العلاقة بين مصر والنرويج، التى تحل ضيفًا كريمًا على الدورة الخامسة والخمسين لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، أشبه من وجهة نظرى بقماش الدانتيلا الرقيق، الذى ربما يستغرق وقتًا طويلًا لعقد غرزه الرفيعة وأشكاله الهندسية الدقيقة، ولكنه ومع انتظار النتيجة يخرج بصورة رائقة ومبهرة.
فبينما كتب المسرحى النرويجى الشهير «إبسن» عن شعبه وبلده قائلًا: إن البيئة الطبيعية الرائعة والقاسية التى تحيط بالناس هناك فى الشمال، والحياة المنعزلة والوحيدة- المزارع على بُعد أميال- تجبرهم على البقاء فى المنزل، وأكسبتهم حب الحكمة والفلسفة».
أكتب أنا عن مصر قائلة إن شمسها الدافئة التى لاتغيب عن سمائها، ونهر النيل الهادئ الذى يجرى فى أرضها منذ آلاف السنين أكسبها نفس الفلسفة والحكمة النرويجية ولكن بشعور معاكس تمامًا نابع من طمأنينة الحياة ودفء البيوت المفتوحة فى ليالى الشتاء للمسامرة ونسج الحكايات.
ربما هذا التضاد المناخى والجغرافى بين مصر الواقعة فى قلب حضارات العالم القديم وبين مملكة النرويج الكامنة فى أقصى الشمال الغربى لقارة أوروبا، حيث الطبيعة حادة، صارمة، قوامها البرد وملمسها الجليد.
جعل المشترك الأنسانى بين البلدين مغايرا ومؤثرا فى نفس الوقت.
ففى فترة الثلاثينيات من القرن الماضى كانت مسرحية «إبسن» الكاتب المسرحى النرويجى الشهير « هنريك أبسن (20 مارس 1828 –23 مايو 1906) «عدو الشعب» على سبيل المثال مقررةً على طلاب المدارس.
أما سنوات الستينيات فكان «أبسن» هو العلامة الفارقة فى المسرح المصرى الذى قدم معظم أعماله المترجمة إلى اللغة العربية على خشبته، فكانت مسرحيات: «بيت الدمية» و«البطة البرية» و«الأشباح» هى المقررة على طلبة المعهد العالى للفنون المسرحية ويقدمها كعروض مسرحية طلاب الجامعات بطول محافظات مصر وعرضها.
أيضًا من أجمل الحكايات التى تقال عن تعلق الكاتب النرويجى «أبسن» بالمصريين الذين بادلوه نفس المحبة واهتموا بأعماله وقدموها على مسرحهم وفى دراساتهم الأكاديمية العديدة، ماكتبه «أبسن فى مذكراته عن زياراته عام 1869 لمصر ممثلا لملك النرويج فى احتفالات افتتاح قناة السويس، والتقى الخديو إسماعيل، الذى منحه وسام المجيدى التركى، وقبل حضوره القاهرة بعامين كتب قصيدته الطويلة «بيرجينت» التى تحولت فيما بعد إلى مسرحية، ويعتقد أنها السبب الرئيسى فى دعوة إبسن لحضور تلك المناسبة حيث يدور جزء كبير من أحداثها فى مصر، كما يدور حوار بين البطل وأبو الهول الذى يمثل صوت الضمير فى المسرحية.
يقول « أبسن» عن مصر: «لم أشعر بالسلام والسكينة وصفاء الذهن عند غروب الشمس إلا فى هذا البلد (مصر).. ففى بلدى النرويج ينتابنى شعور بثقل الذهن و الكآبة فى مثل هذا الوقت مما يدفعنى للبحث عن صحبة»
ومن يقوم بزيارة منزل «أبسن»، الذى تحول فيما بعد إلى متحف فى العاصمة النرويجية «أوسلو»، يجد صورة كبيرة لأبسن معلقة فى مدخل منزله، يرتدى فيها قلادة أهداها له الخديو إسماعيل، بمناسبة حضوره حفل افتتاح قناة السويس.
