاطي مع العمل بحساسية، ورؤية كل ذلك سبب في أن يكون المجتمع ملماً بالحفاظ على تراثه الفني.