الذكرى المئوية لثورة 1924 «16».. أثر ثورة 1924 على تطور الحركة الوطنية حتى الاستقلال

تاج السر عثمان بابو

أشرنا سابقا الي أنه بعد هزيمة ثورة 1924 حدثت ردة شاملة وجرى قمع وحشي لثوار 1924 كما في الاعتقالات والتعذيب والاعدامات، والاحكام بالسجن الطويل مع النفى، واصدار القوانين المقيدة للحريات، وكرّس الاستعمار الانقسام الطائفي والقبلي، وفرض نظام الإدارة الأهلية لمحاربة المتعلمين، وتم تقليص التعليم وإغلاق المدرسة الحربية، ومصادرة اراضي المزارعين بثمن بخس لقيام مشروع الجزيرة، وتم تنفيذ قانون المناطق المقفولة لعزل الشمال عن الجنوب الذي أدي للتطور غير المتوازن والصراع العتصري والديني الذي قاد لفصل الجنوب فيما بعد ، فضلا عن انفجار قضايا المناطق المهمشة في جبال النوبا وجنوب النيل الأزرق ودارفور والشرق التي شملها أيضا قانون المناطق المقفولة.

رغم القمع والإرهاب استمرت جذوة المقاومة للاستعمار، وواصلت الحركة الوطنية المقاومة التي بدأت بالجمعيات الأدية واصدار الصحف والعمل الخيري والاصلاحي، حتى تكوين مؤتمر الخريجين، ونهوض الحركة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث شهدت البلاد أول مظاهرات ضخمة بعد مظاهرات ثورة 1924 ، وقيام الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات، واشتد عود الحركة الوطنية والجماهيرية حتى نيل الاستقلال في أول يناير 1956، فكيف حدث هذا؟

1 مؤتمر الخريجين

بعد انحسار ثورة 1924 حدثت الأزمة الاقتصادية العالمية في 1929 التي كان لها تأثيرها علي السودان ، كنتاج لارتباطه بالسوق الرأسمالي العالمي، وما نتج عنها من انخفاض الصادرات والواردات ، وسياسة الحكومة لتقليص العمالة، وتخفيض مرتبات الخريجين من 8 جنية مصري الي 5 جنية و500 مليم، ونتيجة لذلك أضرب طلاب كلية غردون عام 1931، ورفع الخريجون مذكرة لجنة العشرة التي تجاهلتها الحكومة في المرة الأولي ، ولكن بعد اضراب الخريجين أعادت الحكومة النظر في قرارها فيما يتعلق بمرتب الخريج الجديد، اذ قررت أن يكون 6 جنيهات شهريا بدلا من 5 جنيهات و500 مليم ( للمزيد من التفاصيل ، راجع محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية في السودان، ص 132)، وكان القرار في نظر لجنة العشرة انتصارا ومثارا للفخر، وشكل ذلك فترة جديدة استطاع فيها الخريجون الخروج للحياة العامة من جديد في اتجاه انتزاع حقوقهم ، وظهور أشكال جديدة للصراع : الاضرابات، العرائض والمذكرات. الخ.

بدأ يتعاظم ويزداد دور الخريجين في الحياة العامة بعد اضراب 1931، ومذكرة العشرة، وتعيين سايمز حاكما عاما للسودان، وما طرحه من أفكار تحررية حول التوسع في التعليم العالي، وتقليص نفوذ الإدارة الأهلية.

كان لسياسة سايمز أثرها في نشاط الخريجين الذين بدأوا يخرجون للحياة العامة بأشكال جديدة حيث ظهرت مجلتا “النهضة” التي اسسها المرحوم محمد عباس أبو الريش ، و”الفجر” التي أسسها المرحوم عرفات محمد عبد الله، وظهرت الجماعات الأدبية المختلفة : جماعة أبي روف ، والهاشماب وازداد النشاط الثقافي والأدبي والفني في أندية الخريجين في أم درمان ومدني وبقية الأقاليم.

بعد اتفاقية 1936 التي تمّ فيها تجاهل السودانيين، ازداد الشعور بالحاح الي تنظيم للخريجين يهتم بالمسائل القومية والاجتماعية والرياضية والثقافية، ونبعت فكرة مؤتمر الخريجين التي رفع لواءها أحمد خير المحامي في احدى محاضراته في نادي الخريجين بمدني ( للمزيد من التفاصيل ، راجع أحمد خير ، كفاح جيل، دار الشروق القاهرة ، 1948).

