ملف الأسرى.. معادلة التحرير وجبهة الصراع الطويل مع الاحتلال
تاريخ النشر: 29th, January 2024 GMT
يعد ملف الأسرى الفلسطينيين جبهة مواجهة مفتوحة مع الاحتلال منذ عهد الانتداب البريطاني وحتى اليوم، وذلك بوصفه عنوانا لصراع الإرادات مع المحتل الإسرائيلي والتزاما وطنيا بإدامة العمل المقاوم.
والفكرة الأساسية في الأمر هي وجود التزام وطني وأخلاقي بين عموم الشعب من جهة وبين من يخاطرون بأنفسهم في سبيل تحقيق حريته وصيانة كرامته من جهة أخرى، ومعادلة كهذه تعزز ديمومة العمل المقاوم، وتوصل رسالة تطمين وتشجيع إلى كل من يريد أن يسلك هذا الطريق.
ومضمون هذه المعادلة أن يكافئ الشعب هؤلاء ويحفظ صنيعهم، فيكرم شهيدهم ويتكفل بأهله من بعده ويداوي جريحهم ويبذل الغالي والنفيس لإنقاذ من يقعون في الأسر منهم ويرعاهم ويرعى أسرهم.
سلوك الاحتلالبالمقابل، يسعى الاحتلال إلى كسر هذه المعادلة من خلال ضرب العلاقة بين الشعب ومقاوميه، وتحميلهم مسؤولية الجرائم التي يرتكبها بحق عموم الشعب، وتجريم وملاحقة أشكال التعاطف والإسناد للمقاومين، والتشدد في أي مفاوضات لتبادل الأسرى.
ويظهر هذا السلوك جليا في الخطاب الإعلامي للاحتلال، وفي منعه السلطة الفلسطينية من دفع رواتب الأسرى، وتضييقه على المؤسسات التي ترعى شؤونهم وشؤون الشهداء والجرحى، وفي مساعي إقرار قانون يقيد سقف الثمن الذي يمكن أن تدفعه أي حكومة إسرائيلية في صفقة تبادل للأسرى كما في مشروع قانون "الأسرى والمفقودين" الذي قدمه إلى الكنيست وزير الاستخبارات الأسبق أليعازر شتيرن عام 2018.
يذكر أن الاحتلال يعتمد إستراتيجية مشابهة في ما يخص أسراه الذين يقعون في قبضة غيره، إذ يوجد التزام سياسي وديني تاريخي باستعادة هؤلاء، وهو ما دفعه إلى إجراء 38 عملية تبادل للأسرى مع العرب والفلسطينيين منذ عام 1948 وحتى نهاية العام 2011 وفقا لما وثقته دراسة نشرتها وزارة الأسرى والمحررين الفلسطينية.
تقنين القمع
وضع الانتداب البريطاني الأسس القانونية والإجرائية لقمع الفلسطينيين ومصادرة حرياتهم، وفقا لما تذكره الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، بدءا من قانون منع الجريمة الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 1920، والذي أعطى للحكومة سلطة احتجاز أو فرض قيود على الأفراد الذين تشعر أنهم قد يزعزعون السلام، ومرورا بقانون المسؤولية الجماعية عن الجريمة لعام 1921 وقانون منع الجريمة في المناطق القبلية والقرى لعام 1924 وقانون العقوبات الجماعية لعام 1926 الذي وضع الأساس القانوني للعقاب الجماعي في فلسطين الانتدابية.
كما أقرت سلطات الانتداب قانون "جرائم الفتنة" في أكتوبر/تشرين الأول 1929، وبعده بعامين أصدرت الحكومة البريطانية "مرسوم الدفاع عن فلسطين" لتوفير إطار قانوني لاتخاذ إجراءات حاسمة في حالة حدوث "حالة طوارئ" أخرى، حيث كانت للمفوض السامي سلطة الاستيلاء على الممتلكات واحتجاز الأفراد وترحيلهم أو محاكمتهم أمام محاكم عسكرية، وغيرها من السلطات.
