ألقى التحقيق الأخير الذي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" ضوءا كاشفا على التفاعل الغامض بين القوى في الشرق الأوسط في عالم تُحاك فيه مكائد الجغرافيا السياسية في كثير من الأحيان خلف أبواب مغلقة. يكشف هذا التقرير المثير للاهتمام عن وجه مذهل للسياسة الإقليمية وهو: تورط الإمارات العربية المتحدة في تمويل الاغتيالات ذات الدوافع السياسية في اليمن.
لا يتحدى هذا الكشف المفاجئ فهمنا للمشهد السياسي المعقد في الشرق الأوسط فحسب، بل يدفع أيضا إلى إعادة تقييم نقدي لدور الإمارات العربية المتحدة داخله، وعندما نتعمق في أعماق هذا التحقيق، نواجه رواية تعيد تشكيل وجهة نظرنا حول الصراع الدائم في اليمن، وتثير أسئلة عميقة حول القوى غير المرئية التي تشكل الديناميكيات الإقليمية.
تمهد هذه المقدمة الطريق لاستكشاف متعمق للاستراتيجيات المعقدة وغير المرئية في كثير من الأحيان في الشرق الأوسط، حيث يمكن أن يكون للتدخلات السرية وتحركات الشطرنج الجيوسياسية عواقب بعيدة المدى ومدمرة في بعض الأحيان.
يعد تورط الإمارات العربية المتحدة في اليمن جزءا من سرد أكبر للصراعات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. منذ اندلاع الحرب الأهلية اليمنية في عام 2014، أصبحت البلاد ساحة معركة للقوى الإقليمية، حيث في البداية دعم التحالف الذي تقوده السعودية، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة، الحكومة اليمنية ضد الحوثيين. ويمتد دور الإمارات العربية المتحدة، كما كشفت عنه هيئة الإذاعة البريطانية، إلى ما هو أبعد من المشاركة العسكرية التقليدية. ويزعم التحقيق أن الإمارات مولت أكثر من 100 عملية قتل مستهدف على مدار ثلاث سنوات، نفذها مواطنون محليون دربهم مرتزقة أمريكيون.
ويبدو أنّ حصار البحر الأحمر الذي فرضه اليمن على إسرائيل والذي نجم عنه تدخل أمريكي-بريطاني مباشر عبر ضرب الأراضي اليمنية؛ أعاد إحياء فكرة سابقة قائمة على الاغتيال في اليمن. إذ أن الإمارات اغتالت صالح الصماد، رئيس المجلس السياسي الأعلى للحوثيين، عبر طائرة مسيرة موجهة من غرفة عمليات. وفي السابق كان هناك تعاون أمريكي-إسرائيلي-إماراتي في تنفيذ عمليات الاغتيال السياسية هذه، حيث كشفت منظمة رايتس رادار والمعهد الدولي للحقوق والتنمية أنّ الإمارات استأجرت مرتزقة أمريكيين لتنفيذ اغتيالات بارزة في اليمن، وقد نفذوا بالفعل عدة عمليات في عدن ومدن أخرى، أسفرت عن اغتيال عشرات السياسيين والشخصيات المؤثرة.
كما أشارت هذه المنظمات إلى أنه من بين 30 ألف مرتزق من 4 دول في أمريكا اللاتينية استأجرتهم الإمارات، تم نشر 450 مرتزقا على الأقل في اليمن بعد أن تلقوا تدريبات على يد أمريكيين.
وفي تحقيق خاص، كشفت الجزيرة في 2019 أن القيادي اليمني الجنوبي هاني بن بريك المدعوم من قبل الإمارات متورط بجرائم اغتيالات لأكثر من 120 مواطنا وذلك لأسباب سياسية، في الفترة الممتدة بين 2015 إلى 2018. وبين هؤلاء الضحايا شخصيات اجتماعية وخطباء مساجد وضباط موالون للحكومة اليمنية.
ويعود بن بريك إلى الواجهة مرة أخرى من خلال إنشاء مركز ديني ضخم في عدن قد يستخدم لأغراض سياسية في المستقبل. كما يبدو أنّ تقرير "بي بي سي" أثار غضب القيادي في المجلس الانتقالي هاني بن بريك، ليصفه بأنه تقرير كاذب وأن حزب الإصلاح وجماعة الإخوان هم من يقف وراءه.
