موازين القوى .. قواعد اشتباك مفتوحة
تاريخ النشر: 28th, January 2024 GMT
تعد معادلة موازين القوى واحدة من المعادلات المهمة في أي صراع ينشأ بين الطرفين، وعلى أساسها يمكن الحكم على حسم الصراع لأي طرف يكون، ومعنى هذا فإما أن ينظر إلى مستوى الإعداد المادي، وإما أن ينظر إلى مستوى الإعداد المعنوي، والمعنوي له أكثر من صورة؛ يدخل فيها: الدين، الأرض، الجبهة الداخلية للدولة، الإيمان بالقضية، الجذر التاريخي للشعب، التسلسل الزمني للأحداث، فالأحداث المؤقتة تزول سريعا، والأحداث التاريخية تحتاج إلى كثير من الصراع حتى يحدث فيها خرقا ما، وقد لا يذهب إلى إنهائها، بل؛ بالعكس؛ قد يعيد تموضعها من جديد، وتكون أشد قوة ومقدرة على المجابهة، حيث تتم الاستفادة من مجمل الأخطاء التي تقع إبان المواجهات، فيعاد إنتاج القوى الثانوية؛ التي قد تكون معطلة في مرحلة معينة من مراحل الصراع، فتكون بمثابة المنقذ من براثن الضياع والتشتت، والانهيار، وإعادة الإنتاج هذه، ليس شرطا أن تتم في مرحلة أوج الصراع، ولكن يمكن النظر إليها في مراحل متقدمة، استعدادا لجولات أخرى قادمة لأي صراع محتمل، فالصراعات لا تتوقف؛ وهذا أمر معيش؛ في مفهوم الحياة البشرية، لكنها تخفت قليلا، ولا تلبث أن تعود بصور أخرى؛ ربما؛ تكون أكثر اشتباكا وحدية، وقد تكون لها نتائج قاسية، ومؤلمة.
تقتضي معادلة موازين القوى أن أن يكون الطرفان على مسافة أفقية متقاربة، ومعنى هذا فمتى علت إحدى هذه القوى على الأخرى، فإن ذلك يقتضي؛ بالضرورة؛ أن لا يكونا في نفس المستوى الأفقي، وإنما يحكم ذلك هو المستوى الرأسي، وللمستوى الرأسي هنا أكثر من صورة، وبناء على ذلك تحسم المعركة لصالح الطرف الذي يأخذ بالبعدين الرأسي والأفقي؛ بلا جدال، ومن هنا يستلزم الأمر النظر بدقة في مسألة العقيدة عند كل طرفي النزاع، ومعززات العقيدة عند كلا الطرفين، فالأسباب المادية؛ على أهميتها؛ ليس شرطا أن تكون الحد الفاصل لإنهاء الصراع، وهذا ما هو ماثل في الحرب الضروس الدائرة بين منظمة حماس، كقوة مستضعفة من حيث الإمكانيات المادية، ومساحة الأرض، وعلى الرغم من ذلك فهي إلى الآن لا تزال تسيطر على توازن الردع مع العدو، وبين قوى الشر المتهاوية من كل بقاع العالم بعدتها وعتادها، وما يلفت النظر هنا النتيجة التالية: لو أن المسألة قائمة على البعد المادي البحت، لانتهى الصراع في أيامه العشرة الأولى لصالح قوى الشر، قياسا على إمكانيات الطرف الأضعف «حماس» ولكن المسألة قائمة على أبعاد معنوية كثيرة تفتقدها قوى الشر، وفي مقدمتها العقيدة الدينية، والإيمان بأهمية الأرض والمصير، والجذر التاريخي الذي يوثقه الزمن المستقطع للإقامة في ذات الأرض، ويكفي أن ينظر إلى تسلسل إقامة الأنبياء في فلسطين، ومسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وصلاته بالأنبياء جميعا في المسجد الأقصى بنص القرآن الكريم: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) -الآية (...) من سورة الإسراء.