بالفعل قام مؤتمر الخريجين عام 1938 ، وظهرت أشكال جديدة للصراع نبعت من طبيعة الفترة التي كانت تمر بها البلاد والمستوى السياسي والفكري الذي بلغته حركة المتعلمين وحاجتهم للمزيد من المشاركة في الحياة العامة.

2

– في تقييم تجربة مؤتمر الخريجين ، مهم تأكيد الدور الكبير الذي لعبه في الحركة الوطنية الحديثة ، باعتباره حلقة في سلسلة نضال الشعب السوداني ضد المستعمر حتى ظفر باستقلاله عام 1956.

– بطبيعة تكوينه ضم المؤتمر تيارات واتجاهات مختلفة كانت تعج بها حركة الخريجين باقسامها الثورية والمحافظة.

– برز المؤتمر في ظروف عالمية بدأت فيها نُذر الحرب العالمية الثانية ، بين دول الحلفاء ودول المحور ، وفي ظروف بدأت تتغير فيها عقلية الإدارة البريطانية بعد سياسة الحاكم العام سايمز، وميله للتعاون مع الخريجين، واتجاهه للتوسع في التعليم العالي،وتقليص دور الإدارة الأهلية، وساعدت هذه الظروف في انتزاع شرعية المؤتمر.

– لم يطرح المؤتمر في بداية تكوينه أهدافا سياسية واضحة، كما لم يطرح المسألة الوطنية، ويبلورها في موقف موحد يلف حوله الشعب السوداني.

– بدأ المؤتمر إصلاحيا حيث طرح مشاريع لتوسيع التعليم والحركة الرياضية والثقافية والاجتماعية والمهرجانات الأدبية. الخ.

– لعب المؤتمر دورا كبيرا في ميدان التعليم حيث ساهم في انشاء المدارس الأهلية ، ودعمها وتقديم المساعدات المادية للطلاب الذين كانوا يدرسون في مصر وبريطانيا، وحقق المؤتمر نجاحا كبيرا في هذا المضمار، واستطاع أن يواجه خط الإدارة البريطانية الرامي لتقليص قاعدة التعليم.

– حاول المؤتمر أن يعبر عن مطالب الخريجين المهنية، الا أن الإدارة البريطانية لم تسمح بذلك.

– مع تطور الحياة السياسية والأحداث، وازدياد موجة الوعي محليا وعالميا بعد بداية الحرب العالمية الثانية واشتراك السودانيين فيها، جاء إعلان ميثاق الأطلسي الذي دعا الي حق تقرير المصير لشعوب المستعمرات بعد نهاية الحرب، وبدأ المؤتمر يدخل الحياة السياسية.

– كانت مذكرة مؤتمر الخريجين عام 1942 معلما بارزا في تاريخ الحركة الوطنية، وفي تطور الحياة السياسية فيما بعد، فلأول مرة يدخل المؤتمر مباشرةً في معترك الحياة السياسية ويطرح مطالب مثل: تقرير المصير بعد الحرب ، اشراك السودانيين في الوظائف السياسية ، إعطاء السودانيين مزيد من الفرص للاستثمار الزراعي والصناعي، قانون للجنسية السودانية ، فصل السلطات القضائية عن السلطات التنفيذية، إلغاء قانون المناطق المقفولة والسماح للسودانيين بالتنقل داخل المناطق المختلفة في السودان. الخ ( راجع نص المذكرة في كتاب ” كفاح جيل” لأحمد خير المحامي).

3

عبرت المطالب التي جاءت في مذكرة الخريجين عن وعي قومي ووطني، وعن اتجاه فئات التجار والرأسماليين الي مزيد من الحريات في ميدان الاستثمار والتجارة والتحرك بحرية في سوق واسع يضم مناطق السودان المختلفة ( تجارة الجلابة في الجنوب ودارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، وشرق السودان)، اضافة الي مطامح الفئات العليا من الخريجين للاستحواذ علي وظائف قيادية في الخدمة المدنية، ومزيد من اشراك السودانيين في وضع الميزانية والسياسة العامة.

– لم يكن المؤتمر مقتصرا في نشاطه علي الخريجين ، بل احتك بالجماهير بأقسامها المختلفة وتزايد نفوذه الجماهيري بعد مذكرته الشهيرة 1942، بل هناك أقسام من الجماهير والعاملين كانت تلجأ للمؤتمر لطرح مشاكلها ورفعها للإدارة البريطانية، وكانت لجنة المؤتمر ترفع هذه المشاكل للإدارة الاستعمارية.

– من نقاط الضعف أن عضوية المؤتمر اقتصرت علي الخريجين، مما قلّص قاعدته الاجتماعية، وكان يمكن أن يكون حركة جماهيرية أعمق وأوسع، اضافة الي أن المؤتمر لم يبلور بوضوح آمال السودانيين في الحرية والاستقلال في البداية.