وتمثل هذه الادعاءات، إذا صحت، تصعيدا خطيرا في أساليب الحرب والمناورة السياسية في المنطقة. إن الاغتيالات السياسية كأداة لسياسة الدولة تؤدي إلى زعزعة الاستقرار بشكل كبير، إنهم يساهمون في دائرة العنف والثأر، مما يزيد من ترسيخ الانقسامات وإعاقة أي احتمالات للسلام. إن استهداف شخصيات سياسية وأعضاء جماعات محددة، مثل جماعة الإخوان المسلمين، تحت ستار مكافحة الإرهاب، يثير تساؤلات أخلاقية خطيرة ويقوض سيادة القانون ومعايير حقوق الإنسان.
علاوة على ذلك، فإن تجنيد أعضاء سابقين في تنظيم القاعدة (بحسب صحيفة الإندبندنت) من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة للقتال في اليمن يمثل مفارقة خطيرة. وهو يسلط الضوء على اتجاه مثير للقلق في صراعات الشرق الأوسط، حيث تطغى التحالفات التكتيكية قصيرة المدى على التفكير الاستراتيجي طويل المدى والاعتبارات الأخلاقية. ويخاطر هذا النهج بتمكين العناصر المتطرفة، التي تتعارض دوافعها وأفعالها مع الأهداف الأوسع للسلام والاستقرار في المنطقة.
وتمتد تداعيات تصرفات الإمارات في اليمن إلى ما هو أبعد من حدودها. وفي نسيج سياسات الشرق الأوسط المعقد، حيث تعمل القوى الإقليمية والدولية غالبا من خلال وكلاء وعمليات سرية، فإن مثل هذه التدخلات يمكن أن يكون لها عواقب بعيدة المدى. فهي يمكن أن تؤدي إلى تصعيد الصراعات، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار الإقليمي، والمساهمة في معاناة السكان المدنيين، الذين هم دائما الأكثر تضررا من مثل هذه الحرب الغامضة.
إن إنكار الإمارات العربية المتحدة لهذه الادعاءات باعتبارها "كاذبة ولا أساس لها من الصحة" لا يساعد كثيرا في تبديد المخاوف التي أثارها التحقيق. وفي غياب حكم شفاف وخاضع للمساءلة، فإن مثل هذا الإنكار لن يؤدي إلا إلى تغذية التكهنات وانعدام الثقة. ومن الضروري أن يأخذ المجتمع الدولي هذه الادعاءات على محمل الجد، وأن يضمن التزام جميع الجهات الفاعلة المشاركة في الصراع اليمني بالقوانين والأعراف الدولية.
وفي الختام، فإن تحقيق بي بي سي في تمويل الإمارات المزعوم للاغتيالات السياسية في اليمن هو تذكير صارخ بالجوانب المظلمة للعلاقات الدولية في الشرق الأوسط، ويكشف كيف يمكن للجهات الفاعلة الحكومية أن تنخرط في أعمال تؤدي إلى تفاقم الصراعات وتقويض الجهود المبذولة لتحقيق السلام والاستقرار. إنها دعوة للمجتمع الدولي إلى توخي اليقظة ومحاسبة الدول على أفعالها، وضمان ألا يؤدي السعي إلى تحقيق أهداف سياسية إلى تقويض حقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولي.
إن الطريق إلى السلام في اليمن والشرق الأوسط الأوسع لا يكمن في العمليات السرية والتكتيكات الغامضة، بل في فن الحكم الشفاف والشامل والأخلاقي.
twitter.com/fatimaaljubour
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإمارات الاغتيالات اليمن اليمن الإمارات اغتيالات سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإمارات العربیة المتحدة فی الشرق الأوسط السیاسیة فی سیاسیة فی فی الیمن
إقرأ أيضاً:
قراءة إسرائيلية في مواقف ماليزيا تجاه حرب غزة وعلاقتها مع حماس
اهتمت وسائل إعلام عبرية بتصريحات رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، والتي تحدث فيها عن حق "إسرائيل" في الوجود، وحقها في الدفاع عن نفسها، رغم عدم إدانته لهجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر لعام 2023، ودعمه الثابت للشعب الفلسطيني، وإدانته للإبادة الجماعية في غزة.