اليوم المشهد ماثلا أمام مرأى الجميع في شأن الأحداث المتفاعلة في فلسطين المحتلة، وفي قطاع غزة على وجه التحديد، فما يحدث من نتائج على الأرض شيء يفوق الاستيعاب البشري والقائم على معادلة (1+1= 2) ولذلك فنتائج الحرب المستعرة بين الطرفين؛ وأعني بها على ميدان المعركة؛ وهي الخاضعة للتقييم الآن، وليس تلك الصواريخ والقنابل الموجهة من السماء إلى الأرض، وهذه وإن كانت نتائجها مدمرة، ومؤلمة، ولكنها تعبّر فقط عن آخر ما يمكن أن يقوم به البشر من قوة صنعها لإيذاء الآخر، ولكن هل يقدر أن يتجاوز ما هو حاصل الآن؟ بالتأكيد لا، وهذه الـ«لا» لها استثناء واحد فقط، وهو القنبلة النووية، ومع ذلك فكل ذلك لن يكون إلا بأمر الله عز وجل، أما ما يحدث في ميدان المعركة، فشيء خارق للعادة، ولا يمكن أن تستوعبه الحسابات المادية التي اعتاد عليها البشر في مثل هذه المواقف والتي تمثلها المعادلة أعلاه، وعلى امتداد التاريخ الإسلامي لم تحسم نتائج المعارك القوة المادية (العتاد والسلاح) ولا القوة البشرية الهائلة (عدد الجند) وإنما يحسمها أمر ما، وهو القوة الخفية المطلقة والقادمة من فوق سبع سماوات (إرادة الله عز وجل وأمره، ونصره للمؤمنين به) فهل ما يحدث في غزة على وجه الخصوص، ينضوي تحت هذا الفهم «ولا نزكي على الله أحدا» فذلك كله مرهون بعلم الغيب، ولذلك فمن المهم جدا أن ينظر إلى مسألة تكافؤ القوى القائمة في هذه الحرب، وهو تكافؤ خارج عن الفهم المادي للأشياء، واحد مقابل واحد، متساويان في القوة والعتاد، ولذلك فمن المهم جدا؛ أيضا؛ النظر في مسألة العقيدة، والإيمان بالهدف والمصير، واستحضار أهمية الأرض كأهم محفز للبقاء أو الموت دونها، وبالتالي فمن الجانب التكافؤ المادي؛ فالجميع متفق أن لا تكافؤ إطلاقا، لا من جهة العتاد، ولا من جهة الأعداد المؤلفة من الجنود؛ حيث تجتمع قوى الشر من كل حدب وصوب، بعدتها وعتادها تقودها «رأس الأفعى» الأمريكان، مقابل منظمة صغيرة، عدد أفرادها قليلون، وعتادها معظمه صناعة محلية متواضعة، وفي المقابل فالنتائج على الأرض تخالف هذه الحسابات المادية؛ سواء من حيث تدمير الآليات المحصنة، أو زيادة في أعداد القتلى في جانب العصابة الصهيونية المتغطرسة بعتادها وقوتها.
أشير هنا في سياق هذه المناقشة إلى نقطة؛ أراها على قدر كبير من الأهمية عند الحديث عن موازين القوى، وهي ما يتعلق بالجانب العقدي عندنا كمسلمين، وهي المعصية التي تمثل في الفهم الإسلامي جانبا مهما في ميزان القوى بين الأطراف المتحاربة، وينظر إليها بكثير من الاهتمام في تحديد النتائج المتوقعة لأي صراع بين أي طرفين، والفهم يتناهى إلى النظر في حقيقة أية معصية هذه؛ أو تلك، وإن كان الفهم العام للمعصية هي ما يذهب إلى معصية الله سبحانه وتعالى، وهي عدم الكف عما نهى عنه، أو عدم الإتيان بما أمر به، مرورا بمعصية الرسول؛ وبعدها تنحدر إلى الفئات الأخرى المصنفة في الشرع والقانون، ولأن الحديث هنا ليس في شأن المعصية، وإنما حسب المعنى الضمني الذي يحمله العنوان «موازين القوى» وخطورة ذلك على مستقبل الأمم، وخاصة الأمم التي تؤمن بالدين الحقيقي، والدين هنا هو «الإسلام» وبالتالي فأي فئة تنتمي إلى الإسلام، وتؤمن به إيمانا مطلقا، وتنتصر به؛ انتصارا يقينيا، فإنها بذلك ملزمة بأن تتمثل مبادئه وتعاليمه، بصورة ليس فيها لبس، وإلا أخلت باتفاقها المبرم مع الله عز وجل، فالشهادة المنطوق بها للدخول في الإسلام هي بمثابة عقد مبرم بين الطرفين، فإن أخل الطرف الأضعف؛ وهو الإنسان بشيء من نصوص العقد، فبذلك ينتقل من مرحلة الاتكال على الله في كل شؤون حياته، إلى مرحلة الاعتماد على نفسه في تسيير هذه الشؤون، وما أكثرها في حياة كل فرد، وما أعقد مآلاتها، وتوجهاتها، ولذلك ينظر إلى