وخلال الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939 لجأت السلطات البريطانية مرة أخرى إلى مرسوم مجلس الدفاع عن فلسطين، والذي استكملته أيضا بأوامر أعطت الإدارة المدنية في فلسطين صلاحيات تعادل تلك الممنوحة للجيش بموجب الأحكام العرفية.
وفي نيسان/أبريل 1936 أصدر المندوب السامي عددا من أنظمة الطوارئ التي سمحت لحكومة الانتداب بفرض حظر التجول، ومراقبة المواد المكتوبة، واحتلال المباني، والقيام بالاعتقالات دون إذن قضائي، وترحيل الأفراد بدون محاكمة.
وجاء الاحتلالوبعد انتهاء الانتداب ظلت أنظمة الطوارئ هذه تطارد الفلسطينيين، فبعد إنشاء دولة الاحتلال عام 1948 دمجت الحكومة الإسرائيلية أنظمة الطوارئ لعام 1945، إلى جانب الكثير من قوانين الانتداب في القانون الإسرائيلي من خلال قانون "القانون والإدارة" لعام 1948.
وطبقت هذه الأنظمة على الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، وبالمثل وبعد عام 1967 زعمت دولة الاحتلال أن القانون القائم في الضفة الغربية وقطاع غزة يشمل هذه الأنظمة، وبالتالي كانت متاحة لفرضها على الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال العسكري الإسرائيلي.
وبهذه الطريقة ظلت أنماط العقاب الجماعي وسلطات "الطوارئ" الموسعة التي استخدمها البريطانيون لاستهداف السكان الفلسطينيين أساسا للنظام القانوني الذي عاش في ظله الفلسطينيون بعد انتهاء الانتداب.
الأسر كإستراتيجية
تشير الأرقام الضخمة لمن تعرضوا للأسر على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى أن الأسر إستراتيجية عامة تهدف إلى تطويع الشعب وإرغامه على الرضوخ للاحتلال، وذلك من خلال توسيع وتعميق الشعور بالألم والمعاناة بالتوازي مع أي تصاعد أعمال المقاومة.
وقدّر نادي الأسير الفلسطيني في ورقة حقائق أصدرها بتاريخ 17 أبريل/نيسان 2019 عدد حالات الاعتقال في صفوف الفلسطينيين منذ عام 1967 بنحو مليون حالة، بينها أكثر من 17 ألف اعتقال من الفتيات والنساء والأمهات وما يزيد على 50 ألفا من الأطفال.
وفي تقرير له بتاريخ 28 يناير/كانون الثاني 2024 أشار إلى أن حصيلة الاعتقالات بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بلغت نحو 6330 فلسطينيا، وهذه الحصيلة تشمل من جرى اعتقالهم من المنازل وعبر الحواجز العسكرية ومن اضطروا لتسليم أنفسهم تحت الضغط ومن احتجزوا كرهائن.
بالمقابل، كان عدد الأسرى في سجون الاحتلال وفقا لتقرير للنادي بتاريخ 16 يوليو/تموز 2023 نحو 5 آلاف، من بينهم 32 أسيرة ونحو 160 طفلا و1132 معتقلا إداريا.
ووثق تقرير لمنظمة العفو الدولية في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 شهادات المعتقلين المفرج عنهم ومحامي حقوق الإنسان، فضلا عن لقطات الفيديو والصور التي تظهر جانبا من أشكال التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة التي تعرض لها المعتقلون على أيدي القوات الإسرائيلية، والتي تشمل الضرب المبرح وإذلال الأسرى، بما في ذلك إجبارهم على إبقاء رؤوسهم محنية والركوع على الأرض أثناء تعدادهم وإرغامهم على غناء أغانٍ مؤيدة لدولة الاحتلال.
وتندرج أعمال التعذيب هذه ضمن إستراتيجية الاحتلال في كسر إرادة مقاومة الاحتلال لدى الشعب الفلسطيني ورفع تكلفة المقاومة جسديا ونفسيا على الأسرى ومحيطهم الاجتماعي.