وقال الباحث في معهد ترومان بالجامعة العبرية غيورا أليراز إنّ "إجابات إبراهيم جاءت مفاجئة، لأنه أعلن معارضته لكل أشكال العنف، ملمحا إلى أن خطابه يمحو عقودا قبل السابع من أكتوبر، ويتجاهل محنة الفلسطينيين منذ نكبة 1948، ويغمض عينيه عن تاريخ الاستعمار ويغفر له حتى الإبادة الجماعية".
وتابع ترومان في ورقية بحثية نشرها معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب وترجمته "عربي21": "ينبغي أن نعرف إذا ما كانت تصريحات إبراهيم مجرد تمرين للعلاقات العامة على الساحة العالمية، أو طموحا للتدخل في الشرق الأوسط، أو ربما علامة أولية على تغيير في الاتجاه نحو إسرائيل (..)".
وذكر أنه "من المفارقات أنه عندما انتُخب إبراهيم رئيسا للوزراء أواخر 2022، بعد مسار سياسي طويل، كان من المتوقع أن يخفف من سياسة ماليزيا الصارمة تقليديا تجاه إسرائيل، بزعم أنه لم يشارك في حدة الخطاب المعادي لها على مدة عقود من الزمن، بعكس سلفه الراحل مهاتير محمد".
ولفت إلى أنه "في مواقف سابقة لإبراهيم نستحضر كلمات قالها في مقابلة عام 2012 مع صحيفة وول ستريت جورنال، عندما كان زعيماً بارزاً للمعارضة بأنه يؤيد كل الجهود لحماية أمن دولة إسرائيل، وأكد في الوقت نفسه التزام بلاده العميق بالقضية الفلسطينية، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أساس حل الدولتين، وأن إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل مشروط باحترامها لتطلعات الفلسطينيين، وحينها لم تتأخر الانتقادات اللاذعة من خصومه السياسيين بسبب تصريحاته غير العادية بشأن قضية أمن تل أبيب، وظلّت ترافقه".
ونوه إلى أنه "هذه المرة أيضا سمعنا انتقادات بعد تصريحاته الأخيرة، لأنها انتشرت على نطاق واسع في شكل مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن يبدو أنها كانت هذه المرة محدودة نسبيا من حيث النطاق والشدة، حيث ردّ على المنتقدين، متهماً إياهم بخداع الرأي العام، استناداً لمقطع فيديو تم تحريره، وإخراج بعض كلماته من سياقها، مؤكدا أنه لم يتغير شيء؛ وستظل ماليزيا ملتزمة بدعم فلسطين، وحديثه هنا باللغة الماليزية، مجددا تصريحاته القاسية ضد تل أبيب".
وبحسب رئيس الوزراء الماليزي، "من يسأل هل أن إسرائيل موجودة، سيكون الجواب نعم، هي موجودة، لكن ماليزيا لم تعترف بها قانونيا قط، بل فقط بوجودها كحقيقة واقعة، بدليل عدم وجود علاقات دبلوماسية معها، ومن وجهة نظره فالموضوع مغلق".
لكن الباحث الإسرائيلي قال إن "تصريحات إبراهيم تزامنت مع نشر مقال صحفي لكاتب عمود محلي من أصل هندي في ماليزيا، تحت عنوان "لماذا أؤيد موقف أنور إبراهيم بشأن حق إسرائيل في الوجود"، ما يكشف عن حقيقة المواقف السائدة بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بين الأقليات التي تشكل 40% من سكانها، أكبرها الصينيون، يليهم الهنود".
وزعم الكاتب الهندي، وفق القراءة الإسرائيلية، أنه "يتحدث باسم جميع غير المسلمين في ماليزيا، لأنهم، بشكل عام، وعلى عكس المسلمين فيها، ليس لديهم رأي سلبي تجاه دولة إسرائيل، أو رأي إيجابي للغاية تجاه فلسطين، وينظرون للطرفين كدولتين في حالة حرب، مثل أوكرانيا وروسيا، ونرى "نحن غير المسلمين" أن الحرب في الشرق الأوسط حرب خارجية، لا نريد المشاركة فيها، وعندما نرى اعتقاد المسلمين الصادق بأن الحق مع فلسطين، وأن إسرائيل هي الشريرة، فهم يتخذون هذا الموقف من منطلق التعاطف مع الفلسطينيين".