موازين القوى، ونتائجها المتوقعة عند أي طرفين؛ أحدهما يتكئ على ما يقدره الله عليه «حيث الإيمان المطلق بقدر الله عز وجل» وطرف يتكئ على قدراته المادية المطلقة لذات الأمر، على حقيقة العلاقة لدى كلا الطرفين بما يؤمن به، فالأول: تكون نتائج أفعاله وأعماله خارجة عن القياسات المادية للأشياء، وفق مقاييس البشر، والآخر؛ تكون مرتبطة ارتباطا مباشرا بمدى الاستعداد المادي الذي حرص عليه «وعلى نياتكم ترزقون» وفي التاريخ الإسلامي منذ بدء البعثة المحمدية على رسولها محمد الصلاة والسلام الكثير من الأحداث التي شهدها التاريخ تنبئ عن أن قلة المسلمين، وضعف عتادهم لم يكُنا عائقًا عن نصرة الله لهم؛ ذلك لأنهم كانوا الأقرب إليه نصرةً وإيمانًا، وتسليما، وفي المقابل عندما أخلت المجموعة الإسلامية عن الالتزام بمحددات الدين، وشروطه، والالتزام به كمنج للحياة، تحولت المعادلة وفق متطلباتها المادية، حيث تساوى الجميع في المعصية، وبالتالي فالغلبة تكون لمن عنده القدرة المادية من العتاد والسلاح، تكون له الغلبة، ومن العدالة الإلهية أن لا ينصر الله سبحانه وتعالى فئة تتصادم مع توجيهات ربها ورسله، فعليها أولا أن تعود حقيقة إسلامها، ومن ثم تتوسل إلى ربها لنجدتها، فالشرط وجواب الشرط واضحا (إن تنصروا الله ينصركم؛ ويثبت أقدامكم) وهذا الفهم ينظر إليه إلى الحالة العامة للأمتين العربية والإسلامية، ويقينا؛ لا يختزل فيما يحدث الآن على أرض فلسطين المحتلة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: موازین القوى الله عز وجل قوى الشر ما یحدث
إقرأ أيضاً:
«المفتي»: الأمن في الأوطان هو المظلة التي تحفظ المقاصد الشرعية
أكد الدكتور نظير عياد، مفتي الديار المصرية، أن الحديث عن علاقة الأوطان بالمقاصد الشرعية في الوقت الراهن، يعد من القضايا الأساسية التي يجب التركيز عليها خاصة مع تنامي الاتجاهات المتطرفة والنظريات الغريبة التي تبتعد عن مراد الشارع وتسيء فهم المقاصد الشرعية.
وأوضح مفتي الديار المصرية، خلال حوار مع الدكتور عاصم عبد القادر، ببرنامج "مع المفتي"، المذاع على قناة الناس، اليوم الجمع، أن الشريعة الإسلامية قامت على حفظ الكليات الضرورية مثل الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وهذه الكليات تحتاج إلى مظلة تحميها، وهو ما تمثله الأوطان.
وقال: "إذا لم يكن هناك وطن يحفظ هذه الكليات، فلا يمكن الحفاظ عليها، لذلك يجب أن نعتبر المحافظة على الأوطان جزءًا من المقاصد الضرورية التي تتطلب اهتمامنا".
وأشار إلى أن العلماء الكبار الذين تناولوا قضية الدولة قد أكدوا على أهمية الحفاظ على الأوطان باعتبارها عنصرًا أساسيًا لتحقيق المقاصد الشرعية، من أبرزهم الإمام الطاهر ابن عاشور الذي تحدث عن الدولة كمقصد شرعي، مؤكدًا أن الدولة تمثل الأداة التي من خلالها يتم الحفاظ على هذه المقاصد الضرورية.
وأضاف مفتي الديار المصرية أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مثالاً رائعًا على حب الوطن، حيث قال: "والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت"، لافتا إلى أن هذه الكلمات تعكس ارتباط الإنسان بوطنه، وهو ارتباط فطري وطبيعي، بعيدًا عن أي اعتبار ديني أو عرقي، خاصة إذا كان هذا الوطن يوفر الأمن والاستقرار.
كما ذكر أن الدعوات التي دعا بها الأنبياء، مثل دعاء الخليل عليه السلام "رب اجعل هذا البلد آمناً"، هي دليل على أهمية الأمن في الوطن، والذي يعد حجر الزاوية لتحقيق الاستقرار في الدنيا والقيام بفرائض الدين.
و شدد الدكتور نظير عياد، على أن الحفاظ على الأوطان ليس فقط من أجل حماية الحدود أو الموارد، بل هو جزء أساسي من تحقيق نظام يضمن الحكم بالشريعة الإسلامية ويحقق المصالح العامة للمجتمع.