نقطة تحول
كانت آخر عملية لتبادل الأسرى في أكتوبر/تشرين الأول 2011، أي قبل قرابة 13 عاما من عملية طوفان الأقصى، وهي فترة طويلة بالنسبة للأسرى الذين أصدروا بيانات في السنوات الماضية تطالب بعدم نسيانهم في سجون الاحتلال.
وهي مهمة أولتها المقاومة -خصوصا في قطاع غزة- أولوية كبرى باعتبارها عنوانا لاستمرارية النضال الفلسطيني وردا لشيء من الجميل لهؤلاء الأسرى، وإعادة لهم إلى ساحة النضال والمقاومة من جديد.
وبالتأكيد، فإن هذا السبب لم يكن وحده الدافع إلى عملية طوفان الأقصى، بل هو مندرج ضمن أهداف أخرى كمواجهة مساعي تقسيم المسجد الأقصى وتصفية القضية الفلسطينية وتطويع قطاع غزة بالحصار المستدام كما أظهرت وثيقة نشرتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بشأن أسباب العملية بتاريخ 21 يناير/ كانون الثاني 2024.
صفقة متوقعةوعلى الرغم من تشديد الإجراءات العقابية للأسرى عقب عملية طوفان الأقصى فإن هناك استبشارا بقرب الإفراج عنهم بصفقة تبادل تسعى لها دولة الاحتلال لاستعادة قرابة 136 أسيرا إسرائيليا في قطاع غزة.
وأوردت القناة الـ12 الإسرائيلية بتاريخ 26 يناير/كانون الثاني 2024 أن حركة حماس تشترط الإفراج عن 100 أسير فلسطيني مقابل كل أسير إسرائيلي، إضافة إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي بشكل كامل من قطاع غزة، وتهدئة ما بين 10-14 يوما قبل الإفراج عن أي أسير إسرائيلي، وتهدئة لمدة شهرين بين كل مرحلة وأخرى من مراحل الصفقة.
وفي حال حصول صفقة بأعداد مقاربة لهذه الأعداد فإن هذا يعني تحرير كافة الأسرى من سجون الاحتلال، وهو إنجاز لم يتحقق منذ عقود عدة، ولم تتمكن عقود من مفاوضات التسوية السلمية في تحقيق ذلك أو حتى الإفراج عمن تم أسرهم قبل توقيع اتفاقية أوسلو للتسوية السلمية عام 1993.
ومن شأن خطوة كهذه إعطاء دفعة جديدة لمسار المقاومة، إذ كان للأسرى المفرج عنهم في صفقة عام 2011 دور أساسي في تصعيد العمل المقاوم، وشكلوا الجزء الأكثر تأثيرا في قيادة المقاومة الفلسطينية خلال العقد الماضي.
شكوك بالتزام الاحتلال
في المقابل، فإن التزام الاحتلال بشروط أي صفقة أمر مشكوك فيه، إذ إنه أعاد اعتقال بعض الأسرى المفرج عنهم بموجب صفقة "وفاء الأحرار لعام 2011″، بل أعاد اعتقال أحد الأطفال الذين أفرج عنهم بموجب صفقة التهدئة والتبادل في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
وفي حال استمرار الحرب أو التصعيد الشديد في الضفة الغربية أو قطاع غزة فإن استمرار حرية الأسرى المفرج عنهم قد يكون مرهونا بعدم قدرة الاحتلال على إعادة أسرهم أو اغتيالهم، إما بضغوط سياسية من ضامنين لأي صفقة تبادل، وهو أمر مشكوك في قدرته على ردع دولة الاحتلال، أو باتخاذهم الإجراءات التي ترفع تكلفة إعادة أسرهم، كالاختفاء أو مقاومة الأسر.