وأشار أننا "نحن غير المسلمين في ماليزيا" نفهم رغبة المسلمين بأن تلعب بلادنا دوراً أكثر نشاطاً لدعم الفلسطينيين في الصراع، مع أنها فعلت الكثير فيما يتصل بالحرب في الشرق الأوسط، ولكن لأن وضع المسلمين أكثر إثارة للقلق، فإن ماليزيا ليست مضطرة للمشاركة في الحرب باختيار الجانب الأضعف ضد الجانب الأقوى بكثير، وهي إسرائيل، لأننا لسنا متأكدين من الصحيح ومن المخطئ، ولا يمكننا أن ندعم رغبات الفلسطينيين إلا إذا اعتزموا أن يروا ماليزيا وسيطًا للسلام في الصراع".
الكاتب الاسرائيلي يعود ليعتبر أن "كلمات رئيس الوزراء إبراهيم، التي يتفق فيها على أن لدولة إسرائيل الحق بالوجود، والدفاع عن النفس، نقطة انطلاق صحيحة لماليزيا، ما يستدعي التوضيح أن التماهي السياسي والعاطفي مع القضية الفلسطينية، الذي يتسم بقوة في الخطاب السياسي والعام في ماليزيا، يبدو متشابكاً مع البناء القديم للهوية الوطنية لدى أغلبيتها المسلمة التي تزيد عن 50% من السكان، بما من شأنه حشد الشعور بالتضامن الإسلامي الشامل، ومثل هذا البناء تضمن أيضًا نغمات معادية لإسرائيل والغرب والاستعمار، لكنه قد يعتبر مشكلة كبيرة من وجهة نظر الأقليات فيها".
وزعم أن "هذه الأقليات الماليزية قد لا تكون الوحيدة التي تشعر حالياً بعدم الرضا عن وضع بلادهم في ضوء حرب غزة الأخيرة، ناقلا عن أحد باحثي الشؤون الماليزية الذي ينقل عن جماعات المجتمع المدني وشخصيات المعارضة استياءهم من موقف الحكومة تجاه حماس، ومخاوفهم من أن يضرّ بمصالح الدولة، بزعم أن تمويل حماس من قِبَل المنظمات الماليزية المؤيدة للفلسطينيين قد يعرضها للعقوبات من قِبَل الغرب".
واستدرك بالقول إن "تصريحات إبراهيم غير العادية بشأن دولة إسرائيل يمكن أن تكون موجهة للخارج والساحة الدولية، لإصلاح صورته في الغرب، وتخفيف التوتر في علاقاته بالولايات المتحدة بسبب اتصالات بقيادة حماس، ويسعى لتجنب الضغوط نظرا لعلاقاته معها، والإشارة أن بلاده شريكة بجهود السلام في الشرق الأوسط، وتتخذ موقفا داعما لجهود السلام من خلال الاتصال بالجسم السياسي للحركة، دون تدخل بأنشطتها العسكرية، زاعما أن علاقاته بها يمنحه ميزة بمحاولة تحقيق السلام في الشرق الأوسط".
وزعم أنه "في الممارسة العملية، فإن خطاب إبراهيم يصرخ بالتناقضات؛ خاصة صمته المطبق إزاء هجوم حماس الدموي في السابع من أكتوبر، مقابل الصراحة الكبيرة بإدانة العدوان الإسرائيلي على غزة، ودعوته على منصة القمة العربية الإسلامية في الرياض لبناء إجماع يحمل المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات سريعة وفعّالة ضد دولة الاحتلال، وصولا لطردها من الأمم المتحدة".
وختم بالقول إننا "سنضطر للانتظار حتى نفهم ما إذا كانت التصريحات غير العادية لإبراهيم التي مجرد حادثة عابرة، أو تمرين في العلاقات العامة على الساحة العالمية، أو طموح للانخراط في الشرق الأوسط، أو ربما إشارة أولية لتغيير في الاتجاه".