بعد خسارة التطبيع.. اللجوء للتجويع
تاريخ النشر: 29th, January 2024 GMT
علي بن سالم كفيتان
من واقع قراءة المشهد السياسي في المنطقة لآخر عشر سنوات، يمكننا أن نلامس الحقيقة ومقارنتها مع عام 2014؛ كنوع من وضع ما يعرف بالنقاط المرجعية للسياسات ولعل المتتبع لذلك العقد (آخر 10 سنوات)، سينكشف له الواقع السياسي المتأزم اليوم اعتمادًا على ثلاثة مؤشرات مُهمة هي: الإطاحة بعدد من رؤساء المنطقة أو رحيلهم- الأزمة الاقتصادية التي رافقت انهيار أسعار النفط- تنامي الظلم والتقسيم غير العادل للثروات وزيادة معدلات بالبطالة.
ولا شك أن ما يفعله الغرب اليوم لم يكن مُمكنًا قبل عشر سنوات، خاصةً فيما يتعلق بإطلاق يد الكيان الصهيوني على الفلسطينيين في غزة دون حسيب أو رقيب، ولذلك سيتناول هذا المقال المؤشرات الثلاثة التي أدت للموقف الحالي بشيء من التفصيل.
يعتقد طيف واسع من المفكرين السياسيين أنَّ التغيير السياسي الدراماتيكي الذي حصل على مستوى الزعامات في المنطقة؛ سواء أكان ذلك قصرًا كما حدث في العراق وتونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، أو غياب الزعامات الأخرى بالرحيل الطبيعي كما حصل في دول مجلس التعاون الخليجي أو نشوب الفوضى في دول أصبحت غير قادرة على انتخاب رئيس لها أو حتى التوافق عليه كما يحصل في لبنان.. كل ذلك ولّد طيفًا غير متجانس من الزعامات، في الوقت الذي ظل فيه الثابت الوحيد في المنطقة هو النظام في إيران. وهذا الخليط من الزعماء الجُدد في وقت قياسي أفرز قيادات غير مؤهلة للحكم ولا تملك الخلفية الكافية لتقييم السياسات الدولية؛ لذلك قفز بعضهم في المحيط المظلم، وهو مغمض العينين كالمولود تمامًا، وكفر بكل ما سبقه من قيم ومبادئ ومواقف، وأصبح لا شغل له إلّا السباحة عكس التيار، بينما البعض الآخر جعل من آخر وظيفة كان يشغلها نهجًا لحكم بلد كامل، وهذا النوع ينظر للعالم من ثقب حياته المهنية قبل الحكم لا غير، ولم يستوعب بما يكفي فلسفة الحكم والتعاطي مع العالم وتراكم الخبرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في الوقت الذي حوّل البعض بلدانهم إلى حصالات نقود ترتفع فيها كل المؤشرات إلّا المستوى المعيشي للإنسان. في ظل هذا التناقض استحال عليهم اتخاذ موقف موحد أو حتى شرفي من جراء ما يحصل من إبادة جماعية للفلسطينيين على مرمى حجر من الجميع.
وفي المؤشر الثاني لمعضلة الزعامات في الشرق الأوسط أطلت أزمة انهيار أسعار النفط واختفاء الصناديق السيادية؛ فمن دول تعد ضمن العالم الأول أصبحت بين عشية وضحاها مديونة وغير قادرة حتى على توفير الوضع المتواضع للرفاه الذي كانت تعيشه تلك المجتمعات قبل هذه الأزمة، واستشرت البطالة، فلم يكن أمام النخبة الجديدة من الرؤساء سوى الاستعانة بكتالوج صندوق النقد الدولي، الذي قاد لمزيد من التأزم، من خلال إرساء مبدأ عدم مسؤولية الدول عن التوظيف، وترك الأمر لما يعرف بالعرض والطلب، ورفع الضرائب على الخدمات الأساسية للحياة. وقد يستغرب الواحد كونه في بلد سلعته الأولى هي النفط، بينما هي اليوم من أغلى السلع على المواطنين، وهذا فيه تناقض عجيب. والأمر ذاته على أي سلعة أخرى تُنتج في بلداننا؛ حيث نجد شعوبًا تلهث وراء المستورد لأنه رخيص، وتترك الوطني لأنه غالٍ، والأمثلة كثيرة؛ فالجميع بات مشغولًا بحل أزمته الاقتصادية التي وُضع فيها، أو التي ذهب إليها بقدميه، وفي الاتجاه المقابل يتنامى الرفض الشعبي الصامت لهذه السياسات غير المُنتِجة. وهذا الارتباك الاقتصادي جعل من القضية الفلسطينية قضية هامشية لزعماء المنطقة؛ فالكل يلهث خلف طوق نجاته، وهذا ما يُغذيه الغرب وينشده للإطاحة بما تبقى من الأوطان شبه المتماسكة، عبر توسيع البون بين الزعامات والشعوب وخلق المزيد من الفوضى في المنطقة.