– لم يستند المؤتمر الي قوى طبقية اجتماعية منظمة، وكان يمكن أن يكون جبهة واسعة، اذا سبقت تكوين المؤتمر أحزاب علنية أو سرية لها أهداف واضحة في الحرية والاستقلال، ويعبر عن الحد الأدني لمطالب الحركة الوطنية السودانية، ولكن الواقع حدث العكس فمن أحشاء المؤتمر وُلدت الأحزاب السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، وانفرط عقد المؤتمر بعد ذلك ، ودخلت الحركة الوطنية فترة جديدة في نضالها توجتها بإعلان الاستقلال عام 1956، بعد أن وضع المؤتمر الأساس لتلك التطورات.

– من النواقص ، لم يستند المؤتمر علي حركة نقابية يكون لها تمثيل فيه، لكن المؤتمر ساعد في تكوين وانشاء الحركة النقابية ، وكان واضعا المهمة في جدول أعماله، فالحركة النقابية قامت بعد انفراط عقد مؤتمر الخريجين بعد انتزاع عمال السكة الحديد لهيئة شؤون العمال بعطبرة عام 1947 م.

– من النواقص ايضا، لم يواصل المؤتمر تقاليد الاضراب كأداة لانتزاع الحقوق والمطالب، وخاصة بعد تجربة اضراب طلبة كلية غردون عام 1931، أو دعوة لاضراب عام لتحقيق هدف أو مطلب محدد أو عصيان مدني كما كان يفعل المؤتمر في الهند بقيادة غاندى ، وكان هذا بعيدا عن وسائل المؤتمر لتحقيق أهدافه والذي بدأ متعاون مع الإدارة البريطانية.

– أشكال نضال وعمل المؤتمر اقتصرت علي: المذكرات والعرائض التي كانت تقابل بالرفض أو التجاهل من قبل الإدارة البريطانية مثال: المذكرة حول الموظفين ، ومذكرة 1942 ، والمذكرة حول توسيع التعليم، ولكن المهم اتسع شكل العرائض والمذكرات، اضافة لأشكال نضال الحركة الوطنية منذ الاحتلال البريطاني للسودان.

– رغم أن المؤتمر كانت تتجاذبه التيارات المختلفة ، ولم يكن منعزلا عن الصراع الذي كان دائرا وسط حركة الخريجين وفي المجتمع والذي شكل الصراع بين طائفتي الختمية والأنصار قطبيه الرئيسيين ، ولم يكن غريبا بعد إعلان الإدارة البريطانية تكوين المجلس الاستشاري لشمال السودان عام 1943 أن تختلف وجهات النظر حوله ، فقد أيده المحافظون وساندهم في ذلك السيد عبد الرحمن المهدي وطائفة الأنصار، مما ادي الي الانفصال عن المؤتمر وتأسيس حزب الأمة عام 1945 ، ورد الآخرون بتكوين حزب الأشقاء بدعم من الختمية والحكومة المصرية ، كما تاسست الحركة السودانية للتحرر الوطني ( الحزب الشيوعي فيما بعد) عام 1946 ، اضافة للحزب الجمهوري عام 1945 . الخ.

هكذا ظهرت الأحزاب السياسية علي مسرح الحياة السياسية السودانية لتبدأ فترة جديدة في الصراع السياسي والوطني في السودان.

وأخيرا ، نشير الي أن مؤتمر الخريجين عبر عن الدور الكبير الذي لعبه الخريجون في الحركة الوطنية ، ووضع حجر الأساس لدور الكبير الذي لعبته القوى الحديثة في التطورات السياسية والاجتماعية بعد الاستقلال، وفي اسقاط الأنظمة الديكتاتورية ( عبود ، النميري ، البشير) كما هو الحال في : جبهة الهيئات في ثورة أكتوبر 1964، التجمع النقابي في انتفاضة مارس- أبريل 1985 ، تجمع المهنيين في ثورة ديسمبر.

للمزيد من التفاصيل عن مؤتمر الخريجين راجع:

– كتاب أحمد خير المحامي “كفاح جيل”.

– محاضر مؤتمر الخريجين (1939 – 1947) في ثلاثة اجزاء أعدها د. المعتصم أحمد الحاج ، وصدرت عن مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية، 2009.