وفي المحصلة، سيبقى هذا الملف جبهة مواجهة وصراع ما دام الاحتلال مستمرا، فالاحتلال في حقيقته أسر لشعب كامل في سجن مفتوح، سواء بحصار غزة أو بالجدار العازل والحواجز في الضفة الغربية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: أکتوبر تشرین الأول دولة الاحتلال المفرج عنهم قطاع غزة
إقرأ أيضاً:
واشنطن تغذّي آلة الحرب الصهيونية لقتل الفلسطينيين
محمد عبدالمؤمن الشامي
في خطوة جديدة تؤكّـد دعم الولايات المتحدة المُستمرّ للعدوان الصهيوني، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) عن صفقة أسلحة ضخمة لاحتلال “إسرائيل” بقيمة 3 مليارات دولار، تشمل قنابل خارقة للتحصينات، معدات هدم، وجرافات عسكرية. هذه الصفقة تأتي في وقت تشهد فيه غزة والمناطق الفلسطينية الأُخرى أفظع أنواع العدوان من قبل كيان الاحتلال، والذي أسفر عن استشهاد وإصابة أكثر من 160 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال. ومع ذلك، في الوقت الذي تسارع فيه واشنطن لتسليح الاحتلال، يبقى الموقف العربي مُجَـرّد بيانات شجب، دون أي تحَرّك ملموس لوقف هذه المجازر.
الصفقة التي أقرها البنتاغون على “أَسَاس طارئ” تعكس النية الأمريكية في تعزيز قدرات الاحتلال على تدمير غزة والبنية التحتية الفلسطينية بشكل أكبر. تشمل هذه الصفقة 35،529 قنبلة زنة 1000 كغ، وهي قنابل مدمّـرة قادرة على محو أحياء سكنية بالكامل. كما تتضمن 4000 قنبلة خارقة للتحصينات مخصصة لضرب الأنفاق والملاجئ، ما يعني استهداف المدنيين في أي مكان يحاولون اللجوء إليه، إضافة إلى ذلك، تشمل الصفقة 5000 قنبلة زنة 500 كغ، مزودة بأنظمة توجيه لتوجيه القنابل التقليدية بدقة، وجرافات عسكرية بقيمة 295 مليون دولار التي كانت تستخدم في هدم المنازل وتدمير الأراضي الزراعية الفلسطينية.
الصفقة تعكس سياسة أمريكية ثابتة تدعم الاحتلال بشكل غير محدود، مما يضمن له التفوق العسكري المطلق في المنطقة. الهدف الأمريكي واضح: استمرار دعم الاحتلال بلا قيود، حتى لو كان ذلك يعني قتل المزيد من الفلسطينيين. ومع ذلك، يبقى الموقف العربي بعيدًا عن التصعيد الحقيقي ضد هذه السياسة. فحتى الدول التي سبق لها أن انتقدت الاحتلال، بقيت في دائرة المواقف السلبية، منها بيانات الشجب التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
في ظل هذه الأحداث، يظل الفلسطينيون يدفعون الثمن غاليًا. العدوان الصهيوني، الذي بدأ في 7 أُكتوبر 2023 وما يزال مُستمرّا، أسفر عن مئات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين، وأدى إلى دمار هائل في غزة. ومع كُـلّ يوم يمر، تتعمق الأزمة الإنسانية، حَيثُ يعاني السكان من الحصار المُستمرّ والقصف المكثّـف.
في هذا السياق، إذَا لم تتحَرّك الدول العربية الآن على مستوى المقاطعة السياسية والاقتصادية لواشنطن، وَإذَا استمر الصمت أمام هذه المجازر، فسيظل الاحتلال ماضٍ في عدوانه، ولن تكون فلسطين وحدها التي تدفع الثمن. الدور قادم على الجميع، وحينها لن يجد العرب من يدافع عنهم، كما تركوا الفلسطينيين وحدهم في مواجهة آلة الحرب الصهيونية المدعومة أمريكيًّا. يجب أن يكون هناك تحَرّك جاد الآن، قبل أن تجد الدول العربية نفسها في قلب العاصفة، وقد فقدت القدرة على الرد.