راهن الغرب على التطبيع بين الغاصب والمُغتصب في الشرق الأوسط، وبذل كل ما في وسعه من الترغيب والترهيب، ومارس سياسات إجرامية غير مُعلنة لبلوغ الهدف، ولا شك أن الزعامات المراهقة تم استمالتها بغير عناء للتبشير بالشرق الأوسط الجديد وتصفية القضية الفلسطينية من أجندة المنطقة، ولم تعد هناك أي محرمات مطلقًا وما نشهده اليوم هو الفصل الأخير لهذه السياسات التي تقوم على تجويع الفلسطينيين المحاصرين في غزة، بعد أن هُزم الصهاينة عسكريًا هناك، فلا سبيل آخر غير منع الوقود والغذاء والماء والدواء ليسلموا وطنهم للمحتل ويتم التطبيع المنشود.
قبل الختام.. أجد في تعليق الكاتب والمفكر السياسي الكويتي عبد الله النفيسي بعض العزاء عندما يتحدث عن سلطنة عُمان ومواقفها الثابتة من القضايا التي تدور في المنطقة؛ حيث يقول النفيسي "السلطنة غير، هذه إمبراطورية ونهج حكم استمر لمئات السنين تعامل مع كبار العالم وفتح سفارات في الوقت الذي كنَّا فيه نرعى..... ونعيش في بيوت الشعر". حفظ الله بلادي.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عيد الميلاد الحزين في ألمانيا!
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
لا بد في البداية من تقديم العزاء للشعب الألماني فى الحادث الأليم الذي أودى بحياة عدد من الأشخاص بينهم طفل، وخلف 200 جريح بعضهم في حالة خطيرة، وقد أخذ هذا الحادث معه فرحة عيد الميلاد حيث انفتح الحزن على مصراعيه في ألمانيا وانتشر الخوف جراء الاعتداء على الآمنين وترويعهم بينما كانوا يحتفلون بطريقتهم في سوق عيد الميلاد، فهذا الاعتداء جريمة نكراء على هؤلاء الآمنين مهما كان دينهم أو معتقدهم. لكني شعرت وغيري من المراقبين بأن الحادثة المروعة تدفع دفعاً أجندة معادية للإسلام والهجرة والمهاجرين حيث بمجرد حدوثها استغلت شخصيات اليمين المتطرف في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا وإيطاليا وبلجيكا ورومانيا هذه الحادثة لإعلان عاصفة من الغضب اليميني المتطرف تسكب الزيت على النار في أرجاء القارة وتكتسب في المقابل مزيداً من الشعبية لصالحها، خاصة مع قرب الانتخابات التي ستجرى فبراير المقبل في ألمانيا.
ولست هنا بصدد التقليل من هول الحادث أو عدم الاكتراث لحزن وألم أهالي الضحايا والجرحى لكنه من غير الأخلاقي أيضاً هذا السباق المحموم بين أحزاب اليمين المتطرف لجني المكاسب بشكل عاجل وفوري من الحادث بينما لم تجف دماء الضحايا من أرض سوق عيد الميلاد. ومن الملاحظ أنه ليس مهماً لدى المتطرفين الشعبويين أن يكون المتهم مسلماً أو مرتداً عن الإسلام؛ فالإسلام تهمة جاهزة في هذه الحوادث الإرهابية، وهم يعلمون ذلك الخلط ويتمادون فيه عن قصد.
وامتلأت في لمح البصر الصحف والمواقع الإخبارية الألمانية والأوروبية بالحديث عن خلفيات مرتكب الحادث كونه من أصل سعودي. وعندما بحثت في أرشيف العمليات الإرهابية في ألمانيا وأوروبا طيلة أكثر من عقد وجدت أن أغلبها ارتكبه أوروبيون متطرفون وكذلك مهاجرون من أصول مختلفة، لكن لا يتم الاستدعاء من الذاكرة إلا ذوي الخلفية العربية والإسلامية وتكتب أسماؤهم بالبنط العريض في الصفحات الأولى لمزيد من تشويه الإسلام والافتراء عليه.