كما يروى ابسن فى مفكرته التى دون فيها تفاصيل رحلته لمصر وصفا دقيقا لهذه الزيارة فيقول : «قبل افتتاح القناة يوم 17 نوفمبر.. دعيت ضمن 85 شخصية منتقاة لرحلة نيلية استغرقت 24 يوما.. استمتعنا خلالها بسحر النيل وعظمة البناء.. وكنت كأننى فى حكاية من حكايات الجنيات.» ويستطرد:»وجدنا 4 مراكب نيلية فى انتظارنا، ومعها بواخر للإقامة، وبدأت الرحلة من النوبة، وبعدها توقفنا لزيارة معبد الكرنك ووادى الملوك. وفى قنا رست المركب هناك.. كنا فى الغروب، واندلعت أبخرة دخان على ضفاف النيل.. وبعدها اقتربت مركب ضخم ناحيتنا.. وقلت ربما تكون الأمبراطورة أوجينى امبراطورة فرنسا على متنها.. لكن سرعان ما ظهر مركب آخر جديد باللون الوردى أكبر من المركب الاول.. ونزلت منه أوجينى مرتدية ثوبا ابيض بديعا مثل كليوبترا بينما كانت الشمس تسطع بأشعتها الذهبية على متن المركب المغطاة بالحرير.
ويكمل إبسن : فى المساء استمتع الجميع بالرقص وفى اليوم التالى زرنا معبدأوزوريس فى ابيدوس وكان امامنا خيارات للوصول للمعبد إما ركوب خيل جميل, أو جمل فاخر، أو حمار عادى، ففضلت ركوب الحمار.. ولاحظت خلال السير أن الماشية هنا تختلف فى شكلها ولونها عن الماشية فى بلادى!.
يأتى عام 2006 بعد مرور مائة وسبعة وثلاثين عامًا على زيارة «أبسن» الأولى لمصر، ليشهد عودته مرة أخرى ولكن على شكل اختتام مصر مع العالم باحتفالية مئويته أمام تمثال أبو الهول بالتحديد وبحضور ملكة السويد. كما احتفلت المؤسسات الثقافية المصرية بتلك المناسبة؛ المجلس الأعلى للثقافة، ومسرح الهناجر، ومكتبة الأسكندرية.
هل ما سبق كل رصيد المصريين من محبة للشعب النرويجى؟ الاجابة بالطبع هى النفى، فالود الثقافى والفكرى موصول، ففى شهر أكتوبر الماضى احتفلت مكتبة الإسكندرية (بمناسبة 21 عامًا على افتتاحها) تحت عنوان «إحياء الأسطورة» بالفريق النرويجى الفائز بتصميم المكتبة، وأشار عضو بالفريق كريج دايجر إلى عملهم الجماعى والمصادر التى استعانوا بها، ومنها رواية «ميرامار» لنجيب محفوظ، التى أعطتهم فكرة عن الإسكندرية وسكانها.
ختامًا لدى الكثير لأكتبه عن مملكة النرويج وكتابها ومفكريها ولكنى سأنهى هذا المقال بشعار النرويج فى معرض الكتاب تحت عنوان «الحلم الذى نحلمه»، وهو الشعار الذى تعتز به و ترفعه فى كل فعالياتها بالخارج، والكلمات مستوحاة من قصيدة «هذا هو الحلم»، للشاعر النرويجى أولاف إتش هاوجِه (1908-1994)، التى صوَت متابعو «هيئة الإذاعة النرويجية» عام 2016 باعتبارها القصيدة الأعظم فى تاريخ النرويج على الإطلاق، وتقول كلماتها:
هذا هو الحلم الذى نحمله
أن معجزة ستحدث
أنه لابد أن يحدث أن الزمن سيفتح نفسه
أن القلب سيفتح نفسه
أن الأبواب ستفتح مصاريعها
أن الجبال ستفتح نفسها
أن الينابيع ستتفجر
أن الحلم سيفتح نفسه
أننا ذات صباح سنبحر
فى برزخ لم نعرف بوجوده
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الدورة الخامسة والخمسين معرض القاهرة الدولي للكتاب
إقرأ أيضاً:
رسالة لمناوى وجبريل ما تسقط الفاشر سقطت برلين
الرأى اليوم
صلاح جلال
(١)
???? تعاني مدينة الفاشر حالة حصار خانق على مدى سبعة أشهر منذ إندلاع حرب ١٥ ابريل ٢٠٢٣م ، في الآونة الأخيرة زادت عزلة المدينة وأصبح شريان الحياة الوحيد للمواطنين والجنود هو الإسقاط الجوى الذى يصيب ويخيب، وتعيش المدينة ظروف أمنية قاسية بين قطبى الرحى [المرحاكة وبنتها] قصف طيران الجيش الذى دمر معظم البنيات الأساسية فى المدينة وأزهق العديد من الأرواح ، والقصف العشوائى لمسيرات ومدفعية الدعم السريع التى نالت من أعداد مقدرة من الأرواح ، فى الحالتين أغلب الضحايا من المدنيين طوال فترة الحصار .