نواصل

alsirbabo@yahoo.co.uk

الذكرى المئوية لثورة 1924 «15».. أثر ثورة 1924 على الهوية السودانية

الوسومأحمد خير المحامي الاستقلال السودان تاج السر عثمان بابو ثورة 1924 كفاح جيل مؤتمر الخريجين مركز محمد عمر بشير

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الاستقلال السودان ثورة 1924 مؤتمر الخريجين الحرب العالمیة الثانیة الإدارة البریطانیة الحیاة السیاسیة الحرکة الوطنیة السودانیین فی للمزید من ثورة 1924

إقرأ أيضاً:

رئيس جامعة بني سويف يشيد بالاستعدادات الكبيرة لعقد مؤتمر قسم أمراض الصدر

أكد الدكتور منصور حسن، رئيس جامعة بني سويف، على الدور الكبير التى تقوم به الجامعة لخدمة المجتمع والبحث العلمى من خلال تقديم المؤتمرات العلمية المهمة، مشيدا بجهود قسم الصدر بكلية الطب فى إقامة حدث علمى كبير ومؤثر يتواجد فيه أساتذة من الجامعات المصرية وقامات كبيرة مثل الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الصحية والدكتور أشرف حاتم رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب، ولفيف من خبراء الصدر فى مصر والخارج.

وأوضح رئيس جامعة بنى سويف، أهمية عقد هذا المؤتمر العلمى لقسم أمراض الصدر، كونه يعطى الفرصة لتبادل الأوراق البحثية وتبادل الخبرات بين الباحثين والأساتذة فى مختلف التخصصات، وتوقيع بروتوكولات مع جامعات أخرى وهو ما يعزز تحسين الخدمات الصحية المقدمة للمرضى، وثقل مهارات الأطباء المعرفية و المهنية من خلال ورش العمل التى تعقد على هامش هذا المؤتمر المهم وهو ما يؤكد جهود الجامعة فى خدمة المجتمع، حيث أن الأبحاث العلمية التى تعرض هى أبحاث مرتبطة بالمجتمع نفسه

جاء ذلك تعقيباً على استعداد قسم الصدر بكلية طب جامعة بني سويف، بالتعاون مع جمعية جنوب الوادي لأمراض وحساسية الصدر، لإقامة فعاليات المؤتمر العلمى السنوى الرابع الذى يعقد خلال الفترة من 10 - 11 أكتوبر الجارى، تحت رعاية الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الصحية، و الدكتور منصور حسن رئيس جامعة بني سويف، والدكتور خالد الحديدى عميد كلية الطب بنى سويف والدكتور محمود البتانونى، رئيس قسم الصدر بالكلية و رئيس المؤتمر.

وأشاد الدكتور منصور حسن، رئيس الجامعة بالتميز العلمي لقسم أمراض الصدر وما يقوم به من جهود كبيرة حتى أصبح نموذجاً ومثالاً عملياً لرسالة الجامعة واعتماد إستراتجية عمله على توفير خدمة تعليمية ومعرفية متميزة في مختلف المراحل الجامعية، وهو ما يسير بالتوازي مع حرصه على نشر أحدث المعلومات المعرفية المستحدثة في ذلك المجال من خلال ما تنظمه من المؤتمرات العلمية المتميزة وورش العمل لرفع كفاءة الأطباء اللذين يبدأون مشوارهم المهنى و كذلك الأطباء المتخصصين وهو ما يسير بالتوازي مع تقديمه رسالة علمية وعملية فى طب الصدر وأمراض الصدر فى مصر و المنطقة.

مقالات مشابهة

  • هيئة الطرق: الطريق الساحلي السريع أحد أهم الطرق الرئيسية بمنطقة جازان التي أسهمت في دعم الحركة السياحية
  • رئيس جامعة بني سويف يشيد بالاستعدادات الكبيرة لعقد مؤتمر قسم أمراض الصدر
  • مؤسسة الإمارات للخدمات الصحية تنظّم النسخة الثالثة من مؤتمر الصحة النفسية
  • صنعاء .. تواصل الفعاليات الترويجية للبُن اليمني تزامنا مع الذكرى الثالثة لثورة البُن
  • انعقاد مؤتمر السلامة والصحة بشمال سيناء
  • طارق العوضي: لقاء رئيس الوزراء مع القوى السياسية خطوة تاريخية نحو التعاون والشراكة الوطنية
  • 5 مساحات تفاعلية تُجسد رحلة التعلم في مؤتمر LEARN
  • "الأدب من الشفاهية إلى الرقمنة" في مناقشات مؤتمر قصور الثقافة بالمنيا
  • عضو التحالف الوطني تنظم مؤتمر الموظفين السابع بالإسكندرية
  • الإسكندرية تستضيف مؤتمرًا عالميًا للتوعية المعلوماتية