وأتوقف عند تلك الصدمة التي أظهرها المسئولون الألمان وحيرتهم وارتباكهم أمام عدم وجود دوافع "مقنعة" لدى المتهم لارتكاب جريمته، "فهو طالما أعلن أنه معاد للإسلام وعبر عن دعمه لحزب البديل من أجل ألمانيا المتطرف وانزعاجه من تسامح ألمانيا وميركل وحزبها تجاه الإسلام والمسلمين والمهاجرين"، كما تقول صحيفة بيلد. لذلك اعتقد المسئولون أنه لا يوجد شيء يمكن أن يفاجئهم! لكن هذا الطبيب النفسي الذي يقيم بينهم منذ عقدين ومنحوه اللجوء السياسي بعد عشر سنوات من طلبه فاجأهم وأية مفاجأة؛ ويبدو أنه بذل جهدًا كبيرًا لسنوات طويلة لتقديم نفسه للسلطات الألمانية والإعلام وجمهور السوشيال ميديا على أنه منتقد متحمس للإسلام ومدافع عن حقوق الإنسان، خاصة المرأة.
وقد تكون هذه هي الطريقة المتبعة الآن من التنظيمات الإرهابية إلى دخول دول الاتحاد الأوروبي، من خلال طلب اللجوء السياسي. وغير خاف أن طلب اللجوء السياسي في الدول الغربية قد يضمن ردا سريعا مقارنة بطلب أنواع أخرى من الإقامة. ويعتمد طلب اللجوء على وجود اضطهاد سياسي أو ديني أو جنسي -خاصة الأخيرين يسهلان الأمر- أو ادعاء أحدهما، بقطع النظر عن مدى حقيقة هذه الادعاءات، فقد تكون مزيفة لكنها مضمونة. ويأتي الرد في وقت أسرع خوفا على حياة طالب اللجوء بمنح الإقامة له ثم الجنسية!
ويفتح هذا الحادث بشكل عام باباً للحديث عن تداعيات الإبادة الإسرائيلية لأهالي غزة والاعتداءات على لبنان وسوريا وعدم تحريك الحكومات الغربية ساكنا لأكثر من عام أمام قتل الأطفال والأمهات والحوامل داخل ملاجئهم وفي المدارس والكنائس والمستشفيات، فذلك أمر من شأنه أن يتحول إلى عداء لتلك الحكومات ومحاولات للانتقام. وللأسف دائما ما يدفع الأبرياء ثمنا للتطرف!
وقد حذر مفكرون وسياسيون طويلا، منذ تسعينيات القرن الماضي، من ضرورة الانتباه لسياسة الكيل بمكيالين والسكوت عن المظالم التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي المحتل وكذلك الاحتلال المتمدد في الشرق الأوسط والدول العربية من طرف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية والتي تستخدم التنظيمات المتطرفة تارة لمصلحتها وتنفيذ أهدافها في التقسيم وزرع الفتن والصراعات وتارة تنتقم منها وتبيعها كسقط المتاع - بعبارة أبي العلاء المعري- عندما تنفض يديها منها. ولكنها تكون قد أصبحت قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت، حتى لو كان ضد من صنعها. كما حذر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل مما يسمى بظاهرة الانتحاريين، وقال في عدة حوارات إن استمرار الكيان الإسرائيلي في اعتداءاته بدعم غربي سيشجع المزيد من الشباب للانضمام للتنظيمات الإرهابية حيث يؤمنون بأنهم سيذهبون للجنة عند تنفيذهم تلك العمليات!
لم يأخذ أحد بالتحذيرات، رغم الدرس القاسى في أحداث الحادي عشر من سبتمبر. لكن لم يقلع أحد عن هواية "تربية العقارب". وقد رأينا نتائجها في أفغانستان، ثم في سوريا مؤخراً ولكنه مجرد مشهد في مسلسل لم تكتمل حلقاته بعد. وربما أصبحت هذه الهواية إدمانا خطيرا أيضا لدى بعض الحكومات الأوروبية والتي تدعم الاحتلال. وقد لا تنجو من لسعات "العقارب" أيضا. ولا يمكن أن يكون اتخاذ الاحتياطات الأمنية هو فقط ما يبعث على الاطمئنان في هذه المجتمعات، لأنه مجرد طمأنة بلهاء مؤقتة، لكن الأهم هنا اتخاذ السياسات العادلة والكف عن الكيل بمكيالين لأنه قد يأكل الأخضر واليابس إذا استمر الظلم والحيف. فهل تفهم الحكومات الغربية ذلك؟!.
*كاتبة صحفية مصرية تونسية متخصصة فى الشأن الدولى