(٢)
????لقد إشتد الحصار الآن و لا يزال سكان هذه المدينة الحيوية والإستراتيجية يعيشون حالة من الخوف والقلق، مع تقييد حركة التنقل والحرمان من الحصول على الخدمات من طعام ودواء وزدات المخاطر على المدنيين فى المدينة ، خاصة بعد تراجع قوات المشتركة إلى داخل معسكر زمزم للنازحين مما يرشحه أرض لمعارك قادمة كلفتها باهظة على المدنيين
لقد هجر المدينة معظم سكانها القادرين على النزوح وتبقى من تقطعت به السبل وحرمهم الفقر المدقع من القدرة على الحركة ينتظرون أقدارهم رافعين أكف الضراعة لله عز وجل ليوقف هذه الحرب اليوم قبل الغد .
(٣)
???? منذ أن قررت القوة المشتركة المكونة من قوات مناوى وجبريل الإنحياز للقوات المسلحة ، أصبحت التعبئة فى داخل الفاشر تقع على عاتق مكون قبلى واحد ومعظم المستنفرين من هذا المكون مع مساهمات محدودة من قبائل أخرى ، لقد إستنزفت معركة الفاشر على مدى السبعة أشهر الماضية طرفى القتال الدعم السريع والمشتركة وتوسعت جغرافية الصراع فى محاولات السيطرة على خطوط الإمداد وقطعها فى مساحات واسعة من شمال دارفور ، وكثف الطيران الحربى قصفه العشوائي على الفاشر ونيالا والكومة وكبكابية ومليط راح الألوف من المدنيين ضحية لذلك
لتعرف حجم الكارثة الإنسانية فى الفاشر لقد عزيت أسرة واحدة خلال شهرين لفقدها خمسة من أفرادها فى معارك متعددة داخل الفاشر وحولها بواقع تعزية كل أسبوعين ، وأعرف عشرات الأسر لديها العشرات من الضحايا محاربين أو مدنيين تم فقدهم خلال السبعة أشهر الماضية .
(٤)
???? السؤال *هل الصراع حول الفاشر يستحق كل هذا النزيف من الدماء والخسائر ؟؟* سواء بإسم القبيلة أو الوطنية ، فى حرب المنتصر فيها خاسر *لماذا نسوق أهلنا للمحرقة فى الفاشر من أجل تحقيق أهداف سياسية؟؟* حتى إذا إنتصرنا هل نريد أن نحكم المقابر !!! أكتب هذا المقال ولدى رصد جيد لحجم الخسائر فى رأس المال البشرى خاصة فى معارك الفاشر وشمال الصحراء.
(٥)
???? *فى بداية الحرب قبل التطورات الأخيرة كتبت للأخ مناوى (ما تسقط الفاشر سقطت برلين* ) التى سيطر عليها الحلفاء بعد حصار طويل من عدة إتجاهات أنهك العسكريين والمدنيين معاً ، عملية الهجوم على برلين أو معركة برلين واحدة من المعارك الأخيرة على الجبهة الأوروبية في الحرب العالمية الثانية، والتي أطلق عليها السوفيت عملية الهجوم الإستراتيجي على برلين، حيث قامت جبهتان
سوفيتيتان بمهاجمة برلين من الشرق والجنوب، بينما قامت جبهة ثالثة باجتياح شمال برلين وإنتهت المعركة إلى إعلان الجنرال الألمانى فايدلنج عن إستسلام المدينة ، لقد فقدت ألمانيا أعداد ضخمة من الضحايا فى حصار برلين. وإنتهت إلى الإستسلام .
(٦)
????ماذا حدث بعد ذلك ، هل حمل الروس تراب برلين ليعودوا به إلى وطنهم؟؟
لقد تحررت برلين واليوم هى من أجمل المدن الألمانية ، لكن ضحاياها والدماء التى سالت من أجلها لم يعودوا للحياة ، لقد وقفت على سارى الجندى المجهول والمسلة فى برلين رفقة الحبيبة د.مريم الصادق المهدى ، المسلة التى خلدت الذكرى ، وهى شاهد على الحروب العبثية بين الشعوب فيما أطلقوا عليه الحرب العالمية الثانية وهى فى الحقيقة الحرب الأوربية الثانية .
(٧)
???? أدعى المعرفة وعلاقة ما بالأخوين د.جبريل ومناوى جمعتنا رفقه نضالية فى [مجموعة نداء السودان] رسالتى لهم *ما يجرى فى الفاشر نزيف دم يجب أن يتوقف فورا* فهو غير مُجدى وطنياً وقبلياً ، لقد أنهكتم الأهل وتحملوا فوق طاقتهم بتعبئة جائرة بإسم القبيلة والقومية ودفعوا ثمناً غالياً، لا ننكر عليهم أنهم فرسان قتال ولكن يجب توفيرهم لمعركة أعظم وأهم من هذه الحرب العبثية التى تفجرت فى الخرطوم بسبب طمع السلطة والثروة ، وبعد حمى وطيسها أراد لها من فجروها أن تلبس لبوس القبلية والمناطقية حتى تصبح حرب بالوكالة ، نيابة عن قيادة المركز الذى حاربتموها سنين عددا
لايوجد منطق لإستمرار الكلفة الباهظة لنزاع الفاشر ، *إذا تعذر وقف الحرب فى الخرطوم لماذا لا نوقفها فى الفاشر ؟؟ حيث الأهل هناك لا ناقة ولا جمل لهم فيها* !! ينتظرون إنتهاء الحرب ليعودوا لحياتهم الطبيعية التى فقدوها خاصةً أصحاب التجارة ورأس المال منهم ، الذين يريدون إقليم بلا حرب لتزدهر تجارتهم ويزيد رأسمالهم ، والحرب وما تخلفه من غبائن تحرم رأس المال من التوسع والأسواق التى لا تعرف القبلية والمناطقية .
(٨)
????????ختامة
رسالتى المتأخرة فى الساعة الخامسة والعشرين للأخوين جبريل ومناوى ومن معهم من المستنفرين فى الفاشر وقيادة الدعم السريع ممثلة فى الفريق حميدتى ، حرب الفاشر يجب أن تقف فوراً ، *كملتوا عيال الناس* ، فى حرب من فجروها أبنائهم فى تركيا والخليج ومصر وأوربا وأمريكا يعيشون فى أمان ويتعلمون فى أرقى الجامعات ينتظرون نهاية الحرب ليعودوا ليحكمومكم وأنتم تحرقون أبنائكم بلظى الحرب وتزيدون من الجهل والفقر والجوع والمرض الذى إستوطن فى تلك الأنحاء سنين عددا ولايحتاج للمزيد
*ماتسقط الفاشر سقطت برلين رغم الفارق ، برلين سقطت للأجنبى والفاشر تسقط فى حرب أهلية مؤسفة من حضن الوطن إلى حضن الوطن* فالنغنى مع الشاعر تميم البرغوثى
الذى عرف وعاش حروب الفصائل العبثية فى أرضه فانشد يقول
*بعض الحروب فى خسرانها شرف*
*من عاد منتصراً من مثلها إنهزم*
#لاللحرب
#لازم_تقيف